مواضيع

أسباب انهیار [حكومة] الإمام الحسن(ع)

ورث الإمام الحسن(ع) هذا الوضع، إذ، من ناحية، كان الناس قد ذاقوا طعم الرخاء، ومن ناحية أخرى شاهدوا مظاهر الحياة الأرستقراطية في قطبين معاديين للإسلام، أي الروم وبلاد فارس، فمالت الحكومات الإسلامية نحو الأرستقراطية والترف وذلك عندما وافق الخليفة الثاني بشكلٍ صريح على عمل معاوية بعدما أخبروه بأنّ الأخير يبني قصراً أخضرًا، قصراً أرستقراطياً، فقال في الرد عليهم: «ذاك كسرى العرب»[1] أي لا بأس بعمله، فيجب أن يكون لدينا إمبراطورية عظيمة في مقابل الإمبراطورية السابقة.

خلق حبّ معاوية للأرستقراطيّة حالة جديدة بين الناس، فتحرّكت مشاعر الناس العاديين وغرائزهم، ودفعتهم إلى حب الراحة والرّفاهية واللهث وراء المناصب والتّنعم بالمادّيات.

لقد قضى الناس خمس سنواتٍ في الحروب، وهذه مسألة أخرى أيضاً، فقد قاتل أهل الكوفة وحاربوا لمدة خمس سنوات وكانوا متعبون، في مثل هذا الجو الاجتماعي، أراد الإمام الحسن(ع) أن يحارب معاوية. لقد ورث الإمام(ع) هذا المجتمع، مجتمعٍ بعيدٍ عن روح الإسلام، الأخيار قلّة فيه والعارفون بالإسلام فيه نادرون جداً. حكم الإمام الحسن(ع) في حكومة قلّ من يعرف فيها عقائد الإسلام، وقليلون جداً الّذين فهموا هدفه ورغبوا به. لكنّ معاوية كان يحكم مجتمعًا يوافق هوى معظم أفراده هواه؛ وما هو هوى معاوية؟ الوصول إلى مالٍ أكثر وسلطة أكبر، وتوزيع هذه الامتيازات على الأقرباء ثم أقارب الأقرباء ثم عامة الناس بالمقدار الذي يعتبره لازماً، ومن الطبيعي أن يوافق الناس على هذا الأمر، على الأقل رؤساؤهم موافقون على هذا الأمر بشدة.

ذكرت سابقاً ما قاله العقّاد من أنّ عليًا(ع) حكم مجتمعاً ليس فيه وفاق أو اتفاق، على عكس معاوية الذي حكم مجتمعًا خالٍ من أيّ اختلاف، هذا الوضع الذي أوجده معاوية ثمرة عشرين سنة من حكمه المستمرّ قبل ادّعاء الخلافة في تلك البلاد. من ناحية أخرى، كان معاوية يعتقد بشدّة بتأثير الرشوة فاتّخذها وسيلة ناجعة لشراء الذمم؛ لقد فهم الوضع بشكلٍ جيّد، بينما لم يكن يُعمل في حكومة الإمام الحسن(ع) سوى بمرّ القانون ومرّ الحق.

بالإضافة إلى ذلك، كان هناك بعض الأشخاص في صفوف الإمام الحسن ممّن تلقّى الوعود والإغراءات من معاوية لا الرّشاوي، أغراه بالزواج من ابنته أو أخته، أو بحفنة من المال، أو قطع له وعودًا بأن يولّيه على إحدى البلاد[2]. وطبعًا لا يسمح الإمام الحسن(ع) لنفسه أن ينتهج نفس هذه السياسة، أي، مثلًا، أن يكتب لعمرو بن العاص أنّي سأولّيك على البلاد الفلانية إن تركت معاوية، ذلك أنّه لا فرق بين معاوية وعمرو بن العاص بالنسبة للإمام الحسن(ع)؛ فعمرو بن العاص مثل معاوية ومعاوية مثل عمرو بن العاص. كل من يتواجد في تلك الصفوف، كل من يفكر مثلهم، حكمه واحد بالنسبة للإمام الحسن(ع)، والأشخاص ليسوا هم المعيار [كأشخاص] في نظر الإمام الحسن(ع)، فكل من يقف ضد الحق ويغاير الحق، باطلٌ في منطق الإمام الحسن، هذه هي الظروف التي كانت سائدة في تلك الفترة.

سنمرّ بسرعة على الأحداث التي لا أهميّة لها ونركّز على الوقائع التي يمكن البناء عليها أكثر والتي نحتاجها بشكل أكبر.[3]

كان الإمام الحسن(ع) يواجه هؤلاء القوم، ويواجه معاوية أيضاً، وحدثت أمورٌ في هذا السّياق وجَرَت جميعها في الجهة المعاكسة لمسير الإمام المجتبى(ع)، حيث انكشف ضعف عبيد الله بن عباس، وهذا الأمر لا علاقة له بالإمام الحسن(ع). لقد أرسل الإمام المجتبى إثني عشر ألف جنديٍّ للقتال وعيّن لهم شورى للحرب تتألّف من ثلاثة أشخاص. عيّن في المرتبة الأولى عبيد الله بن عباس وفي المرتبة الثانية قيس بن سعد بن عبادة وفي المرتبة الثّالثة شخصاً ثالثاً، لقد أرسلهم على رأس هذا الجيش وكان هؤلاء بمثابة خواص الشيعة ضمن الجيش المؤلّف من اثني عشر ألف رجلًا المجتمعين في «مسكن».

