مواضيع

خصائص أصحاب البصيرة

لقد طرح سماحة السيد الإمام رؤيته السياسية والفكرية في المسائل العامة والتي تؤسس لنظام الحكم القائم على الأسس الإسلامية، وشخص القيادة المناسبة، والأمة المنتمية لهذه القيادة والتي تحمل وعيًا ورُشدًا كافيًا لتكون حاضنة النظام الإسلامي، وخط الدفاع الأول عن الإسلام. وهؤلاء ينتمون لكل الشرائع الاجتماعية، وقد ذكرنا الطبقات التي استند إليها السيد الإمام والتي شخصها في ثلاث فئات في الفصل السابق، وأولى تلك الفئات أهمية كبيرة، وأعطى الأهمية الكبرى لفئة رجال الدين باعتبارهم رأس حرية المشروع الإسلامي ومن هذه الحاضنة تحديدًا تولد القيادة الفقهية. لذا أي خلل لدى هذه الشرعية يمكن أن يدمر المشروع الكبير. من هذا المنطلق لا بد من فرزها وانتخاب الصالح منها وبيان مواطن الفساد ونبذها وتأهيل الأمة لاختيار الصالح منها والامتثال لها، وسنأتي على موضوع القيادة في الفصول القادمة. وهنا في معرض نقده لتلك الفئة التي تلبست بعباءة الدين ينتقد أولئك الذين وقفوا ضد النهضة الإسلامية في إيران وهم يحسبون على أهل العلم بينما هم يمثلون التحجر والرجعية والمناهضين لحقوق الأمة. ومن ذلك قوله (قدس سره): «بالأمس كان المدّعون بأنهم من أهل العلم يحرّمون النضال ضد الظلم، و يعملون بكل جهدهم في خضم مقارعة الديكتاتورية إلى مساندة نظام الشاه، ومن هؤلاء صرحوا بحرمة محاربة أعداء الله، واستهزأوا بثقافة الشهادة والشهداء، وطعنوا وشككوا بمشروعية النظام الإسلامي». اليوم وهنا يطرح الإمام تساؤلا  مهما: هل هذا من عمل «العوام» أم من عمل «الخواص»؟

لذا نحتاج في هذا الفصل إلى تحديد مميزات وخصائص أهل البصيرة في هذه الأمة والتي تنتمي لكل شرائح المجتمع، فهم العمود الفقري الذي تقوم عليه الثورة ونهضتها المباركة.

وأهم تلك الخصائص التي لفت إليها السيد الإمام في طرحه الفكري هي:

