مواضيع

الدولة الدينية والدولة المدنية

تمهيد

إنّ الحديث اليوم عن الدولة المدنية أصبح لازماً وضرورياً؛ وذلك لأنّه الخيار الذي تسعى له كثيرٌ من الشعوب وتنادي به قياداتها، وتفتخرُ بها الدول التي أسست على مبادئها وقامت على أركانها.

 فلا بد لنا أن نتعرّف أولا على حقيقة الدولة المدنية والمبادئ والأركان التي تقوم عليها، قبل أن ننادي بها ونطالب بإقامتها.

ومن ثم سنقيّمها طبقاً للرؤية الكونية التوحيدية لنرى مدى انسجامها – كأطروحة – مع المبادئ القيم والأفكار التي نؤمن بها.

لنجد في نهاية البحث أنّ أطروحة الدولة المدنية تتعارض وتتباين مع أطروحة الدولة الدينية ولا تنسجم مع الطرح التوحيدي.

أركان الدولة المدنية

إنّ الدولة المدنية كأطروحة سياسية ومشروع دولة يراد لها التحقق خارجاً تتكون من مجموعة من الأركان والمبادئ، منها:

أولاً: العلمانية، وفصل الدين عن السياسة.

ثانياً: محورية الإنسان بدلاً من محورية الله.

ثالثاً: النسبية في المعرفة وفي العمل.

وسوف نقوم بعرض هذه الأركان ونشرحها تِباعاً، ونذكر بعد ذلك المناقشات العلمية التي ترد عليها ونبيّن الأطروحة الحقّة في المقام.

ومن ثم نعقِّب بذكر أبحاث لها ربط بهذه الأطروحة، منها: التعددية والديمقراطية والحرية والليبرالية إن شاء الله تعالى.

أولاً: العلمانية

الجذور التاريخية للعلمانية

شهدت أوروبا في القرون الوسطى حقبة تعتبر من أسوء وأظلم فترة تمر على المجتمع الأوروبي، حيث كانت «الكنيسة الكاثوليكية» تحكم الناس باعتبار أنّها المخوّلة من قبل الرّب على ذلك، فكانت تحكم المجتمع الأوروبي باسم الدين ومن خلال قوانين وتعاليم الأنجيل.

وكانت «الكنيسة الكاثوليكية» ترفض أي «أطروحة علمية» تتعارض مع الأطروحات الدينية المسيحية، فنشب الخلاف أولاً بين الدين والعلم، والذي تطوّر لاحقاً بالقول بالفصل بين الدين والعلم.

وفي هذا الوقت كان التحالف بين الكنيسة وقيصر، فكانوا يحكمون العباد والبلاد بثنائية: دينية وسلطوية، وهكذا عاش الناس في الفقر والجهل وضيق الحياة.

حتّى أخذت بوادر الثورة على هذا الواقع المرير وبدأ زمن النهضة والخروج من ظلمات القرون الوسطى، فبرزت بعض الأصوات من داخل «الكنيسة الكاثوليكية» والتي تدعوا إلى «الإصلاح الدّيني»، وكان في مقدمتهم «مارتن لوثر» الذي أصرّ على التغيير وعدم قبول أطروحات «الكاثوليكية» فطرح البديل من خلال «البروتستانتية»، ومما دعى إليه: فصل الدّين عن السياسة.

فصل الدّين عن السياسة

لقد وجد بعض علماء المسيحية: أنّ الاستمرار في هيمنة المسيحية وحكومتها للمجتمع الأوروبي سوف يؤدي إلى الثورة التي ستؤدي إلى زوال المسيحية، كما سوف يزيل ملك قيصر.

فأوجدوا الحل – بتصورهم -: بأن يجعلوا دائرة «الدين» مغايرة لدائرة «السياسة»، وعندها فسوف لن يقع الصدام بين الدين والسياسة؛ لأنّ الصدام بين أمرين لا يقع إلا مع الإشتراك في محيط العمل والمسار الواحد، أمّا إذا فرضنا أنّ للدين دائرةً ومساراً يغاير ويباين دائرة ومسار السياسة، فعندها لن يقع الصّدام بينهما، وبذلك نتجنب ثورة الناس ضد الدين، فيبقى الدين محفوظاً بين الناس!

