مواضيع

المبارزة التاريخية بين موسى (ع) والسحرة

<وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِکُلِ سَاحِرٍ عَلِیمٍ ٧٩ فَلَما جَاءَ السحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ ٨٠ فَلَما أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِحْرُ إِن اللهَ سَیُبْطِلُهُ إِن اللهَ لا یُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِینَ ٨١ وَیُحِق اللهُ الحق بِکَلِمَاتِهِ وَلَوْ کَرِهَ الْمُجْرِمُونَ>

لما رأى فرعون الطاغية وملؤه المستكبرون الفاسدون ما جاء به موسى الكليم (عليه السلام) من الآيات الإلهية والبينات الواضحة والمعجزات النيرات الباهرات من عند رب العالمين، وعلموا وتأكدوا ووثقوا من تأثيرها الكبير في الناس، وخطرها العظيم المدمر على نظام الحكم والدولة والحكومة ومصالحهم الخاصة وما يحصلون عليه من الامتيازات الضخمة من النظام الفاسد ما لم يواجهوها؛ لأنها كانت واصلة وقاطعة في الجزم بصدق نبوة موسى الكليم (عليه السلام) ورسالته وعدالة قضيته ومشروعية مطالبه الإصلاحية الدينية والسياسية والحقوقية، وعلموا بعجزهم عن الرد العلمي والمنطقي والسياسي الواقعي عليه، فرموه بالسحر والتآمر والخيانة العظمى، ونفوا أن يكون ما جاء به من عند رب العالمين، واستبعدوا ذلك غاية الاستبعاد، إذ لا حيلة لهم في دفع ما جاءهم به، ومنع تأثيره في الناس إلا هذه الوسيلة الخبيثة، التي تشابهت عليها قلوب الطواغيت والفراعنة والحكام المستبدون والمترفون والانتهازيون والنفعيون المكذبون بالرسالات الإلهية والمعارضون للإصلاح في العالم في طول التاريخ وعرض الجغرافيا، وليس ذلك منهم لاشتباه أو لاعتقاد واقتناع حقيقي لديهم، بأن ما جاء به موسى الكليم (عليه السلام) هو من السحر فعلاً، ففرعون يتمتع بذكاء خارق وبخبرة عملية واسعة في الحياة والسياسة، وبعلم ومعرفة بالسحر، وكان يمارسه، وبه وصل إلى الملك والسلطة، مما يؤهله لأن يعلم عن يقين بأن ما جاء به موسى الكليم (عليه السلام) ليس من السحر ولا مشابه له، بل هو آية إلهية ومعجزة عظيمة، تقف وراءها قوة غيبية مطلقة فوق الطبيعة وفوق البشر، ولكنه بسبب استغراقه في عالم الدنيا والمادة والمصالح الدنيوية الخاصة الأنانية، لم يدرك العلاقة الوجودية الوثيقة التي لا تقبل التخلص والانفصال بين كمال الإنسان وخيره وصلاحه ومصلحته وسعادته الحقيقية في الدارين الدنيا والآخرة، وبين معرفة الحقائق والسنن الإلهية الكونية والتاريخية والعمل بمقتضاها.

أو كان يدرك تلك العلاقة، ولكنه بسبب الاستغراق في عالم الدنيا والمادة والمصالح الدنيوية الأنانية الخاصة، وشدة التعلق والطمع في السلطة والثروة والصلاحيات الواسعة والامتيازات الضخمة المتميزة التي تمنحها السلطة، عاند واستكبر على الحق وأهله، وفعل كما فعل إبليس الرجيم، إذ بغى وعصى عن علم ويقين وتحت تأثيرالغرور بالسلطة والقوة والثروة، انفصل عن عالم الواقع والحقائق والسنن، وتوهم بأنه يستطيع أن يتغلب على موسى الكليم (عليه السلام) ويهزمه ويقهر دعوته، فأراد أن يستخف بعقول قومه والموالين له ويضلهم، ويعارض ما جاء به موسى الكليم (عليه السلام) عن طريق السحر والشعوذة والتهويل؛ ليمنع تصديقهم له وإيمانهم بنبوته ورسالته عدالة قضيته وشرعية مطالبه الإصلاحية الدينية والسياسية والحقوقية، وربما قدّر بأنه وإن لم يستطع أن يقهر موسى الكليم (عليه السلام) نفسه، فإنه يستطيع أن يثير الشغب والفوضى الجماهيرية في وجهه، ويشوش الرؤية لمعرفة حقيقة ما جاء به، فيمنع إيمان الناس بنبوته وتصديقهم برسالته ودعوته واتباعهم له ومناصرته أو الحد من ذلك وتأجيله مؤقتاً على أقل تقدير، وهذا يخدم مصلحته الخاصة ومصلحة نظامه، وهذا أمر ممكن عقلاً وثابت بالتجربة التاريخية الطويلة في الصراعات بين الأنظمة والطواغيت الضالين والفراعنة المتجبرين والحكام المستبدين الظلمة والمترفين المستغلين، وبين الأنبياء الكرام والأوصياء المطهرين (عليهم السلام) والأولياء الصالحين والمطالبين بالإصلاح والحقوق الواقعية المشروعة الطبيعية والمكتسبة، فيؤمن بذلك بقاء نظامه، واستمرار وجوده في السلطة، وتمتعه بالصلاحيات الملكية الواسعة والامتيازات الضخمة، وضمان مصالحه الخاصة المتراكمة والمستجدة.