  1. القدرة على تحليل الأحداث

إن أصحاب البصيرة في منهج السيد الإمام ينتمون إلى كل الأطياف الاجتماعية، والمعيار في تحديد مسارهم انحيازهم للحق في كل الظروف – وسنأتي على ذكر كيفية اختيار الطريق الحق- ولكن لا تكفي المعرفة دون العمل بها «من علِمَ عَمَل». ومن مميزات وخصائص أهل الحق وأصحاب البصيرة العاملين أن لديهم قدرة على فهم الأحداث التي تمر على الأمة، وفي المنعطفات التي تتشابه وتتشابك فيها الأمور تجدهم ذوي تحليل وتفكيك للوضع بحيث ينحازون إلى طريق الحق بكل ثبات وطمأنينة، وتكون مواقفهم المبدئية تحكم عملهم، ولا يتراجعون عنها؛ بل تراهم يندفعون لنصرة الحق في الظروف الصعبة حتى لو كلفهم أنفسهم. لأنهم أدركوا وحللوا الواقع بشكل صحيح وعلى ذلك بنوا مواقفهم. يقول السيد الإمام خلال فترة الدفاع المقدس: «لعلنا لن نجد نظيرًا لهذا الأمر في كل بقاع العالم ولا على مدى التاريخ أن تشترك جميع طبقات الشعب في القتال من الأطفال والشباب والنساء والعجائز والمتزوجين حديثًا» وفي لفتة أخرى لسماحته: «الأمهات اللاتي لديهن أربعة أولاد استشهد ثلاثة منهم وما زلن يصررن على إرسال الرابع ليستشهد في سبيل الله أيضًا». هؤلاء لم يدخلوا في تعقيدات الفهم السياسي المادي المبني على المصالح الحسية وموازين العلاقات السياسية التي تتحدث عن الواقعية والنفعية، هؤلاء فهموا الواقع كما هو. هناك صراع بين الحق والباطل ولا بد من مواجهة الباطل والدفاع عن الحق وأرض الإسلام بكل وجودهم. هؤلاء كما قال الإمام الصادق (ع): «العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس». فالأمور واضحة لديهم والرؤية غير مشتتة، فلا مجال للبس في الأمور، وباب التضحية مفتوح والعطاء متدفق، مما يكون مثار الإعجاب والاستغراب من هذه الروحية كما يقول سماحة السيد الإمام في قوله: «في كثير من الأحيان يتعجب الإنسان عندما يرى وضع هؤلاء الناس وقد فقد أحدهم ابنه الشاب، لكنه ما زال يقول عندي شاب آخر أرسله في سبيل الله، وعندي طفل سيكبر إن شاء الله ويستشهد في سبيل الله». وقد وصل أمثال هؤلاء إلى فهم دقيق حتى للمسائل التي لها تخصصها، ومن وحي أخلاقهم وفطرتهم تجدهم في التحليل الدقيق لمسألة التبعية الاقتصادية وللتخلص منها كقول ذلك المزارع البسيط: «سنزرع الأرض حتى نتحرر من أسر أمريكا وقيودها». وفي نفس السياق تأتي تلك الأم التي تقول: «إن شجرة الحرية تحتاج إلى سقي وإن ولدي الشهيد سقاها بدمه». هذا الوعي الحقيقي والتحليل الدقيق لم يأت من دراسة كتب السياسة والتحولات السياسية، وإنما ممّن يعيش الإخلاص والإيمان والتقوى ومن عرف الحق وانحاز له. هؤلاء يضحون ويعملون لأجل المبدأ، وينكرون ذواتهم لنصرة الحق وأهله. هؤلاء مواقفهم وتحليلهم للأحداث أنضج وأطهر من كل التحليلات التي تندرج تحت مسميات وعناوين سياسية براقة؛ لأنها تعيش في صلب الصراع وتنفعل معه إلى جانب أصحاب الحق ومن دون أن يداخلها أهواء سياسية ولا مصالح ضيقة.

الوعي السياسي

يسمي السياسيون المعاصرون علم السياسة «فن الممكن»، ويبنون العلاقات الدولية والصداقات السياسية الداخلية والخارجية على هذا المرتكز دون مراعاة اعتبارات كثيرة قد تتداخل في الحدث، وهي ما تحدد موقفنا الذي يجب أن نتخذه، فهذا يعني الرضوخ تحت وطأة هذا المفهوم – فن الممكن -. في حال مواجهة أمريكا والطواغيت في العالم، وقد أثّرت هذه المفاهيم الغربية على ثقافتنا وعقيدتنا، و تسربت لمجتمعاتنا الإسلامية، وانصبغت بها ممارسات السياسيين في زماننا، فحينما يتطلب الأمر اتخاذ موقف مبدئي تجد السياسي يخالف مبدأه في قبال مراعاة موازين القوة وتحت عنوان الإذلال «خذ وطالب»، فيتم من خلال ذلك تمييع مطالبنا والانصياع أمام القوة المادية، بينما هذا المنطق مرفوض في مدرسة الخميني السياسية، حيث أدخل عناوين جديدة في السياسة خارج الأطر المادية الضيقة، فمفهوم التوكل على الله والصبر والاستقامة والعزة هو الذي له دخالة أساسية في اتخاذ الموقف. أضف لذلك مفهوم «أداء التكليف» الذي هو محور عملنا في كل الأمور ومنها الموقف السياسي.

