مواضيع

السكوت بعد رحيل النبي (ص)

أصعب مراحل حياة أمير المؤمنين (ع) هي مرحلة السكوت بعد رحيل النبي (ص)، حتى قال الأمير في وصف حاله في هذه المرحلة: «صَبَرتُ وَفي الْعَيْنِ قَذًى، وَفي الحَلْقِ شَجًا»[1].

ولكن المعصوم لا يخلو من الحكمة والحجة فسكوته لم يكن سلبيًا بمعنى التنازل عن حقه والاستسلام للأمر الواقع أو أن يكون عنصرًا سلبيًا في المجتمع بحيث إذا احتاج إليه الإسلام يتخلف عن نصرته، أبدًا؛ بل على النقيض تمامًا، تغاضى أمير المؤمنين (ع) كثيرًا عن حقه وهو القائل: «أَرَى تُرَاثِي نَهْبًا»[2]. ونصر الإسلام بالرغم من أن فضل ذلك كان يذهب لغاصبي حقه، والسكوت ليس بالمعنى الذي يتبادر في أذهاننا وإنما بالمعنى الذي نشير إليه في هذا المحور من سيرة الأمير، ولعله من أفضل ما قيل عن هذا السكوت هو ما قاله الشهيد الدكتور شريعتي: «أن أبلغ ما قاله علي سيد البلغاء هو سكوته خمس وعشرين عامًا». ذلك السكوت الذي كان لله وفي نصرة الإسلام وفي أداء التكليف الشرعي بكل شجاعة واقتدار، مقولته (ع) بعد العزم على انتخاب الثالث: «لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَحَقُّ النَّاسِ بِهَا مِنْ غَيْرِي وَواللَّهِ لَأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً»[3]. وبهذا ثبت أمير المؤمنين الحق وحدد ملامح سياسته في هذه المرحلة وذكر أمير المؤمنين في قوله هذا:

  1. أكد أنه هو الخليفة الشرعي وهو أولى من غيره للخلافة.
  2. ما دام الأمر يتعلق بحقه الخاص فيغض الطرف ويغفر من أجل الإسلام.
  3. أما إذا تعلق الأمر بالإسلام وأمور المسلمين لن يسكت أمير المؤمنين وسيتخذ الموقف المناسب حتى ترجع الأمور إلى نصابها.

ويستفاد من قول الأمير هذا وموقفه التالي:

  1. يجب التأكيد على الحق في مختلف الظروف وفي كل مناسبة، ولفت أذهان الناس إليه ولا يجوز السكوت عن الحق لأعذار واهية، وهذه هي سيرة المعصومين جميعًا في مواقفهم وخطبهم ومناظراتهم في حضور الطواغيت وغاصبي حقهم.
  2. يحق للإنسان أن يتنازل عن حقه الشخصي وما يتعارض مع مصلحته الشخصية فقط، أما الحق العام وفيه مصلحة المسلمين فلا يجوز له التساهل أبدًا فضلًا عن التنازل.
  3. ينبغي للمؤمن أن يكون حليمًا في التعامل مع ما يتعرض له شخصيًا من أذى، ويجب عليه أن يقدم المصلحة العامة ومصلحة الدين على مصلحته الخاصة مهما بلغ حجم خسائره ولنا في أمير المؤمنين أسوة.
  4. يجب المحافظة على الإسلام حتى لو تطلب الامر أن تعصر الزهراء (ع) بين الباب والحائط، ويداس الحسين (ع) تحت سنابك الخيول، فالإسلام يستحق كل ذلك.
  5. يجب أن يكون همنا الأول وشغلنا الشاغل المحافظة على الإسلام وتقويته، وأن نكون على أهبة الاستعداد من الناحية المعنوية والمادية للدفاع عن الإسلام بكامل وجودنا بلغ ما بلغ

نقطة هامة

هذا هو واجبنا وهذه هي سيرة أمير المؤمنين، ولكن للأسف الشديد واقعنا خلاف ذلك فنحن حينما يتعلق الموضوع بمصالحنا الدنيوية نقيّم الدنيا ولا نقعدها ولا نتردد في استخدام كل الأساليب المخالفة للتقوى، نقول: فليحترق الجميع أهم شيء أنا ومصلحتي، وحتى لو حدثت فتنة تؤدي إلى الشقاق والتناحر بين المؤمنين وتفكيك المجتمع الواحد وإلحاق الضرر والأذى بالحالة العامة، ولو كان ذلك على حساب الإسلام، أما إذا تعلق الأمر بالإسلام فنتحول إلى ذلك الحكيم الرزين ونتخذ من الحكمة والعقل لنا ملجأ للهروب عن أداء تكليفنا الشرعي دفاعًا عن الإسلام، ونختلق عشرات الأعذار لدفع الضرر عن أنفسنا دفاعًا وحفاظًا عن مصالحنا الدنيوية التي بالنسبة إلينا أغلى من الإسلام العزيز، ونلجأ في ذلك إلى الخطب الشيطانية وتوظيف الآيات والروايات لتبرير تقاعسنا ثم نقول نحن شيعة أمير المؤمنين، يقول السيد القائد روحي فداه: «نحن ندعي أننا شيعة أمير المؤمنين ولا نتحمل صفعة في سبيل الله».

في العناوين الآتية سنتطرق لبعض مواقف أمير المؤمنين في هذه المرحلة لتتضح لنا الصورة بشكل أكبر حول كيفية تعامل علي مع المجريات، وهنا تجدر الإشارة بالإضافة إلى أن هذه من أصعب مراحل حياة أمير المؤمنين وأكثرها تعقيدًا، فنحن بحاجة إلى قراءة دقيقة وواعية.

