مواضيع

حفظ روحية طلب الشهادة، وإحياء الشهادة في نفسك؛ العائلة والمجتمع

إنَّ ما يتّسم بالأهمية هو حفظ طريق الشهداء، بما يعنيه من حراسة دماء الشهداء، وهذا أول واجباتنا، ونحن مسؤولون قِبال الشهداء، وليس هناك من هو مكلف وآخر غير مكلف، إلاّ أنّ المسؤولين كبُرت مسؤوليتهم أو صغُرت تثقل أعباؤهم بمثل هذا التكليف أكثر من سواهم.

الشهيد معنى كبير وحقيقة تثير الدهشة، ولكن بما أننا اعتدنا على مشاهدة الشهداء، وكثيراً ما شهدنا معالم التضحية والفداء والعظمة والطريق الذي انتهى بهم إلى الشهادة، بقيت هذه الحقيقة الوضّاءة خافية عنّا؛ كحقيقة الشمس التي تبقى لشدّة ظهورها خافية على من يراها على الدوام.

فيما مضى حينما كان الحديث يدور حول مثال من شهدائنا في العصر الحاضر، أو من شهداء صدر الإسلام ويشار إلى سلوكه وسيرته، كان ثمة تغيّر واضح ومدهش يحصل في القلوب وفي النفوس، وحتى في الأعمال والنوايا.

فكل واحد من هذه الكواكب المنيرة بإمكانه أن يُضيء عالَماً بأسره، ومعنى هذا أنّ حقيقة الشهادة حقيقة عظمى، ولو بقيت هذه الحقيقة حيّة على يد مَن تقع على عاتقهم اليوم مسؤولية إزاء الشهداء، وتحفظ لها قدسيّتها ومكانتها، سيبقى تأريخنا المقبل يستقي العبر من تضحياتهم الكبرى، مثلما بقي التأريخ إلى يومنا هذا يستقي المثل السامية من دماء سيد الشهداء أبي عبد اللّه الحسين(ع) التي أريقت ظلماً؛ لأنّ ورثة تلك الدماء استثمروها في غاية الحكمة والتدبّر، وبأروع الأساليب وأبدعها للحفاظ على ثمارها.

ولعل حفظ دماء الشهداء لا يقل في مشقته أحياناً عن الشهادة ذاتها، والمشاق التي تحمّلها الإمام السجاد(ع) على مدى ثلاثين سنة، والصعوبات التي كابدتها زينب الكبرى(عليها السلام) سنوات طويلة، تدخل في هذا السياق؛ فقد كابدوا الكثير حتى استطاعوا حفظ هذه الدماء، ومن بعدهما لقي جميع الأئمة مثل هذا العناء حتى عصر الغيبة.

ونحن اليوم مكلّفون بمثل هذا الواجب، مع اختلاف ظروف اليوم عما كانت عليه آنذاك، فحكومة الحق أي حكومة الشهداء قائمة اليوم والحمد للّه، فنحن إذاً في ظِلها مكلّفون بمسؤوليات جسيمة.

رسالة الشهداء

يستشف المرء من عموم القضية أنّ للشهداء حركتين وموقفين في منتهى الروعة والعظمة، وكل واحد منهما يحمل نداءً عميقاً. أحدهما؛ موقف من الإرادة الإلهية المقدسة، وإزاء دين اللّه وعباده الصالحين، والموقف الآخر أمام أعداء اللّه، ولو أنكم وضعتم موقف الشهيد ومعنوياته ودوافعه موضع التمحيص والدراسة لاتّضح لكم هذان الموقفان.

أمّا ما يتعلق باللّه وعباده وأوامره، وكل ما له صلة بذاته المقدسة، يتلخّص بالإيثار والتضحية؛ فالشهيد قد آثر وضحّى للّه.

الإيثار معناه: إنكار الذات، وعدم إدخالها في الحسبان، وهذا أول موقف للشهيد، فلو أنه أقحم ذاته في الحسابات، وظنَّ بها، ولم يخاطر لَما بلغ هذه المنزلة.

الشبّان الذين قصدوا سوح الوغى وضحوا بأنفسهم على رمضاء خوزستان التي تصل حرارتها 65 درجة أو على جبال كردستان وبردها القارس والثلوج كانت لهم مساكن وأُسر، وكان لكل منهم أبوان عطوفان، وزوجة عزيزة، والبعض منهم كان لهم أطفال يمثلون بالنسبة إليهم فلذّات أكبادهم، وكانوا يعيشون حياة دعة واستقرار؛ إلاّ أنهم تخلّوا عن كل هذا وقصدوا سوح القتال.