وتتوسع دائرة العمل السياسي عند الإمام الخميني لتشمل كل الفئات، وهي ليست مختصة بالسياسيين والمثقفين ورجال الدين؛ بل تشمل كل فئات المجتمع فكل واحد منهم يستخدم أدواته المناسبة في العمل السياسي، فالجميع شركاء من القائد وحتى الجماهير في الشارع كلٌّ حسب تكليفه الشرعي، وهذا يتطلب وعيًا سياسيًا خصوصًا أمام مكائد العدو؛ كما قال أمير المؤمنين (ع): «من نام عن عدوه أنبهته المكائد» ويؤكد السيد الإمام هذه الحقيقة على أرض الواقع بقوله: «إن وعي الشعب في الظروف الراهنة يعد أحد عوامل انتصارهم على الباطل»، وبالضرورة يشمل الوعي السياسي للقيادات، ويحدد هنا السيد الإمام مواصفات الفقيه الذي سيتبوأ مركز القيادة بقوله: «على المجتهد أن يتمتع بالذكاء والوعي والفراسة اللازمة لإدارة المجتمع الإسلامي الكبير وحتى غير الإسلامي»، وفي نفس الإطار يشير سماحته لدور رجال الدين الواعين بقوله: «هناك ضرورة لمعرفتهم الدقيقة بالأحداث السياسية ومعرفتهم بالأحزاب والشخصيات السياسية وإحاطتهم بالأحداث والوقائع الاجتماعية، ومعرفتهم بأساليب الأعداء ومخططاتهم ودقتهم في عملهم».

الاقتداء بسيرة الأئمة المعصومين (ع)

يقول الإمام الخميني (قدس سره): «علينا الاقتداء بسيرة عظمائنا وأئمتنا وماذا قدموا للإسلام والمسلمين»، فلماذا الاقتداء؟ وما أثر القدوة في تكوين شخصيتنا؟ إن فعل المعصوم وقوله حُجة وهو الموقف الصحيح قطعًا، لذا التمثل واتباع أثرهم في المواقف عبر إسقاطات على واقعنا يجعلنا نمضي على بصيرة من أمرنا. قال تعالى: <لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ>[1].

ومن بين المسائل التي يلتزم بها خواص الحق وطلاب البصيرة في تتبع سيرة المعصومين والتأسي بسيرتهم محاربة الظلم والطواغيت، والاستقامة والثبات على طريق إبلاغ الرسالة الإلهية، وهداية الناس إلى الحق، وتحمل الآلام والصعوبات وعدم الخوف من أعداء الإسلام، وضرورة الدخول في الشأن السياسي والسعي لتشكيل الحكومة الإسلامية وتطبيق أحكامها.

وينعكس أثر الاقتداء على حياة المجاهدين والعاملين لأجل الإسلام، فيمضوا في طريقهم على بصيرة من أمرهم، ويجسدوا من سيرة الأئمة تلك القيم العظيمة والتي تتجلى في اتخاذ المواقف الصحيحة خلال التحديات التي تواجههم. ويقول السيد الإمام في سياق ما تعلمه مجاهدو الثورة الإسلامية من سيرة أهل البيت: «لقد وقف مجاهدو الإسلام بوجه النظام الطاغوتي واشتركوا في صفوف المقاتلين وأدوا ما عليهم من تكليف، وعملوا بقول رسول الله وسُنته وقد اقتدوا وما زالوا يقتدون بسيرة سيد الشهداء»، وفي بيان ضرورة هذا الاقتداء وحماسة الانتماء لهذه الفئة يقول: «نحن أتباع أولئك الرجال الذين كانوا يتسامون كلما اقترب سيد الشهداء من الشهادة في يوم عاشوراء، فكان أبناؤه وأصحابه وشبابه يتسابقون إلى الموت».

