مواضيع

مقضيات اللطف الإلهي

واللطف الإلهي بالعباد والرحمة بهم يتطلبان أموراً عديدة من الله سبحانه وتعالى، منها:

  • بيان التكاليف والوظائف الشرعية الفردية والمجتمعية، وإعطاء القدرة لدى العباد على الطاعة وترك المعصية، أي: عدم التكليف فوق الوسع والطاقة، وإكمال العقل ونصب الأدلة والحجج والبراهين وإيضاح المعالم ورسم الحدود ونحو ذلك مما يحتاجه الإنسان من أجل الهداية والإيمان وتحقيق الغاية.
  • أن يرسل الرسل (عليهم السلام) مبشرين ومنذرين، ويؤيدهم بما يثبت صدق نبوتهم ورسالتهم من المعجزات والبينات والبراهين، ليعرّفوا الناس على ربهم ذي الجلال والإكرام ليحبوه ويتعرضوا للطفه وكرمه وبرّه وإحسانه ويشكروه، ويعرّفوهم أنفسهم، فإنّه «من عرف نفسه فقد عرف ربه»، ويعرّفوهم على المبدأ والمعاد والطريق، ويأمروهم بالمعروف والطيبات وينهوهم عن المنكر والخبائث؛ ليجتازوا حدود الغريزة والطبيعة والمادة إلى عالم الروح والعقل والغيب والنور والطهارة، ويرشدوهم إلى ما فيه صلاحهم وخيرهم ومصلحتهم وكمالهم وسعادتهم من الأعمال الصالحة التي وجدوا من أجلها والسبيل إليها؛ ليسلكوا طريق العشق والمحبة والطاعة ويبلغوا القمة في الخير والفضيلة والصلاح والكمال والابتهاج والغبطة والسعادة؛ لأنّه العالم بجميع ذلك.
  • أن يجعل الثواب على طاعته والعقاب على معصيته؛ ليكون ذلك أدعى للمتابعة، أي: التقريب إلى الطاعة ومواقعتها، والتبعيد عن المعصية وتجنبها، وذلك من حيث يعلم العبد أو لا يعلم، ومن حيث يريد أو لا يريد؛ لأنّ الله تبارك وتعالى هو أعلم بما يصلح الإنسان وأرحم به من نفسه، فإذا علم الله (عز وجل) بأن العبد لا يختار الطاعة إلا مع الترهيب والترغيب والوعد والوعيد، أو عند فعل يفعله الله (عز وجل) به، مثل: المرض والفقر والشدة ونحوها، أو الصحة والسلامة والغنى والرخاء ونحوها، فإن الواجب بمقتضى الحكمة والرحمة أن يفعل الله (عز وجل) به ذلك بمقتضى علمه من أجل بلوغ غاية الخلقة، وهي كمال الإنسان وسعادته، وصوناً لها عن العبث واللغو والباطل بشرط أن لا يبلغ الأمر حدّ الإلجاء؛ لمنافاة الإلجاء لحقيقة التكليف الذي يقوم على الاختيار، ولا تكليف بدون اختيار، قول الله تعالى: <وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ>[1]، وقول الله تعالى: <وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ>[2]، أي: وما أرسلنا في مدينة من نبي كريم لهداية الناس إلى سبيل الرشاد، فلم يؤمن أهلها به استكباراً على الحق وعناداً وتعصباً إلا أخذناهم بألوان المصائب والمحن المادية والمعنوية، الجسمية والروحية، برجاء تنبيههم من غفلتهم وجهلهم؛ ليكفّوا عن عنادهم وتعصبهم واستكبارهم ويعودوا إلى عقولهم ورشدهم ويتضرعوا إلى ربهم (عز وجل)؛ لكشف البلاء عنهم، ويتوبوا عما كانوا عليه من الكفر والضلال والمعصية وتكذيب الأنبياء (عليهم السلام) ويؤمنوا بالدين الإلهي الحق ويعملوا به، فتكتب لهم بذلك النجاة من الهلاك والشقاء الأبدي، ويكونوا من أهل السعادة والنعيم في الآخرة.

