مواضيع

جوانب مشرقة من فلسفة التاريخ

بعد أن بيّن موسى الكليم (عليه السلام) لقومه المستضعفين من بني إسرائيل استراتيجية المقاومة للتهديدات الجديدة القديمة التي قصدهم وتوعدهم بها فرعون الطاغية وقومه المتواطئون معه على الظلم والفساد والراضين بما توعّد به فرعون بني إسرائيل من الاجراءات الأمنية القاسية الجائرة، بيّن موسى الكليم (عليه السلام) لقومه بعض الجوانب الرئيسية ذات الصلة بالموضوع من فلسفة التاريخ، كإضاءةِ وعي وهداية، ولشدّ أزرهم وتسلية قلوبهم وتعزيتهم بالرجاء وتقوية عزمهم وإرادتهم على المقاومة والثبات والصمود أمام المخططات الفرعونية القمعية والإرهابية، والجوانب هي:

1. قوله: <الْأَرْضَ لِلَّهِ>[1] أي: أنّ الله  (جل جلاله) هو الذي خلق الأرض وكوّنها بجميع ما فيها من الكنوز والخصائص وما تدّخره في جوفها وما تخرجه على سطحها وخلق الفضاء المحيط بها والسماء التي فوقها وهو المدبّر لجميع شؤونها وأحوالها، وهو المالك المطلق لها، فهي ليست لفرعون ولا لقومه حتى يملكوها ويتحكموا فيها كما يشاؤون فيمنحوها من يشاؤون ويمنعون التمتع بها من يشاؤون. وأنّ الله (عز وجل) هو المدبر للمسيرة التاريخية للإنسان على وجه الأرض، وهي خاضعة لإرادته ومشيئته وسلطانه، كما هو عالم الطبيعة، وأنه يدبرهما -المسيرة التاريخية وعالم الطبيعة – بمقتصى الحكمة الإلهية البالغة والرحمة الإلهية الواسعة، وأنّ جميع الحوادث والظواهر في عالم الطبيعة وفي المسيرة التاريخية، تجري وفق السنن أو القوانين الإلهية الحاكمة لها.

2. قوله: <يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ>[2] أي: أنّ الله (عز وجل) يداول السيطرة على الأرض كلها أو في بقعة من بقاعها بين الناس وينقلها بينهم نقل المواريث، وفق مقتضيات حكمته ومشيئته وما تجري عليه السنن التاريخية، وأنّ الله تبارك وتعالى مع المتقين، وقد جرت سنته التي لا تبديل لها على أن يخصّ المتمسكين بالتقوى من عباده بحسن العاقبة والنهاية المحمودة في الدارين الدنيا والآخرة، وفي العبارة وعد من موسى الكليم (عليه السلام) لبني إسرائيل بالنصرة من الله (عز وجل) والنصر على الأعداء، وتذكير لهم بما وعدهم الله (عز وجل) من إهلاك فرعون وجنوده وتوريثهم الأرض والسلطة والثروة، وحثٌ لهم على التقوى، والمعنى إن استعنتم بالله سبحانه وتعالى وصبرتم في ذات الله على ما يهددكم به فرعون من الشدائد والمصائب والمحن، واتقيتم الله سبحانه وتعالى وأطعتموه فيما يأمركم به وينهاكم عنه وأدّيتم ما عليكم من التكاليف الشرعيّة وعملتم ما يجب عليكم عمله، ضمنتم حسن العاقبة والنهاية المحمودة في الدارين الدنيا والآخرة، وأن يورثكم الأرض التي ترونها في أيدي آل فرعون، مصر والشام، التي تتصف بالخصب وكثرة المياه والثروة العظيمة الطائلة، كما أورثها فرعون وقومه من قبل، كما أنكم تساهمون بذلك في التمهيد والإعداد لإقامة دولة العدل الإلهي العالميّة التي وعد الله (عز وجل) بها عباده المؤمنين المستضعفين في نهاية المطاف للمسيرة التاريخية التكامليّة، وهو وعد إلهي أنجزه الله (عز وجل) لبني إسرائيل في الوقت الذي أراده حين توفرت الشروط بمقتضى حكمته البالغة ومشيئته النافدة في خلقه.

