مواضيع

حق الحاكمية وحق التشريع

تمهيد

بعد أن عرفنا ضرورة وجود الحكومة واتضحت لنا أهداف الحكومة يأتي الحديث والبحث في هذين المبحثين المهمين والحساسين:

أولاً: من الذي له حقّ الحاكمية؟

ثانياً: من الذي له حقّ التشريع؟

وذلك لأنّه مع فرض وجود الحكومة:

  • فمن جهة: فهناك من يقوم بممارسة الحكم والسلطة، فهو يأمر وينهي ويعاقب و…، فمن هو صاحب الحق في كل هذه التصرفات؟ ومن الذي أعطاه هذا الحق؟ ومن أين حصل على هذا الحق؟
  • ومن جهة ثانية: فإنّ فرض وجود الحكومة يعني وجود تشريعات وقوانين ومقرّرات: فمن الذي يصدر مثل هذه القوانين، ومن الذي أثبت له مثل هذا الحق؟ وما هو مصدر هذا الحق؟!

وهنا تختلف الرؤية الإسلامية عن الرؤية الإلحادية، بل إنّه يوجد اختلاف في داخل الرؤية الإسلامية الشيعية والسنية، وهذا ما يتطلب تفصيل البحث في كل هذه الرؤى!

فسنذكر أولاً: حق الحاكمية؛ حاكمية الله(عز وجل) وحاكمية النبي (ص)، ثم نتعرض إلى السنة ومدرسة الخلافة ورؤيتها للحاكم، ثمّ نعرّج على الشيعة وأتباع أهل البيت (عليهم السلام) ورؤيتهم للحاكم.

ونذكر ثانياً: حق التشريع ونذكر وجهة نظر النظرية السياسية الإسلامية ثم نذكر رأي النظرية السياسية العلمانية.

حق الحاكمية

حاكمية الله

إنّ حق الحاكمية ثابت لله(عز وجل)؛ فهو الذي خلقنا وهو الذي يتولى تربيتنا ورزقنا، وهو المالك لنا بالملك الحقيقي، بل إنّ وجودنا ووجود كل المخلوقات ما هي إلا وجودات حرفية وتعلقية بالله(عز وجل)، لا تملك المخلوقات حولاً ولا قوة ولا نشوراً إلا بالله(عز وجل)، وهذا أمر يُعتبر مورد وفاق لكل المسلمين والموحدين.

حاكمية النبي (ص)

كما أنّ حق الحاكمية ثابتٌ للنبي محمد (ص)، فاللهعز وجل) – الذي هو صاحب الحق بالذات – قد أعطى هذا الحق إلى نبيّه وجعله حاكماً على الناس <النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ>[1]، وولاية النبي (ص) تعني: أنّ له الحق في التصرف في نفوس وأموال الناس وأعراضهم، فهو الحاكم وهو الولي الذي تكون كلمته فوق الناس ويجب على الأمّة أن تأتمر بأمره وتنصاع لتوجيهاته، وأيّ مخالفةٍ لأوامر النبي (ص) تعني مخالفة لأمر الله(عز وجل)، وأي إعتراضٍ عليه هو اعتراض على السماء وخروج من التوحيد ودخول في دائرة الشرك والكفر.

وهذه مسألة يتفق عليها المسلمون قاطبةً شيعة وسنّة: فالكل يؤمن بأن الله(عز وجل) قد نصّ على حاكمية النبي (ص)، وأن تعيينه وتنصيبه قد جاء من السماء وبأمرٍ من الله(عز وجل).

والخلاف الواقع بين المسلمين هو ما بعد رحيل الرسول الأعظم (ص) فهل تعيين الخليفة بعده هو بأمرٍ سماوي أو هو موكلٌ للأمّة؟

السنّة: مدرسة الخلافة

أما السُّنة واتباع مدرسة الخلافة: فهم يعتقدون بأنّ الخليفة بعد رسول الله (ص) لم يتم تعيينه من قبل الله (عز وجل)، وأنّ النبي (ص) لم ينص على خليفة من بعده يكون حاكماً من بعده، بل الأمر موكول إلى الأمّة تختار من تشاء لتجعله خليفة لرسول الله (ص)!

