مواضيع

مدرسة الحاج قاسم

س- أتقدّم لكم بالشكر الجزيل على ما تفّضلتم به من وقت لبرنامجنا مع كثرة الملفات الداخليّة الملقاة على عاتقكم، فأنتم تقدّمون لنا وقتًا إضافيًا… أعلم أنّ المسألة تعود إلى المكانة الخاصة التي كانت تربطكم بالشهيد قاسم سليماني، نسأل الله أن يمكّننا من أداء جزء من حقه في هذه الحلقة… كمقدمة وكسؤال أوّل نتمنى منكم توضيح العلاقة التاريخيّة التي ربطت الحرس الثوريّ بتشكيل حزب الله.

ج- بسم الله الرحمن الرحيم… على أثر الاجتياح الإسرائيليّ للبنان عام 1982 ميلادي، من المعروف تاريخيًا أنّ جيش الاحتلال الإسرائيليّ دخل جنوب لبنان وجزءاً من البقاع اللبنانية وصولًا إلى العاصمة بيروت، واحتلّ العاصمة واحتل الضواحي أيضاً. في ذلك الوقت سماحة الإمام الخميني؟ق؟ أعطى توجيهات بإرسال قوّات إيرانيّة إلى المنطقة لمساعدة السوريّين واللبنانيّين في مواجهة الاجتياح الإسرائيليّ، وأنا أذكر في ذلك الوقت جاء وفد مشترك من قيادة الحرس الثوريّ، ومن قيادة الجيش الإيرانيّ، والتقوا مع القيادة السوريّة، وعلى إثرها جاءت بعض القوّات الإيرانيّة إلى المنطقة. في ذلك الحين توقّف تقدّم الاجتياح الإسرائيليّ عند نقطة معيّنة؛ لأنّه كانت هناك خشية من أن يقوموا باحتلال كلّ لبنان أو أن يحصل قتال مع سوريا، هذا الأمر توّقف، وبالتالي أصبحنا أمام واقع جديد، اسمه أرض لبنانيّة محتلّة، تقريبًا ما يقارب نصف المساحة اللبنانية.

في ذلك الحين، تم تبديل مهمّة القوّات الإيرانيّة التي جاءت، من قوة سوف تذهب إلى القتال للدفاع عن بقية لبنان وعن سوريا، إلى قوة مهمّتها مساعدة اللبنانيّين لتأسيس مقاومة محليّة لبنانيّة من اللبنانيّين أنفسهم لمقاتلة الاحتلال الإسرائيلي ومواجهته، وبناء على تبديل المهمة الذي حصل، عاد جزء كبير من القوّات الإيرانيّة إلى إيران، باعتبار أنّ الجبهة في إيران كانت مشتعلة؛ أيّ في حرب السنوات  الثمان، وبقي جزء من القوّات هنا، والذين بقوا هم الإخوة من الحرس؛ يعني الجيش وبقيّة القوّات الأخرى رجعوا إلى إيران، وبقي الحرس هنا، وكان لهم تواجد في سوريا وتواجد في منطقة بعلبك الهرمل؛ لأنّ هذه المنطقة كانت خارج دائرة الاحتلال الإسرائيلي، منذ ذلك الحين نشأت العلاقة المباشرة بين الإخوة في الحرس والعلماء والشباب اللبنانيّين، وفي مقدمتهم كان مثلاً الشهيد السيّد عباس الموسوي، والشهيد الحاج عماد مغنية (رضوان الله تعالى عليهما)، وإخوة آخرون، بدأت العلاقة منذ ذلك الحين على قاعدة العمل لتشكيل وإيجاد مجموعات مقاومة في كلّ لبنان لمواجهة قوات الاحتلال الإسرائيليّ للبنان، هذه هي بداية العلاقة، واستمرت منذ ذلك اليوم إلى الآن، وما زالت هذه العلاقة قائمة ومستمرة. طبعًا؛ في البداية لم يكن في تشكيل الحرس شيء اسمه «قوة القدس»، لاحقاً ولربما بعد انتهاء الحرب المفروضة على الجمهوريّة الإسلاميّة، سماحة الإمام؟ق؟ أصدر قراراً بتشكيل قوى في داخل الحرس، من جملتها قوة القدس، فأصبحت الجهة التي نتصل معها ونتواصل وننسق ونتعاون معها هي قوة القدس، وهذا الواقع ما زال قائماً حتّى الآن.

س- نحن نعلم أنّ الشهيد قاسم سليماني تسلّم قيادة فيلق القدس عام 1998، هل تتذكّرون أوّل لقاء معه؟ متى قابلتم الشهيد قاسم سليماني؟ وماذا تستذكرون من ذلك اللقاء؟

ج- أوّل مرة التقينا كان في لبنان، يعني بعد تعيينه قائدًا لقوة القدس، جاء إلى لبنان والتقينا هنا في جلسة تعارف بيننا وبينهم، وأنا لم أكن أعرف الحاج قاسم قبل ذلك، يعني لم نكن قد التقينا؛ لأنه فيما سبق هذا الزمان، الحاج قاسم إما كان في الجبهة في إيران، في جبهات الحرب، أو بعد ذلك كان يتولّى مسؤوليّات في محافظة كرمان أو سيستان وبلوشستان أو ما شاكل، حتّى عندما كنا نذهب إلى طهران ونلتقي بالمسؤولين لم نكن نلتقي، يعني لا توجد معرفة سابقة، وكان أوّل لقاء هنا في بيروت، وعرفنا أنّه أصبح المسؤول الجديد لقوة القدس بعد تعيينه من قبل الإمام الخامئني (دام ظله الشريف)، وأنّه سوف يتحمّل هذه المسؤوليّة من الآن فصاعداً. منذ الجلسة الأولى التي كنت موجوداً فيها وعددا من الإخوة – عادة عندما أذكر الأسماء أذكر أسماء الشهداء، الأحياء لا نذكر أسماءهم الآن – فكان في ذلك اللقاء الأول الحاج عماد (رحمة الله عليه) والسيد مصطفى بدرالدين (رحمة الله عليه) وإخوة آخرون ما زالوا على قيد الحياة الحمد لله، ومن اللقاء الأوّل في الحقيقة شعرنا بانسجام نفسي وفكري وروحي، ومن الساعة الأولى شعرنا كأنّنا نعرف الحاج قاسم منذ عشرات السنين وهو يعرفنا منذ عشرات السنين، فجنابك تعرف أنّ الانطباع الأول من اللقاء الأول يؤثر في مسار العلاقة، الانطباع الأوّل من اللقاء الأوّل من الساعة الأولى بين الحاج قاسم وبين الإخوة المسؤولين والقيادات في حزب الله؛ سواء الجهاديين أو  السياسيين، أعطى هذا الانطباع الجيّد والإيجابي والتفاعل، وبدأت العلاقة منذ ذلك الحين مع شخص الحاج قاسم، واستمرّت لحين شهادته.

س- بعد تسلّم الحاج قاسم منصب قيادة فيلق القدس، شهدنا تسلّم الحاج عماد مغنية لمنصب المعاون الجهادي في حزب الله، هل كان هذا صدفة أو أمراً مدبراً؟ يعني هل أنتم تعمدتم تسليم هذه المسؤوليّة للشهيد مغنية للعمل إلى جانب الحاج قاسم؟

ج- لا؛ لا توجد علاقة بهذا الأمر، هذا كان ترتيباً داخليّاً في حزب الله على كلّ حال؛ يعني سواء كان الحاج قاسم هو قائد قوة القدس أو كان شخصا آخر، فذلك التدبير كان شأناً داخلياً في ترتيبات إدارة العمل الجهاديّ في حزب الله؛ لأنّه قبل ذلك نحن كان لدينا مركزيّتان، مركزيّة تدير العمل العسكريّ ومركزيّة تدير العمل الأمنيّ، وكلاهما كان متصلاً بالأمين العام لحزب الله، ومع الوقت بدأنا نحتاج إلى توسيع العمل أكثر، وهذا يعني أن يكون هناك شخص بصفة المعاون الجهادي يدير هذه التشكيلات الواسعة ويساعد الأمين العام في إدارتها، ففي ذلك الحين تمّ الاتفاق على أن يكون الأخ الحاج عماد هو المعاون الجهاديّ، لكن هذا جاء بالصدفة، لم يكن أمراً مدبراً أو مخططاً، وبالصدفة تزامن مع تولّي الأخ الحاج قاسم لمسؤوليّة قوّة القدس. طبعاً؛ هذه الفكرة نحن كنا قد درسناها معاً أنا والحاج قاسم والإخوة، أنّنا سنلجأ إلى هذا الشكل في الإدارة، وهو كان من الذين يشجعون على القيام بخطوة من قبيلها.

