مواضيع

ثبات السحرة أمام تهديدات فرعون ووعيده

<لَا ضَيْرَ ۖ إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنْقَلِبُون 50 إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ>

لكن السحرة المؤمنين الصادقين الذين غمر الإيمان قلوبهم، وأظهر نار العشق في أفئدتهم، لم يكترثوا بفرعون وسلطانه وجبروته وطغيانه وإرهابه وتنكيله، ولم يهزهم تهديد فرعون ووعيده، وردوا على فرعون بقولهم: <لَا ضَيْرَ ۖ إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنْقَلِبُون 50 إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ>[1] أي: إنهم لا يخافون الموت والقتل والتنكيل والألم الشديد الذي توعدهم به فرعون، بل هم مشتاقون غاية الشوق ومنتهاه إلى لقاء ربهم؛ لأنهم على الحق وصراط الإنسانية المستقيم؛ ولأن عذاب الدنيا والتنكيل فيها زائل بالموت، وأنهم منقلبون بعد الموت إلى ما وعدهم به ربهم من الأجر الجزيل والثواب العظيم في الآخرة، وقد وعدهم بأن يكون صبرهم على ما توعدهم به فرعون من العقوبة والتنكيل، موجباً لمحو ذنوبهم وحصولهم على الثواب العظيم عند الله في الآخرة، والقرب منه والظفر برضوانه.

وعليه: فهم لا يبالون بالموت ولا بما توعدهم به فرعون من العقوبة والتنكيل، إذا كانت نتيجة ذلك هو الوصول إلى المعشوق والظفر بالقرب منه وتحصيل رضاه ورضوانه، فنهاية الإنسان هي الموت بأية وسيلة كانت، وأن الله يحكم بين العباد فيما كانوا فيه يختلفون، فيثبت المحق ويعاقب المسيء أو المبطل، فمنقلبهم إلى الله (جل جلاله) شهداء في سبيل الله(عز وجل) مظلومين صابرين على بلاء الله، هو خير لهم وفيه كمالهم الإنساني وسعادتهم الحقيقة بحسب المقاييس الإلهية والعقل والمنطق السليم، فكل نفس ذائقة الموت، والجود بالنفس أقصى غاية الجود، والبقاء في الحياة الدنيا مع الظالمين على الذل والهوان والمعصية لله (جل جلاله) هو شر المحيا، فنعم المنقلب منقلبنا، وأكرم الرجوع إلى الله ذي الجلال والإكرام رجوعنا، فلا نخاف منك ولا من عقوبتك وجورك علينا إذا كانت النتيجة والمنتهى هو هذا المنقلب والرجوع الكريم إلى الله ذي الجلال والإكرام، والنعيم الدائم عنده في جنات الخلد، جزاءً على إيماننا الصادق وصبرنا على عذابك وعقوبتك، وثباتنا على التوحيد والدين الحق والصراط المستقيم والطاعة، والبراءة من الكفر والكافرين والنفاق والمنافقين وتجنب الذنوب والمعاصي وكل رذيلة وفعل قبيح، فاقض ما أنت قاض يا فرعون.

يقول الشيخ محمد جواد مغنية: «وهكذا شهداء العقيدة لا يبالون بسيف الجلاد، بل يشتدون صلابة في صمودهم، و إخلاصهم ورسوخاً في دينهم وإيمانهم، أما الذين ينهارون ويستسلمون باللمحة والنظرة بل وبمجرد الوهم، فما هم من الدين والإيمان في شيء، وإن انتحلوه وانتسبوا إليه»[2] وهذا ما يفهمه ويقره كل من يعقل الحقائق الكونية والأنفسية والسنن التاريخية، ويفكر بالمنطق السليم، ولا يحيد الإنسان المؤمن العاقل بما هو عاقل عن مقتضى هذا الفهم والإدراك.

وأضاف السحرة في جوابهم لفرعون: نحن لا نستوحش اليوم وبعد الإيمان من أي شيء، لا من الموت ولا التنكيل ولا نحو ذلك، وإن كنا نخاف من شيء، فإننا نخاف من ذنوبنا وخطايانا وأعمالنا السيئة الماضية في ظل نظامك وخدمتك، مثل: الكفر والسحر ومعاونة الظالمين ومساندة النظام الفاسد ونحو ذلك، ونحن نأمل أن يغفر لنا ربنا ذنوبنا وخطايانا بلطفه ورحمته، وأن نحظى بفضله و إحسانه، أن كنا أول المؤمنين من قوم فرعون ورعاياه وحماته، المذعنين لآيات ربنا الواضحة الدالة على التوحيد ونبوة موسى الكليم وأخيه ووزيره هارون(عليهم السلام) رسوليّ رب العالمين، مما يدل على فضيلة السبق للإيمان، وأن السابقين للإيمان أفضل من المتأخرين، وأن لهم امتيازات في الآخرة عند ربهم، منها: سرعة المغفرة والمسامحة عما سبق الإيمان من الخطايا والذنوب، قول الله تعالى: <لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ>[3].