وعليه فكل من يُعيَّن من قبل الأمة ويُختار لهذا المنصب فإنّه يكون واجب الطاعة ويحرم مخالفته، ولا بّد من الامتثال لكل ما يأمر به وينهى عنه، لأنّه حائزٌ على منصب خلافة الرسول (ص)، فله ما للرسول (ص) من وجوب الطاعة وحرمة مخالفته.

وبعد ذلك، تم طرح ثلاثة طرق لتعيين الحاكم الإسلامي والذي يشغل منصب رسول الله تعالى:

  • الشورى: فإذا اجتمعت الأمّة على شخصٍ، وحاز هذا الشخص المنتخب على غالبية آراء الأمّة، فإنّ هذا الشخص يكون هو الخليفة والحاكم ويرون أنّ حصول الأول على الخلافة كان بهذا الطريق.
  • تعيين الخليفة السابق: فإذا كان هناك خليفة شرعي، وقبل وفاته نصّ على الخليفة والحاكم القادم، فإنّه بموت الحاكم الأوّل تنتقل الخلافة والحاكمية إلى الثاني، ويكون بهذا التعيين خليفةً وحاكماً للأمّة، ويرون أن حصول الثاني على الخلافة بهذا الطريق.
  • اجتماع أهل الحل والعقد: فإذا اجتمع أهل الحلّ والعقد وأصحاب الرّأي والفكر والنّخب من أفراد المجتمع، وتشاوروا فيما بينهم ثم اختاروا شخصاً حاكماً وخليفةً، فإنّه يصبح خليفةً وحاكماً شرعياً، ويجب على الأمة طاعته والانصياع له، ويرون بأّن الثالث قد صار خليفة للمسلمين من خلال هذا الطريق.

والحاصل أنّ السنّة ومدرسة الخلافة لا تؤمن – بعد رسول الله – بوجود نصّ من السماء على الخليفة، بل إنّ تعيين الخليفة هو بيد الأمّة؛ إما بالشورى أو بتعيين الخليفة السابق أو باجتماع أهل الحل والعقد.

الشيعة: مدرسة النص

أمّا الشيعة وأتباع أهل البيت (عليهم السلام)، فإنّهم يعتقدون بأن الخليفة بعد رسول الله (ص) هو معيّن من قِبل السماء وبنصٍ من الرسول الأعظم (ص)، فكما أن النبي قد تم تعيينه من قبل الله(عز وجل)، فإنّ الإمام علي (ع) وسائر الأئمة (عليهم السلام) من بعده قد تم تعيينهم من قبل الله، وقد تم بيان هذا التعيين من خلال نصّ النبي (ص) لذلك في أكثر من مناسبة: من حديث الدار وحديث المنزلة وحديث الغدير وغيرها.

والشيعة تعتقد بأنّه لا يحق للناس تعيين الخليفة بعد الرسول (ص)، كما أنّ الناس ليس من حقهم فعل ذلك بالنسبة للنبي (ص) بل إنّ الناس من الأساس لا تملك مثل هذه الصلاحية لمعرفة الإنسان الكامل الذي يكون خليفة للمسلمين، فالشيعة تؤمن بأن منصب الإمامة كمنصب النبوة: هو أمرُ إلهي يأتي من قبل السماء <اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ>[2].

والحاصل أنّ الشيعة تعتقد بوجود نصٍّ من الله(عز وجل) ومن جهة السماء على تعيين الخليفة بعد رسول الله تعالى، فالأمر غير موكول إلى الأمة بل هو أمرٌ إلهي، فحال الإمامة هو حال النبوة يأتي من قبل الله تعالى.

