مواضيع

إيصال موسى وهارون الرسالة إلى فرعون وملئه

<ثُم بَعَثنا مِن بَعدِهِم موسى وَهارونَ إلى فِرعَونَ وَمَلَئِهِ بِآياتِنا فَاستَكبَروا وَكانوا قَومًا مُجرِمين>

توالت الرسل على هداية البشرية منذ بداية انطلاقة مسيرتها على وجه الأرض، وكان الإنسان الأول أبو البشر آدم (عليه السلام) نبياً ورسولاً، ولم تنقطع سلسلة الأنبياء الكرام والأوصياء الهادين والمهديين (عليهم السلام) حتى نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) خاتم الأنبياء والرسل (عليهم السلام)، حيث انقطعت النبوة بنبوته، وختمت الرسالة برسالته، وبقى الأوصياء (عليهم السلام) من بعده، يواصلون طريقه، ويحافظون على دينه من التحريف والتبديل، ويأخذون بأيدي الأفراد المؤهلين، ويوصلونهم إلى أسمى درجات الكمال الإنساني المقدر، ويتصدون لإقامة الدولة الإسلامية، وتدبير شؤون الأمة، وتنفيذ الأحكام، وتطبيق الشريعة.

وعليه: فالحكمة الإلهية في ختم النبوة مرتبطة تماماً بتعيين الإمام المعصوم، الذي يمتلك خصائص النبي كلها ما عدا النبوة والرسالة، والذي يتكفل بالقيام بجميع وظائفه الباقية ما بقيت المسيرة البشرية على وجه الأرض. فالأوصياء باقون إلى نهاية المسيرة البشرية؛ لأن وصول الإنسان إلى كماله وسعادته الحقيقية الكاملة في الدارين الدنيا والآخرة، وتحقيق غاية وجوده، وتحقيق غاية وجود الرسالات، وإنزال الكتب السماوية، يتوقف على ذلك.

وقد تكفل الله (عز وجل) بهداية جميع المخلوقات، وإيصالها إلى كمالها المقدر لها واللائق بها وتحقيق غاية وجودها، والإنسان أفضل المخلوقات وأكرمها على الإطلاق عند الله تبارك وتعالى، ومن المستحيل عقلاً أن يترك الله سبحانه وتعالى الإنسان بدون هداية، وبدون أن يوصله إلى كماله المقدر له واللائق به وتحقيق غاية وجوده. وليس من المعقول والمنطقي أن يترك الله تبارك وتعالى والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الرسالة بدون أن يعين من يقوم على العناية بها، وضمان الإبقاء على سلامتها واستمرارها، وضمان سلامة تطبيقها، وإقامة الحجة لله سبحانه وتعالى على الناس، وفي الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «إن الله أجل وأعظم من أن يترك الأرض بغير إمام عادل»[1]، وفي حديث آخر: «إن الله لم يدع الأرض بغير عالم، ولولا ذلك لم يعرف الحق من الباطل»[2]، وفي حديث ثالث: «أن الأرض لا تخلو، إلا وفيها إمام، كيما إن زاد المؤمنين شيئاً ردهم وإن نقصوا شيئاً أتمه لهم»[3].

ومن الأنبياء الكرام العظام (عليهم السلام) الذين بعثهم الله تبارك وتعالى إلى البشرية لهدايتها والوصول بها إلى كمالها المعرفي والتربوي والحضاري وتحقيق غاية وجودها، موسى بن عمران كليم الرحمن وأخوه ووزيره هارون  (عليهما السلام).

وموسى الكليم (عليه السلام) من الأنبياء الخمسة أولي العزم وهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهم أفضل الأنبياء الكرام العظام (عليهم السلام)، ورسالتهم عامة ولكل واحد منهم شريعة خاصة كاملة شاملة تلبي حاجات البشرية جميعها في دورتها الرسالية الخاصة بها، وله كتاب سماوي منزل عليه من عند رب العالمين، وكلهم أنبياء أئمة.

وعليه: فإن عبارة: <ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ وَهَارُون>[4]، تدل على أن هارون  (عليه السلام) كان شريكاً كاملاً لموسى الكليم (عليه السلام) في النبوة والرسالة، ولكنه كان خاضعاً لإمامته، ومتبعاً له في القيادة والتدبير والشريعة، مثلما كان نبي الله لوط (عليه السلام) خاضعاً لإمامة إبراهيم الخليل (عليه السلام)، ومتبعاً له في القيادة والتدبير والشريعة، فالمبعوث أصالة بالرسالة والشريعة هو موسى الكليم (عليه السلام)، وكان هارون  (عليه السلام) مبعوثاً معيناً له وناصراً.

