معرفة السنن الكونية
كان إمامنا العزيز رشحة من ذلك الينبوع الفياض؛ حيث استطاع إطلاق هذا المشروع العظيم في العالم، هو أيضاً كان قلبه مفعماً بالإيمان بهذا السبيل. وكما قال القرآن الكريم: <آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ>[1]، الرسول نفسه كان أول المؤمنين.
وفي ثورتنا كان الإمام الجليل هو المؤمن قبل غيره بهذا السبيل والمفعم قلبه بالإيمان بهذا الطريق وهذا الهدف؛ كان يفهمه ويعلم ماذا يفعل. كان يفهم عظمة هذا العمل ومستلزماته، وأول مستلزماته هو أن يقف بصلابة في هذا الطريق بالتوكل على الله، فوقف بقوة، واكتسب شباب هذا الشعب الصمود من صموده، وحينما فاضت ينابيع الصبر والسكينة هذه استغرقت جميع أبناء الشعب، فصدق عليهم قول الله تعالى: <هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ>[2]، حينما تنزل هذه السكينة في قلوب الناس يتضاعف إيمانهم، ثم يقول: <وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ>[3]. مِن ماذا تخافون؟ جنود الأرض والسماء لله، كن مع الله تكون لك وطوعك جنود الأرض والسماء. هذه هي السنن الإلهية.
لاحظوا أنّ الله تعالى خلق شيئين في آن واحد: أحدهما هذا العالم بكل قوانينه وسننه، والآخر قواعد الشريعة ودين الناس ودليلهم، خلق هذين الشيئين معاً وهما متطابقان على بعضهما، فإذا عملتم طبقاً للقوانين الإلهية – أي طبق إرادته التشريعية – تطابق عملكم وحياتكم وسلوككم مع قوانين الخلقة، كالسفينة التي تسير باتجاه الرياح فتساعدها الرياح، أو تجري مع تيار الماء فيساعدها هذا التيار.
سنن الخلقة تعين الإنسان السائر في هذا الطريق، ولكن شريطة أن يتحرك، وقد تحرك الشعب الإيراني وأعانته سنن الخلقة وقوانين الله الطبيعية؛ وإلاّ من كان يتصور أن ترفع فجأة راية الإسلام في قلب المنطقة الأكثر حساسية في العالم – أي الشرق الأوسط – وفي بلد تحكمه إحدى أكثر الحكومات تبعية للاستكبار العالمي – أي حكومة الشاه البهلوي- وفي مجتمع تلوّثت أذهان الكثير من مثقفيه ونخبه طوال عشرات الأعوام بالتعاليم والوساوس الغربية والأهواء النفسية، وأن يدعو هذا المجتمع الأمة الإسلامية إلى الإسلام؟ من كان يتصور أن مثل هذا الشيء ممكن؟ لكنه تحقق.
معنى ذلك أن الجماعة أو الشعب إذا تحرك في هذا الطريق فسوف تعينه الرياح الإلهية الموافقة – أي سنن الخلقة – وتأخذ بيده إلى الأمام[4].