وعليه فالحاكم الذي يتمتع بالشرعية هو المعيّن من الله(عز وجل)، فإذا لم يكن معيناً من قبل السماء فهو حاكم غاصبٌ وجائرٌ، حتى لو اجتمعت عليه كل الأمّة وبايعته بالخلافة.

والنتيجة أنّ الشيعة تعيش التوحيد وتؤمن به على صعيد الحاكمية في الأمور السياسية؛ حيث تبدأ من الله(عز وجل) الذي يملك حق الحاكمية بالذّات، ومن ثم تعتقد بحاكمية النبي «النبوة» بما أنه معيّن من الله تعالى حتى تصل إلى الإعتقاد بـ«الإمامة» باعتبار أن الإمام هو الخليفة المعيّن من قبل الله تعالى، كما نصّ على ذلك الرسول الأعظم (ص).

الفقيه: الحاكم الشرعي

ويواصل الشيعة بيان نظريتهم السياسية تجاه الحاكم في زمن الغيبة الكبرى حيث يعتقدون بأن منصب الحاكم هو خاص بـ«الفقهاء» في زمن الغيبة الكبرى.

فـ«الفقهاء» هم امتدادٌ للإمامة حيث أنّ الأئمة (عليهم السلام) بيّنوا لهم بل ونصّبوا عليهم حُكّاماً في زمن الغيبة، وأمروهم بأن يرجعوا إليهم ويتحاكموا إليهم وينصاعوا إلى ما يأمروهم به: «فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وأَنَا حُجَّةُ اللَّه»[3]

نعم، هذا التّنصيب من قبل الأئمة (عليهم السلام) هو تنصيب عام لا خاص، بمعنى: أنّ الأئمة (عليهم السلام) ذكروا مواصفات معيّنة، فمن اجتمعت فيه هذه الخِصال كان حاكماً معيناً من قبل الأئمة (عليهم السلام) بالتعيين العام «فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَ الْفُقَهَاءِ صَائِناً لِنَفْسِهِ حَافِظاً لِدِينِهِ مُخَالِفاً عَلَى هَوَاهُ مُطِيعاً لِأَمْرِ مَوْلَاهُ فَلِلْعَوَامِّ أَنْ يُقَلِّدُوهُ» كما هو مضمون بعض الأحاديث الشريفة[4].

والحاصل أنّ كلّ فقيه – تجتمع فيه هذه الخصال – فهو حاكم شرعي، وأمّا غير الفقهاء: فإنّه لا يحق لهم أن يتسنّموا هذا المنصب، وإذا جلسوا على كرسيّ الحكم كانوا غُصّاباً، إلا إذا كان مُعيّناً من قبل الفقيه الجامع للشرائط، فإنّ حاكميته حينئذٍ تكون شرعية عند حصوله على الإذن من قبل الفقيه.

الديمقراطية

أما أتباع المدارس الإلحادية والمتمثل اليوم في الغرب بالليبرالية والعلمانية أو الماركسية والشيوعية وغيرها فهي ترى أن تعيين الحاكم وحصوله على الشرعية لا يتأتى إلا عن طريق «الديمقراطية» وإحراز الأصوات الغالبية من الشعب.

فـ«الديمقراطية» هي المعيار وهي المناط في كل الفكر الغربي ومن ضمنه: تعيين الحاكم وجلوسه على كرسي الحكم.

ويعتقدون بأنّ الطريق الآخر لتعيين الحاكم هو طريق «الديكتاتورية» وتسلّط شخصٍ أو جماعةٍ بالقوة والقهر، وهذا طريق مرفوض ولا يمكن القبول به، ويرون أنّ أيّ طريق غير طريق الديمقراطية هو نظام ديكتاتوري لا بُدّ من مجابهته والسعي لإسقاطه.