فقالوا: إنّ دائرة «الدين» هي الحياة الفردية، ودائرة «السياسة» هي الحياة الاجتماعية؛ فكل ما هو فردي فنرجع فيه إلى الدين، وكل ما يرتبط بالحياة الاجتماعية فالمرجع فيه إلى السياسية، أي نرجع إلى النّاس في تحديدها وبيان حلّ معضلاتها!

دواعي القول بالعلمانية

والمسألة المهمة التي لا بد من ذكرها وعدم الغفلة عنها: هو بيان الدّواعي التي جعلتهم ينادون بالعلمانية وفصل الدين عن السياسة.

والحاصل:

أولاً: إنّ التعاليم المسيحية، بما فيها الإنجيل الذي بين أيديهم، هي مُحرّفة غير مصونه من تلاعب البشر، فما بأيديهم ليست هي التعاليم التي نزلت من السماء على النبي عيسى (ع).

وثانياً: إنّ هذه التعاليم لا تحتوي القدر الكافي من القوانين التي تصلح لإدارة الدولة وجعل الناس يعيشون بسعادة، فكيف تحكم «الكنيسة» النّاس وهي ناقصة في القوانين؟! أو أنّ القوانين لا يمكن أن تُطبّق ولا تنسجم مع حياة الناس!!

العلمانية والديمقراطية

وبعد أن وصل أصحاب الفكر العلماني إلى القول بفصل الدين عن السياسة، وأنّ المرجعية في الأمور الاجتماعية إلى الناس لا إلى الدين، عندها تم مواجهة هذه الإشكالية وهي:

 كيف سيكون الحكم على الناس؟

هل بأن يتسلط شخصٌ قوي أو جهة قوية، فتكون «الديكتاتورية».

أو أنّ المرجع هو الناس وأصوات الناس الغالبة فتكون «الديمقراطية».

والجواب الذي قبلوه وتبنّوه أن رفضوا النظام الديكتاتوري ودافعوا وأيدّوا النظام الديمقراطي وهو يعني حاكمية الشعب في أمور حياتهم وبيان مصيرهم.

البروتستانتية الإسلامية

وبهذا المسار التاريخي الذي وقع في المجتمع الأوروبي، وبهذه الملاحظات والإشكالات الحقّة على الدين المسيحي وحاكمية «الكنيسة الكاثوليكية» والآثار الإيجابية التي ترتّبت على قيام «الكنيسة البروتستانتية» وحصول النّهضة والتقدم في المجتمع الأوروبي لأجل ذلك كله، لا بُدّ من إيجاد تجديد داخل «الإسلام» – بروتستانتية إسلامية – من أجل تقدم المجتمع الإسلامي وإخراجه من التّخلف الذي يعيش فيه!

ويضيفوا ولأجل حفظ الدين «الإسلام» في قلوب الناس لا بُدّ من عزله عن شؤون الناس ، فالدين دائرته الحياة الفردية وأمّا الحياة الاجتماعية فالدين لا دخل له فيها!

 ولأجل حفظ مكانة العلماء لا بُدّ أن لا يتدخّلوا في السياسة حتى لا يتعرّضوا للإنتقاد والتسقيط وتقل مكانتهم في قلوب الناس!

ولأنّ السياسة فيها نجاسة ومكر وخديعة فلا بُدّ أن لا يدخل العلماء فيها؛ لأنّهم يمتلكون القداسة والطهارة!

والحاصل أنّه لا بُدّ أن يتم الفصل بين ما هو مُقدّس وهو الدّين عمّا هو ليس بمقدس وهو السياسة.

نقد العلمانية

لا يمكن فصل الدين عن السياسة في الإسلام

إنّ الذي يطلّع على تعاليم الدين الإسلامي، ويمرُّ على كل تشريعاته من باب الطهارة إلى باب الحدود والديّات، ويتأمّل في تفاصيل الفروع فضلاً عن الوقوف على الأصول، فإنّه يستحيل له أن يتصور إمكانية فصل الدين عن السياسة، وكما يقول الشهيد آية الله مدرس:«ديننا عين سياستنا وسياستنا عين ديننا».

فكما أن الإسلام له قوانينه في الحياة الفردية وبيان الحلال والحرام فيها، فإنّ له قوانينه في الحياة الأسريّة والحياة الاجتماعية والحياة السياسية والاقتصادية و…إلخ، بل إنّه يُمكن القول: بأنّ الإسلام هو دين الدولة والقوانين الحياتية والاجتماعية.

