مواضيع

أهمية معرفة النفس

حينما يصف الإنسان أمراً ما بأنه مهم، فهذا يعني أنه يرى فيه بأنه من المطالب العالية التي تدعو إلى الاهتمام به واليقظة وحسن التدبير، مصحوباً بالقلق والخوف من فوته وضياعه، ونفي أن يكون من الأمور الحقيرة أو التافهة أو العادية، ويكشف عن تصور ما فيه من الخير وما يحققه من الأغراض والأهداف الكبيرة والأساسية، وما يشبع من الحاجات المادية والمعنوية الدنيوية والأخروية، وما يؤدي إليه تفويته من الخيبة والخسران، وأنه يحتاج إلى اتخاذ قرارات حاسمة لاتقبل التردد والتأخير عن وقتها المناسب أو تقديمها أو التراخي.

والحقيقة أنه مهما تفاوتت الأغراض والأهداف والحاجات لدى الأشخاص فإن الغاية الرئيسية الجامعة التي يسعى إليها جميع الأشخاص من وراء أفعالهم وتصرفاتهم ومواقفهم وأقوالهم هو الوصول إلى الكمال وتحصيل السعادة الحقيقية الفعلية أو التي يعتقد أنها السعادة الحقيقة، وإن لم تكن الحقيقة فعلاً.

وعليه: فإن الأمور المهمة والجادة حقيقة في حياة الإنسان، هي الأمور التي تحقق له السعادة والكمال، وهما -السعادة والكمال- متلازمين، فتحقيق السعادة لا يحصل إلا ببلوغ الكمال، فتكون السعادة تامة بتمام الكمال، وناقصة بنقصان الكمال، وهما لا ينفصلان ولايستقلان عن الفطرة وأصل الخلقة والتكوين، أي: يجب أن تتوافق السعادة الحقيقية والكمال الحقيقي مع الفطرة وأصل الخلقة وتكوين الإنسان من جوهرين الجسد والروح، ولا يوصف أي حال بالسعادة والكمال مع مخالفته للفطرة وأصل الخلقة والتكوين، فلا يقال لإنسان أنه سعيد؛ لأنه امتلك المال والثروة والسلطة بغير حق أو نحو ذلك، وهذا يعني أن الحديث عن أهمية معرفة النفس هو عينه الحديث عن السبيل للوصول إلى الكمال وتحصيل السعادة الحقيقية الفعلية للإنسان في الدارين الدنيا والآخرة.

ولأن الإنسان يتميز بالعقل وحرية الإرادة والاختيار، فإن كماله الحقيقي وسعادته الحقيقة، يتوقفان على معرفة الحقائق الثابتة والسنن والعمل بمقتضاها، فكلما ارتفع معدل المعرفة الحقة ومعدل العمل بمقتضاها ارتفع معدل الكمال الحقيقي والسعادة الحقيقية للإنسان، وكلما انخفض معدل المعرفة الحقة أو معدل العمل بمقتضاها، انخفض تبعاً لذلك معدل الكمال الحقيقي والسعادة الحقيقية لدى الإنسان.

ولمعرفة الإنسان ثلاثة محاور رئيسية، وهي:

  • معرفة الإنسان بنفسه.
  • معرفة الإنسان بالأشياء الخارجية المحيطة به.
  • معرفة الإنسان بربه.

وتعتبر معرفة الإنسان بربه، هي المعرفة التي يتوقف عليها كمال الإنسان وسعادته الحقيقية في المقام الأول، وهي الغاية القصوى التي يسعى إليها الإنسان، وفي الحديث عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) أنه قال: «معرفة الله سبحانه أعلى المعارف»[1] وذلك لأن الإنسان كائن مركب من جوهرين/ الروح والجسد، بالروح يناسب الأرواح الطيبة والملائكة المطهرين (عليهم السلام) ويميل إلى العالم الملكوتي العلوي عالم الروحانيين وهو عالم النور والطهارة والقداسة اللامحدود، وبالجسم يشابه السباع والبهائم في الغضب والشهوة، ويقيم على وجه الأرض ويسكن في عالم المادة والطبيعة.