س- لقد كانت للحاج قاسم تجربة عسكريّة كبيرة؛ إذ كان قائد فرقة، وكانت له تجربة واسعة في الحرب، بينما كان الشهيد عماد مغنية رجلاً أمنياً، ألم تتخوّفوا من وجود هذين الشخصين بجانب بعضهما البعض؟

ج- لا؛ على الإطلاق، أوّلاً؛ لأنّه إذا تكلّمنا عن الحاج عماد، فهو صحيح أنّ عمله العام كان عملاً أمنياً، ولكن هو أيضا كان في قلب العمل العسكريّ، وعمل المقاومة في لبنان إلى سنة 2000 بشكل عام كان يعتمد على شكل حرب العصابات، وهنا يحتاج إلى قوى أمنيّة حتى يتمكّن من القيام بحرب العصابات، من سنة 1982 إلى 2000 لم تكن حرباً عسكريّة كلاسيكيّة. من جهة أخرى؛ مع الوقت سريعاً تبين من شخصيّة الأخ الحاج قاسم أنّه ليس فقط قائدا عسكريا، وإنّما يفهم بشكل عميق وقوي في المسائل الأمنيّة، فهو أيضا «أمنيّ» بالمعنى الأمنيّ، وأيضاً في المسائل السياسيّة له فهم كبير ومهم جداً، وفي الحقيقة نحن إن شاء الله في وسط الكلام سنفصّل في هذا. نحن أمام الحاج قاسم، كنّا أمام شخصيّة جامعة؛ يعني لم نكن نشعر أنّنا نجلس فقط مع جنرال متخصص في الشأن العسكريّ، و إنّما كان يفهم بشكل عميق وقوي في المسائل السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة، إضافة إلى المسائل العسكريّة والأمنية وأمور أخرى، كانت له هذه الجامعيّة، إضافة إلى ذلك؛ العلاقة الأخويّة والشخصيّة التي نشأت بينه وبين الأخ الحاج عماد مغنية وبقيّة الإخوة المسؤولين أيضاً في العمل الجهاديّ، وسريعاً أصبحت هناك علاقة صداقة ومودة ومحبة  وأخوّة، هذا النوع من العلاقات يساعد كثيراً على توحيد الأفكار والرؤى، وعلى التعاون وتجاوز أيّ مشكلات أو اختلاف في بعض التفاصيل التي قد تنشأ. إذاً؛ الثقة المتبادلة والصداقة والأخوة والمحبة وأيضاً الإخلاص الذي كان يتصف به الحاج قاسم ويتصف به الحاج عماد وبقية الإخوة الذين استشهدوا أو ما زالوا على قيد الحياة من إخواننا، كلّها كانت تبشّر منذ الأيام الأولى أنّنا سنكون أمام تجربة ممتازة جداً ورائعة وقويّة، وستعطي دفعاً لعمل المقاومة، وهذا هو الذي حصل بالفعل، ولذلك لم يكن أيّ مكان للقلق.

س- هل كان هذان الشهيدان يعرفان بعضهما من قبل؟ وهل لكم أن تذكروا لنا ذكريات عن لقاء حصل بين الشهيد عماد والشهيد الحاج قاسم؟

ج- لم يكونا يعرفان بعضهما البعض قبل تعيين الحاج قاسم في قوّة القدس؛ يعني لا أعتقد أنّ أحداً من اللبنانيّين كانت لديه معرفة شخصيّة بالحاج قاسم قبل قوّة القدس، لكن بعد قوة القدس، وبعد أن أصبح الحاج قاسم مسؤولاً عنها، وكان يأتي كثيراً إلى لبنان… وهذه ميزة، يعني إن شاء الله نحن عندما نتكلم معاً عن مدرسة الحاج قاسم أو «مكتب» الحاج قاسم، يتضح أن هذا جزء من مدرسته، يعني صحيح أنّه قائد قوّات القدس، لكنّه لا يجلس في طهران، وإنّما يذهب إلى ساحات العمل وميادين العمل، نعم إلى الميدان، فهو كان يأتي إلى لبنان بشكل دائم ومتواصل، ويبقى أياماً في لبنان، وبالتالي نشأت بينه وبين الإخوة علاقات صداقة شخصيّة، بمعزل عن العلاقة العمليّة، هو والإخوة أصدقاء على المستوى الشخصيّ، هذا أيضاً حصل في بقية الساحات، فالحاج قاسم لديه مع الإخوة السوريّين والإخوة العراقيّين والإخوة الفلسطينيّين ومع الإخوة في بقية الساحات التي كان يعمل فيها علاقات شخصيّة متينة وقوية مع مختلف المسؤولين، وهذه من نقاط النجاح، يعني الحضور الميدانيّ والعلاقات الشخصيّة وعلاقات المودّة والمحبّة والاحترام والصداقة التي أقامها مع كلّ هؤلاء المسؤولين في كلّ الساحات، كانت مؤثّرة جداً، طبعاً؛ مع الحاج عماد كانت العلاقة أقوى بكثير، كان ما بينهما من ود ومحبة كبيراً جداً، بحيث أنّهما أصبحا كأخوين وصديقين كأنّ أحدهما يعرف الآخر منذ عشرات السنين، ونشأت حتى علاقة بيتية؛ يعني هو يذهب إلى بيت الحاج عماد، ويجلس هناك ومع عائلته وأولاده ويتعرّف عليهم، ولذلك أصبحا يتصرّفان تماماً كصديقين قديمين. في مرات عديدة عندما كنا نذهب إلى طهران كان يأتي إلى الضيافة، يعني الحاج قاسم كان يدعو بعض الأصدقاء ليحضروا لنكون معاً في جلسة أو غداء أو عشاء، فكان يأتي الشهيد أحمد كاظمي (رحمة الله عليه) وإخوة آخرون ما زالوا على قيد الحياة، فأنا كنت أرى طبيعة العلاقة ما بين الحاج قاسم والحاج أحمد، إلى حدّ علاقة شخصيّة قوية جداً، أستطيع القول إنّ العلاقة التي نشأت بين الحاج قاسم والحاج عماد هي شبيهة بتلك العلاقة الشخصيّة بينهما.

س- أشرتم إلى مصطلح «مدرسة الحاج قاسم سليماني»؛ بأيّ معنى تفسّرون هذا المصطلح؟ الإمام الخامنئي أيضاً أشار إلى ذلك، فماذا يعني مصطلح «مدرسة الحاج قاسم»؟

ج- طبعاً؛ هذا ينطلق من مدرسة الإمام الخميني (رضوان الله تعالى عليه)، لكن في المجال العمليّ وفي مجال ما تحمّل الحاج قاسم من مسؤوليّته، يمكن أن نتحدث عن مدرسة، مدرسة بمعنى أنّه قد يكون المقصود فكرة معينة أو مجموعة أفكار وثقافة معينة وطريقة عمل معينة، أضرب أمثلة: مثلاً هو قائد قوة في الحرس، ويستطيع أن يجلس في إيران في طهران ويقول للآخرين تعالوا إليّ كلّ مدة، ويجلس معهم ويستمع إليهم، ويتابع مسائلهم بشكل طبيعي وروتيني، أو إذا حضر إليهم أن يأتي إلى لبنان أو سوريا أو العراق أو أماكن أخرى؛ مثلاً مرّة كل ستة أشهر أو سنة لتفقدهم، عادة هكذا قد يتصرّف البعض من القادة، ولكن مدرسة الحاج قاسم تعني الذهاب إلى ساحات العمل وإلى الميدان، الذهاب إلى الآخرين، نحن منذ 1998؛ أي منذ بدأت العلاقة والمعرفة بيننا وبين الحاج قاسم، يعني تقريباَ 20 أو 22 سنة، كان عدد المرات التي ذهبنا إليه فيها هي مرّات قليلة، لكن دائماً هو الذي كان يأتي إلينا. طبعاً؛ هذا المجيء كان إلى الساحة وإلى الميدان ويلتقي هنا بالإخوة ويراهم جميعاً، يذهب إلى الميدان مباشرة ويستمع إلى المقاتلين والمجاهدين، هذا له حسنات كبيرة جداً في الإدارة والقيادة، من حسناته:

أوّلاً: هو يعطي قوة لهؤلاء، ويعبّر عن احترامه لهم ومحبته؛ أي أنا دائماً آتيكم، أنا في خدمتكم، لا تأتوا ولا تزاحموا أنفسكم ولا تأتوا إليّ إلى طهران، أنا آتي إليكم، فهذا له تأثيرات أخلاقيّة ومعنويّة على المسؤولين الموجودين هنا.

ثانياً: هذا يتيح له أن يستمع لكلّ الآراء ووجهات النظر، وليس فقط للأشخاص الذين يذهبون إليه ويسمع آراءهم، وهذا يساعده في أن تكون الفكرة لديه أوضح.

ثالثاً: هذا يساعده كي يذهب إلى المستويات الأخرى، المقاتلين الموجودين في الجبهات.