وقد اختار فرعون مع ملئه في بادئ الأمر المواجهة السلمية الأقل كلفة مادياً وبشرياً ومعنوياً من المواجهة الأمنية والعسكرية العنيفة والدموية، فقرروا مقابلة ما زعموا أنه سحر بسحر مثله، قولهم: <قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَىٰ 57 فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ>[1]، وذلك على قاعدة: كل عمل يجب أن يؤتى من طريقه، ليثبتوا أن ما أتى به مجرد سحر لا أكثر، وأنهم قادرين على الإتيان بمثله من خلال الاستعانة بأهل الخبرة والصناعة والفن.

فأصدر فرعون أمره الملكي بتكليف فرق من الجيش والجنود والشرطة بالانتشار السريع في جميع المناطق والأنحاء في مصر، وإحضار كل محترف عليم بالسحر وحاذق فيه وماهر ومتقن له ومتدرب على فنونه المختلفة ومتمكن منها غاية التمكين على اختلاف أجناسهم وطبقاتهم إلى العاصمة السياسية ومركز الحكم في البلاد؛ ليواجه بهم مجتمعين متضامنين متعاونين معجزات موسى الكليم (عليه السلام) وإبطال تأثيره في الناس.

ولفظ العموم (كُلِّ) في قوله: <ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ>[2] يعني: إحضار كل ساحر محترف تعلمونه مسبقاً أو تظفرون به في جولتكم، وهذا يدل على أهمية الكثرة بالنسبة إليه، وحصر طلب الإحضار للمحترفين المتمكنين من السحر غاية التمكن كما يدل عليه لفظ (عَلِيمٍ)، يدل على عنايته بالإتقان وإحكام الأمر في المواجهة، وإبعاد جميع عوامل الخطأ والخلل؛ لأن المحترفين أبصر بدقائق السحر وأسراره، وأقدر مجتمعين على إظهار ما يفوق خوارق موسى الكليم (عليه السلام) أو يشوش عليها، وحضورهم يغني عن حضور السحرة الضعفاء عملياً، ويمنع من ظهور الخطأ والخلل والعجز المتوقع في أعمال السحرة الضعفاء، فلا يوازي العمل في جودته وإتقانه وعظمته ما جاء به موسى الكليم (عليه السلام)، وأدعى أنه آية إلهية ومعجزة عظيمة من عند رب العالمين، فيكون الخلل والخطأ والعجز مدعاة لتأثر الناس أكثر بما جاء به موسى الكليم (عليه السلام)، وترويج دعوته بينهم.

 فأراد فرعون حصر المبارزة بين موسى الكليم (عليه السلام) وبين السحرة المحترفين؛ لسد كل فجوة وإبعاد كل عامل من عوامل الخطأ والخلل؛ ليضمن لنفسه الانتصار والغلبة في المبارزة من خلال السحرة، غافلاً عما يخبئه له القدر من المفاجآت التي ستصيبه مع ملئه وقومه بصدمة عظيمة، تشعرهم بالفشل وخيبة الأمل والخسران، وتذهب بأحلامهم أدراج الرياح على يد السحرة المحترفين أنفسهم، الذين جاؤوا بهم من جميع المناطق والأنحاء في مصر، وطمّعوهم وبذلوا لهم الأعطيات العظيمة وحرضوهم غاية التحريض وشحنوهم غيضاً؛ ليعارضوا بهم معجزات موسى الكليم (عليه السلام)، وينتصروا بهم عليه، ويغلبوه بهم. فإذا بهم يؤمنون بنبوته ويصدقون رسالته، ويكفرون بدين فرعون وألوهيته، ويعارضون نظام حكمه الفاسد وحكومته الجائرة، ويعلنون ذلك جهاراً أمام الجماهير المحتشدة في الميدان، وبحضور فرعون وملئه وأعوانه وأنصاره وكامل جهازه الديني والأمني والعسكري والسياسي والإداري والفني، ويتقبلوا الشهادة في سبيل إيمانهم ودينهم الحق الجديد بنفوس راضية مطمئنة، فيظهر الحق على أيديهم ويزهر، وتصبح الوسيلة التي أراد بها فرعون وملؤه الانتصار والغلبة على موسى الكليم (عليه السلام) وسيلة لانتصاره وغلبته عليهم، وسبباً لهزيمة فرعون وملئه وإثبات فشلهم وعجزهم، وهذا من مكر الله وكيده بهم كما هو فعله بالظالمين والمجرمين دائماً وأبداً.

ولمَّا جاء السحرة إلى ميدان المبارزة المفتوح في الصحراء، وواجهوا موسى الكليم (عليه السلام)، وكانوا على كامل أهبة الاستعداد للمبارزة بما هيؤوه وأعدوه من الحبال والعصي الطويلة والمتوسطة والقصيرة؛ لتظهر في صور الحيات والثعابين على قاعدة مقابلة الشيء بمثله، خيّروا موسى الكليم (عليه السلام) بين أن يبدأ هو بإلقاء عصاه أو يبدؤوا هم بإلقاء ما لديهم، وذلك ثقة منهم بأنفسهم بأنهم هم الغالبون؛ لاحترافهم وتمكنهم من السحر وما يتمتعون به من المهارات والحذق والتدريب على فنون السحر والمعرفة بأسراره، ولكثرتهم أيضاً.