احتجاجه عليه السلام دفاعًا عن فدك

هنا نذكر مضمون إحدى الروايات وليس نصها: فقد ورد في الرواية أن أمير المؤمنين وفي مسجد رسول الله وبحضور الناس ألقى الحجة على الخليفة الأول بأحقية الزهراء (ع) بفدك، حيث قال له الأمير (ع) : «أليست الزهراء (ع) من نزّل فيها قوله تعالى: <إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا>[4]؟ فقال: بلى. فقال له الأمير: لو بلغك أن فاطمة ارتكبت ذنبا أتعاقبها؟ فقال: بلى. قال الأمير: إذًا عملت بخلاف صريح نص القرآن الكريم الذي أخبر أن فاطمة طاهرة مطهرة من الرجس.

وعليه: إما أن يتعذر الخليفة أنها كاذبة وحاشاها (ع) وبذلك يخالف نص القرآن، وإما هي صادقة وعلى الخليفة فورًا إرجاع حقها إليها وبهذا أنجز أمير المؤمنين التالي:

  1. ألزم المخالفين الحجة البالغة.
  2. ذكّر بمقام الزهراء (ع) عند الله وفي الإسلام وهي المعتدى عليها.
  3. أثبت أحقية الزهراء (ع) وملكيتها لفدك.

فسكوت أمير المؤمنين لم يكن عن الحق ونصرة الحق، فكان يستطيع أن يلجأ إلى القوة التي كان يمتلكها، ولكنه لم يفعل ذلك ليصلح في الإسلام العزيز وهنا تكمن عظمة علي، ونستفيد من هذا الموقف:

  1. أن المؤمن صاحب حق ولكن إذا لم يستطع إظهار هذا الحق في المواقف المختلفة وبوسائل مختلفة قد يضيع هذا الحق.
  2. من الوسائل المهمة في الدفاع عن الحق هي قوة المنطق والبيان وإلقاء الحجة والبرهان.

على المؤمن في بيان مظلوميته مهما كان أن يراعي التقوى والاخلاق الإسلامية ولا يلجأ بحجة القهر والمرارة إلى السب والشتم واستخدام العبارات الغير لائقة، هذا مع الأعداء فما بالك مع المؤمنين، وينبغي أن تكون لنا سيرة الأمير (ع) نهجًا وكلامه نبراسًا وهو القائل: «إِنِّي أَكرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِینَ، وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ، وَذَکَرْتُمْ حَالَهُمْ، کانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ»[5].

الإجابة على أسئلة أصحاب الديانات

من أخلاق رسول الله (ص) أنه كان يكتب رسائل يدعو فيها أصحاب الصلح والديانات من المناطق المختلفة لدخول الإسلام، وبما أن النبي (ص) كان مذكورًا في الكتب السماوية، بل حتى الأسئلة التي من المفترض أن يجيب عليها النبي ليثبت صدق ادعاء نبوته فيسلم له الناس كانت موجودة لدى علماء أصحاب الديانات، لذلك كانوا يشكّلون وفودًا للقاء النبي ليعرضوا عليه أسئلتهم فإن أجاب آمنوا به وإلا فلا، عدد من هذه الوفود وصلت المدينة بعد رحيل النبي فكانوا يسألون عن خليفة النبي الذي هو الآخر مواصفته مذكورة عند أصحاب الديانات السماوية، وبحسب كتبهم، أسئلتهم لا يستطيع أن يجيب عليها إلا نبي أو وصي، وعند سؤالهم عن خليفة النبي كانوا يعرضون على الخليفة الأول فيبادرون بطرح أسئلتهم التي كان الخليفة يعجز عن الرد عليها، فيشكّل ذلك فضيحة فضلًا عن افتقاد الإسلام لمصداقيته، فكان أمير المؤمنين يتدخل ويجيب على أسئلتهم وبالإضافة إلى تطبيق مواصفاته الشخصية مع التي ذكرت في كتبهم فكان يتيقنون أنه وصي رسول الله وخليفته فيعلنون إسلامهم، ومنهم من يستمر مع جحوده وإنكاره.

وينقل التاريخ أن الثاني كان يتدخل ويقول للوفود أن الإجابة علي على أسئلتكم هي بمثابة رد الخليفة الأول عليها، فكانت جهود أمير المؤمنين تسرق وتوظف لشخص آخر كان في الموقع المسلوب من علي (ع)، وهو حقه الشرعي وكل ذلك أمام مسمع ومرأى من علي، ولكنه كان يسكت من أجل الإسلام وهو الذي تدخّل من الأساس من أجل مصلحة الإسلام وهذا الموقف الذي تكرر أكثر من مرة يبيّن بوضوح أن أمير المؤمنين لم يمارس السكوت، وعندما يتعلق الأمر بمصلحة الإسلام تجد أمير المؤمنين من أول الحاضرين، وعندما يتعلق الأمر بحقه الشخصي وعند تعارضه مع مصلحة الإسلام يختار السكوت، أي لا يُقدم على أي فعل مع بيان حقه.

الخلاصة: إقدام علي وامتناعه مرهون عند الله تعالى، وهذا هو معنى السكوت عند أمير المؤمنين الأبلغ من كل ما قاله.


  • [1] الخطبة الشقشقية لأمير المؤمنين (ع)
  • [2] نفس المصدر
  • [3] من خطبة أمير المؤمنين (ع) لما عزموا على بيعة عثمان
  • [4] الأحزاب: 33
  • [5] من كلام له (ع) وقد سمع قوما من أصحابه يسبّون أهل الشام أيام حربهم بصفين

المصدر
كتاب مرج البحرين يلتقيان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