والحاصل أنّه إذا أمكن تصور النقصان والقصور في تعاليم المسيحية اتجاه القوانين الاجتماعية، فهذا لايمكن تصوّره في تعاليم الإسلام لما فيها من الجامعية والشمول والخلود.

العبودية لله في كل شؤون الحياة

والقولبأن الدين هو خاص بالحياة الفردية، وأن لا مرجعية للدين في الحياة الاجتماعية، هو في معنى القول: بأنّ الإنسان يكون عبداً لله تعالى في حياته الفردية فقط، وأمّا في حياته الاجتماعية والسياسية فهو عبد هواه وعبد نفسه!

والصحيح أنّ الإنسان عبدٌ في جميع شؤون حياته، الفردية والاجتماعية، وهو مطالب بإطاعة مولاه في كل الحالات، ولا يحقّ له أن يعصيه في أيّ دائرة من دوائر الحياة، وإنّ الارتماء في «الديمقراطية» وحاكمية الشعب في شؤون الحياة، هو في الواقع من أشكال «الشرك في العبودية» الذي أفرزته هذه القرون الأخيرة.

حتى تطوّر الحال إلى إزاحة الله(عز وجل) وإحلال الإنسان محلّه، وبعد أن كان الله تعالى هو المحور في الحكم والتشريع، أصبح الإنسان هو المحور فيها!

لا تعارض بين الدين والسياسة

والإسلام لا يمكن أن نجد فيه حكماً قطعياً يتقاطع مع العقل، فلا يُمكن أن نظفر بحكمٍ ديني يخالف المسلّمات العقلية والأحكام القطعية. والدين الإسلامي يعتبر الدّين المتميز في الدعوة إلى العلم والعقل والبحث والاستكشاف و…، فهو دين الحياة الذي يشعّ بأحكامه على كل مفاصيل الحياة بما يُسعد البشرية ويوصلها إلى الكمال.

دواعي العلمانية منتفية عن الإسلام

والدواعي التي ذٌكرت للعلمانية في المحيط المسيحي من تحريف في تعاليم المسيحية، ومن نقصٍ وقصورٍ في قوانين المسيحية تجاه قوانين الحياة، أو عدم الانسجام بين الأحكام وواقع الحياة لا نجد لها واقعاً في المحيط والدين الإسلامي.

فالإسلام:

أولاً: لم يقع فيه التحريف، وقد توعد الله تعالى بحفظ القرآن وبحفظ شريعته من خلال الأئمة (عليهم السلام) والفقهاء، فالإسلام ما زال على ما كان عليه حال النزول: في أصول الاعتقاد وضروريات الأحكام وأساسيات مسائل الحلال والحرام، والاختلاف الاجتهادي في بعض الفروع والمسائل لا يضرُّ به ولا يجعله ديناً مُحرّفاً.

ثانياً: إنّ الإسلام واسعٌ في تشريعاته عامٌ شاملٌ في قوانينه، وهو له حكم في كل واقعة من وقائع الحياة، فلا نقص ولا قصور في أحكام الإسلام حتى يُبحث عن البديل.

ثالثاً: إنّ الإسلام يعتبر دين الفطرة، فكلُّ أحكامه تنسجم مع العقل والفطرة، وكل تشريعاته تتلاءم مع واقع الحياة؛ فالذي خلق الإنسان وخلق الكون وأوجد العلاقة بينهما هو نفسه الذي أنزل القوانين والتشريعات وهو الله تعالى، فكيف لا يكون هناك تناغم وانسجام بين عالم التشريع وعالم التكوين.

والنتيجة أنّ مقايسة الإسلام بالمسيحية وجرُّ الملاحظات الواردة على المسيحية على الإسلام، ومن ثم الدعوة للعلمانية في المحيط الإسلامي هو قياس خاطئ وحكمٌ غير مُنصف.

وهم البروتيستانية الإسلامية

والذين لم يعوا الإسلام بعمق ولم يتبحّروا في مياهه، ولم يصلوا إلى لبابه، بل قرأوا الإسلام قراءة قشرية، وتعاطوا معه بمنهجية خاطئة ولم يعوا أصوله وفروعه، هؤلاء تجدهم يسعون لاستنساخ تجارب الآخرين وتطبيقها على واقعٍ لا يمكن أن تنطبق عليه!