فأعطاهم موسى الكليم (عليه السلام) فرصة السبق، فقال لهم على وجه الثقة والتحدي: <أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ>[3] أي: ابدؤوا أنتم وألقوا ما تريدون وتستطيعون إلقائه من الحبال والعصي من غير شرط أو تحديد. أي: لا أعين أو أحدد لكم شيئاً، فلكم الخيار الكامل في إلقاء ما تريدون وتستطيعون إلقائه، وأظهروا كل ما لديكم من العلوم والمهارات والقدرات، وما تتمتعون به من الخداع في فنون السحر، وأبرزوها في الميدان، فإنكم مغلوبون لا محالة وبالضرورة؛ بواسطة المنطق السليم وعن طريق المعجزات الإلهية العظيمة النيرة الباهرة القاهرة، فهو يعلم علم اليقين وجازم بغلبته وانتصاره وظهوره عليهم مجتمعين؛ لأنه يعلم أنهم إنما يعملون كيد ساحر، وخيالات عمادها التمويه والخداع والتضليل لا حقيقة فعلية لها في الخارج، وإعطاؤهم فرصة السبق ليكون قضاؤه على سحرهم محقاً وإبطالاً له، فيظهر عجزهم، وينكشف للناس أن ما أتوا به عمل فاسد، وسعي باطل، يريدون به محق الحق وإبطاله وهو محال. وذلك أظهر لقوة حجته؛ لأن شأن المبتدئ بالعمل المتباري فيه، أن يكون أمكن من المتأخر، ويحصل بالابتداء على فرصة إضافية ليست للخصم، لا سيما في الأعمال التي قوامها التمويه والخداع والتضليل، حيث يسبق المبتدئ المتأخر إلى التأثير في الحاضرين وكسب إعجابهم، مما يتطلب من المتأخر إزالته وإحلال تأثيره فيهم محله وكسب إعجابهم، وهذا يتطلب جهداً وعملاً مضاعفاً، وهذا أمر واضح.

وكان ذلك من موسى الكليم (عليه السلام) ثقة منه بربه العظيم الذي وعده بالفوز والنصر والغلبة، واستخفافاً منه بهم كسحرة، وزيادة في إظهار عدم الاكتراث بمبلغ سحرهم، واستخفافاً منه بفرعون الجبار المتغطرس وكامل جهازه الديني والأمني والعسكري والسياسي والإداري والفني، وبكيدهم ومكرهم السيء وبكل ما جاؤوا به وهيؤوه من الإمكانيات والاستعدادات والقدرات، وبرعايتهم الإعلامية والتحريضية، وتهيئة منه للقوم الحاضرين بأن يعلموا بأن الله (عز وجل) قد أبطل سحرهم على يد رسوله الكريم (عليه السلام) بما أيده به من الآيات والبينات والمعجزات، فهو على ثقة تامة وجزم ويقين بغلبته عليهم وظهور الحق وبطلان الباطل؛ لأنه يعلم بأن ما جاء به السحرة من السحر مجرد خيالات تقوم على الوهم، بسبب التمويه والخداع والتضليل، ولا حقيقة له وراء ذلك ولا نصيب له من الواقع، وأن ما جاء به من عند رب العالمين هو حقيقة فعلية واقعية فاعلة ومؤثرة تأثيراً واقعياً وفعلياً، وسيظهر أثره الفعلي الواقعي في إبطال سحرهم ومحقه وإبطال تأثيره على الناس بفضح سره وكشف حقيقته وإثبات أنه مجرد تخيل ووهم يقوم على التمويه والخداع والتظليل، ولا حقيقة له وراء ذلك والقضاء المبرم عليه وإفنائه وكأنه لم يوجد؛ ولأن ربه العظيم الذي لا يخلف الميعاد قد وعده بذلك، وهو على كل شيء قدير، وعليه ستظهر حقيقة ما عندهم من السحر، وحقيقة ما عنده من الإعجاز الإلهي الباهر، وينكشف ذلك بكل جلاء ووضوح لجميع القوم الحاضرين، السحرة المحترفين المباشرين للمبارزة، وفرعون الطاغية وملئه المستكبرين الواقفين وراء المبارزة والداعمين للسحرة، والجماهير المحتشدة في الميدان للتفرج على المبارزة، والمتلهفين جداً لرؤية النتيجة ومعرفة الحقيقة.

وتعتبر الآية الشريفة المباركة دليل على أن كل عمل فاسد يقوم على الباطل والكيد والخداع والتضليل يأتي به الجبابرة والدجالون، فإن الله سبحانه وتعالى سيظهر بطلانه ويكون مصيره بما هو فاسد، وبحسب آثاره ونتائجه وفق السنن الإلهية الكونية والتاريخية إلى الزوال والاضمحلال، فليس من شأنه الثبات والبقاء والدوام، بل يتضاءل مع الزمان تدريجياً، حتى يضمحل ويزول ويفنى، حتى وإن حصل له رواج في وقت من الأوقات، وكل عمل صالح يأتي به المؤمنون الصالحون ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى، فإن الله تبارك وتعالى يصلحه ويبقيه، حتى يؤتي أكله وتظهر ثماره الطيبة في الدارين الدنيا والآخرة، حتى وإن ستره كيد الظالمين وبغيهم في وقت من الأوقات، قول الله تعالى: <وَالذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزلَ عَلَىٰ مُحَمدٍ وَهُوَ الحق مِنْ رَبهِمْ كَفرَ عَنْهُمْ سَيئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ 2 ذَٰلِكَ بِأَن الذِينَ كَفَرُوا اتبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَن الذِينَ آمَنُوا اتبَعُوا الحق مِنْ رَبهِمْ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلناسِ أَمْثَالَهُمْ>[4].