وقد بعث موسى الكليم وهارون  (عليهما السلام) إلى فرعون وقومه الأقباط، بالإضافة إلى بني إسرائيل، وسائر الناس في دورته الرسالية. وقد خص الله  (جل جلاله) بالذكر فرعون وملئه في قوله تعالى: <إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ>[5] لأنهم كبار القوم ورؤساؤهم وساستهم، وبيدهم أزمة التدبير والحل والعقد ولهم الكلمة الكولي فيهم وبيدهم مقدرات البلد كلها، فإن هم آمنوا وصلحوا، آمن من سواهم وصلحوا.

وعليه: فإن كل حركة إصلاحية يجب أن تستهدف هذه الطبقة أولاً في تحركاتها، قول الله تعالى: <فَقاتِلوا أَئِمةَ الكُفرِ إِنهُم لا إيمانَ لَهُم لَعَلهُم يَنتَهونَ>[6]، أي: قاتلوا القادة والزعماء والرؤساء في الكفر، الطاغين في الدين الحق، والمحاربين له، الناصرين لدين الشيطان الرجيم، الذين يتبعون في ذلك ويقتدى بهم، وواجهوهم بكل وسيلة وقوة وصلابة وثبات.

وعلة استحقاقهم للحرب والمواجهة، أنهم الأصل وغيرهم تبع لهم، ومقتدى بهم؛ ولأنهم لا يفون بالوعود والعهود والمواثيق؛ ولأنهم متصفون بالخيانة وملازمون لها، ولا يمكن الوثوق بهم، والاطمئنان إليهم، ما دامت هذه صفاتهم.

والغاية من قتالهم ومواجهتهم؛ وضع حد لجرائمهم وجناياتهم ضد الدين الحق والمؤمنين الأبرياء، وبرجاء أن ينتهوا عما هم عليه من الكفر والطعن في الدين الحق والنكث بالعهود والوعود والمواثيق، وانتهاك حقوق الإنسان، والاعتداء على الحريات والحرمات والمقدسات، وغير ذلك من الجرائم العظام القائمين دائماً على ممارستها، وبدون هذه المواجهة لهؤلاء المجرمين لا يمكن إحراز تقدم حقيقي وفعلي في الحركة الإصلاحية.

وقد زود الله (عز وجل) موسى الكليم وأخاه هارون  (عليهما السلام) بما يثبت صدق نبوتهما ورسالتهما من الحجج النيرة والبراهين الساطعة والبينات الواضحة والمعجزات الباهرة، وهي المعجزات التسع: العصا التي تتحول إلى ثعبان حقيقي عظيم، واليد السمراء التي تتحول إلى بيضاء جميلة تشع نوراً كالشمس الساطعة يملأ المكان، والقحط، والجدب، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقُمّل، والضفادع، والدم.

وقيل: أن لفظ <ثُمَّ>[7] في عبارة ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون، يفيد التراخي الرتبي؛ لأن بعثة موسى الكليم وهارون  (عليه السلام) كانت أعظم من بعثة من سبقهما من الرسل، مثل: نوح، وإبراهيم؛ لأنها كانت انقلاباً وتحولاً عظيماً وتطوراً جديداً متميزاً في تاريخ الرسالات والشرائع السماوية ومسيرة الحضارة الإنسانية، إذ كانت الرسالات السابقة مقتصرة على الدعوة إلى عقيدة التوحيد، وتهذيب النفوس، وبعض العبادات، وبعض أحكام المعاملات، أما رسالة موسى الكليم وهارون  (عليهما السلام) فقد كانت بالإضافة إلى جميع ذلك، قد جاءت لتحرير الأمة من الاستعباد والاستضعاف، وتكوين أمة ودولة مستقلة لها هويتها وثقافتها الخاصة، ووضع نظام تشريعي وسياسي كامل لإدارة شؤونها، ونظام أمني ودفاعي يضمن استقرارها واستقلالها، ونحو ذلك، ونزول كتاب سماوي «التوراة»؛ ليكون مرجعاً لها، ودستوراً ينظم حياتها، وكافة أمورها وشؤونها، وهذه الأمور مجتمعة غير مسبوقة في تاريخ الرسالات السماوية، مما يعطي رسالة موسى الكليم وهارون  (عليهما السلام) أهمية خاصة متميزة في تاريخ الرسالات والشرائع السماوية والحضارة الإنسانية، وفيه دليل على أهمية البعد العملي في الرسالات السماوية، وهو تحرير بني إسرائيل المستضعفين، وإقامة دولة العدل الإلهي، مما يعطي الرسالات السماوية أهمية واقعية في الحياة، تجذب النفوس إليها، وتربط الرسالات بواقع الحياة.