أي: لا يستوي في ميزان العدل والحكمة الإلهية الإيمان والإنفاق والجهاد في الأوقات السهلة والعافية حين يكون الدين عزيزاً قوياً، مع الإيمان والإنفاق والجهاد في الأوقات الحرجة والصعبة التي يقتضي بذل التضحيات الجسام حين يكون الدين ضعيفاً ذليلاً، فلا شك أن الإيمان والإنفاق والجهاد في الأوقات الحرجة والصعبة التي تقتضي بذل التضحيات الجسام، أدل على الصدق والإخلاص، وأعظم درجة ومكانة وأجراً وثواباً من الإيمان والإنفاق والجهاد في الأوقات السهلة المؤاتية والقوة والعافية، لعلو إيمانهم وحسن صبرهم وعظيم تضحياتهم في سبيل الله(عز وجل) والحق المبين.

ولأن السبق إلى الإيمان يفتح الطريق إلى دخول المزيد من الناس في الإيمان، وفتح الباب على كل خير، له أثر من الخير، بحكم العقل والمنطق السليم، على قاعدة: «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها». يقول العلامة السيد الطباطبائي: «فلو أن الله سبحانه أكرم مؤمناً لإيمانه بالمغفرة والرحمة، لم تظفر مغفرته ورحمته أول الفاتحين لهذا الباب والواردين هذا المورد»[4].

وثمّة فرق بعيد جداً بين إخوان الضيق وإخوان السعة والرخاء، رغم أن الله تبارك وتعالى وعد كلتا الطائفتين المثوبة الحسنى في الآخرة، والله سبحانه وتعالى عليم بحقيقة ما يمضي به الإنسان ويعلن من العقيدة والأعمال، وبما تترك من آثار قريبة أو بعيدة في النفوس ومجرى الحياة والواقع، فلا يخفى عليه شيء من ذلك، وأنه يجازي على ذلك بما هو عليه في نفسه وحقيقته، ولا ينخدع برياء أو سمعة أو نحو ذلك.

وقد حفظ الله(عز وجل) للسحرة صدقهم وإخلاصهم، فثبتهم على الدين الحق، وصبرهم على ما توعدهم به فرعون الطاغية من العقوبة والتنكيل، حتى مضوا إلى الله ذي الجلال والإكرام شهداء أبرار، فأية طاقة عظيمة هذه التي تولدت في قلوبهم فجأة، وصغر عندها جبروت فرعون وكبرياؤه وطغيانه وفقد هيبته، وهانت عندها أشد الأمور وأصعبها، وجادت النفس بالنفس في موقف التضحية والإيثار، إنها قوة الإيمان ونفاد البصيرة واضطرام نار العشق وتوهجه في الفؤاد، الأمر الذي يجعل الوصول إلى المعشوق أسمى الأهداف، ويجعل الألم والشهادة في سبيل الله(عز وجل) أحلى من العسل، وتوصل الإنسان إلى أوج الكمال بسرعة مذهلة، وقد خلد الله تبارك وتعالى ذكرهم الحسن وفضلهم في كتابه المجيد، ليكونوا قدوة وأسوة حسنة للمؤمنين، ولكل إنسان مخلص للحقيقة وطالب إياها وباحث عنها.

فالوصول إلى القرب من الله ذي الجلال والإكرام ونيل رضوانه، يعد أعظم الأجر في ميزان المؤمنين الصالحين، حتى الجنة بما فيها من النعيم المقيم، لا تقاس بنظرة واحدة لوجه الله الكريم الذي هو أكرم الوجوه، وإن الشهداء في سبيل الله(عز وجل) هم أوفر المؤمنين حظاً في الأجر والثواب وفرص القرب من الله ذي الجلال والإكرام، فأنت بقتلنا والتنكيل بنا لا تنقص منا شيئاً، بل توصلنا إلى معشوقنا ومرادنا، فاقض ما أنت قاض يا فرعون.

والعبارة <آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ>[5] فيها دلالة على أنه لا يأذن لهم فيما أظهروه وأعلنوه من الإيمان أمام الجماهير، وهذا شيء طبيعي لأنه إنما أراد أن يبارز بهم موسى الكليم(ع) لينقض بسحرهم دعوته، لا أن يتحولوا إلى مناصرين له ومعارضين للنظام الفرعوني ووسيلة لهدم بنيانه.


  • [1]. الشعراء: 50-51
  • [2]. التفسير المبين، محمد جواد مغنية، صفحة 483
  • [3]. الحديد: 10
  • [4]. تفسير الميزان، العلامة محمد حسين الطباطبائي، جزء 15، صفحة 249
  • [5]. الشعراء: 49
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك – الجزء الثاني | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