أي: أن الذين كفروا بالله سبحانه وتعالى والدين الإلهي الحق ولم يكتفوا بالكفر، بل عملوا وسعوا في إضلال الناس، ومنعهم من الإيمان والهداية بكل وسيلة خبيثة، وأسلوب من أساليب الإضلال والمنع، مثل: الترهيب والترغيب وشراء الضمائر الرخيصة والتضليل الفكري والإعلامي ونحو ذلك، هؤلاء الضالون المجرمون، لن يقبل الله  (جل جلاله) عملهم ولن يصلوا إلى مبتغاهم ومقاصدهم، بل يضل الله  (جل جلاله) جميع أعمالهم ويضيعها، فلا تهتدي لمقاصدها، كالإبل الضالة ليس لها رب يحفظها ويعتني بها، ويبطل أعمالهم ويحبطها ويشقيهم بآثارها ونتائجها وفق السنن الإلهية الكونية والتاريخية، فلا يدركوا شيئاً مما قصدوا، ويجعل الدائرة عليهم، ويكون نصيبهم من عملهم التعب والنصب والحرمان والخسران المبين، وخيبة الأمل في الدارين الدنيا والآخرة.

وهذا يشمل أعمالهم السيئة التي عملوها ليكيدوا بها الحق والمؤمنين، وأما الذين آمنوا واطمأنت قلوبهم بالإيمان، ولم يكتفوا بمجرد الإيمان، بل عملوا الصالحات وأدوا حقوق الله سبحانه وتعالى وحقوق العباد الواجبة والمستحبة بإخلاص وصدق نية، وآمنوا بالقرآن الكريم وبكل ما جاء به محمد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله وسلم) من عند ربه، لا لهوى أنفسهم أو التعصب الأعمى أو لمصلحة دنيوية، بل لأنه الحق الحقيق الذي أتى به من عند رب العالمين، ولا يصح الإيمان ولا يتم إلا به، وسعوا إلى الخير والصلاح وقاموا بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى ودينه الحق، هؤلاء المؤمنون الصالحون يقبل الله تبارك وتعالى أعمالهم، ولا يخيب آمالهم فيما قصدوا، بل يكفر عنهم سيئاتهم ويرحمهم ويسددهم ويؤيدهم بالتوفيق ويصلح شأنهم ويسعدهم بآثار ونتائج أعمالهم وفق السنن الإلهية الكونية والتاريخية، ويوصلهم إلى مقاصدهم ومبتغاهم في الدارين الدنيا والآخرة.

والسبب في الحالتين، حالة الكافرين المجرمين وعقابهم وشقائهم، وحالة المؤمنين الصالحين وثوابهم وسعادتهم، هو أن الذين كفروا اتبعوا الباطل من الشيطان الرجيم، وهو بطبيعته وآثاره ونتائجه ينتهي إلى الزوال والاضمحلال وفق السنن الإلهية الكونية والتاريخية، وهو الخذلان الإلهي لهم، والذين آمنوا واتبعوا الحق من ربهم الباقي سبحانه وتعالى، وهو بطبيعته وآثاره ونتائجه ينتهي إلى الفوز والنجاح والظفر وفق السنن الإلهية الكونية والتاريخية، وهو التأييد الإلهي لهم.

وبهذا يبين الله (عز وجل) للناس أوصافهم وأحوالهم على حقيقتها على ما هي عليه في واقعها الوجودي الفعلي في عالمي الملك «الشهادة» والملكوت «الغيب»؛ ليعرفوا إلى ما ينتهي إليه مصيرهم في الدارين الدنيا والآخرة، ويتعظوا ويعتبروا وتتم الحجة البالغة عليهم. وتدل الآية الشريفة المباركة على وجوب اقتران الإيمان بالعمل الصالح، فلا يغني أحدهما عن الآخر للنجاة والفوز برضوان الله ذي الجلال والإكرام وثوابه والوصول إلى المبتغى والمقصود في الدارين الدنيا والآخرة.

فاستجاب السحرة لطلب موسى الكليم (عليه السلام) بأن يبدؤوا بإلقاء ما لديهم، إما تقديراً منهم إليه، وإما لثقتهم التامة بأنفسهم، وما يتمتعون به من الحذق والقدرات والمهارات والتمكن من فنون السحر والعلم بدقائق أسراره وخفاياه وخباياه؛ ولأنهم خيروه؛ ولأن من يبدء يحصل على فرصة السبق والتأثير على الجمهور والمراقبين، أي حين يبدؤون بالإلقاء فهذا لصالحهم، فألقوا ما لديهم من الحبال والعصي على مختلف الأحجام والأطوال وجاءوا بسحر عظيم، حيث خيل لكل من يراها كأنها حيات وثعابين حقيقية تسعى ويركب بعضها بعضاً، وبعظمة ما جاءوا به من السحر أوجس موسى الكليم (عليه السلام) في نفسه خيفة من أن يؤثر ذلك المشهد المثير تأثيراً عميقاً في نفوس الجماهير المحتشدة في الميدان، وفي نفوس المراقبين، ويصدرون حكماً لغير صالحه يصعب تغييره.