هذا التنضيج الفكري الذي يطرحه السيد الإمام تظهر ثمرته اليوم في قول وفعل أبناء حزب الله المظفر في كل الساحات، وكان أحد خريجي هذه المدرسة سماحة الإمام القائد الخامنئي الذي استلهم وعيه من القدوة الحسنة في المعصومين (عليهم السلام) وفي أستاذه السيد الإمام عندما قال: «المهم أن نحافظ على تمسكنا بالإسلام وعدم الرهبة والخوف من أعداء الله والإسلام، وقد تعلمنا هذا الدرس من أمير المؤمنين (ع) ومن تلميذه وابنه البار السيد الإمام».

الاستقامة والثبات في سبيل الله

أحد المفاهيم القرآنية السامية والتي تكرر ذكرها في كلام الله وفي الروايات دلالة على أهمية هذا المفهوم، الاستقامة تعني الاستقرار والثبات على النهج والانحياز للحق مهما بلغت التحديات والظروف، ومن شواهد ذلك قوله تعالى: }فاستقم كما أُمرت{ وهو توجيه إلهي للرسول الأكرم (ص) بالثبات على النهج والامتثال لما أمر الله، ومن أهمية الاستقامة أن استقرار الدين في قلب المؤمن وثباته مرهون بالاستقامة <إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا>[2] وفي معرض حديث السيد الإمام عن أبطال الثورة الإسلامية واستقامتهم يقول: «قد أعدوا أنفسهم ووطّنوها منذ البداية لمواجهة الظلم، وكانوا يدركون ما تتطلبه هذه المواجهة من بذل جهد كبير من شهادة أو حبس، حتى أن بعضهم قد تعرضوا للسجن وتحملوا أنواع التعذيب، وما إن خرجوا من السجون حتى عادوا مرة أخرى للجهاد ومواجهة النظام الظالم». هذه الاستقامة والثبات تفتح نافذة على بصيرة الإنسان المؤمن ولها آثارها المعنوية والنفسية التي طورت شخصية المجاهد ليكون قادرًا على مواجهة التحديات واستيعاب مخرجاتها، وتمده بالطاقة اللازمة لمواصلة طريقه. وقد ذكر هذا المعنى السيد الإمام في قوله: «لقد وجد الشعب طريقه وسار عليه بكل جد واقتدار، بالطبع سيواجه مصاعب كثيرة، وأحداث وأخطار محدقة، لكنه ما دام من أهل الحق ويريد السير في هذا الدرب، فعليهم أن لا يهنوا ولا يتراجعوا قيد أنملة، بل يجب الاستمرار في هذا الطريق بكل طاقتهم». والتحديات التي يواجهها أصحاب البصيرة وأهل الحق ليست بالضرورة من الأعداء؛ بل يتعرضون للأذى والضرر أحيانًا من الأقربين والجهلة في مجتمعاتهم عبر إلقاء التهم وبث الشائعات حولهم والتعدي عليهم والنبذ الاجتماعي وغيرها، وهنا يتطلب ممن لديه الاستقامة والصبر والتوكل على الله، وهذا من أهم عناوين الاستقامة. يقول سماحته: «يجب أن لا يبتعد ولا يترك ساحة العمل نتيجة لما يتعرض له من كذب وإساءة وسب وتشويه للحقائق».