رابعاً: يُكوّن فكره أعمق وأشمل عن الساحة التي يتحمّل مسؤوليّتها، فهو لا يعتمد على التقارير فقط؛ بل يذهب إلى الميدان ويشاهد ويناقش، وهذا أحد معاني مكتب الحاج قاسم، وهو غير متعارف بين الجنرالات .

في الجبهة في إيران في الحرب، القادة تذهب للميدان والمقاتلين، لكن هذا معروف داخل إيران. من جانب آخر؛ عدم التعب والملل، هو لا يتعب. نحن نشعر أحيانا أنّ الضغوط تتعبنا، لكن الحاج قاسم يعمل لساعات طويلة؛ ففي بعض المرّات كان يعمل مثلاً ولديه ألم في أضراسه، والإنسان قد لا يتحمّل هذا النوع من الآلام، فنقول له: هل نأتي لك بالطبيب؟ يقول: ليس الآن بل بعد الجلسة؛ أي بعد ست ساعات، هو يجلس ويتحمل الألم ويشارك في الجلسة، ويتخذ قرارات، وفي آخر المطاف يذهب للطبيب.

طاقة التحمل والصبر والتعب، هذا أمر خاص، وأنا لم أعرف شخصاً يتحمّل ذلك كالحاج قاسم.

من جملة الصفات الخاصّة في شخصيّته، أنّه دؤوب ويتابع بشكل دائم عمله بشكل حثيث، وليس عجولا، وهذا جزء من طريقته. من الممكن أن تجد شخصاً قد يؤجّل عمله إلى وقت آخر، أما هو فكان حريصا جداً على إنجاز ما يعمل عليه ولو في فترات قصيرة.

التواضع، أيضاً، كان مؤثراً في نفوس المقاتلين، وأنت تعلم أن المقاتل في حالة القتال قد يبتلى بالتكبّر وما إلى ذلك، لكن الحاج قاسم كان متواضعاً حتى مع الناس العاديين، وعندما نتحدّث عن مكتب الحاج قاسم نتحدّث عن تحمّل المخاطر، وهو كان دائماً في الخطوط الأماميّة، وأنا كنت أختلف معه في هذه المسألة، لكننا لم نستطع منعه من هذا .

كان الرجل الحاضر في الأيام الصعبة؛ ففي حرب تموز 2006 جاء من طهران لدمشق، وقال إنه يريد القدوم للضاحية، ونحن تعجّبنا من ذلك؛ فقدومه كان صعباً نتيجة ما تعرّضنا له، وصعوبة الوصول للضاحية، لكنّه أصرّ على ذلك، وأتى وبقي طوال فترة الحرب.

في محاربة داعش في سوريا والعراق كان يمشي في الخطوط الأماميّة، على عكس ما يفعله الجنرالات عادة، ويمكننا القول: إن ما يقوم به مكتب الحاج قاسم مأخوذ من مكتب الإمام الخميني وتوجيهات السيد القائد وتجربة الحرب في إيران وما لها من آثار روحيّة ونفسيّة، وهذا ما رأيناه في شخصية الحاج قاسم.

س- كيف كانت أوضاع حزب الله خلال أعوام 98 و99؟ وكيف أسست قيادة الحاج قاسم لفيلق القدس؟ وكيف تصفون تأثير الحاج قاسم والحاج عماد في هذه المسألة؟

ج- من عام 82 إلى 85 حصل الانتصار الأوّل في لبنان، عندما أجبرنا الاحتلال على الانسحاب من مناطق عدّة إلى ما عرف بالشريط الأمنيّ، ومنذ 85 تطوّرت عمليّات المقاومة بشكل كبير، لكن من عام 85 إلى 98؛ أي سنة تحمّل الحاج قاسم المسؤوليّة في القدس، كان التطوّر بطيئا لمحدوديّة الإمكانات العسكريّة والبشريّة، وعندما تولّى الحاج قاسم مسؤوليّة القدس، والحاج عماد للعمل نفسه، ونشأت العلاقة القوية بينهما وإشرافهما على النواقص والإمكانيات، أيّدوا أفكارا عدّة، وقد سعت إيران منذ البداية إلى تأمين إمكانات كبيرة، وفتحوا الباب لرفع الكفاءة البشريّة، ومن يعود للوثائق يجد أن أواخر التسعينات، كانت فترة تطور العمليّات بشكل كبير، وهذا بفضل الدعم الكبير والتواصل الدائم مع الإخوان.

س- تعلمون أن تحرير الجنوب كان بدعم شعبي، في تلك الفترة؛ هل زار الحاج قاسم لبنان؟ وما هي ذكرياتكم عن تلك الفترة؟

ج- كان يأتي دائماً إلى لبنان إلى الضاحية كل عدة أسابيع، وكان يأتي إلى الجنوب إلى الخطوط الأماميّة، ونحن كنّا نحاول منعه من القيام بذلك، لكنه كان يزور الجنوب في كثير من الأحيان.

س- بعد انسحاب الاحتلال من الجنوب، كان لكم لقاء مع قائد الثورة الإسلاميّة، ما هي ذكرياتكم عن ذلك اللقاء؟

ج- الأهمّ كانت قبل الانسحاب، وهذا عرضته قبلاً لبعض الإخوة في إيران؛ فقبل التحرير كنت أنا والإخوة في حزب الله وبعض المسؤولين الجهاديّين؛ مثل الحاج عماد مغنية والحاج مصطفى بدر الدين، في خدمة السيّد القائد، وتحدّثنا عن الوضع في الجنوب والجبهة مع العدو، وكان تقديرنا أن الإسرائيليّين لن يخرجوا من الجنوب؛ لأنّ الإسرائيلي عادةً لا يخرج من أرض إلّا بعد اتفاقات وتعهدات أمنيّة، ومن الصعب أن يقبلوا بالخروج تحت ضغط القتال؛ لأنهم لو قبلوا ذلك سيكون تحوّلاً كبيراً للوضع في المنطقة.

في تلك الفترة كان إيهود باراك قد قال إنّه في حال فوزه في الانتخابات سيخرج من لبنان في شهر تموز من العام 2000؛ أيّ أنه حسب الوعد الانتخابي كان يجب أن يخرج في تموز، ونحن عندما التقينا مع السيّد القائد أواخر العام 1999، قلنا إننا نستبعد خروجهم في هذا الموعد؛ لأنّه يريد التزامات أمنيّة ومكاسب، وأنّ القيادة السوريّة والمسؤولين في لبنان لن يعطوه إياها، فهو أمام خيارين: إمّا البقاء والتحمّل، وإمّا الانسحاب بلا شروط أو مكاسب، وهذا سيشكل تحولاً كبيراً في الصراع مع الاحتلال في المنطقة.

في تلك الجلسة، طلب منا السيّد القائد ألا نستبعد الأمر بل نجعله احتمالاً، ونفترض على أساسه ونرتّب أنفسنا لتلك المرحلة بعنوان فرضيّة محتملة، لكن في اليوم نفسه ليلاً كان اللقاء مع القادة الجهاديّين، وهم حوالي 50 شخصاً، وكان من المفترض أن يُصَلّوا المغرب والعشاء مع سماحة القائد، ويقبّلوا يده  ويمشوا، ولم يكن من المقرّر أن يلقي فيهم كلمة.

عندما انتهت الصلاة والجميع يتجهّزون للذهاب، كانوا متأثّرين؛ أوّلاً بالصلاة خلف السيّد القائد، وسماحة القائد طلب منهم بعد ذلك الجلوس ليتحدّث معهم، وهذا لم يكن مخطّطاً له، وطلب مني الترجمة  للإخوة.

من جملة ما قاله السيّد القائد في كلمته: «إننا أمام انتصار كبير جداً وهو قريب جداً». وهو صباحاً لم يكن قد حسم موقفه سياسياًّ، وكان له رأي آخر أمام الإخوة المسؤولين، وتحدّث عن احتمالات، لكن مع العسكريّين قال بأنّ النصر أقرب ممّا يظنّه البعض، ونظر إليّ وتبسم، ثمّ أشار بيده اليسرى – وأنا لا أنسى هذا المشهد – وقال: «وأنتم – أي قادة الخطوط الأمامية الخمسون الذين كانوا موجودين في الصلاة في ذلك الوقت – جميعاً سترون ذلك الانتصار». أنا كنت أترجم في تلك اللحظة وقد قلقت بصراحة؛ لأنّ الإخوة اللبنانيّين يدقّقون في كلّ كلمة، فإن سماحة القائد يقول: «أنتم جميعاً» ستشهدون الانتصار، وهم في الخطوط الأماميّة، وغداً لو استشهد بعضهم سيتحدث البعض عمّا قاله القائد، وأنّ هناك من استشهد ولم ير النصر. وهنا كان العجب، أنّ جميع من كان يتحمّل المسؤوليّة في الخطوط الأماميّة، وبعد أشهر عدّة من اللقاء معه، ورغم وجود عمليات يوميّة في الجنوب، عندما حصل الانتصار في 2000، كلّ من كان في محضر السيد القائد – أي الخمسون شخصاً – كانوا حاضرين، وشاهدوا النصر بأمّ أعينهم، ولكن بعد مدة بعضهم قد استشهد، لكن إلى تلك الفترة الجميع شاهد النصر، والحاج قاسم كان موجوداً في ذلك اللقاء، وهو من رتّب كل هذه الزيارة وهذا اللقاء.