إلا أن الله (عز وجل) طمأن عبده ووليه الصالح ورسوله الكريم موسى بن عمران الكليم (عليه السلام) بأن له الفوز والظفر والغلبة والنصر على عدوه، وسيكون الحكم لصالحه وليس عليه أن يخاف أو يقلق من النتيجة؛ لأنها ستكون في صالحه حتماً وستكون حاسمة جداً، فقال موسى الكليم (عليه السلام) للسحرة على وجه التقريع والتوبيخ، ومبيناً لهم حقيقة ما جاءوا به وما سيظهره الله (عز وجل) على يديه المباركتين من الحق من صيرورة العصا ثعباناً عظيماً يلقف جميع ما ألقوه من الحبال والعصي وأظهروه في صورة الحيات والثعابين بسحرهم حتى يتلاشى عن آخره ويفنى وكأنه لم يكن؛ ولكي يهيئ نفوسهم ويفتح عقولهم وقلوبهم عليه تمهيداً لإدراكه بما هو عليه في حقيقته وواقعه، ولهذا السبب بادروا إلى الإيمان حين شاهدوا المعجزات الإلهية النيرة الباهرة، وألقوا أنفسهم على الأرض ساجدين لرب العالمين، قوله: <مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ>[5] أي: إن ما جئتم به من السحر، وإن كان عظيماً في فنه وهذا واضح، فإنه في حقيقته مجرد سحر يقوم على التمويه والخداع والتضليل، وإظهار للشيء وتصويره في أعين الناس وإدراكهم على خلاف صورته وحقيقته الفعلية، وهو باطل وزائف في نفسه ولا حقيقة فعلية له وراء ظاهره الخيالي الزائف ولا نصيب له من الواقع ولا فاعلية ولا تأثير في الخارج.

وعليه: فإن الله سبحانه وتعالى سيبطل تأثيره في النفوس بفضح سره وكشف حقيقته إلى الناس عن طريق ما جئت به من المعجزات الإلهية النيرة الباهرة القاهرة؛ لأن السنة الإلهية جارية على إقرار الحق وإثباته وتقويته، وإبطال الباطل وإزهاقه.

أما ما جئتكم به من المعجزات من عند رب العالمين، فإن له حقيقة فعلية واقعية وفاعلية وتأثير في الخارج، فهو حق بين، وسيظهر تأثيره الواقعي في إبطال سحركم ومحقه، فتنكشف حقيقة ما جئتم به من السحر، بأنه باطل وليس حقاً، وسيعلم الناس بطلانه وتنكشف حقيقة ما جئت به من المعجزات الإلهية بأنها حق، وسيعلم الناس حقانيتها، وسيفتضح أمركم وأمر من يقف وراءكم، فرعون وملؤه المستكبرون، ويفشل كيدكم وستُغلَبون حتماً، ويحبط عملكم على يد القدرة الإلهية المطلقة، لا شك في ذلك ولا ريب ولا تردد. أي: لأن ما جئتم به باطل وما جئت به حق، فإن الله (عز وجل) وهو الحق المطلق، وقد جرت سنته على إحقاق الحق وإبطال الباطل، سيظهر حقيقة ما جئتم به من الباطل بحقيقة ما جئت به من الآيات الإلهية والمعجزات الربانية القاهرة، وذلك للأسباب التالية:

أ.   لأن الله ذا الجلال والإكرام بما هو حق مطلق وعدل وحكيم سبحانه وتعالى، فهو لا يصلح عمل المفسدين في الأرض ومنه السحر، قوله تعالى: <إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِين>[6] بل يمحقه ويكشف زيفه وبطلانه للخلق، تكويناً بترتيب آثاره المناسبة له المختصة به وفق السنن الإلهية الكونية والتاريخية، وبالدليل والبرهان، ويثبت الحق ويكشف حقانيته للناس تكويناً بترتيب آثاره ونتائجه المناسبة له المختصة به وفق السنن الإلهية الكونية والتاريخية، وبالدليل والبرهان الواضح القاطع؛ لأن أثر العمل الصالح يناسب ويلائم الحقائق الكونية والسنن الإلهية الكونية والتاريخية، ويمتزج بها ويخالطها فيما تقتضيه بطباعها وتجري عليه بجبلتها، فيصلحه الله (عز وجل) ويجريه على ما كان من طباعه، وأثر العمل الفاسد لا يناسب ولا يلائم الحقائق الكونية والسنن الإلهية الكونية والتاريخية.

فهو أمر استثنائي في نفسه غريب عن نظام الوجود ومضاد له، فتعارضه جميع الأسباب والحقائق الكونية والسنن الإلهية بما لها من القوى والوسائل المؤثرة؛ لتعيده إلى السيرة الصالحة إن أمكن وإلا أبطلته وأفنته ومحقته عن صفحة الوجود. ولو أصلحه الله سبحانه وتعالى وهو فساد، لكان في ذلك إفساد للنظام الكوني، قول الله تعالى: <وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ>[7]، وهذا محال على الله العزيز الحكيم سبحانه وتعالى.