وأيضاً فإنه وفق السنن الإلهية الحاكمة للمسيرة التاريخية، فإن الله (عز وجل) سيورث الأرض بشكل كامل لمن يشاء من عباده المتقين في نهاية المسيرة التاريخية التكاملية للإنسان على وجه الأرض، فقد قضى قضاءً حتمياً لازماً وضرورياً، بأنّ العاقبة الحسنة والنهاية المحمودة بالسيطرة التامة الكاملة على الأرض، سوف تكون لعباده المؤمنين الصالحين المتقين، بأن يقيموا دولة العدل الإلهي العالمية على الأرض في نهاية المسيرة التاريخية التكاملية للإنسان على وجه الأرض، وذلك بعد طول الاستضعاف والابتلاء، يقول العلامة الطباطبائي: «وكون العاقبة مطلقاً للمتقين من جهة أن السنة الإلهية تقضي بذلك، وذلك أنه تعالى نظم الكون نظماً يؤدي كل نوع إلى غاية وجوده وسعادته التي خلق لأجلها، فإن جرى على صراطه الذي رتب عليه، ولم يخرج عن خط مسيره الذي خطّ له، بلغ غاية سعادته لا محالة. والإنسان الذي هو أحد هذه الأنواع، أيضاً حاله هذا الحال، إن جرى على صراطه الذي رسمته له الفطرة واتقى الخروج عنه والتعدي منه إلى غير سبيل الله بالكفر بآياته والإفساد في أرضه، هداه الله إلى عاقبته الحسنة وأحياه الحياة الطيبة، وأرشده إلى كل خير يبتغيه»[3]، وفي الحديث الشريف عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «وجدنا في كتاب علي (عليه السلام): <إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ>[4] وأنا وأهل بيتي الذين أورثنا الله الأرض ونحن المتقون والأرض كلها لنا»[5] وفي العبارة أمر لبني إسرائيل بالتقوى .

وما سبق يفيد أموراً عديدة، منها:

أ.   وجوب وضرورة أن يدافع المؤمنون الصالحون عن أنفسهم وحقوقهم ومصالحهم، وأن يدفعوا عن أنفسهم الظلم والجور والطغيان، ويرفضوا كلّ صنوف الإذلال والإهانة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، لا أن يستسلموا ويخضعوا لحكم الأمر الواقع المفروض عليهم رغماً عنهم وبغير رضاهم، ويصابوا بالخيبة والخنوع واليأس، فإنه ليس من صفات المؤمنين الصادقين وليس من أخلاقهم الحميدة ونقيض لوازم العقيدة الإسلامية الصحيحة والشرع الحنيف، ومخالفٌ لمقتضى السنن الإلهية الحاكمة على المسيرة التاريخية التكاملية للإنسان، التي تشير إلى أن موازين القوى غير ثابتة، وأنها في تغير مستمر تبعاً للظروف والعمل وفق السنن التاريخية في تحصيل القوة والانتصار على كافة الأصعدة، فالقوي يتحول إلى ضعيف والضعيف إلى قوي، والمنتصر يتحول إلى مهزوم والمهزوم إلى منتصر، والحاكم يتحول إلى محكوم والمحكوم إلى حاكم، والمتقدم يتحول إلى متخلف والمتخلف إلى متقدم، ونحو ذلك، قول الله تعالى: <وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ 139 إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ 140 وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ>[6] أي: ثقوا أيها المسلمون بالله سبحانه وتعالى وبدينكم الإلهي الحنيف وبأنفسكم، وامضوا على عزيمة الإيمان بالنصر والغلبة وتصلبوا على نضال عدوكم ومقاومته، ولا تستكينوا لعدوكم وتخضعوا له وتضعفوا عن قتاله ومقاومته، ولا تحزنوا لما يصيبكم من الأذى وما فاتكم من الدنيا وما تمنون به من الهزيمة أو تقدمونه من الخسائر والتضحيات والشهداء، فهذه سنة الحياة، مرة تنتصرون ومرة تهزمون، تقدمون التضحيات والقرابين من أجل دينكم ووطنكم ونيل آخرتكم وكرامتكم وحقوقكم الطبيعية والمكتسبة التي ينبغي عليكم صيانتها والمحافظة عليها، ولا يليق بكم الضعف والحزن، وهما يزيدان في مصيبتكم ويعينان عليكم عدوكم، فإنكم الأعلون والفائزون ولكم وراثة الأرض، بما أنتم مؤمنون حقاً وصدقاً وعاملين بمقتضى الإيمان الحقيقي وخاضعين للقيادة الشرعيّة المؤهلة والأمينة على دينكم ومصالحكم ومتبعين لها، فالإيمان يلازم علاءكم؛ لأن فيه التقوى والصبر والثقة بالله (عز وجل) وقلة المبالاة بأعداء الله سبحانه وتعالى، وهي ملاك الفتح والظفر والغلبة على الأعداء. وإن نال منكم العدو ونزلت بكم الشدائد والمصائب والمحن والنكبات فهذه طبيعة الحياة الدنيا وسنتها، وقد نلتم من العدو ونزل به مثلما نزل بكم، وتختلفون عنهم، أنكم ترجون من الله تبارك وتعالى ما لا يرجون. وقد جرت السنة الإلهية على تغير ميزان القوى ومداولة أيام الظفر والغلبة بين الأمم والشعوب والجماعات، فتارة تكون القوة والغلبة لهؤلاء وتارة لأولئك دون توقفها أو جمودها أو ثباتها على حال لصالح قوم دون الآخرين، وهذا التداول والتغير المستمر في ميزان القوى هو لمصالح عامة، ومما يبتلي الله (عز وجل) به المؤمنين وليمحصهم ليعلم الصادقين الثابتين على الإيمان بصبرهم وجهادهم في سبيل الله (عز وجل) وأعمالهم الصالحة، ويميزهم من المنافقين الكاذبين ويخلصهم من الشوائب، ويتخد منكم أئمة وقادة جديرين بما تسند إليهم من واجبات ومهمات، وهو السبيل الذي يسير فيه الكفر تدريجياً نحو التقلص والانكماش، حتى ينتهي الأمر في خاتمة المطاف إلى محق الكافرين واستئصالهم بهلاكهم ومحو آثارهم تماماً، وعليه: فإنّ الضعف والركون إلى الأعداء والظالمين والخضوع لإرادتهم، مخالف لمقتضى المنطق والفطرة والعقيدة الصحيحة والشرع الحنيف والخلق الحميد والسنن التاريخية وغاية خلق الإنسان وكرامته ولا يليق أبداً بالمؤمنين.