من المفيد أن أضيف أمرًا أنّ سماحة القائد، عندما كان يقول إن الإسرائيليّين سيخرجون دون قيد أو شروط، وسيكون هذا نصراً عظيماً لكم، كلّ المحلّلين في منطقتنا كانوا يعتقدون شيئاً آخر وحتّى داخل إيران، كان التحليل السائد أنّ الاحتلال لن يخرج دون تعهدات، وإن لم يُعطَوا شيئاً فسيبقون حتّى إشعار آخر، لكن سماحة القائد كان له رأي آخر، وكان واضحاً وحاسماً في هذا الأمر.

س- نقدّر المدّة الزمنيّة بين الانسحاب الإسرائيليّ عام 2000 وحرب 2006 بحوالي 6 سنوات في وقت نلاحظ فيه أنّ المقاومة قد ازدادت قدراتها خلال حرب تموز، ما دور الحاج قاسم في هذا الأمر؟

ج- التأثير الأكبر للحاج قاسم على هذا الأمر حصل في هذه السنوات؛ لأنّه في السنتين الأوليين عندما تولّى المسؤوليّة، كان يريد معرفة الساحة أكثر ومعرفة الأشخاص، وكان بحاجة لفهمها مع تفاصيلها، بعد عام 2000 كانت الفكرة أنّه سنكون أمام مرحلة جديدة، والقتال إن حصل مع الإسرائيليّين فسيكون مغايراً، فهم داخل فلسطين وليسوا في لبنان، والذي بقي من الأراضي اللبنانية في أيديهم هو جزء صغير، فالمعركة معهم لن تعتمد على حرب عصابات؛ بل هناك شكل جديد  في المواجهة.

كان واضحاً للحاج قاسم والإخوة في المقاومة أنّ العدو سيعود للانتقام، فقد غيّرت هزيمتهم من نظرة الفلسطينيّين والمنطقة للاحتلال ومستقبله في المنطقة، فخروج الاحتلال بالقوّة بلا شروط واتفاقات أمنيّة، لم يكن له سابقة في منطقتنا؛ لذا إسرائيل لن تسمح بهذا التحوّل الاستراتيجيّ، وسيعود لشنّ حرب على لبنان لسحق المقاومة، وكان علينا الاستعداد لهذا اليوم، ولم نكن نعلم متى ستحصل هذه الحرب، ففي كلّ سنة كنا نضع احتمالها إلى أن أتى العام 2006، وكنّا قد تجهزنا خلال هذه المرحلة، والحاج قاسم والإخوة في المقاومة كانوا مصرّين منذ البداية وبعد تحرير 2000 على العمل والاستعداد للحرب المحتملة. وهنا يأتي تأثير الحاج قاسم الذي فتح لنا آفاقًا جديدة، فقد أصبح لدينا قوّة صاروخيّة؛ ففي مواجهة عسكريّة جديدة نحتاج هذا النوع من الأسلحة، وهذا لم يكن سهلاً؛ لأنّنا نريد كفاءات علميّة وصواريخ نأتي بها من أماكن بعيدة لنصبِها وإخفائها عن الجميع، وتأسيس قوة بهذا النوع كان معقّداً جدّاً، وهذا ما توفر من خلال الحاج قاسم والحاج عماد ومن معهم.

تم إيجاد هذا النوع من الصواريخ والمسيّرات والأسلحة الجديدة كصواريخ (الأرض  بحر) التي دمّرت ساعر 5 قبالة شواطئ بيروت وغيرها.

عندما أتت 2006 كانت المقاومة جاهزة لهذا النوع من الحرب، وما حصل في الحرب من إنجازات يعود، بعد الله عز وجل، إلى الأخذ بالأسباب والجهوزيّة التي كان للحاج قاسم فيه الدور الأول.

من ميزات هذا الأمر، أنّه كان مؤيّداً من قائد الثورة الإسلاميّة ومحبّته وعنايته بالمقاومة في لبنان.

س- هل تخبروننا عن دور الحاج قاسم في تلك الفترة؛ أي العام 2006؟ فالظروف كانت صعبة في الضاحية في ذاك الوقت، أخبرونا عن ذكرياتكم مع الحاج قاسم في تلك الفترة.

ج- مجيء الحاج قاسم نفسه كان مهماً جداً، فهو لم يكن ملزماً بذلك، وكان من الممكن أن يبقى في طهران، أو القدوم إلى دمشق التي كانت آمنة في ذلك الوقت، لمتابعة ما يجري، لكنّه أتى إلينا، وجلسنا في اليوم الأوّل لوصوله، وبقي لدينا أياما عدّة، ورغم أنّه أتى في وضعية خطرة وعاد لطهران لنقل المعطيات للسيد القائد والمسؤولين، فقد عاد إلينا في المرة الثانية بنفس الإصرار ومعه رسالة شفهية للسيّد القائد، لكنه كتبها بخط يده، وبقي لدينا إلى أن انتهت الحرب وحصل وقف إطلاق النار.

تكلّم معي الحاج قاسم ومشى إلى طهران لمتابعة بقيّة المسائل التي تحتاجها المقاومة، وهذا لم يكشف عنه في الآونة الأخيرة، وإنما تمّ طرحه مؤخّراً فقط.

وجوده معنا شكّل دعماً معنويّاً وروحيّاً ونفسيّاً في فترة ضغط شديد، وهناك الكثير من المهجّرين والبيوت والمدارس المدمّرة، والوضع الدوليّ ضدّنا إضافة لأميركا وأوروبا، والبيان الذي صدر في اليوم الأوّل دوليّاً، وشاركت فيه روسيا والصين كان سيئاً جداً، لكن وجود الحاج قاسم شكّل دعماً لنا من الناحية الروحيّة والفكريّة؛ فقد كنّا نتشاور حول الخطوات التي نريد إنجازها، وقد وصلنا مثلاً لمرحلة خلال الحرب كدنا نضرب فيها تل أبيب، وهذا لم يحصل، ونتيجة النقاش المستمر خلال الحرب وضعنا معادلة مضمونها (إن قام العدو بقصف بيروت سنقصف تل أبيب)، وهذا ما فهمه العدو، والعدو خضع لهذه المعادلة.

طبعاً؛ النقاشات كانت تجري في البداية بين الحاج قاسم والحاج عماد والإخوة، ثم يأتون إليّ؛ ففي الأيّام الأولى كنّا معاً لكنّنا بعد ذلك وزّعنا أنفسنا كي لا يتم استهدافنا جميعاً، مع أنّ الجميع كانوا عشّاق شهادة، لكن المسؤوليّة الشرعيّة تختلف.

طيلة الحرب كان الحاج قاسم والحاج عماد معاً، والجو العام الحاكم في نقاشاتنا كان هادئًا، والجميع كان يفكر بشكل جيد، والحاج قاسم يشاركنا بهذا، ولم يكن يفرض رأيه على أحد؛ بل كان يناقش الجميع ويعمل على أساس قبولهم أو رفضهم.

مرّت علينا أيّام تشاركنا فيها المشاعر بأشكالها، وفي بعض المرّات كان الحاج قاسم يبكي ومن معه، وهناك حادثة مؤثّرة أثرت بالحاج قاسم كثيراً معروفة باسم (رسالة المجاهدين) التي نشرت في وسائل الإعلام. في ذلك الوقت، وعندما تلوت الرسالة في وسائل الإعلام، كان الناس يبكون، وكانت تكرر الرسالة على الإعلام باستمرار.

خرجت بعدها وقدمت إجابة لهذه الرسالة، والحاج قاسم كان حاضراً معنا في كل ما كنا نعيشه في تلك الفترة، ويفرح ويحزن معنا، وفعل كل ما كان يستطيع القيام به دون تردد.

س- هل كنت قلقاً من أن يستشهد الحاج قاسم؟

ج- كنت قلقاً عليه وعلى جميع الإخوة؛ لأنّ الإسرائيليّين كانوا يقصفون بشكل عشوائي، ونحن لم نعطِ معطيات للعدو، ولم يعلموا أين كنت أنا ولا الحاج قاسم والحاج عماد، لذلك لم يستطيعوا قصف أيّ مكان قد يوجد فيه هؤلاء، لذلك كان القصف عشوائيًا، ومن المحتمل أن يستشهد أيّ أحد فينا، هذا الاحتمال كان موجودًا طيلة فترة الحرب، لكن مَن حمانا هو الله عزّ وجل.