من الأخطاء في الحسابات أن يبقى الإنسان محبوساً في إطار العوامل المادية الصرفة والأسباب المحسوسة؛ بمعنى أن يتجاهل العوامل المعنوية والسنن الإلهية والسنن التي أخبر الله عنها والأمور التي لا ترى بالأعين. هذه من الأخطاء الكبرى في الحسابات، لقد قال الله تعالى: <إن تَنصُرُوا اللهَ ينصُركم ويثَبِّت أقدامَكم>[5]، فهل هناك أوضح من هذا؟ إذا سرتم في سبيل الله ونصرتم دين الله فإن الله سينصركم، هذه سنة إلهية، ولا تقبل التغيير والتبديل: <وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبديلاً>. إذا تحركتم وعملتم على سبيل إحياء دين الله وراعيتم هذه القضية فإن الله سينصركم، هذا ما قاله القرآن الكريم بهذه الصراحة على شكل وعد إلهي، وقد جرّبنا هذا الشيء على الصعيد العملي. اعلموا أن هذا المقطع من تاريخ الثورة والذي سيناقش على مدى تاريخ طويل من قبل الأجيال القادمة، هو من أبرز وأهم المقاطع التاريخية. في العالم المادي، وفي عالم هيمنة القوى الكبرى، وفي عالم المحاربة الشاملة للإسلام والمعارف والقيم الإسلامية، يظهر نظام على أساس الإسلام، وفي موطن يخضع أكثر من أيّ موطن آخر لعوامل تلك القوى التحريفية، هذا شيء عجيب. أنا وأنتم تعودنا على هذا الشيء، وهذا هو مصداق لـ<إن تَنصُرُوا اللهَ ينصُركم ويثَبِّت أقدامَكم>[6]؛ أي لا تتزلزلون، ونحن لم نتزلزل، الشعب الإيراني لم يتزلزل، لقد تعرّض الشعب الإيراني لكل هذه الضغوط ولكل هذه المؤامرات ولكل هذا الأذى ولكل هذه الدناءات، لكنه لم يتراجع عن مساره. هذه من السنن الإلهية.
تقول الآية القرآنية الشريفة: <اَلَم تَرَ كيفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كلِمَةً طَيبَةٍ كشَجَرَةٍ طَيبَةً اَصلُها ثابِت وفَرعُها فِي السَّماء. تُؤتي أكلَها كلَّ حينٍ بِاِذنِ رَبِّها>، الكلمة الطيبة والخطوة الصحيحة والإقدام النزيه والتحرك والمبادرة في سبيل الله من خصوصياتها أنها تبقى وتستمر وتضرب بجذورها في الأرض وتستحكم وتثمر. نظام الجمهورية الإسلامية هو تلك الكلمة الطيبة، يبقى كالشجرة الطيبة ويزداد قوة وتجذراً، إن نظام الجمهورية الإسلامية اليوم باعتباره نظاماً وحكومة ومجموعة سياسية لا يقبل المقارنة من حيث القوة والمتانة بما كان عليه قبل ثلاثين عاماً، يقول سبحانه وتعالى بعد آيتين: <يثَبِّتُ اللهُ الَّذينَ ءامَنوا بِالقَولِ الثّابِتِ فِي الحَيوةِ الدُّنيا وفِي الآخِرَة>، إنه يكرّر هذا التثبيت والإثبات ثانية. ينبغي مشاهدة هذه العوامل، وينبغي أخذ هذه العوامل بنظر الاعتبار في حساباتنا، ولا تقتصر كل عوامل السعادة والشقاء والتقدم والتراجع والنجاح وعدم النجاح على إطار العوامل المادية المألوفة التي يرتاح لها الماديون وأهل المحسوسات، إنما توجد إلى جانبها عوامل معنوية…
وهذا هو ما نشاهده اليوم في مجمل سلوكيات الأجهزة الاستكبارية، فالهدف هو إيجاد خلل وإرباك في نظام وأجهزة حساباتنا أنا وأنتم. لم يستطع الاستكبار فعل شيء في الساحات الأخرى، في الساحات الواقعية هناك عاملان ماديان بيد جبهة الاستكبار: العامل الأول التهديد العسكري، والثاني هو فرض الحظر الاقتصادي، لا يمتلك الاستكبار أي شيء غير هذين العاملين ….
<وَلا تَهِنوا ولا تَحزَنوا واَنتُمُ الأَعلَونَ إِن كنتُم مُؤمِنين>[7]، إذا كنا مؤمنين فلن يستطيع العدو فعل شيء على صعيد الواقع. طيّب؛ الآن وهو لا يستطيع فعل شيء على صعيد الواقع، ويداه قصيرتان عن التأثير والفعل، فما هو السبيل أمامه؟ السبيل والحل بالنسبة له هو الإخلال في جهاز حسابات الطرف المقابل وإرباكه.. جهاز حساباتنا أنا وأنتم، وهو يمارس هذه العملية بالإعلام وبالعمل السياسي وبالاتصالات المتعددة والمتنوعة، فهم يعلمون أن الجمهورية الإسلامية ذات قدرة على الوصول إلى أهدافها، ويجب ألا تريد الوصول إلى تلك الأهداف، أما إذا أرادت فهي قادرة، لذلك يريدون فعل شيء من شأنه صرف الجمهورية الإسلامية عن هذه الإرادة. هذا ما يسعى له العالم الاستكباري وعلى رأسه أمريكا في الوقت الحاضر، وهذه هي نفسها الحرب الناعمة التي تحدثنا عنها منذ سنوات، وتحدث وكتب عنها الآخرون وناقشوها.