ب. أنّ التقوى والصدق والإخلاص عوامل مهمة وفعالة في تحقيق الحتمية التاريخية الموعودة للمؤمنين المستضعفين في الأرض، وذلك لأن التقوى والصدق والإخلاص موافقة للعقل والمنطق والفطرة والطبع الإنساني السليم وللسنن الإلهية الكونية والتاريخية، وأنها من دواعي الحق والعدل والخير والفضيلة والحرية والعزة والكرامة والصلاح والإصلاح والمقاومة والجهاد في سبيل الله (عز وجل) والبعد عن الباطل والظلم والشر والرذيلة والفساد والتخلف والتحلل والإنحطاط والضعف أمام الأعداء واليأس والخضوع والاستكانة والقبول بالذل والهوان والاستعباد ونحو ذلك من الرذائل والصفات القبيحة، وهي الطريق إلى الحياة الإنسانية الطيبة والسعيدة. وما سبق يمنح التقوى والصدق والإخلاص قوة ذاتية فاعلة ومؤثرة في الاستقطاب والتوجيه، وهي صفات لا يمكن تحصيلها بدون المراقبة والمحاسبة والتدريب عليها «التربية» والصبر أمام الشهوات الحيوانية والملذّات الحسيّة وبهارج العالم المادي ومقاومة الأهواء الشيطانية.

ج. أنّ الحتمية التاريخية لا تأتي دفعة واحدة وبدون مقدمات وتراكم المكتسبات، بل تأتي كنتيجة لتراكم تدريجي لنتائج النضالات في التاريخ الطويل، وفي بقاع جغرافيّة عديدة، تتداول فيها الانتصارات مع الهزائم على المؤمنين، ويقدموا فيها الشهداء والتضحيات الجسمية، مثل: السجن والتعذيب والنفي والمطاردة والضيق في المعيشة والجروح ونحو ذلك، إذ يتوجه المؤمنون الصالحون طوال التاريخ وفي بقاع الأرض المختلفة لتوفير عوامل البقاء والإستمرار والصلاح لدينهم وأنفسهم، والحصول على الانتصار والغلبة على عدوهم، وتتراكم نتائج نضالاتهم حتى تنتهي المسيرة التاريخية التكاملية للإنسان إلى هذه الحتمية التاريخية العظيمة، وهي: تلاشي الكفر وهلاك الكافرين، وظهور الإيمان الحق ووراثة المؤمنين لكل الأرض والسيطرة عليها بشكل كامل وإقامة دولة العدل الإلهي العالمية، وعليه: فكل مقاومة للظلم والجور والطغيان يقوم بها المؤمنون الصالحون والمناضلون الشرفاء، في كل بقعة من بقاع الأرض وفي كل حقبة من حقب التاريخ، تعدّ مساهمة إيجابية مباركة في الإعداد للظهور المبارك لصاحب العصر والزمان (عجل الله فرجه الشريف) والوصول إلى هذه الحتمية التاريخية في نهاية المسيرة التاريخية التكاملية للإنسان، التي هي قضاء إلهي حتمي وضروري ولازم، قول الله تعالى: <وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ>[7].

