مواضيع

رد موسى (ع) على مغالطة فرعون

<عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى>

وقد فطن موسى الكليم (عليه السلام) إلى خطة فرعون الخبيثة، فأجابه إجابة صاعقة، حافظ فيها على ذات الموضوع والمنهج، وأخرس لسان فرعون وملئه بحسب العقل والمنطق السليم، وأعطى المزيد من التفاصيل الدقيقة المنطقية التي تستثير دفائن الفكر والعقول، وتدعو إلى المزيد من التأمل والتحقيق، فقال: <عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى>[1] أي: علم أشخاصهم وأحوالهم وجزائهم عند ربي وليس عندي؛ لأنه من علم الغيب لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، وأنا عبد مثلكم لا أعلم الغيب، وإنما مجرد رسول أحمل لكم رسالة محددة منه، وكل علمي هو مما علمني، وقد علمني: أن حال كل إنسان، فكره وسلوكه ومواقفه وعلاقاته، وكل حركة من حركاته أو سكنة من سكناته، محفوظة عند الله سبحانه وتعالى، ومثبتة بشكل دقيق جداً لا يقبل الخطأ أو التبديل أو الزوال في كتاب محكم، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ويسمى كتاب الأعمال.

والله سبحانه وتعالى شهيد وحافظ لأحوال وأعمال العباد فوق هذا الكتاب، ومن صفاته: <لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى>[2] أي: لا يخطئ في علم شيء من الأشياء، وهو يعلم حقائق الأمور وبواطنها، وليس يعلم الظواهر فقط، وهو لا ينسى شيئا مما علمه.

فقد نفى عن الله سبحانه وتعالى الجهل الابتدائي، ونفى عنه الجهل بعد العلم، أي: النسيان، فأثبت له بذلك العلم المطلق غير المتناهي، فلا يفوته علم شيء أبداً، وعليه: فهو لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى، قليلاً كان العمل أو كثيراً، وأثبت أن الكتاب هو لمزيد من إقامة الحجة على العباد، وليس لكي يحفظ الله سبحانه وتعالى عمل العباد خوفاً من النسيان أو لكي لا يضيع، يقول العلامة الطباطبائي: «وأثبت العلم ونفى الجهل عنه بعنوان أنه رب لتكون فيه إشارة إلى برهان المدعي، وذلك: أن فرض الربوبية لا يجامع فرض الجهل بالمربوب، إذ فرض ربوبيته المطلقة لكل شيء – والرب هو المالك للشيء المدبر لأمره – يستلزم كون الأشياء مملوكة له قائمة الوجود به من كل جهة، وكونها مدبرة له كيفما فرضت فهي معلومة له»[3]، وهو لا يظلم أحداً من عباده في الجزاء، فلا ينقص شيئاً من ثوابه المستحق له، ولا يزيد شيئاً أكثر مما يستحق من العقاب على أعماله السيئة، ولا يعاقب أحداً بدون حجة وبرهان قاطع.

وعليه: فإن الأمم الخالية والأجيال الماضية قد قدموا على رب عليم كريم، عادل ورحيم بعباده، وقد لاقوا أعمالهم، وسيجازون عليها بالعدل والإحسان، فإن أقيمت عليهم الحجة من الله سبحانه وتعالى ولكنهم عاندوا واستكبروا على الحق وأهله فسوف يكونون من المعذبين الهالكين، وإن لم تُقَم عليهم الحجة فهم معذورون ولن يظلمهم ربهم سبحانه، وإن أقيمت عليهم الحجة وأطاعوا فسوف يكونون من الناجين السعداء، وهذا أمر منطقي وعقلاني جداً ويتساوى فيه جميع الناس والأمم الماضين والمعاصرين ومن يأتي منهم في المستقبل، فعليكم بحسب العقل والمنطق أن تفكروا في أنفسكم وتحسنوا الخيار إليها، فقد جاءتكم البينات، وأقيمت عليكم الحجة البالغة، ومصيركم بأيديكم، فإن أطعتم فسوف تكونون من الناجين السعداء، وإن عاندتم واستكبرتم وعصيتم فسوف تكونون من الهالكين الأشقياء، وليس من الحكمة والمنطق أن تشغلوا أنفسكم بدون جدوى بمصير من سبق من آبائكم وأجدادكم وتنسوا أنفسكم وتوردوها موارد المهالك، فتلك أمم قد لها ما كسبت ولكم ما كسبتم.

والجدير بكم: أن تنظروا فيما جئتكم به وتتأملوه وتعقلوه جيداً، وتقابلوا البرهان بالبرهان، والدليل بالدليل، وأن تتركوا عنكم العناد والمشاغبة والجدل العقيم، الذي لا يفيدكم بشيء، ويقودكم إلى الهلاك والشقاء الأبدي الكامل، ويحول بينكم وبين الوصول إلى الكمال والحصول على النجاة والسعادة الحقيقية الأبدية الكاملة.


المصادر والمراجع

  • [1]. طه: 52
  • [2]. نفس المصدر
  • [3]. تفسير الميزان، العلامة محمد حسين الطباطبائي، جزء 14، صفحة 154
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك - الجزء الثاني | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