وهذا لا يعني التحجر والانغلاق والتعصّب والدعوة لها، وإنّما نعني عدم القشرية والدخول في الأبحاث العلمية من غير رصدٍ علمي محكم.

فنحن ندعو للنقاش والبحث، ولكن بعد الإلمام بالقواعد العلمية المحكمة التي تُعين على سبر أغوار هذه المحيطات الواسعة من المعارف الإسلامية، والإجتهاد – في الأصول والفروع – هو الحصن المنيع لمثل هذه التجديدات والقراءات النقدية للتراث الإسلامي.

والحاصل أنّه إن أُريد التجديد في فهم الدين بما ينسجم مع متطلبات الحياة المعاصرة، فهو أمرٌ مقبول في دائرة الاجتهاد في فروع الدين وأصوله، وهو حاصلٌ لدى العلماء والفقهاء والفلاسفة، ولكن إن أُريد بالتجديد هو التبديل في الأحكام بأي نحو كان فهذا في الواقع رفضٌ للدين وإعراضٌ عنه، لا أنّه تجديدٌ فيه.

الإسلام بين النظرية والتطبيق

نعم، لا بُدّ من التفريق بين الإسلام بلحاظ ما يحمله من منظومة متكاملة تشمل كل مناحي الحياة، بما يكفل سعادة البشرية في الدنيا والآخرة، وبين واقع المسلمين المتخلّف، لا بسبب أحكام الإسلام بل بسبب ابتعاد المسلمين عن الأحكام الإسلامية.

وللأسف فإن الكثير يخلط بين الأمرين  فيتصور أنّ تخلف المسلمين مرجعه إلى تخلف الإسلام وعدم صلوحه لأن يُطبّق في هذا الزمان والحال أنّ المشكلة في عدم التطبيق لا في أصل الأحكام الإسلامية.

وعليه فالذين ينادون بالتجديد في الدّين باعتبار أنّ أحكامه لا تصلح لهذا الزمان، وهو سبب تخلّف الأمة الإسلامية، ينبغي لهم الدعوة للثورة على واقع الأنظمة الظالمة وواقع الشعوب المبتعدة عن تطبيق الإسلام.

فإذا رجعت الأمّة إلى إسلامها وجعلته في واقع حياتها، فإنّها سترجع إلى الريادة وقيادة البشرية مرةً أخرى، وسيعرف النّاسُ عظمةَ الدين حينئذٍ وسيزداد رسوخاً في قلوبهم، وسيسعون لحفظه أكثر وأكثر، وأين هذا الطرح من الدعوة لإزاحة الدين من حياة الناس!

العلماء والعمل السياسي

وإذا كان الدين داخلاً في كلِّ شؤون الحياة، والنّاس مطالبون بتطبيق الدين في كلّ شؤونهم، فمن الواضح كيف تكون وظيفة العلماء العظيمة في العمل السياسي؛ فهم الأقدر على فهم الدّين وتطبيقه، وخدمة النّاس – التي هي من العبادات العظيمة – تُعتبر من أعظم المسؤوليات على علماء الدين.

والسياسة التي تعني النجاسة والكذب والخداع، لا نُؤمن بها ولا ندعو للاشتغال بها، وإنّما نعني بالسياسة:

تطبيق الدين في الحياة الإجتماعية، وهذا لا يكون إلا بملاحظة الأحكام الشرعية والدقة في تطبيقها.

وإذا كان تطبيق الإسلام والدّعوة له يسبب الانتقاد والتسقيط من قبل أعداء الدّين فهذا هو الجهاد الذي لا ينبغي التراجع عنه.

فهل ضرّ بقداسة النبي (ص) أن أقام الحكومة الإسلامية في المدينة، ومارس السياسة وقيادة الأمة؟!

 وهل مُسّت شخصية الإمام علي (ع) المعنوية بسوء عندما جاءته الخلافة وقام بشؤون المسلمين وهم متسنِّم لأعلى المناصب الحكومية؟!

وهكذا هو نهج الأنبياء (عليهم السلام) الذين ذاقوا أشدّ المعانات من شعوبهم وأممهم، حتى عُذّبوا وقُتّلوا وشُرّدوا وأُهينوا!!

 والعلماء يسيرون على هذا النهج، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، مادام ذلك يحقق رضا الله تعالى، ويجسّد الامتثال للتكليف الإلهي.