وعليه: فإن قضاء الله (عز وجل) ماضٍ وسنته جارية في أن يضرب الحق والباطل في نظام الكون، فلا يلبث الباطل دون أن يتضاءل تدريجياً مع مرور الوقت حتى يضمحل ويزول ويفنى ويعفى أثره، ويبقى الحق على جلائه ووضوحه، بعد إزالة الأستار والحجب عنه، قول الله تعالى: <كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الحق وَالْبَاطِلَ فَأَما الزبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَما مَا يَنْفَعُ الناسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرض كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ>[8]، أي: ضرب الله تبارك وتعالى في هذه الآية الشريفة المباركة مثالين، مثال للباطن في زواله ومفاسده، ومثال للحق في ثباته وصلاحه. أما الباطل فهو كالزبد الذي يعلو فوق ماء السيل أو الذي يعلو فوق ما توقد عليه النار من المعادن، ولا فائدة فيه، وهو يذهب ويضمحل غير مكترث به لعدم فائدته، وأما الحق فهو كالماء الصافي النقي المفيد، الذي يبقى وتظهر آثاره وفائدته في الزرع والعيون والآبار ونحوها، وكالمعادن، مثل: الحديد والنحاس والذهب والفضة، فإنها تبقى بعد أن توقد عليها النار، وتظهر آثارها وفوائدها في المصنوعات المعدنية المختلفة، والحلي وأدوات الزينة ونحوهما.

كذلك يضرب الله سبحانه وتعالى الأمثال ليبين للناس أن الشبهات والوساوس والأباطيل والخرافات والخيالات قد تظهر في النفوس، وتنتشر في المجتمعات وتقوى وتعظم، إلا أنها في الآخر تبطل وتضمحل تحت ضربات الحق بسياط العقل والأدلة والبرهان، ويبقى الحق ظاهراً لا يشوبه شيء من الشبهات ونحوها.

والخلاصة: إن الحق يمحق الباطل ويقضي عليه، وخلاف ذلك إبطال للنظام الكوني ومناقض للحكمة. وعليه: فالغلبة العقلية البرهانية ستكون دائماً للحق بما هو حق على الباطل بما هو باطل، وعلى أرض الواقع ستكون للحق جولة وللباطل جولة بحسب موازين القوى والأخذ بالأسباب، وفي نهاية المطاف ستكون الغلبة المطلقة لأهل الحق على أهل الباطل، فالسنة الإلهية جارية على أن يضرب الله (عز وجل) الباطل بالحق فتكون للحق الغلبة دائماً على الباطل بالبرهان، وتكون على أرض الواقع لأهل الحق جولة، ولأهل الباطل جولة، ثم لا يلبث الباطل أن يفنى ويعفى أثره ويذهب أهله، ويبقى الحق على جلائه ويظهر أهله ويملكون، قول الله تعالى: <إِن الأرض لِلهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتقِين>[9]، وقول الله تعالى: <فَاصْبِرْ ۖ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ>[10]، وذلك بما لا يخل بحكمة التكليف القائمة على الإقناع المستند إلى الدليل والبرهان وحرية الاختيار، قول الله تعالى: <لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ 3 إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ>[11] أي: لم نشأ ذلك للإبقاء على حرية الاختيار؛ ليكون المكلف مستحقاً بحق وحقيقة للثواب والعقاب.

والمفسد يضاد الله سبحانه وتعالى؛ لأن المفسد بما هو فاسد يتحرى الباطل والتضليل والخداع والشر والفساد في جميعأقواله وأفعاله، بينما يتحرى الله بما هو حق مطلق الحق والصدق والخير والصلاح في جميع أقواله وأفعاله؛ ولأن الصلاح والفساد شأنان متقابلان، فلا يصح بحكم العقل أن يصلح الله سبحانه وتعالى عمل المفسدين، وهو الحكيم العليم القادر على إبطال الباطل وعدم إنقاذه، بل يجب بحكم العقل والمنطق أن يقر ويثبت وينفذ ما هو صالح، ويمحق ويفضح ما هو فاسد، من حيث أنه يلائم وينسجم مع الحقائق الكونية والسنن الإلهية الكونية والتاريخية، ومع طباع الإنسان الفطرية السليمة وغاية وجوده.

وبهذا يثبت ضلال القول: بأن كل الأيديولوجيات تسبب خطراً على الإنسان؛ لأنها سبب انقسامه إلى فرق ومذاهب، والإنسان الواعي هو القادر على أن يكون مستوعباً لها جميعاً في وعاء واحد، فهو قول شاعري، ولكنه مخالف للحقائق والمنطق.

والآية موضوع البحث من سورة يونس تدل على أن السحرة بما هم سحرة مفسدون في الأرض؛ لأن قصدهم تضليل عقول الناس وإبعادهم عن الحقيقة وفصلهم عن الواقع، ليكونوا مسخرين لهم ولا يهتدون إلى صلاح أنفسهم؛ ولأن نتائج السحر في المجتمعات هو الفساد في الفكر والعقيدة والأخلاق والسلوك والأحوال والأوضاع الخاصة والعامة، ومما يؤسف له فإننا نجد المجتمعات الحديثة المتحضرة التي يفترض فيها التقدم العلمي والحضاري وأنها تقدس العلم والمنطق نجدها تروّج للسحر وتضع له البرامج التلفزيونية الكبيرة ونحوها وتصرف عليها ملايين الدولارات بينما هو يؤدي إلى الفساد والخرافات.