الشجاعة في شخصية أهل البصيرة

تلعب دورًا هامًا في اتخاذ الموقف المناسب ومناصرة الحق، لأن دافع الخوف والتردد من عوامل فقدان البصيرة، فأحيانًا المرء يعلم بالخيار الصحيح، ولكن يجتنبه بسبب فقدانه الجرأة على اتخاذ الموقف الحاسم، لذلك من متطلبات وخصائص أصحاب البصيرة أن لديهم ملكة راسخة في وجدانهم وهي الشجاعة والإقدام، وقد تجسدت هذه الصفة النفسانية لدى الإمام الراحل من خلال مواقفه العملية، وبقلبٍ جسور تجده يتخذ المواقف الحاسمة وبكل طمأنينة وأمنة، وقد ظهرت منذ دعوته في مقتبل الستينات لما دعا للثورة على نظام الشاه، وأثناء اعتقاله عندما كانت أرجل رجال السافاك ترتجف وهو في قبضتهم لم يرمش له طرف وهو في تلك الحالة، وتجده القائد الموجه للثورة ويتخذ القرارات الجريئة وفي المنعطفات الخطيرة، وحتى عودته من المنفى وطائرته مهددة بالقصف وهو في الجو ينظر إليه مرافقوه وقد حفته السكينة والطمأنينة، وتزداد التحديات شراسة بعد انتصار الثورة، وتتسامى معها شجاعة الإمام وتحمّل مسؤولية الأمة؛ بل كان يشرف على الأحكام التي يصدرها ويتحمل تبعاتها حتى إنه قال: «أنا لست من أولئك الذين يصدرون حكمًا ثم يقفون ينتظرون تطبيقه دون فاعلية، بل أسعى لتطبيقه وتأييده وأعمل على تنفيذه ولا أخشى أحدًا إلا الله تعالى. فوالله لم أشعر بالخوف حتى الآن».

أصحاب البصيرة لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون

الشخصيات التي دائمًا ما يُثني عليها السيد الإمام، ويذكر مواقفها المبدئية وجهادها شخصية الشهيد مدرسي الذي وقف موقفًا شجاعًا عندما أنذر نظام الاتحاد السوفييتي سابقًا إيران أيام حكم رضا خان عام 1954م وقد احتلت بعض المناطق الإيرانية، وفرضت في إنذارها على الحكومة الإيرانية دفع كلفة تسيير أمور تلك المناطق إلى الحكومة السوفييتية، وإذا لم تفعل ستقوم باجتياح كافة البلاد الإيرانية وسيحتلون العاصمة طهران، وفي تلك اللحظات الحرجة انعقد مجلس الشورى الوطني. وكان الحاضرون في حيرة من أمرهم هل ينصاعون للإنذار أم يرفضونه وإيران لا تملك القوة لمواجهة جبروت النظام السوفييتي؟ عندها نهض ذلك الرجل الشجاع الشهيد مدرسي، وتكلم باختصار وبهدوء فقال: «إذا كانت المشيئة أن يسلبوا حريتنا واستقلالنا بالقوة، فليس من اللائق أن نوقّع على تأييده بأيدينا، ثم صرخ فجأة: كلا لن نستسلم أبدًا ولن  نخشى مثل هذه التهديدات».

صاحب البصيرة طالبٌ للشهادة

العقلاء يسعون دومًا إلى الأفضل وتحصيل الكمالات، ولا يقايضون بمتاع زائل خيرا دائما لا زوال له ولا اضمحلال. إن الشهادة في سبيل الله في الأدبيات الإسلامية إحدى عناوين المحبة التي يضحي فيها المحب من أجل محبوبه ويشتاق إلى لقائه سريعًا بأن يتخلص من قيد الجسد الدنيوي، فينطلق في رحاب عالم الملكوت وفضاء المعنى متلهفًا إلى وعد المحبوب له بأن ما عند الله خيرٌ وأبقى في عالم أكثر جمالاً وكمالاً؛ لذا يكون أصحاب هذا المنطق متلهفين إلى نيل هذا المكسب، وطامعين بتلطف المحبوب عليهم بنظرة تقبلهم في قافلة العشق الأبدي. إن أصحاب البصيرة في فكر السيد الإمام يعملون على تحصيل هذه الغاية الوسيطة للوصول للغاية الكبرى، و إن بناء ثقافة الشهادة لها مركباتها الدنيوية أيَا كانت، فهي دافع العمل والتضحية لتحقيق المطالب، و إن السالك لهذا الطريق سينال إحدى الحسنيين إما النصر أو الشهادة. وتخلق حالة الوعي لهذا المجتمع، فإذا سقط دم الشهيد فهو دافع للأمة كي تتوجه نحو التمسك بالمطلب الذي ضحى من أجله وخلق ثقافة لديهم للاستمرار وإعطاء صبغة للحق تحمل معانٍ أخلاقية منها الوفاء لمن ضحى من أجلها، فتترتب على الأمة واجبات تجاه ذلك الشهيد، لذا يقول السيد الإمام مقولته المشهورة: «اقتلونا فإن شعبنا سيعي أكثر فأكثر» فضلاً عن البركات والألطاف الغيبية التي من حيث نحتسب أو لا نحتسب تحيط بنا في الدنيا قبل الآخرة. «دم الشهيد إذا سقط فإنه بيد الله يسقط، وما يسقط بيد الله فإنه ينمو»، ولهذا نجد عندما انتشرت ثقافة الشهادة لدى الشعب الإيراني وظهرت استعداداته جاء النصر من عند الله.