ولأن الروح هي التي تمثل حقيقة الإنسان وجوهره وأساس وحدة كيانه وشخصيته، فإن العقل والمنطق والفطرة والطبع السليم، كلها تجمع على التالي:

  • وجوب تغليب الجانب الروحاني على الجانب الجسماني دون إهمال الجانب الجسماني أو التقصير في متطلباته وإشباع حاجاته الضرورية والأساسية، وهذا من شأنه أن يعلي القيم الروحية على القيم المادية.
  • أن يخضع الإنسان القوة الغضبية والقوة الشهوية لمنطق العقل والدين الحنيف، وأن ينفض الإنسان عن نفسه كدورات عالم الطبيعة والشهوة واللذات الحسية، ويتخلص من حجاب المادة ومن الأهواء والوساوس الشيطانية والأوهام والخرافات، وأن يسير بقدم صدق وإخلاص وبخطى ثابتة للاتصال بعالم الملكوت الأعلى، عالم النور والطهارة والقداسة والإقامة الدائمة فيه ومصاحبة الأرواح الطيبة والملائكة المطهرين (عليهم السلام).

وقد ثبت بالتحقيق وبما لا يدع مجالاً للشك أو الريب بأن حياة الروح وكمالها وسعادتها إنما تتحقق بالعلم والمعرفة بالحقائق الكونية والأنفسية والمعارف الإلهية الحقة والسنن، وبسلوك طريق العشق والمحبة لله ذي الجلال والإكرام والأنس به وطاعته في جميع الأمور والشؤون الخاصة والعامة، والانقطاع إليه عن كل شيء وعدم الاستقلال عنه في شيء أو في أمر من الأمور أو في شأن من الشؤون، وترك معصيته والتحلي بالأخلاق الفاضلة والخصال الحميدة وفعل الخيرات والأعمال الصالحة وكل ما يحتاجه للوصول إلى كماله المقدر له واللائق به، ولا يفعل إلا ما أراد الله سبحانه وتعالى منه ولا يتعرض إلا لما يقربه منه، ولا يخالفه في شيء أو في أمر شأن عام أو خاص بمتابعة الأهواء والوساوس الشيطانية أو الأوهام والخرافات والخيالات الباطلة، أو بالاستغراق في الشهوات الحيوانية والملذات الحسية، ولا ينخدع بخدائع الطبيعة والنفس الأمارة بالسوء والشيطان الرجيم، ولا يلتفت إلى شيء يعوقه في سيره نحو كماله وسعادته، وكل مخالفة لشيء مما سبق فهي نافذة إلى الشقاء وخطوة نحو الوراء والنقص، تتسع أو تضيق بمقدار المخالفة، وعليه: فإن المعرفة بالنفس والمعرفة بالأشياء الخارجية المحيطة، ما هي في الحقيقة إلا مجرد وسيلة لمعرفة الإنسان بربه وسلوك طريق العشق والمحبة والطاعة إليه.

وقد بيّنت الآيات القرآنية المباركة والأحاديث الشريفة عن الرسول الأعظم الأكرم (ص) وأهل بيته الطيبين الطاهرين (عليهم السلام) أهمية المعرفتين: المعرفة بالآيات الآفاقية، والمعرفة بالآيات الأنفسية لمعرفة الإنسان بربه سبحانه وتعالى، قول الله تعالى: <سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ>[2].

ولاشك في أهمية المعرفة بالآيات الآفاقية لمعرفة الإنسان بربه سبحانه وتعالى، فهي توصل الإنسان إلى المعرفة اليقينية بوجود الله سبحانه وتعالى والمعرفة بأسمائه الحسنى وأفعاله وكمالاته، مما يهدي الإنسان العاقل الباحث عن الحقيقة وبحسب الفطرة والطبع السليم إلى التمسك بالدين الإلهي الحق والصراط المستقيم والنهج القويم والاعتدال والطريقة الوسطى والعمل بالشريعة الإلهية المقدسة في جميع الشؤون الخاصة والعامة، وفي جميع الظروف والأحوال، ويحمل الإنسان على مجاهدة النفس وتهذيبها وتقويمها وتحريرها من الأهواء والوساوس الشيطانية والأوهام والخرافات والخيالات الباطلة ونحوها، ومن الشهوات الحيوانية ومن الاستغراق في عالم الدنيا والمادة وفي المصالح العاجلة الفانية واللذات الحسية ونحو ذلك، والسعي إلى تطهير النفس من الذنوب والمعاصي والآثام والجرائم والجنايات، ومن الرذائل والخصال السيئة والصفات القبيحة، وتزكية النفس وتخليصها من حجاب المادة، وتكميلها بالمعارف الإلهية الحقة، والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة، وسلوك طريق العشق والمحبة والطاعة لله ذي الجلال والإكرام والانقطاع إليه عن كل شيء، والسير إليه بقدم صدق وبخطى ثابتة وطاعته وعبادته والتخلق بأخلاقة واكتساب صفات كماله، حتى البلوغ إلى الغاية القصوى والمرتبة العليا وهي الفناء فيه والبقاء به.