ثانياً: حق التشريع

تمهيد

إنّ فرض وجود الحكومة والنظام والدولة، يعني وجود مجموعة من القوانين والتشريعات الفردية والاجتماعية والاقتصادية و…، كقانون المرور وقانون الأحوال الشخصية «أحكام الأسرة» وقانون التجارة وقانون العقوبات و….
والسؤال المهم والمصيري: من الذي له حق التشريع؟ ومن الذي خوّل هذا الشخص أو هذه الجهة وأعطاهم حق التشريع وإصدار القوانين؟
وهنا تختلف النظرية السياسية الإلهية عن النظرية السياسية العلمانية الإلحادية في من له حق التشريع.

الإسلام وحق التشريع

إنّنا نؤمن أولاً: بأنّ حق التشريع هو حقٌّ ثابتٌ لله(عز وجل) بالذات، كما يقول تعالى <إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ>؛ فالله تعالى هو الذي خلقنا وهو المالك لنا، وهو الذي يتولى تربيتنا فهو رب العالمين، فله الولاية التكوينية علينا، كما أن له حق التشريع والذي يُمثل الولاية التشريعية علينا، وكل هذا يُعتبر من مقتضيات التوحيد وفروعه.
ونؤمن ثانياً: بأن هذا الحق – حق التشريع – ثابت للنبي الأعظم(ص) بإذنٍ من الله تعالى، فالنبي(ص) له ولاية تشريعية علينا، ويجب علينا طاعة أوامره كما يجب علينا طاعة أوامر الله تعالى <وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا>.
ونؤمن ثالثاً: بأن هذا الحق -حق التشريع- ثابت للإمام(ع) بإذن من الله تعالى -صاحب الحق الأصلي- وبنصٍ من النبي الأعظم(ص)، فالإمام المعصوم(ع) له الولاية التشريعية كما أن للنّبي(ص) الولاية كذلك، وطاعة أوامر الإمام(ع) هي طاعة لأوامر الله(عز وجل) ومعصيته معصية الله.
ونؤمن رابعاً: بأن هذا الحق ثابت للفقيه في زمن الغيبة الكبرى، فلا يحق لغير الفقيه أن يفتي في المسائل الشرعية المرتبطة بمعاد ومعاش النّاس، بما في ذلك القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية و…، فهذا الحق هو للإمام(ع) وقد جعله للفقهاء في زمن الغيبة الكبرى.
وعليه فلا شرعية لأي قانون يصدر من الحكومة إذا لم يكن صادراً من الفقيه، إلا أن يكون مشرفاً على ذلك فيعطي ويضفي على القوانين الشرعية الاعتبار.
والحاصل أنّ النظرية السياسية الإسلامية ترى بأن الفقيه هو المالك لـ«حق التشريع» في زمن الغيبة الكبرى، ولا حق لغيره ولا تملك قوانينه أيّ شرعية إلا إذا كانت مُمضاة من قبل الفقيه وهذا الحق للفقيه قد ثبت له من قِبَل الإمام(ع)الذي أعطاه حق التشريع كما أعطاه حق الحاكمية.

العلمانية وحق التشريع

أمّا المدارس الإلحادية من علمانية وليبرالية وشيوعية و…، فهي ترى أن حق التشريع ثابت للفئة التي يتم انتخابها والتصويت لها؛ فالبرلمان – الذي يمثل السلطة التشريعية – هو الذي يملك الحق وإصدار التشريعات والقوانين في الدولة، وأصوات الناخبين هي مصدر هذا الحق لـ«البرلمانيين».
وبعبارة أخرى: إن الديمقراطية هي الطريق لإضفاء الشرعية للبرلمانيين، والبرلمانيون هم أصحاب الحق في التشريع وإصدار القوانين في الدولة.
وعليه فإنّ حق التشريع ثابتٌ للنّاس وعموم أفراد الشعب، وهم من خلال الإنتخابات يعطون هذا الحق إلى فئة من أفراد المجتمع، وهم البرلمانيون الذين يمارسون التشريع والتقنين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]- وسائل الشيعة، ج‏27، ص: 140

[1]- منها ما ورد في: وسائل الشيعة، ج‏27، ص: 131،

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