فيقول السيد الإمام في هذا الشأن: «المرأة والرجل، الصغير والكبير، كانوا كلما اقتضى الأمر نزلوا إلى الشوارع ووقفوا لمواجهة البنادق دون خوف أو رعب، وكانوا يقدمون صدورهم»، ويضرب بعض الشواهد على تلك الروحية التي يتمتع بها أبناء الشعب في شجاعة لا مثيل لها: «جاء إليّ أحد الشباب وقال: قُتل شقيقاي، وأريد الذهاب أيضّا للجبهة للقتال، قلت له هذا يكفي، فقد رحل أخواك، فأخذ بالبكاء» ومن أولئك أيضّا أحد الشباب المعوقين الذين لا يستطيعون التوجه للجبهات بعد فقد كلتا قدميه في الحرب المفروضة، جيء به وهو ملقى على ظهره وكان يقول للسيد الإمام: «ادعُ لي بالشهادة»، مثل هؤلاء يتوقون للكمال، ويعدون الشهادة إحدى الكمالات التي يجب تحصيلها، وصاحب البصيرة النافذة العارف بعواقب الأمور و المدرك للمصالح والمفاسد، لا تفوته الرغبة في عدم تفويت هذه الفرصة والغنيمة.

أصحاب البصيرة في الطليعة دائمًا

ما داموا هم العاملين بالحق، تجدهم دائمًا في مقدّم الركب، لأن طبيعة شخصية البصيرة بالأمور تدفعهم للعمل ليكونوا أهلها، مثلما قال أمير المؤمنين (ع): «ما أمرتكم بطاعة إلا وسبقتكم إليها»، وهذا ما يعزز المصداقية في قولهم وفعلهم، فالعاملون هم من لهم قدم السبق، و مستحقون للقيادة، لأن من يقول ولا يفعل أو ليس له وسيلة لتمرير الفعل وترجمة أقواله، فلا يصدق عليه معنى القيادة، فها هو السيد الإمام يعطينا فصل الخطاب بقوله: «قائدنا ذلك الطفل ذو السنوات الاثنتي عشرة الذي فاق بقلبه الصغير المئات من الألسنة والأقلام، عندما رمى بنفسه وهو يحمل قنبلته اليدوية تحت دبابة العدو ليفجرها ويذوق طعم الشهادة».

كما أن من هم في الطليعة يكونون مرمى السهام وموضع الطعن إلا أنهم يؤثرون بأنفسهم لأجل وطنهم ودينهم وأمتهم، يقول الخميني العظيم مخاطبًا المجاهدين في سبيل الله بقوله: «وأنتم تقاتلون في الجبهة يقف الشعب خلفكم يساعدونكم يكل ما يملكون دون أن يجبرهم أحدٌ على ذلك، يأتون من الطفل الصغير الذي يقدم حصالة نقوده لكم، حتى العجوز في السبعين من عمرها تقدم ما جمعته من ذهب طيلة حياتها». ويصف السيد الإمام أولئك المضحين بمصالحهم من أجل الآخرين ومن أجل الهدف الأسمى «بقلبٍ مفعم بالأمل والشوق والمحبة إلى المعلمين والمربين لهذه الأجيال، لقد شحذوا هممهم وقدموا أنفسهم دائمًا درعًا واقيًا لحماية الناس، وتعرضوا للتعذيب والمشاق وذاقوا مرارة السجون والأمر والنفي والأقسى تعرضهم لأمواج الطعن والتهم، وفي الظروف التي أصاب اليأس والعجز الكثير من أصحاب الفكر في مواجهتهم الطاغوت، كان لهم الدور الكبير في إعادة روح الأمل والحياة إلى الشعب».