وقد جعل الله  (جل جلاله) هذا البعد، هو الغاية العملية للرسالات السماوية، قول الله تعالى: <لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ الناسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلناسِ وَلِيَعْلَمَ اللـهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِن اللـهَ قَوِي عَزِيزٌ>[8]، أي: أرسلنا رسلنا بالمعجزات النيرات الباهرات والحجج الساطعة، التي تتضمن كل ما يحتاجه الناس من التعاليم الإلهية، والمعارف الحقة، والعقائد الصحيحة، والتشريعات الربانية، والقيم الأخلاقية العالية، والعبر والسير ونحو ذلك، والدعوة إلى العمل بها من أجل هدايتهم وإرشادهم لما ينفعهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم، ولما فيه خيرهم وصلاحهم ومصلحتهم وسعادتهم في الدارين الدنيا والآخرة.

وأنزلنا الميزان المادي الذي توزن به الأثقال والأطوال، وتقاس به الأحوال المادية، مثل: الحرارة، والرطوبة، وضغط الدم، ونسبة السكر، ونحو ذلك، والميزان المعنوي المنطقي والديني الذي توزن به وتقاس الأفكار والمعتقدات والقيم والأعمال، بغية أن يتحرك الناس نحو الصحة والسلامة، وإقامة العدل في الأرض بين الناس، وصيانة الحقوق والحريات والحرمات والمقدسات، وتوفير الأمن والاستقرار، وتحقيق النمو والازدهار ونحو ذلك.

وأنشأنا الحديد بما فيه من الصلابة والقوة لفائدة الناس، مثل: صناعة السلاح للدفاع عن الدين الحق والحقوق والمقدسات، والصناعات المدنية العديدة المختلفة لجميع الأغراض، والغاية هي أن نميز الطيبين الذين يستخدمون الحديد فيما ينفع الناس، وينصرون به الله سبحانه وتعالى ودينه الحق وكتبه ورسله بصدق نية وإخلاص، من الخبيثين الذين يستخدمون الحديد في التخريب والتدمير والقتل ونشر الفساد في الأرض، وينصرون دين الشيطان، ويحققون أهدافه في الحياة.

ولأن الله قوي عزيز، لا يعجزه شيء، ولا يضعف عن شيء، ولا يفوته هارب، وهو قادر على الانتصار على أعدائه، ويهلك من يريد هلاكه، ولا يحتاج إلى أحد أبداً، فإن الجهاد لإعلاء كلمة الحق، ونصرة دين الله ورسله، تعود بالفائدة والمنفعة والمصلحة على الإنسان المجاهد، بأن يصل إلى كماله المقدر له، ويفوز برضوان الله ذي الجلال والإكرام، وثوابه على الله سبحانه وتعالى.

ولأن الله قوي عزيز فإن الرسل الكرام (عليهم السلام) والمؤمنون الصالحون الذين يتخلقون بأخلاق الله ذي الجلال والإكرام يجب أن يكونوا أقوياء أعزة، قول الله تعالى: <وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ>[9]، وإنما يحصل ذلك بالجهاد والتضحية. وفي آية الحديد دليل على أن كل ما جاء به الرسل الكرام (عليهم السلام) من عند الله رب العالمين سبحانه وتعالى من الأوامر والنواهي والحدود والقصاص والمواريث وغيرها، كلها حق وعدل، وأن الإصلاح وإقامة العدل لا ينفصلان عن الجهاد وما يصاحبه من التضحيات الجسيمة، وتقديم ذلك بصدق نية وإخلاص، وعن إقامة الكتاب السماوي المنزل من عند الله تبارك وتعالى، والعمل بما فيه، واتباع القادة الربانيين الأنبياء الكرام (عليهم السلام)، وفرض الجهاد في سبيل الله (عز وجل) واتباع القادة الربانيين، والاقتداء بهم، دليل على حكمة الله سبحانه وتعالى، وكمال شريعته، وهي حلقات مترابطة في سلسلة واحدة معروفة البداية والنهاية


المصادر والمراجع

  • [1]. الكافي، جزء 1، كتاب الحجة، الحديث 6
  • [2]. نفس المصدر، الحديث 5
  • [3]. نفس المصدر، الحديث 2
  • [4]. يونس: 75
  • [5]. نفس المصدر
  • [6]. التوبة: 12
  • [7]. يونس: 75
  • [8]. الحديد: 25
  • [9]. المنافقون: 8
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك - الجزء الأول | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