الجدير بالذكر والتنبيه: أن الحتمية التاريخية لاتعني أبداً إلغاء أو تعطيل القوانين أو السنن الحاكمة للظواهر الاجتماعية والتاريخية أو تعطيل لإرادة الإنسان واختياره، وتعليقها على الإرادة الإلهية بشكل مجرد ومستقل عن السنن التاريخية وإرادة الإنسان، وإنما تعني أنّ الظواهر الاجتماعية والتاريخية التي تصدر من إرادة الإنسان واختياره، تخضع لقوانين تعرف بالسنن التاريخية، مثلها في ذلك مثل الظواهر الطبيعية قاطبة التي تخضع تماماً للقوانين الطبيعية، وأن الظواهر الاجتماعية والتاريخية مثل الظواهر الطبيعية مقيدة بشروط توجب حدوثها إضطراراً وفق السنن «القوانين» الحاكمة عليها، أي: أنها تجري وفق نظام كلي دائم، وأنها مشروطة بما يتقدمها أو يصحبها من الظواهر والممارسات، فكل ظاهرة مرتبطة ومتعلقة بغيرها من الظواهر ارتباطاً محكماً، ويلاحظ هنا أمور عديدة، منها:

أ.   أنّ هذه السنن لا تشذّ عن إرادة الله (عز وجل) ومشيئته، وإنما تنتهي إليه وتخضع لإرادته وسلطانه ومشيئته، وأن مفاعيلها موافقة لحكمته البالغة، وتوصل الكائنات إلى غاية وجودها، فإن الوجود الكامل المطبق لواجب الوجود سبحانه وتعالى يقتضي أن يوجد من الممكنات كماً ونوعاً في عالم الإمكان كل ما كان وجوده موافق للمطلق من الحكمة والرحمة والقدرة ونحوها، على إنّ من مقتضيات الحكمة أيضاً الوجود التدريجي للممكنات حتى يبلغ عالم الإمكان ذروته وغاية كماله المقدّر له، وهو في المسيرة التاريخية خاتمتها، وفي عالم الدنيا نهايتها، وفي الدورة الكاملة للوجود الممكن عالم الآخرة.