س- قلتم إن الحاج قاسم سافر بين طهران وبيروت مرات عدّة خلال الحرب، ألم ينقل إليكم رسالة من قائد الثورة خلال هذه الفترة؟

ج- عندما عاد من إيران كان لديه رسالة من السيد القائد، السيّد القائد كان قد جمع المسؤولين الإيرانيين في مدينة مشهد، وتحدّثوا حول الحرب وما يمكن أن تقوم به إيران تجاه المقاومة، ثمّ طلب من الحاج قاسم كتابة المضمون التالي، ثم أتى إليّ الحاج قاسم وتلى عليّ ما قاله السيد القائد، ومن جملة ما كان في الرسالة، وقد كان جديدًا في مسار الحرب، فالبعض كان يناقش سبب أخذ الأسيرين الإسرائيليين بداية، وكانوا يقولون إن هذا هو سبب الحرب الأساسيّ على لبنان.

سماحة القائد كان يقول إن عملية المقاومة الإسلاميّة في لبنان لطف إلهيّ؛ لأنّ إسرائيل وأميركا كانتا قد خططتا لحرب على لبنان مع نهاية الصيف وبداية الخريف المقبل، وكانوا يحضّرون لذلك، لكن عند أسر الجنديين وجدوا أنفسهم أمام أمر واقع فبدؤوا الحرب، والفارق بين الحرب في تموز وآخر الصيف أن فيها عامل المفاجأة من قبلهم لتدمير المقاومة والدخول  إلى لبنان، وعندما قمنا بأسر جنديين، أخذنا عامل المفاجأة منهم، وكنّا جاهزين للمعركة التي كانوا يحضرون لها هم، وفي تلك الجلسة قلت للحاج قاسم إنني إن ذكرت هذا الكلام على الإعلام لن يكون لدينا دليل، لكنّني سأقوله بناءً على كلام السيّد القائد، وقمت بهذا، وبعد حديثي في ذلك الوقت قام الأستاذ محمد حسنين هيكل بإجراء مقابلة مع الجزيرة في ذلك الوقت، واستدلّ وأيّد هذا التحليل بالأدلّة والشواهد، وقام كاتب مهم في بريطانيا بذكر هذا الأمر أيضاً تأييداً له، فقد كان لافتاً أنّه من أين أتى سماحة القائد بهذا النوع من التحليل.

ثانياً؛ الحديث عن شدّة الحرب وتشبيهها بحرب الخندق، عندما حوصرت المدينة وكانت صعبة على الرسول؟ص؟ ومن معه، واستشهد بآية تتحدث عن واقعة الخندق، وأنّ القلوب ستبلغ الحناجر ونظن بالله الظنون، لكننا سننتصر في النهاية، وهذا كان جميلاً في ذلك الوقت أمام كلّ التحليلات التي كانت ضدنا.

الأهمّ، وبحسب كلام السيّد القائد، أنّنا سنتحوّل إلى قوّة في المنطقة بعد هذا الانتصار لن يستطيع أيّ أحد مواجهتها أو القضاء عليها، وأنا على سبيل المزاح قلت للحاج قاسم إنه يكفينا الانتصار، لكن ما حصل أنّنا خرجنا منتصرين، وتحوّلنا لقوّة على مستوى المنطقة، فالكلّ كان ينتظر سحقنا خلال الحرب، وهذا ما لم يحدث.

س- ما هي وجهة نظر الحاج قاسم وتحليلاته بعد حرب تموز؟ فنحن نعلم أنّه رجل عسكريّ في وقت أنّ ما تفضلتم به يقع في خانة المواضيع السياسيّة.

ج- الحاج قاسم كان متعدّد الجوانب، وعلى مستوى السياسة كان صاحب فكر وليس فقط محللا للأفكار، وكان مبدعاً في فهمه وقراءته للأفكار والحلول التي قدّمها، ولأنّه يتابع كلّ ما يجري وعلى صلة بالجميع، فالمعطيات لديه كانت كبيرة، وعقله وإبداعه كان يوصل دائمًا إلى استنتاجات مهمة، وبرأيي كان الحاج قاسم سياسيّاً بأهمية جانبه العسكريّ؛ فهو لم يكن يخطط للقادم من الأيام بل لسنوات، ومن جملة الأمور التي أدخلها للمقاومة هو وضع برنامج عمل لثلاث سنوات، وهذا لم يكن له وجود لدينا، وقام بتقسيم السنة لأربعة فصول، وتمّ العمل على أساسها.

في الشأن السياسيّ، كان يقرأ الأمور بالطريقة نفسها، وكان الحاج قاسم يساعد فكريّاً دون تدخّل، وكان يقارب لبنان من منظار المنطقة ككل، وكانت تعنيه قوة المقاومة وحمايتها، وأن ما يجري في لبنان لن يؤثر في المقاومة.

س- كنت أنا شاهداً على ردّة فعل الحاج قاسم عند استشهاد رفاقه الأعزاء، كيف كانت ردّة فعله على استشهاد الحاج عماد والحاج ذو الفقار؟

ج- كان يمسك نفسه أمام الإخوة، لكن في الجلسات الخاصّة، كان يتألّم جداً ويبكي بشدّة لفقدهم، وفي حادثة الحاج عماد كان موجوداً في دمشق وكانوا معاً، وذهبوا معاً إلى المطار، وعاد الحاج عماد للبيت، لكن قبل مغادرة الطائرة حصلت الحادثة، فعاد الحاج قاسم وجاء إلى لبنان، وكان متأثراً جداً للعلاقة التي جمعته بالحاج عماد، ثمّ كان يحمّل نفسه جزءًا من المسؤوليّة، فبرأيه أنّه لو لم يأتِ إلى دمشق لم يكن للحاج عماد ليأتي من بيروت إلى دمشق ولما كان استشهد، وأنا كنت أحدّثه بأن الأمر ليس كذلك، فهم كانوا ينتظرونه في دمشق سواء أتيت أم لا، وفي نهاية المطاف لا يجب أن تحمّل نفسك المسؤوليّة، لكن الأمر دائماً كان موجوداً في نفسه.

كذلك حصل مع الحاج ذو الفقار، فهم كانوا في جلسة طويلة يتحدّثون عن تطورات سوريا، وغادر الحاج لمكان آخر، وحصل في هذه الأثناء ما حصل للحاج ذو الفقار، وقد حادثني الحاج قاسم تلفونياً وكان متأثراً جداً، وقد كان دائم التردد لعائلة الشهيدين مع أنّه كثير الانشغال، لكنه كان يخصص وقتاً عند كل زيارة لبيروت لزيارة عوائل هؤلاء الشهداء.

س- هل لديكم أيّ ذكريات عن نشوب الأزمة في العراق وسوريا؟ وما المساعدة التي طلبها منكم؟

ج- الحاج قاسم حضر شخصياً مع شخصيات من الحرس الثوري الإيرانيّ لبغداد، واتصل بالعراقيّين وفصائل المقاومة التي جمعته علاقة قديمة معهم، وهو من نزل للميدان في البداية، وحادثة طريق بغداد سامراء معروفة، وكاد أن يقتل فيها الحاج قاسم، ووقتها كانت الفتوى التاريخية للسيّد السيستاني في موضوع الجهاد وإعلان التطوّع وإقبال الناس للجبهات، وهذا كان بحاجة لاستيعاب .

الحاج قاسم أتى في ذلك الوقت من مطار بغداد إلى دمشق، ثم بيروت والضاحية، ووصل إليّ عند الـ 12 ليلاً وقال لي إنه مع طلوع الفجر أريد 120 قائد عمليّات من اللبنانيّين، وأنا استغربت ذلك في وقت متأخر، لكنّه قال: إننا إن أردنا الدفاع عن الشعب العراقيّ والعتبات المقدسة ومحاربة داعش ليس لدينا خيار، وقال إنّه يريد قادة وليس مقاتلين، وقد قلت في خطاب بعد ذلك بأن الحاج قاسم خلال 22 سنة من علاقتنا لم يطلب منّا شيئاً حتّى لإيران، إلّا في هذه المرّة للعراق، وبقي معي واتصلنا بالأخوة وأمنّا تقريباً 60 منهم، بعضهم ممن كان في سوريا، والبعض أيقظناهم وجئنا بهم من بيوتهم؛ لأنّ الحاج قال إنه يريد أخذهم معه بعد صلاة الفجر، وهذا ما تم بالفعل، وقد غادر دمشق ومعه حوالي 60 من القادة الميدانيين لحزب الله، وذهب بهم إلى الجبهات في العراق؛ فالمقاتلون كانوا هناك ويحتاجون من يديرهم، ولم يتركني إلّا بعد أن أخذ تعهّداً منّي بأن أرسل له بقيّة الإخوة في الأيام القادمة. وقد شعرت في تلك الليلة أنّ الدنيا كلها في عين الحاج قاسم هي العراق، وكان يرى أنّها مصيرية وقد يقتل فيها، وقد أخبرته بأنني كنت على علم من بعض الإخوة أنه كان في موكب طريق سامراء بغداد وهذا خطير، وقال إنّ الوقت ضيّق جداً، وكان عليه أن يمشي ليمشي الآخرون وأنّ الحسابات مختلفة.