إلا أن المعرفة بالآيات الأنفسية هي أنفع للمعرفة بالله سبحانه وتعالى من المعرفة بالآيات الآفاقية، بقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع): «المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين»[3]، أي: أن المعرفة بالآيات الأنفسية أنفع من المعرفة بالآيات الآفاقية للمعرفة الإنسان بربه سبحانه وتعالى وسلوك طريق العشق والطاعة لله ذي الجلال والإكرام، وذلك لأن معرفة النفس تتصل بصورة مباشرة بإصلاح النفس، حيث يعرف الإنسان ما يعرض للنفس من الاعتدال في أمرها أو الطغيان، وما يعرض لها من الأحوال الحسنة أو السيئة، كما يعرف خصائصها وقدراتها وطاقتها وإمكانياتها ومواهبها واستعداداتها، ثم يعمل على إصلاحها برفق وعن علم ومعرفة، ويتسنى له تربيتها وتزكيتها وتقويمها وتقويتها، ويعرف المضار والمنافع المادية والروحية للنفس، ومعرفة الأعداء والأصدقاء لها ليسعى مع الأصدقاء الروحانيين لجلب المنافع الحقيقية لها والوصول بها إلى كمالها الحقيقي اللائق بها والمقدر لها، ويتحقق سعادتها الحقيقية الكاملة في الدارين الدنيا والآخرة، والحرص على تجنب المضار والحذر الشديد مع اليقظة من الأعداء الروحانيين، مثل: الهوى والشيطان والطاغوت والجهل، وذلك كلها من أجل النجاة من الشقاء الحقيقي ومن الهلاك في الدارين الدنيا والآخرة.

كما يعرف شرف النفس وكرامتها فيأبى إذلالها باتباع الأهواء والوساوس الشيطانية والأوهام والخرافات والخيالات الباطلة، أو الخضوع إلى الرغبات والغرائز والميول والشهوات الحيوانية والاستغراق في اللذات الحسية والمصالح الدنيوية العاجلة الفانية، أو اتباع الطواغيت الضالين والفراعنة المتجبرين والمترفين الفاسدين والنفعیين والانتهازيين المارقين الجامحة الجهلاء، ويشتغل بدلاً من ذلك بتطهير نفسه وتزكيتها وتكميلها بالمعارف الإلهية الحقة والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة، والتحليق بها في سماء الفضيلة للوصول إلى عالم الملكوت الأعلى، عالم النور والطهارة والفضيلة والقداسة والكمال اللامحدود والإقامة فيه في محضر الأنس والقرب مع مصاحبة الأرواح الطيبة والملائكة المطهرين (عليهم السلام) بالإضافة إلى ما تتميز به معرفة النفس من الخصائص التي تقربها من المعرفة برب العالمين بشكل أفضل، كما سيأتي في شرح الحديث الشريف موضوع البحث بعد قليل.

وفي المقابل: تتصل معرفة الآيات الآفاقية بإصلاح النفس وأعمالها بصورة غير مباشرة، والمعرفة بالله سبحانه وتعالى وبصفاته وأسمائه الحسنى وأفعاله، وكمالاته عن طريق الاستقلال والبرهان، أي: المعرفة بالله سبحانه وتعالى بطريق غير مباشر، مما يجعل المعرفة بالآيات الأنفسية أنفع من المعرفة بالآيات الآفاقية.


[1] غرر الحكم: 9864

[2] فصلت: 53

[3] غرر الحكم، 1675

المصدر
كتاب معرفة النفس طريق لمعرفة الرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