يثبت المرحوم آل ياسين (رضوان الله عليه)[4] بأدلّة متعدّدة، أنه تعيّن ولزم اختيار شخصٍ كعبيد الله بن عباس لقيادة الجيش -وليس لديّ المجال الآن لذكر هذه التفاصيل[5]– لقد قُتل طفلي عبيد الله على يد معاوية وكان ذاهبٌ لمواجهة قاتل طفليه، أليس هذا جيّداً؟ أن يُرسل لقتال معاوية، شخص قُتل طفليه على يد معاوية[6] فيكون في مواجهة قاتل طفليه؟ أضف إلى كونه هاشمياً، وكان هناك اختلاف دائم بين بني هاشم وبني أمية، إضافةً إلى كونه من الأقارب، فهناك اشتراك [بينه وبين الإمام الحسن(ع)] في الفكر، وفي المدرسة، وفي المجتمع، وفي الكثير من المناسبات، هو شريكٌ في كلّ ما قد تفترضوه. لقد أرسل الإمام المجتبى هذا الشخص، لكن الضعف البشري، والخيانة، والتشكيكات التي تؤدّي إلى الخيانة ولا شيء ينقذ الإنسان من إعصار هذه التشكيكات سوى الإرادة القوية والعزم الرّاسخ الثابت. ذهبوا إلى هذا الرجل، فخُدع بالمليون درهم أو دينار التي سيُقدّمها له معاوية. فانسلّ في جنح الظلام وغادر المكان، وعند الصباح استيقظ الناس فلم يجدوا قائدهم؛ فعرفوا فيما بعد أنّ عبيد الله غادر في منتصف اللّيل[7]. تسبّب هروب عبيد الله بن عباس بأوّل انكسارٍ في معنويات جيش الإمام الحسن(ع)؛ وهو أخو عبد الله الذي ذكرتُ اسمه سابقاً، وهذه الأسرة من أوّلها لآخرها لم تكن مخلصة للإسلام، فأوّل هزيمة طالت جيش الإمام الحسن كانت على يد عبيد الله بن عباس.

بعدها نشر معاوية إشاعة في جيش «المسكن» الذي انتقلت قيادته لقيس بن سعد، مفادها أنّ الإمام الحسن تصالح مع معاوية وطالت معنويات الناس هزيمة أخرى؛ لظنّهم أنّ الإمام المجتبى قد وافق على الصلح، لكن هناك مجموعة لم تُصدّق ما قيل بسبب وجود بعض الأشخاص الّذين يتميزون بعمق تفكيرهم، وعلى رأسهم قيس بن سعد بن عبادة المؤمن الثوري الزاهد المتفكّر، لكن طبعًا هناك من ترك الجيش، بينما بقيت مجموعة على جهوزيّة وكانت الأكثرية. أمّا جيش المدائن، فقد كان بؤرة الاختلافات ومحور الاضطرابات وانعدام النظام في جيش الإمام الحسن(ع).

كلّ ما ذكرته سابقاً كان مجتمعاً في جيش المدائن؛ تلك الاختلافات المرتبطة بالعرق والعنصر والنسب التي كان لها تأثيرها من ناحية، والبعد عن مصادر الفكر الإسلامي والاكتفاء بالإسلام بشكلٍ سطحي فقط، كان له تأثيره أيضًا من ناحية أخرى، عصيانهم وعدم انسجامهم ووجود جواسيس معاوية وأتباع فكر معاوية بينهم، والخوارج الذين يحتمل كثيراً أنهم يستلهمون أفكارهم من معاوية كان لهم تأثيرهم أيضاً، وانتشرت إشاعات معاوية بأنّ الإمام المجتبى يريد أن يصالح لينتهي الأمر، فقام قيس بن سعد بالصلح، وهرب عبيد الله أيضاً؛ مما أدى إلى حصول اختلاف وانشقاق بين الناس[8].

هذه هي الطرق التي لا يستخدمها الإمام الحسن(ع) ولا يجب أن يستخدمها [بينما كان معاوية يستخدمها].

فمسألة الالتزام بالأصول، مسألة أعلى من جميع المصالح المؤقتة، فلا معنى لأن يقوم الإنسان -الذي يعتقد بالتوحيد كمنهج عمليّ وكأسلوب- ولو بعملٍ واحدٍ ملوّثٍ بالشّرك، فهذا تضادٌ مع الأصول، والتزام الإمام الحسن(ع) بالأصول لا يُجيز له استخدام أساليب معاوية التي تليق بمعاوية ولا تليق بالإمام الحسن(ع).


  • [1] انساب الأشراف، ج5، ص147 ( بتصرّف).
  • [2] علل الشرائع، ج1، ص220-221؛ بحار الأنوار، ج42، ص33.
  • [3] جنابه: أنا آمل أن أعطيكم طرف خيط في موضوعنا اليوم كي تتمكنّوا من المطالعة بأنفسكم، والتفكير فيه أكثر.
  • [4] الشيخ راضي آل ياسين (1314-1372ه ق) عالم، ومحقق ومؤرخ شيعي ومن الأسر المعروفة في مدينة الكاظمية. له مؤلفات متعددة في مواضيع مختلفة، حيث كان كتابه «صلح الحسن» موضع اهتمام الكثير من العلماء. ترجم قائد الثورة الإسلامية هذا الكتاب إلى اللغة الفارسية عام 1348ش.
  • [5] يمكن مراجعة كتاب «صلح الحسن» للكاتب الشيخ راضي آل ياسين (ره).
  • [6] أنساب الأشراف، ج2، ص456-458؛ ج2، ص614-617.
  • [7] مقاتل الطالبیین، ص73؛ إرشاد شیخ مفید (ره)، ج2، ص12-13؛ بحار الأنوار، ج44، ص47-48.
  • [8] تاريخ اليعقوبي، ج2، ص215.
المصدر
كتاب صلح الإمام الحسن (ع) | الإمام الخامنئي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