ما هي الرسالة التي كان يحملها هؤلاء الشهداء، ويفترض بنا استلهامها منهم؟ رسالتهم هي أنّ من يبتغي مرضاة اللّه، ويطمح لأن يكون وجوده نافعاً في سبيل اللّه على طريق تحقيق الغايات الإلهية السامية في عالم الوجود فعليه أن ينكر ذاته في مقابل الأهداف ذات الطابع الإلهي، وليس هذا من نوع التكليف الذي لا يطاق.

حيثما تمسّكت فئة مؤمنة بهذه السمة، انتصرت كلمة اللّه، وحيثما ارتعدت فرائص المؤمنين، كانت الغلبة بلا جدال لكلمة الباطل.

هذه الثورة انتصرت بفعل عوامل الإيثار والتضحية التي تمسّك بها عباد اللّه المؤمنون، ووقع ما لم يكن يخطر بحسبان أي محلل؛ وذلك هو إقامة الحكم الإسلامي، وفي هذه النقطة من العالم بالذات، من كان يتوقع هذا؟ ومن كان يصدّق بحدوثه؟ ولكن بفعل مواقف الإيثار والتضحية على يد المؤمنين تحقق هذا الأمر، الذي ما كان متوقعاً تحققه؛ إذ فئة مصطفاة من المؤمنين ولا نقول كل المؤمنين أنكرت ذاتها، والجميع مطالبون بالسعي لأن يكونوا ضمن هذه الفئة لنيل هذه المنقبة.

كل موضع انعدم فيه عنصر الإيثار؛ كما هو الحال في كل بقعة خَلَت منه، وكما هو الحال على امتداد التأريخ، وكذلك في عهد الإمام الحسين(ع) حين تنصّلت الأكثرية العظمى من المؤمنين والخواص عن واجبها، ونكلت وتراجعت، انتصرت حينها كلمة الباطل، وتسلّط يزيد على الرقاب، واستمر الحكم الأموي تسعين سنة، وجاء عهد بني العباس ودامت حكومتهم بين خمسة وستة قرون.

وكان السبب الأساسي لكل هذا هو انعدام الإيثار، وكانت النتيجة أنّ المجتمعات الإسلامية كابدت الكثير من العناء، وذاق المؤمنون أمرَّ أنواع الظلم.

إنّ الساحة واضحة غاية الوضوح، وعصرنا هذا يا أعزائي شبيه بمعركة اُحد؛ فإن أحسَنّا ستكون الهزيمة من نصيب العدو، ولكن إذا وقعت أبصارنا على الغنائم، ولاحظنا بضعة أشخاص يتكالبون على جمع الغنائم، وغلبتنا مشاعر الطمع، وتركنا مواضعنا وانهمكنا في الاستحواذ على الغنائم، تنعكس المعادلة حينذاك.

أنتم تعلمون كيف انعكست القضية في معركة اُحد، ولقد تكررت معركة اُحد على مدى تأريخ الإسلام.

القائد الربّاني الذي يرى بصفاء قلبه صفحة الحقيقة، انتدب لذلك الموضع فئة من المسلمين وأوصاهم بعدم مغادرة أماكنهم، وأن يحرسوا هذه الجبهة، ولكن ما إن وقعت أبصارهم على الغنائم وشاهدوا أفراداً يحوزون الغنائم حتى زُلزلت القلوب طمعاً، ولو استُنطق كلٌ منهم لقالوا: نحن أيضاً بشر، وقلوبنا تهوي مستلزمات العيش الرغيد.

هذا صحيح؛ ولكن لاحظتم النتائج التي أدى إليها هذا الخنوع أمام الأهواء البشرية التافهة؛ فقد كُسر ضرس الرسول(ص)، وأُصيب بجراح، وغُلبت جبهة الحق، وانتصر العدو واستشهد الكثير من أكابر المسلمين.

نداء الشهداء يدعو إلى عدم الانصياع لهواجس الغنائم، هذا هو نداؤهم لي ولكم، ولجميع من يكرّم هذه الدماء الطاهرة المسفوكة ظلماً.

لا تنظروا إلى من يعصي ويتّجه إلى جمع الغنائم <لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ>[1]، عليكم بأنفسكم، ولا يشغلنكم مَن اختار طريق الغواية، هذا ما يأمر به الإسلام، وما تدعو إليه دماء الشهداء.

يوم استشهد هؤلاء الأعزاء في الجبهة، كان بعض المخلّفين منهمكين في الكسب، وبعضهم الآخر غارقا بجمع الأموال، وآخرون مُنكبيّن على انتهاز الفرص، وبعضهم الآخر كان منغمساً في الخيانة، أما الشهداء فقد ساروا صوب الجبهات بدون الالتفات إلى هؤلاء.