لا يستطيعون تغيير حساباتنا، فلقد كانت حسابات الجمهورية الإسلامية منذ اليوم الأول قائمة على أساس المنطق العقلائي، وعلى أساس قوة عاقلة. العناصر التي كوّنت هذه الحسابات هي: أولاً الثقة بالله وسنن الخلقة، وثانياً عدم الثقة بالعدو ومعرفته معرفة جيدة. من مصاديق الثقة بالله وبسنن الخلقة الثقة بالناس والشعب، والثقة بإيمان الأفراد والثقة بمحبتهم والثقة بالدوافع والمحفزات الصادقة، والثقة بصدق الناس – وقد كان إمامنا الخميني الجليل مظهراً لهذه الثقة – والإيمان بالذات وقدراتها وبأننا قادرون، والتوكّؤ على العمل واجتناب البطالة والتقاعس، والثقة بنصرة الله وتأييده، والاعتماد على الواجب والجهاد والعمل الدؤوب في سبيل أداء الواجب. هذه هي الأمور التي شكلت منذ البداية وإلى الآن مجموعة عناصر القوة العقلانية للنظام الإسلامي، وكانت أساساً وركيزة لمسيرتنا. راجعوا كلمات الإمام الخميني وستجدونها مليئة زاخرة بهذه المعارف والمعاني[8].
سنتّان إلهيتان؛ وجود الموانع والنجاح حين المقاومة
والآن لاحظوا أن كل هذه الموانع إنما هي من السنن الإلهية، ليس وجودها من باب الصدفة، إنها سنن إلهية؛ بمعنى أن المساعي والحركة تواجه العقبات دوماً، وإلا لما كان للجهاد معنى: <وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا>[9]، فكل دعوات الأنبياء كان لها أعداؤها – عقباتها – من الجن والإنس، وتقول آية أخرى: <وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ>[10]، وجود الجماعات المفسدة الماكرة في المجتمعات من السنن الدارجة؛ بمعنى أن الأنبياء لم يقولوا إطلاقاً إننا نخوض الساحة حينما يكون الطريق معبداً، لا؛ بل خاضوا غمار الساحة والأجواء متأزمة وصعبة؛ كالجمهورية الإسلامية والثورة الإسلامية، ولكن في المقابل، تقضي السنة الإلهية بأن الحركة النبوية والحركة الإلهية ومصداقها الثورة الإسلامية إذا تواصلت واستمرت فسوف تنتصر على كل هذه العقبات. هذه هي السنة الإلهية، جاء في سورة الفتح المباركة: <وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا 22 سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا>[11]، إذا وقفتم وصبرتم، ولم تضيّعوا الهدف، ولم تتركوا العمل والجد، فلا شك أن الغلبة ستكون لكم في هذا الميدان، هذه هي محصلة كلامي لكم أيها الشباب الأعزاء[12].
[1]. البقرة: 285.
[2]. الفتح: 4.
[3]. الفتح: 4.
[4]. بيانات سماحته أمام مسؤولين الدولة بمناسبة يوم المبعث النبوي بتاريخ 30-7-2008م
[5]. محمد: 7
[6]. نفس المصدر
[7]. آل عمران: 139
[8]. بيانات سماحته أمام مسؤولي الدولة في اليوم التاسع من شهر رمضان المبارك بتاريخ 7-7-2014م
[9]. الأنعام: 112
[10]. الأنعام: 123
[11]. الفتح: 22-23
[12]. بيانات سماحته أمام أساتذة وجامعيي جامعات شيراز بتاريخ 3-5-2008م
تعليق واحد