اتخاذ الموقف الصحيح في الوقت المناسب

إن من أبرز نتائج البصيرة القدرة على تشخيص المواقف بشكل دقيق وفي التوقيت المناسب، والتعبير هنا بالموقف الصحيح المقصود به ما يتناسب مع التكليف الشرعي، و يترتب عليه أثر راجح لاحقًا لمصلحة أهل الحق. في الواقع؛ إن هذه الخاصية تبين لنا مدى أهمية البصيرة في التشخيص مع توفر الخواص الأخرى لتدفع بنضج الموقف. في إشارة إلى أحد هذه المواقف يقول السيد الإمام في شأن الميرزا الشيرازي وفتواه الشهيرة في «التنباك» وأثرها في تحول الأحداث ومجريات الأمور: «إن ذلك النصف سطر الذي أصدره الميرزا الشيرازي قد أخرج بلادنا من فم الأجانب».

ثورة التنباك

لما تم عقد احتكار الشركة الإنجليزية لبيع وشراء التبغ الإيراني –  الذي كانت له  تبعاته على الاقتصاد الإيراني، وفرصة لسيطرة الشركات الأجنبية على مقدّرات البلاد مما يلحق الضرر بإيران سياسيًا واقتصاديًا وهي نفس الطريقة التي استخدمها الإنجليز لاحتلال الهند –  قام الميرزا الشيرازي وهو أحد المراجع الكبيرة آنذاك بكتابة برقيات إلى ناصر الدين شاه لمنع الحكومة من توقيع هذا العقد، لكنها لم تثمر شيئًا، عندها أصدر الميرزا حكم تحريم التبغ بعبارة قصيرة ومؤثرة ومهيجة للمشاعر:

«بسم الله الرحمن الرحيم

اليوم استعمال التبغ والتتن بأي نحو كان في حكم محاربة إمام الزمان (عجل الله فرجه)».

عندها اضطرت الحكومة الإيرانية آنذاك إلى التراجع بعدما وجدوا التفاعل الكبير مع هذه الفتوى، عندها أحبطت محاولة الإنجليز للتوغل في الساحة الإيرانية.

اقتحام السفارة الأمريكية في طهران

بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران 1979، وبعد أشهر قليلة قامت المجموعات الطلابية والثورية باقتحام السفارة الأمريكية في طهران، واحتجاز أفراد طاقم السفارة الذي استفز الشيطان الأكبر، فأخذ يصدر التهديدات والوعيد للثورة وقيادتها، عندها يقف الإمام بكل صلابة وثبات وفي اللحظة المناسبة يثني على فعل المجاهدين، ويعتبر السفارة الأمريكية وكرًا للتجسس. وبعد محاولات الأمريكان لتخليص عملائهم تتم مفاوضات غير مباشرة، وكان الرئيس الأمريكي كارتر يود إنهاء الملف قبل انتهاء ولاية رئاسته ليستطيع الفوز في الدورة اللاحقة، فرفض الإمام وأخّر عملية تسليم المحتجزين حتى سقوط كارتر في الانتخابات.

يقول سماحة السيد القائد المفدى: «إن اتخاذ خواص الحق الموقف المناسب في الوقت المناسب، وزهدهم في الدنيا في اللحظة المناسبة وعملهم في سبيل الله في اللحظة المناسبة هو الذي أنقذ هذه الأمة بفضل الله».


[1] الأحزاب: 21

[2] فصلت: 30

المصدر
كتاب وذكرهم بأيام الله | الأستاذ محمد سرحان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