وكانت النتيجة هي أنهم استطاعوا حفظ النظام الإسلامي، وغدا كل واحد منهم اليوم كوكباً منيراً ونجماً ساطعاً، وعلى هذا يكون النداء الأول هو نكران الذات أمام اللّه تعالى، وأمام عباده، وأمام الإرادة الإلهية، ويجب علينا استيعاب هذا النداء.

يا أعزائي؛ لا يمكن التغافل عن هذه الحقائق والمرور عليها مرور الكرام، إنّها تستدعي من الإنسان العزم والإرادة.

النداء الثاني: في مقابل أعداء اللّه، ومعناه الصمود والثبات المطلق بوجه العدو وعدم خشيته، وعدم التهيّب منه، أو الانفعال أمامه، ومن المهم جداً ألا ينفعل المرء مقابل عدوّه.

واليوم تتركّز جميع مساعي العالم المادي المستكبر أي الدول الاستكبارية الممسكة بزمام شؤون الاقتصاد والتسليح في العالم، والتي تهيمن في كثير من الحالات أيضاً على ثقافة الكثير من البلدان على تحطيم أية مقاومة حيثما كانت، عن طريق إثارة انفعالها؛ الانفعال أمام العدو من أفدح الأخطاء القاتلة.

العدو يجب أن يؤخذ في الحسبان من حيث عدائه؛ أي الاستعداد له وعدم الاستهانة به، ولكن لا ينبغي خشيته ولا الوقوع تحت طائلة تأثيره، ولا اتخاذ مواقف انفعالية إزاءه.

العدو يحرص على إثارة انفعالات المجتمعات الأخرى، وهو اليوم أكثر ما يعوّل على هذا الجانب في الأبعاد الثقافية والسياسية؛ تارةً يثيرون الصخب حول قضية المرأة، ويحدثون ضجّة حول حقوق الإنسان تارةً أخرى، أو يتحدثون عن الديمقراطية، أو يؤججون في وقت آخر زوبعة حول حركات التحرر، وغرضهم من كل هذا هو إثارة انفعال الطرف المقابل.

ومن أكبر الأخطاء أن نتحدث في القضايا التي يثيرون حولها الضجيج الإعلامي بشكل يوحي وكأننا نريد استرضاءهم، هذا هو الانفعال.

من الخطأ أن نتحدث في مضمار حقوق الإنسان بأسلوب الاسترضاء لهم؛ لأنهم هم الذين لا يعيرون أية قيمة لحقوق الإنسان بمعناها الحقيقي، إلاّ أنهم جعلوا منها هراوة يلوّحون بها في بعض بقاع العالم التي يبغون مهاجمتها.

أصبحت أمريكا على رأس دعاة حقوق الإنسان في العالم! قبل اندلاع الحرب المفروضة كانت أمريكا تدرج الحكومة العراقية في قائمة الدول الداعمة للإرهاب.

وفي عامي 1361 و1362هـ ش [82 1983م] حين استطاع مقاتلونا البواسل سحق العدو وإخراجه من أراضينا، اضطر العدو البعثي إلى استخدام الأسلحة الكيمياوية وأسلحة الدمار الشامل ضدّنا، مرتكباً بذلك جريمة حربية.

في تلك الظروف كانت الحكومة الأمريكية تعي ضرورة توفير الدعم للجبهة العراقية، ليكون بوسع الحكومة البعثية أداء دورها التآمري ضد نظام الجمهورية الإسلامية.

في تلك السنوات استخدمت الحكومة البعثية الأسلحة الكيمياوية، فرفعوا حينها اسم العراق من قائمة الدول التي ترعى الإرهاب! هذا هو أسلوبهم في الدفاع عن حقوق الإنسان.

أكبر مساند لأي نقض لحقوق الإنسان يشاهد في العالم هي الدول المستكبرة من أمثال أمريكا التي أصبحت اليوم داعية لحقوق الإنسان، متّخذة إياها كذريعة لتهديد الدول التي تريد مجابهتها! وإذا انبرى جماعة من هذا الجانب وتحدثوا عن حقوق الإنسان لأجل إرضائهم فهو خطأ فادح، وموقف انفعالي أمام العدو[2].


  • [1].  المائدة: 105.
  • [2].  بيانات سماحته أمام عوائل شهداء منطقة طهران بتاريخ 7-5-1997م
المصدر
كتاب الثوري الأمثل في فكر الإمام الخامنئي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