ب. أن الله سبحانه وتعالى بما هو حق مطلق وعدل حكيم رؤوف رحيم بعباده فإنه يحق الحق بكلماته، الآيات الساطعات والبينات الواضحات والمعجزات النيرات الباهرات والبراهين القاطعة، وذلك رغم أنف المجرمين الذين يحاربون الله (عز وجل) ورسله (عليهم السلام) وأولياءه الصالحين، ويكذبون بآيات الله سبحانه وتعالى وبيناته، ولا تنفع معهم حجة ولا برهان ولا موعظة بالغة ولا نصيحة صادقة، قول الله تعالى: <وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ>[12] أي: لأن السحر باطل في نفسه، وأنتم أيها السحرة تريدون بسحركم أن تخدموا النظام الفرعوني الفاسد وتقديم الدعم والمساندة لحكومته الظالمة المستبدة التي تعمل على نشر الفساد في الأرض. أي: أن سحركم من الناحية العملية يصب في مصلحة الظلم والجور والفساد، فأنتم قوم مجرمون مفسدون، فلابد أن يمحق الله (عز وجل) ما جئتم به من السحر؛ لأنه باطل وفساد، بحيث يعلم الناس جميعاً بطلانه وفساده في نفسه بالدليل والبرهان العقلي الناهض، ثم لا يسمح له بالتمكن والتجذر في الأرض من خلال السنن الإلهية الحاكمة في الكون والتاريخ؛ لأن الله سبحانه وتعالى يبطل الباطل، وأن الله سبحانه وتعالى سوف يحق ما جئتكم به من حق الإعجاز، بحيث يعلم الناس جميعاً حقانيته في نفسه بالدليل والبرهان العقلي الصحيح الناهض، ويمكّن له في الأرض بظهور الإيمان وانتشاره وتملك المؤمنين من خلال السنن الإلهية الحاكمة في الكون والتاريخ؛ لأن الله سبحانه وتعالى يحق الحق بكلماته ولو كره المجرمون، <لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ۗ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ>[13] وهذه حتمية تاريخية ضرورية الحدوث والوقوع، لا تستطيع جيوش المجرمين المعاندين الضالين الخائنين للحقيقة ولأمانة العقل والمنطق، الكارهين لظهور الحق والعدل بين الناس، والمتشوقين لظهور الباطل، من الطواغيت الضالين والفراعنة المتجبرين والحكام المستبدين الظالمين المتغطرسين والمترفين المستغلين وأنصارهم وأعوانهم الفاسدين المارقين الانتهازيين الأنانيين والنفعيين الوقحين ونحوهم، ولا وسائل إعلامهم الضالة المضلة العابرة للقارات، وما يمارسونه من الكيد والمكر السيء والعنف والإرهاب وشراء الضمائر ونحو ذلك من الأعمال القبيحة أن تعطل المشيئة الإلهية وأن تمنع حدوث ووقوع تلك الحتمية التاريخية؛ لأنها متناغمة مع الحقائق الكونية والسنن الإلهية الكونية والتاريخية، وتقف وراءها القوة الإلهية المطلقة واللطف الإلهي في التدبير، ومدعومة بقوة العقل والمنطق وميول الطبع والفطرة السليمة، ومنع حدوثها يعني تعطيل المشيئة الإلهية المطلقة النافذة في كل شيء والغالبة على كل إرادة ومشيئة بشرية وغير بشرية، وتعطل عمل السنن الإلهية والحقائق الكونية، وهو مستحيل بحكم العقل والمنطق السليم.

وعليه: ينبغي أن يكون المؤمنون الصالحون المجاهدون على ثقة تامة بربهم ودينهم الحق، فيؤدوا ما عليهم من التكليف، مثل: حسن التخطيط والتدبير، ووضع البرامج الواقعية الفاعلة، والصبر، والثبات، والتحمل، والعمل الدؤوب، والأخذ بزمام المبادرة، وتدارك الأخطاء، وعدم السماح بضياع الفرص والمناسبات المؤاتية، والتحلي بالشجاعة التي تلامس ما يملكون من الإمكانيات المادية، والبشرية والمعنوية ولا تقصر عنها، وبذل التضحيات اللازمة، والتسليم لأمر الله سبحانه وتعالى والثقة به والتوكل عليه، وتجميع المكتسبات، ومراكمة النتائج الإيجابية، ويكونوا على يقين تام، بأن عمل الطواغيت والفراعنة والحكام المستبدين والمترفين وأنصارهم وأعوانهم سيبطله الله (عز وجل) ويضمحل ويزول ويعفى آثاره لا محالة، وينصرهم الله (عز وجل) عليهم عاجلاً أو آجلاً، فإن انتصروا فإلى حين، ولن يدوم انتصارهم، وستلحق بهم الهزيمة والخزي والعار إلى أبد الآبدين.