ب. أنّ هذه السنن لا تقيّد إرادة الله سبحانه وتعالى وقدرته، فإرادته وقدرته فوق كل شيء وتعملان في كل شيء، وإنّ وسائل الخلق وطرقه متعددة، مثل: خلق آدم وحواء (عليهما السلام) من تراب وخلق سائر الناس من النطفة بواسطة التزاوج وخلق عيسى بن مريم (عليه السلام) من غير أب، وأخرج ناقة صالح (عليه السلام) وفصيلها من الجبل، وحوّل عصا موسى الكليم (عليه السلام) إلى ثعبان عظيم، وردّ البصر ليعقوب «إسرائيل» بواسطة قميص ابنه يوسف (عليه السلام) وأعطى عيسى بن مريم (عليه السلام) القدرة على إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى وأن يصنع من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله (عز وجل)، ومكّن آصف بن برخيا من نقل عرش الملكة بلقيس من صنعاء باليمن إلى القدس في فلسطين في أقل من لمح البصر، ونحو ذلك، على خلاف عقيدة اليهود الذين قالوا: أن الله سبحانه وتعالى قد عيّن كل شيء منذ بدء الخليقة، وأن كل ما يجب أن يحصل قد حصل، وأنّ الله سبحانه وتعالى لا يستطيع من الناحية العملية فعل شيء أمام هذا الواقع، وبحسب لسان الرواية: «فرغ من الأمر ليس يحدث شيئاً» تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، قول الله تعالى: <وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ>[8] أي: من مصاديق قولهم: أنهم يعتقدون عدم جواز النسخ في الشريعة ليثبتوا أن التوراة لا تقبل النسخ وأن دينهم لايقبل التبديل، وعدم جواز البداء والخروج عن النظام في التكوين ليثبتوا أن لهم التقدم والسلطة على الأمم الأخرى وأنّ هذه الحالة الحضارية والتاريخية لاتقبل التغيير والتبديل وعبّروا عن ذلك، بقولهم: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ)[9] أي: مقيدة فهو مسلوب القدرة والإرادة على إحداث التغيير في النظام الكوني والمسيرة التاريخية للإنسان على وجه الأرض، فدعا الله  (جل جلاله) عليهم، بقوله: <غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا>[10] أي قيّدت أيديهم، كناية عن عجزهم عما يريدون وما يمكرونه للحق وأهله، فلم ينالوا ما قصدوه ولم يدركوا ما أملوه وضربت عليهم الذلة والمسكنة، وكناية عن نقصانهم وعدم كمالهم لعظيم وقاحتهم وجرأتهم منقطعة النظير على الله سبحانه وتعالى، وأبعدوا عن رحمة الله تبارك وتعالى وعذّبوا ولعنوا في الدنيا والآخرة بما قالوا، فإنّ جرمهم عظيم وبهتانهم كبير، يقول الشيخ محمد جواد مغنية: «ليس هذا دعاء على اليهود، بل إخباراً من الله سبحانه بأنهم في آخر الزمان سيكونون أذلاّء ملعونين مخذولين بشهادة التوراة فقد جاء في سفر التثنية الأصحاح «28» الفقرة «15» وما بعدها: إنّ الربّ خاطب الشعب اليهودي بقوله: إن لم تسمع لصوت الرب إلهك …. يرسل الرب عليك اللعن والاضطراب والزجر في كل ما تمتد إليه يدك لتعمله حتى تهلك وتفنى سريعاً من أجل سوء أفعالك»[11] ويردّ الله سبحانه وتعالى على اليهود بقوله: <بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ>[12] أي: له غاية القدرة والإرادة التامة في خلقه، يقدم ويؤخر، ويزيد وينقص، وينوع في طرق ووسائل الخلق والتدبير، وله البداء والمشيئة في الخلق، فلا إجبار في عمل الله (عز وجل)، فليس محكوماً بالجبر الطبيعي، ولا بالجبر التاريخي، وإرادته فوق كل شيء وتعمل في كل شيء، ويبطش البطشة الكبرى بكل من يجرؤ على قدسه وكبريائه، ويفعل ما يشاء كيف يشاء متى يشاء وأين يشاء بإيجاد الأسباب الموجبة لما يشاء على ما تقتضيه حكمته البالغة ومشيئته النافذة، فلا حجر عليه ولا مانع يمنعه مما يشاء ومما يريد، وصيغة التثنية في اليدين «يداه» ليكون الإنكار لقول اليهود أبلغ، ولثبوت كمال القدرة والقيمومةِ المطلقة على الخلق أدلّ.

ج. أنّ الحتمية التاريخية لا تلغي إرادة الإنسان واختياره، وإنما تعني بأنّ الصراع بين القوى المختلفة المتنافسة والتضامن اللذان ينبعان من إرادة الإنسان واختياره، يخضعان في حدوثهما ونتائجهما للسنن التاريخية، وتشكّل نتائجهما الظواهر الاجتماعية والتاريخية في المسيرة التكاملية للإنسان على وجه الأرض، وسوف تنتهي نتائجهما بشكلٍ حتمي وضروري ولازم إلى حاكمية الدين الإلهي الحق، وأئمة الهدى الذين هم في غاية الإيمان والتقوى.


المصادر والمراجع

  • [1]. الأعراف: 128
  • [2]. نفس المصدر
  • [3]. تفسير الميزان، العلامة محمد حسين الطباطبائي، جزء 8، صفحة 212
  • [4]. الأعراف: 128
  • [5]. تفسير العياشي، جزء 2، صفحة 25
  • [6]. آل عمران: 139-141-
  • [7]. القصص: 5
  • [8]. المائدة: 64
  • [9]. نفس المصدر
  • [10]. نفس المصدر
  • [11]. تفسير المبين، محمد جواد مغنية، صفحة 149
  • [12]. المائدة: 64
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك - الجزء الأول | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