فقد ثبت بالتجربة أنّ الإنسان ما دام في النعمة والسعة، فإنه قد يستغني بها وتشغله عن التوجه للمنعم وشكره، ويتوجه بدلاً من ذلك إلى الطغيان والفساد والمعصية، فإذا سلبت منه النعمة أحسّ بالفقر والحاجة والذلة والخطر، وتنبّه من الغفلة والجهل والتجأ إلى من بيده رفع الضرر وكشف البلاء عنه، وهو الله سبحانه وتعالى فتضرع إليه، فسيكون في ذلك هدايته إلى الحق الذي خلق من أجله، والتمسك بدين الله الحق وسلك طريق الكمال والخير والصلاح والسعادة.

وتُنبّه الآية الثانية إلى أنّ الناس يختلفون وليسوا صنفاً واحداً، فهناك من يصلحهم الفقر والمرض والشدة، ويفسدهم الغنى والصحة والسعة، وفي المقابل هناك من يصلحهم الغنى والصحة والسعة، ويفسدهم الفقر والمرض والشدة، والله سبحانه وتعالى يختار الإبتلاء للناس وفق علمه وبمقتضى حكمته ورحمته ما يناسبهم ويصلحهم ويقيم الحجة عليهم.

ولو أنّ الله سبحانه وتعالى ترك الناس وشأنهم؛ ولم يبعث فيهم الأنبياء ويرسل إليهم الرسل الكرام (عليهم السلام) لهدايتهم، ولم يكلّفهم بالوظائف الشرعية الفردية والمجتمعية، ولم يبتليهم لتنبيههم وإرجاعهم إلى الحق وسبل الرشاد، لحرمهم من فيض نعمة الهداية مع قدرته على ذلك، وحيث لا مانع يمنعه منه، مع شدة حاجة الناس إليها، وتوقف صلاحهم وسعادتهم في الدارين الدنيا والآخرة عليها، وتمثل غاية خلقهم ووجودهم في الحياة. ولم يسمح للعقل الذي هو أفضل نعمة أنعم بها عليهم أن يؤدي وظيفته ويقوم بدوره في تحمّل مسؤولية الإرشاد والتوجيه والهداية؛ لأنّ العقل لا يستطيع أن يؤدي دوره في ذلك بالشكل الأمثل وعلى الوجه الأكمل إلا بمساندة الوحي والإيمان. وقد يتحوّل ما يتمتع به الإنسان من ذكاء خارق ومتميز في ظل غياب الوحي والتنزيل إلى وبال ونقمة على الإنسان حين يكون منقاداً إلى قوة الغضب والشهوة، وعدم وضوح الرؤية والغاية والطريق، فيتحوّل إلى أداة للجريمة وفرض الهيمنة والسيطرة، وإلى التفنّن في أساليب الفساد والتحلّل والفجور والانحطاط من غير رادع من دين ولا وازع من ضمير، فيكون في ذلك خراب الدنيا وهلاك الحرث والنسل، وذلك كلّه:

  • خلاف الحكمة لما فيه من العبثية واللغو والباطل؛ ولأنّه لا يوصف بالحكمة إلّا الذي يدعو إلى الخير والصلاح ويفعلها وينهى عن الشر والفساد ويتجنبهما.
  • فيه نقض واضح وبيّن لغرض خلق الإنسان الذي تعلّقت الإرادة الإلهية حين خلقه أصالة ومباشرة بكماله وسعادته، وهو وحده المرافق للحكمة والرحمة التي كتبها الله على نفسه.

وبناءً على ماسبق: لا يتحقق الغرض الإلهي من خلق الإنسان إلّا بإرسال الرسل بالهدى ودين الحق مبشرين ومنذرين، ويسمي علماء الكلام ماسبق من الاستدلال: قاعدة اللطف.


  •  الأعراف: 94-[1]
  •  الأعراف: 168-[2]
المصدر
رسول الرحمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