كان متأثراً مما يجري في العراق، وكان مستعدّاً للموت لأجل حماية العراق والعتبات المقدّسة، فلو تمكّنت داعش من السيطرة على العراق كان هذا سيهدّد إيران والمنطقة، لكن مَن كان سيدفع الثمن الأوّل؟ هو الشعب العراقيّ أولاً.

س- متى تعرّفتم على الحاج أبو مهدي؟ وأين تم أول لقاء بينكما؟ وهل تتذكرون شيئاً عن ذلك اللقاء؟

ج- أنا تعرّفت على الحاج أبو مهدي في بداية التسعينات بعد سنة 1991 – 1992، قبل ذلك لم يكن هناك معرفة بيني وبينه، وهو كان موجودا في الكويت. بعد ذلك التقيت به في طهران، وهو كان من القيادات الكبيرة لـ «قوات بدر» التي أصبحت فيما بعد باسم (منظمة بدر)، وسريعاً بدأت علاقة مودة ومحبة واحترام بيننا، وهو كان أيضاً على علاقة جيدة مع إخواننا في لبنان، ومع الأخ السيّد ذو الفقار بشكل خاص ومع الحاج عماد مغنية ومع بقيّة  الإخوة. فيما بعد هذه العلاقة تطوّرت بعد أن أصبح الحاج قاسم مسؤولا بقوة القدس؛ لأنّ الحاج أبو مهدي يملك موقعاً مهماً في العراق، وأيضاً علاقته مع الحاج قاسم جيدة، ونحن أيضاً علاقتنا مع الحاج قاسم كانت جيدة، هذا ما زاد من العلاقة والتواصل والتنسيق بيننا وبين الحاج أبو مهدي. وأيضاً العلاقة أصبحت أقوى وأقرب في السنوات الأخيرة بسبب ما حصل في العراق؛ يعني في مرحلة قتال «داعش» وذهاب إخواننا إلى العراق لمساعدة الحشد الشعبي وفصائل المقاومة، فكان إخواننا على تواصل دائم مع الحاج أبو مهدي، وهو أيضاً كان يأتي إلى لبنان، وقبل شهادته بثلاثة أشهر أو أقلّ كان في لبنان، وفي إحدى الزيارات جاء برفقة عائلته.

وفي اللقاء الأخير بيني وبين الحاج أبو مهدي، قبل أشهر عدّة، جلسنا لساعات تحدّثنا فيها عن الوضع في العراق، وتقييم الساحة الميدانيّة والأمنيّة والعسكريّة، وكيفيّة تقوية الحشد الشعبي كمدافع حقيقي عن الشعب العراقيّ، وهو كان يقول إنّ «داعش» انتهت عسكريّاً ولدينا بعض الخلايا والبؤر الأمنيّة سوف نقضي عليها إن شاء الله، ولكن أنا أخشى أن تنتهي معركة «داعش» وأنا ما زلت على قيد الحياة، ويضع يده على لحيته ويقول: لحيتي أصبحت كلها بيضاء ورأسي أيضاً، وأنا بعد كل هذا العمر أخشى أن أموت على الفراش، فأنا أطلب منك أن تدعو لي أن يرزقني الله سبحانه وتعالى الشهادة.

نحن تقليداً لسماحة السيّد القائد (حفظه الله) عندما يطلب أحد من سماحة السيّد القائد أن يدعو له بالشهادة، هو لا يدعو له بتعجيل الشهادة؛ بل يدعو أن تكون عاقبته الشهادة، وأحياناً يمزح ويقول: إن شاء الله بعد عدة أعوام، المهم أن تكون عاقبتك الشهادة. وأنا قلت للحاج أبو مهدي ذلك: لن أدعو لك أن يعجل الله بالشهادة بل أدعو لك أن تكون عاقبتك الشهادة، وأنت أيضاً تدعو لنا ولبقية  إخواننا، هذا كان آخر لقاء أيضاً بالحاج أبو مهدي. ومعرفتنا به أنه إنسان على درجة عالية من الإخلاص والوفاء والتدين، هو إنسان مسؤول ومجاهد حقيقي، وسبحان الله فيه الكثير من المواصفات المشتركة مع الحاج قاسم سليماني، وهذا أحد أسباب هذه العلاقة المميّزة التي كانت قائمة بينهما.

س- أجبرت الحرب في العراق الحاج القاسم على الحضور أكثر في ميدان الحرب، وكان يحضر في الحقيقة في أيّ مكان ضروري في الخطوط الأماميّة، ورأيناه أمامنا في أوقات متعددة في عمليات استطلاعيّة وغيرها، ألم تكن تلك الظروف خطرة على حياته؟ لقد كان يقحم نفسه فجأة في ميدان الحرب.

ج- كان دائمًا في دائرة الخطر، وكان يرفض الحضور في الأماكن الخلفية، كان يذهب إلى الأمام ويريد أن يشاهد بأم العين ويقيّم بشكل مباشر، ويتواصل مع المقاتلين في الصفوف الأماميّة ويذهب إليهم ويقف معهم، هو كان لديه هذه الطريقة، طبعاً؛ نحن دائما كنا نناقشه فيها. هو لم يكن يفعل ذلك قط لأنّه عاشق للشهادة، يعني البعض كان يقول الحاج قاسم هو يريد أن يستشهد ويفتش عن قاتله، ولذلك يذهب إلى هذه الأماكن. هذا غير صحيح أو في الحد الأدنى غير دقيق؛ لأنّه كان يعرف أيضًا أن هناك مسؤوليّة شرعيّة على عاتقه، ولا يجوز له أن يعرّض نفسه للقتل بدون طائل أو بدون فائدة.

الحاج سليماني كان لديه رؤية. كانت المعركة في العراق وفي سوريا بحاجة إلى ثبات كبير وشجاعة عالية، إلى صمود في جبهات القتال، وهذا الأمر لا يتحقق من خلال إدارة خلفيّة، فحضور القائد بمستوى الحاج قاسم سليماني في الجبهات أهم ما فيه هو هذا التثبيت النفسيّ والمعنويّ والروحيّ. كان نفس وجوده في هذه الجبهة وتلك الجبهة يعطي قوة هائلة للمقاتلين ويساعدهم على الثبات والصمود والبقاء؛ رغم كل المخاطر والصعوبات التي كانوا يواجهونها، إضافة إلى الفوائد الأخرى التي تجعله كقائد أقرب إلى معطيات الميدان.

لكن أعتقد، وهذا ما كنت أسمعه وأناقشه به، أنّ البعد الروحيّ والنفسيّ والعاطفيّ في رأيه كان على درجة عالية من الأهمية، وهذا صحيح، وأنت تستطيع أن ترى أفلام الفيديو الموجودة الآن كيف كان يتعامل مع الشباب الموجودين في الخطوط الأماميّة وفي السواتر الترابيّة الأماميّة، عندما يأتي إليهم الحاج قاسم يعانقونه ويقبّلون يده ويبكون ويحضنونه ويعاتبونه على مجيئه إليهم. هذا الأثر النفسيّ كان مهمّاً جداً، ولذلك ولدت ونشأت علاقة حب وود وعشق بين المقاتلين والحاج قاسم سليماني، وهذا ما كان ليتحقق لو كان يديرهم من المواقع الخلفيّة. هذا العشق سببه الحضور المباشر في الأماكن الأماميّة.

أيضاً؛ عندما بدأت الأفلام والصور تظهر في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعيّ، أنا تحدثت معه وقلت له هذا شيء خطير جداً، وهو لم يكن يتعمّد ذلك، ولم يذهب إلى الخطوط الأماميّة ويأتي معه بكاميرا لتصوّره، لكن تعرف في كل الجبهات كانوا يصوّرون الحاج وينشرونها في وسائل التواصل الاجتماعيّ، فهو كان يقول هؤلاء الشباب موجودون في الخطوط الأماميّة على السواتر الأماميّة، ويحملون دماءهم على الأكفّ ومستعدّون للموت، فأنا أخجل أن أقول لهم لا تصوّروا لأنّ هذا خطر عليّ.