وفي المقابل فإن عمل المؤمنين المجاهدين الصابرين المضحين الذين يريدون بعملهم وجه الله سبحانه وتعالى ورضوانه، فإنه مبارك فيه من الله تبارك وتعالى، وينسجم مع الحقائق الكونية والسنن الإلهية ومدعوم بالإرادة الربانية المطلقة، ونافع للبشرية في دنياها وآخرتها، فلا بد أن يصلح الله (عز وجل) شأنهم، ويظهرهم على أعدائهم، ويصلوا إلى مبتغاهم ومقاصدهم.

ملاحظة: إن النقطة «أ» تمثل جانب النفي في المعادلة، قوله تعالى: <إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ>[14] والنقطة «ب» تمثل جانب الإثبات في المعادلة، قوله تعالى: <وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ>[15]، وقد جمع الله تبارك وتعالى بين النفي والإثبات، قوله تعالى: <لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ>[16] فهما طرفين في معادلة واحدة.

وهنا ينبغي التمييز كما سبقت الإشارة بين الحق في نفسه وبين أهل الحق من المؤمنين. أما الحق فإن ظهوره في نفسه وملازم له في كل وقت كالنور الساطع، يبدد الظلام دائماً وأبداً وفي جميع الأحوال، وهذا يدل على علو شأنه وعظيم برهانه، وأما أهل الحق من المؤمنين، فإن ظهورهم يتوقف على مدى استقامتهم على الدين الحق والصراط المستقيم واهتدائهم بهديه واستنارتهم بنوره في مصالح الدين والدنيا، وأخذهم بالأسباب المادية، مثل: إعداد القوة وحسن التخطيط والعمل الدؤوب ونحو ذلك، والمعنوية، مثل: الصدق والإخلاص وعدم قصد العلو والفساد في الأرض ونحو ذلك، فإن استقاموا على الحق وأخذوا بالأسباب ظهروا وملكوا، وإذا فرطوا في الحق وقصروا وأهملوا وضيعوا لم ينفعهم مجرد الإيمان والانتساب إلى الدين الحق؛ لتحقيق الظفر والانتصار، وصار إهمالهم وتضييعهم سبباً لتسلط الأعداء عليهم، وهذا ما ثبت بالتجربة التاريخية والمعاصرة.

وقيل: المراد من الكلمات في قوله: <وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ>[17] ما اشتملت عليه الكتب السماوية من الآيات البينات والحجج والأدلة والبراهين القاطعة.

وقيل: المراد منها الأقضية الإلهية في شؤون الأشياء الكونية الجارية على الحق والأمر الإلهي التكويني بالإيجاد، مثل: أمره العصا بأن تكون حية تلقف ما يأفكون من السحر الذي حول الحبال والعصي في الظاهر وليس في الحقيقة إلى حيات وثعابين تسعى ونحو ذلك، وهي استعارة رشيقة؛ لأن الإيجاد يدل على إرادة الموجد كما يدل على إرادة المتكلم.

وقيل: المراد منها ما وعد الله (عز وجل) به عبده ووليه ورسوله الكريم موسى الكليم (عليه السلام) من النصر والظهور على الأعداء.

وقيل: غير ذلك.

ولا مانع من ناحية المعنى والمفهوم العام من الجمع بين جميع الأقوال، المعجزات، وما اشتملت عليه الكتب السماوية المنزلة، والأمر التكويني والوعد الإلهي بالنصر. ولكن المناسب في مكان البحث وموضوعه هو الأمر التكويني، واللفظ يدل على نفاذ القدرة الإلهية الجارية في التدبير مجرى الحكمة البالغة وغلبتها على أرض الفعل والواقع على كل قدرة وكل إرادة وكل تدبير.

وإن إيمان السحرة وإذعانهم للحقيقة حين تبينت لهم، ثم ثباتهم على إيمانهم رغم كل التهديدات التي توعدهم بها فرعون الطاغية المتجبر من الصلب وتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف ونحو ذلك، واستمرارهم في إرادة الثبات والصمود إلى درجة الشهادة وتقبلها بنفوس راضية مطمئنة، لهو أول انتصار عظيم وجلي لموسى الكليم (عليه السلام) على فرعون وملئه الذين أصيبوا بالصدمة والذعر وخيبة الأمل والخسران، فراحوا يتصرفون بعصبية وعدوانية، ويطلقون الوعيد والتهديدات جزافاً وبغير حساب.

ومن المسلم به أن التمهيد النفسي والفكري الذي قام به موسى الكليم (عليه السلام) بين يدي المبارزة في الميدان، كان له الأثر الكبير في إِحداث هذه النتيجة العظيمة والانتصار الكبير، مما يشير إلى أهمية البيان للحقائق من حيث التوقيت والأسلوب في قبول الدعوة أو الفكرة، وحسم النتائج في الحوارت والمفاوضات.


المصادر والمراجع

  • [1]. طه: 57-58
  • [2]. يونس: 79
  • [3]. يونس: 80
  • [4]. محمد: 2-3
  • [5]. يونس: 81
  • [6]. نفس المصدر
  • [7]. المؤمنون: 71
  • [8]. الرعد: 17
  • [9]. الأعراف: 128
  • [10].هود: 49
  • [11]. الشعراء: 3-4
  • [12]. يونس: 82
  • [13]. الأنفال: 42
  • [14]. يونس: 81
  • [15]. يونس: 82
  • [16]. الأنفال: 8
  • [17]. يونس: 82
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك - الجزء الأول | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