فكان يتركهم، وأُولى الصور والأفلام التي نشرت عن الحاج قاسم سليماني لم ينشرها هو ولا قوة القدس؛ بل فعل ذلك المقاتلون في الخطوط الأماميّة الذين كانوا يصوّرون زيارته وحضوره بينهم وانتشرت في وسائل الإعلام، لم يكن هناك طريق آخر، وهو يقول أنا أخجل من هؤلاء الشباب المقاتلين أن أقول لهم أنا أمنعكم أن تصوروا لأنّ هذا يشكّل خطراً على نفسي وهم يجلسون في مقدّمة الخطر، هذا كان السبب الحقيقيّ للحضور الإعلاميّ الذي لم يكن مقصوداً للحاج قاسم خلال السنوات الأخيرة.

س- هل كان لكم لقاء مشترك مع الحاج قاسم وأبو مهدي بعد هزيمة المشروع الداعشي التكفيري في سوريا والعراق؟

ج- نعم؛ كنا في لقاء مشترك، وهذه الصورة هي عندنا هنا في الضاحية، لكن الإخوة عملوا لها مونتاجا وهم يجلسون على كنبة في مكتبة وكنا معاً، وأيضاً توجد صور لنا أنا والحاج قاسم والحاج أبو مهدي في لقاء طويل، وهدف اللقاء كان استعراض التطورات في العراق، وما هو مطلوب منا، وكيف نساعد في المرحلة المقبلة من جهة. ومن جهة أخرى؛ إذا حصلت حرب على لبنان أو المنطقة، ماذا يمكن للإخوة العراقيّين أن يساعدوا في مواجهة هذه الحرب.

س- متى كان أخر لقاء بينكم وبين الحاج قاسم؟

ج- كان يوم الأربعاء، هو استشهد سحر يوم الجمعة، ويوم الأربعاء كان عندنا في بيروت، قبل صلاة عصر يوم الأربعاء جلسنا لساعات، وصلينا صلاة المغرب معاً، ودّعني وذهب إلى دمشق. طبعاً؛ لم يكن مقرراً أن يأتي إلى لبنان، فقد كان قبل أسبوعين، لم يكن هناك أيّ حاجة لمجيئه إلى لبنان. يوم الإثنين قبل الأربعاء – قبل مجيئه إلينا بيومين- أنا سألت أحد الإخوة المسؤولين هنا الذي كان يتواصل مع الحاج بشكل دائم، قلت له: ما هي أخبار الحاج؟ أين هو الآن؟ في طهران في بغداد؟ قال: أنا تكلّمت معه اليوم، وسألته هل ستأتي إلى لبنان؟ قال: «لا؛ أنا قبل مدة قليلة كنت عندكم، وأنا مشغول أريد أن أذهب إلى العراق»، ثم الثلاثاء ليلاً اتصلوا بنا وقالوا الحجي وصل إلى دمشق في آخر الليل، وسينام في دمشق، وغدًا سيأتي إلى بيروت، وأنا استغربت! فهو قبل أسبوع أو ثلاثة أسابيع كان هنا، وهو مشغول في قضايا العراق الأخيرة.

عصر يوم الأربعاء التقينا وجلسنا، وأنا كان لديّ مواعيد في الليل وألغيتها. كنا نصلي معاً، ونجلس عادة إلى 6 أو 7 ساعات. قال أتيت: لكي أراك، وأنا ليس عندي شغل معك، وليس عندي شيء أبحثه، أنا قبل أسابيع كنت هنا، ولذلك أنا سأبقى ساعة لا أكثر نجلس معاً ونتكلم معاً. وبالفعل جاء الحجي، وجلسنا، ولم يكن هناك موضوع خاص. أنا تفاجأت أنّه لماذا جاء إلى الضاحية! وقلت له: لماذا زاحمت نفسك وأتيت؟ قال: «أنا فقط أتيت لكي أراكم، وليس لديّ أي شغل آخر، وسأل عن الأوضاع والأحوال وبعض النواقص وبعض الصعوبات التي يساعد بمعالجتها بشكل شهري أحيانا، فهو حلّ مشكلة 4 أشهر دفعة واحدة، وقال أنتم كونوا مرتاحين ومطمئنين ولا مشكلة على الإطلاق».

تحدّثنا، وكنّا نمزح، وكان الحاج أكثر مرة سعيداً فيها، مع أنه لديه هموم كثيرة في أماكن أخرى، وكان يمزح كثيراً ويضحك كثيراً، وأنا خفت عليه، وكنت في اللقاء السابق قبل أسبوعين أو ثلاثة، قلت له حجي؛ في أمريكا يركّزون كثيراً عليك في وسائل الإعلام، وكانت توجد مجلة عندي فيها صور الحجي على الصفحة الأولى، وهي من أهم الصحف والمجلات الأمريكيّة، والمقال عنوانه (الجنرال الذي لا بديل له)، قلت له: «بعض الأصدقاء الذين يعرفون جيداً عن الولايات المتحدة الأمريكية، يقولون بأن هذه مقدمات لعمليات اغتيال، يجب أن تكون  محتاطا»، وهو يضحك ويقول: «هذا جيّد ويحقق أمنيتي».

أنا قلت: «أنت تبقى الليلة عندنا». قال: «لا». فهو يريد الليلة أن يرجع إلى دمشق، ويريد أن يرى الإخوة في دمشق، ثم يسافر إلى بغداد. عندما يأتي الإخوة إلى المكتب عادة هم يأتون بالكاميرا ويبدؤون بالتصوير، لكن هذه المرة الأخيرة هو قال لهم: «أين الكاميرا؟ تعالوا نريد أن نتصوّر أنا والسيد». وكنّا نتصوّر في حالات بالصلاة ووقوفاً وجلوساً، وهو يتوضأ، ونحن لم ننشر كلّ هذه الصور، لكن كان لافتاً جداً إصراره على الإخوة أن يأتوا بالكاميرا، وهذا كان آخر لقاء بيني وبينه، وأنا طبعاً قلت له: «حجي أنا أرجوك؛ لا تذهب إلى بغداد؛ لأن الوضع ليس جيداً  ومقلق». قال: «يجب أن أذهب، أريد أن ألتقي برئيس الوزراء هناك، وهناك رسائل مهمة نريد أن نوصلها ونسمع إليها، ولا يوجد طريق آخر».

س- متى سمعتم خبر شهادته؟

في الليل بعد الساعة الـ 12، وعادة عندما أقرأ، أبقي التلفزيون مفتوحًا أمامي، لكن بدون صوت، وأحيانًا أضعه على بعض القنوات الإخباريّة، فوجدت خبرًا عاجلًا على القناة الفضائيّة يقول «قصف صواريخ كاتيوشا على مطار بغداد». أنا قلت هذا ممكن؛ لأنّه كان يوجد توتر في العراق بعد أن قام الأمريكيّون بقصف قواعد الحشد الشعبي في منطقة القائم، وما حصل في محيط السفارة الأمريكيّة في بغداد. بعد قليل، جاء خبر عاجل يقول إن الأمريكيّين استهدفوا سيّارات تعود إلى الحشد الشعبي، كانت قرابة الساعة الـ 1 ليلاً، وأنا كنت أعلم أن الحاج سليماني سيذهب في تلك الليلة من دمشق إلى بغداد.

اتصلت بالإخوة؛ لأنّ الذين يذهبون مع الحاج إلى دمشق هم من المجموعة التي تعمل في حمايتنا، وسألت  الإخوة: «من المفترض في أي ساعة أن تنطلق الطائرة من دمشق؟» قالوا: «الساعة 6»، لكن قلت لهم: «اتصلوا بمطار دمشق واسألوا أي ساعة تقلع الطائرة»، فقالوا: «الطائرة أقلعت متأخرة الليلة».

أنا في تلك اللحظة انتهى الموضوع عندي وقلت إنّ الحاج استشهد، وأيقظت أحد الأخوة المسؤولين وقلت له: «اتصل بطهران وتابع الموضوع»؛ لأننا كنا نتواصل مع الأرقام عندنا في بغداد، ولكن لم نجد  الإخوة، وهنا ازداد القلق، فاتصلوا بطهران، وأيضاً من طهران بدؤوا يتصلون ببغداد، وتقريباً خلال وقت قصير تبيّن خبر استشهاده. يعني أستطيع أن أقول أنا منذ اللحظة الأولى للحادثة أدركت أنّ هذا الموكب هو موكب الحاج قاسم؛ لأنّه عندما ذكروا بعض الأسماء من الإخوة العراقيّين من «آل جابري»، سألت بعض الإخوة، قالوا إنّ هذا الأخ هو الذي يأتي إلى مطار العراق لاستقبال الحاج قاسم.

في جميع الأحوال؛ أنا في تلك الليلة ومنذ الدقائق الأولى للحادث كنت أتابع من هنا مع الأخوة في طهران وفي بغداد إلى أن تأكدنا من حصول هذه الحادثة المؤلمة.

س- أشرتم خلال حديثكم إلى أنّ شهادة الحاج قاسم ستكون نقطة تحوّل في التاريخ، وقسّمتم التاريخ من تلك اللحظة فما بعد إلى قسمين، ما المقصود؟

ما قامت به أمريكا وتبنّيها العلنيّ خطوة كسرت كل الخطوط الحمراء، وكان خطرا جداً، والذي تجاوز الخطوط الحمراء هي الإدارة الأمريكيّة، وهذا سيضع محور المقاومة وشعوبنا وأمتنا في مواجهة مباشرة مع الإدارة الأمريكيّة، هذا جديد وسيكون على مستوى المنطقة.

المواجهة الأعم قد تأخذ أشكالاً متنوعة ومختلفة سياسيّة واقتصاديّة وأمنيّة، وهي فتحت الأبواب للمواجهة. من جهة أخرى؛ عندما تتجه الأمّة لتكتشف عدوّها الحقيقيّ وتشخّص الشيطان الأكبر كما شخّصه سماحة الإمام قبل أكثر من أربعين أو خمسين سنة، وتتجه في معركتها الشاملة باتجاه العدو الأساس، فهذا سيؤدّي إلى تحوّلات كبيرة جدًا ومهمة جداً ومصيرية وتاريخية في المنطقة.

راهنوا بقتلهم للحاج قاسم والحاج أبو مهدي وإخوانهم الشهداء على أنّ محور المقاومة سيضعف وإيران ستخاف، إيران كان موقفها صلباً وشجاعاً عندما اتخذت قرارا بضرب القاعدة الأمريكيّة في العراق وبهذا الحجم من الصواريخ وبهذه الطريقة، وأمّا في محور المقاومة فقد افترضوا أنّه سيتراجع محور المقاومة أو الشعوب التي تواجه أميركا وأدوات أميركا.

مثلاً؛ في اليمن الانتصارات التي حصلت قبل أيام في المعركة التي سماها الإخوة اليمنيون بـ «البنيان المرصوص»، كانت انتصارات عظيمة وكبيرة وحاسمة في مسار الأمور في اليمن، وهذا حصل بعد استشهاد الحاج قاسم سليماني.

اليوم؛ هناك في سوريا واليمن تقدّم  كبير، وفي العراق الحشد الشعبيّ والقوّات العراقيّة تكمل تنظيف الخلايا التي برزت من جديد لداعش، وفي جبهة فلسطين موقف المقاومة والشعب الفلسطينيّ موقف قويّ وصلب جداً. في كلّ الساحات أنا أعتقد أن دماء الحاج قاسم وأبو مهدي والشهداء بلا شك أعطت دفعاً كبيراً ودفقاً هائلاً لحركات المقاومة. عندنا في حزب الله، بعد استشهاد الحاج قاسم، كثير من الأخوة كتبوا لي رسائل يطلبون الإذن وتوفير فرصة العمليات الاستشهاديّة لهم.

هذا التحوّل الروحيّ من جديد في الحقيقة أضيف اليوم، أنا قلت هي مرحلة تاريخيّة جديدة، وبالنسبة لإيران هي ولادة جديدة للثورة الإسلاميّة، وأنا أقول لك اليوم هي ولادة جديدة للمقاومة ولمحور المقاومة ولثقافة المقاومة.

س- كيف ترون مستقبل المنطقة ومسائل المقاومة وفلسطين وتحرير فلسطين بعد شهادة الحاج قاسم؟ هل ترون ذلك قريبا أو إنكم ترون تحرير فلسطين بات مؤجلاً؟

لا؛ الأمر لن يتأخر بسبب شهادة الحاج قاسم؛ بل بالعكس قد يتقدّم؛ لأنّه كما ذكرت شهادة الحاج قاسم أوجدت هذه الروحيّة الجديدة وهذه الدماء الجديدة وهذا الاندفاع الكبير. أنا أعتقد بأنّه لن يكون هناك مجال للقلق بسبب عناية الله سبحانه وتعالى بالمجاهدين والذين يصفهم أمير المؤمنين بأنّهم أولياء الله أو خاصة أولياء الله عزّ وجل.

ثانياً؛ ببركة وجود سماحة السيّد القائد (دام ظله) والجمهوريّة الإسلاميّة التي تقف بصلابة وقوة كشعب ومسؤولين في مواجهة كل الأخطار والتحديات، ومحبتها واحتضانها لكل شعوب المنطقة وحركات المقاومة في المنطقة، وإن شاء الله الإخوة المسؤولون وبالتعاون والاستفادة من تجربته وطريقته ومكتبه، أعتقد أنهم سيدفعون الأمور بقوّة إلى الأمام؛ لذلك نحن لسنا قلقين، ونحن واثقون بالاستمرار بهذا الطريق بقوة أكبر وعزم أرسخ، واليوم حضور الحاج قاسم والحاج أبو مهدي المهندس بيننا يمكن أن يكون أكبر؛ لأنّ تأثيرهما سيكون أكبر وأهم بعدما انتقلا إلى ذلك العالم، وإخلاصنا لهما وحبنا لهما سيدفعنا للمزيد من العمل والمزيد من الحضور والمزيد من بذل الجهد لتحقيق أهدافهم إن شاء الله.

س- يعتقد الكثيرون أنّ شهادة الحاج قاسم مرتبطة بصفقة القرن، هل تظنّون ذلك؟

ج- هي جزء من المعركة، ترامب والإدارة الأمريكيّة يدافعون عن الكيان الصهيونيّ الغاصب لفلسطين، ويريدون حماية «إسرائيل»، ويريدون أن يفرضوا ما يُسمى بـ (صفقة القرن) على الشعوب، وعندما يبحثون سيجدون أنّ هناك شخصيّة مركزيّة مهمة جداً في هذه المواجهة، والذي أسميته أنا الشخصيّة المتكرّرة، يعني الحاضرة في أكثر من بلد، فأرادوا حذفه بطبيعة الحال لتحقيق أهدافهم، ومن أهم أهدافهم في هذه المرحلة هو صفقة القرن.

س- في السؤال الأخير نريد أن نترك لكم المجال لأيّ إضافات شخصيّة؟

ج- طبعاً؛ من أعظم النعم الإلهيّة في حياتي كانت معرفتي بالحاج قاسم سليماني، وهذه الأخوّة والصداقة التي نشأت بيننا، كانت كأخوين حقيقيين من مودة ومحبة وعاطفة وصداقة وأيضاً وحدة فكر في 98 بالمئة من الأمور، وفي هذا الاختلاف البسيط يمكن لأحدنا أن يقنع الأخر بسبب الثقة والمحبة التي بيننا. طبعاً؛ الحاج قاسم بالنسبة إليّ كصديق وأخ، وكنت أشعر بدعم قوي من خلال وجوده، وأستطيع أن أقول إنه في العشرين سنة الماضية كان الحاج قاسم سليماني من الأشخاص القلائل الذين كنت أتحدّث عنه كأخ وحبيب وعزيز، وأنا أحبّه كثيراً وأثق به. وأيضاً في حياة كل شخص ممكن أن يكون هناك اثنان أو ثلاثة، ويمكن أن يكون الحاج قاسم سليماني واحدا منهم (رحمه الله(.

أنا دائماً كنت حاضرا أن أفدي الحاج قاسم بروحي، وفي أحد الأيام كنت في الصلاة خطر في بالي ما يلي:

أنّ ملك الموت جاء وقال لي أنا ذاهب إلى إيران لأقبض روح قاسم سليماني، لكن الله سبحانه وتعالى جعل استثناء وقال لي اذهب إلى فلان وقل له هناك خيار آخر لتأجيل قبض روح قاسم سليماني، وهو أن نقبض روحك (السيد نصرالله). أنا في ظل هذه الفرضية كنت أفكر في نفسي ماذا أقول لملك الموت؟ أقول له: قطعا أنت خذني واترك الحاج قاسم سليماني.

فيما بعد ذكرت هذا لبعض الإخوة عندما كنا نتناقش، وأحياناً نتيجة العمل يحصل بعض المشاكل مع الإخوة، فأنا كنت أقول لهم بأن الحاج قاسم بالنسبة إليّ هكذا، فأحد الإخوة قال لي: «كيف تفكّر بهذه الطريقة؟!»، أنا قلت له: «أولاً؛ بسبب الحب والأخوّة والعاطفة بيني وبين الحاج قاسم. وثانياً؛ أنا أعتقد أن وجوده يخدم الإسلام والمسلمين والأمة والمقاومة أكثر بكثير من وجودي أنا». المسألة ليست مسألة عاطفة فقط، وإنما أنا أعتقد بهذا الرجل وبوجوده المبارك، هذا ما كان يمثله لي على المستوى الشخصيّ.

المصدر
كتاب يحبهم ويحبونه | السيد حسن نصرالله

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