والحاصل أنّ السياسة التي نؤمن بها ما هي إلا أداة العبودية لله تعالى في الشؤون الإجتماعية، وبذلك تنصبغ السياسة عندنا بالقداسة والاحترام الكبير.

ثانياً: محورية الإنسان «هيومانيسم»

تمهيد

إنّ الإنسان المعاصر الذي يعيش الضياع والحيرة اتجاه مجموعة من الأفكار والمسائل المصيرية والتي لا يجد لها جواباً شافياً ومقنعاً، نجده في كل حينٍ من الزمان يأتي بفكرة عابثة أو أطروحة متناقضة أو فلسفة متهافتة!
ومن هذه الأطروحات البشرية «محورية الإنسان»، وقد تقدم الحديث عن هذه الأطروحة حيث تم عرضها وشرح المراد منها ومن ثم تم مناقشتها وردّها بالأدلة والبراهين.

الرؤية الكونية والإيديولوجية

وما نضيفه في المقام أنّ الحصول على الإيديولوجية الصحيحة والمنهج العملي الحق في الحياة، يتوقف على الرؤية الكونية الصحيحة، فإذا كانت الرؤية الكونية غير صحيحة ومنحرفة أو غير واضحة ومبهمة، وما دامت المسائل الأساسية – التي لا بُدّ أن يكون للرؤية الكونية جواباً فيها – لم تُحلّ بشكل صحيح، فإنّه لا أمل في الحصول على الإيديولوجية والمنهج العلمي المطلوب والذي يحقق السعادة والطمأنينة والأمان.
وبتعبير فلسفي: «ما دمنا لا نعرف ما هو موجود، فإنّنا لا نستطيع أن نعرف ما لا بد أن يُوجَد».

المسائل الأساسية للرؤية الكونية

معرفة المبدأ ومن أين جئنا؟
ومعرفة المنتهى إلى أين نحن ذاهبون؟
ومعرفة الطريق ما هو الطريق المستقيم إلى الغاية؟ ومن هو الدال عليه؟
هذه المسائل الثلاث تُمثّل أهم المسائل في الرؤية الكونية والتي يعبّر عنها علماء الإسلام بأصول الدّين، وهذه المسائل تحتاج إلى إجابات يقينيّة ومُقنعة.

رؤيتان كونيتان وإيدلوجيتان

إنّ النظام الإجتماعي يجب وضعه على أساس الإحاطة بجميع أبعاد الإنسان الوجودية، وذلك من خلال الالتفات إلى هدف الخلقة، ومعرفة العوامل التي تعين في الوصول إلى الهدف النهائي.
والعقول البشرية العادية لا تقدرعلى تشخيص «الطريق» الذي يوصل إلى «الهدف» النهائي الذي يوصل الإنسان إلى بر الأمان والسعادة في الدنيا والآخرة.
والوحي الإلهي المتمثل بالنبوة ومن خلال التشريعات الدينية يكون الطريق المستقيم الذي إن سلكه الإنسانُ وصل إلى الغاية المنشودة، والفقهاء والعلماء عندما يقومون بالبحث والاجتهاد العلمي، فهم في الواقع لا يأتون بقوانين من عندهم بل هم يبحثون عن حكم الله(عز وجل).
ويشخّصون إرادة الله(عز وجل) التشريعية ومنهجه للعائلة البشرية، وهذا المنهج على خلاف «المناهج الوضعية» والذي يتمثل في المقام بـ«الإتجاه الإنساني» الذي يقوم على أساس أنّ الإنسان هو الذي يخترع الطريق الذي يسلكه ويعبّد السكك بأهوائه ورغباته، من غير أن يرجع إلى الله(عز وجل) وإلى وحيه وتعليمات رسله.
والحاصل أنّ الذي يحمل الرؤية الكونية التوحيدية هو يعتقد بأن الله(عز وجل) هو الذي خلقه، وهو الذي يُميته، وهو الذي سيبعثه مرةً أخرى في الحياة الآخرة، والطريق الذي يحقق السعادة للإنسان في الدنيا والآخرة: هو طريق الوحي والنبوة وطاعة وامتثال أحكام السماء وطاعة الله(عز وجل)، وعلى الإنسان البحث عن هذا الطريق وبعد معرفته لا بُدَّ أن يعمل به وبذلك تتحقق سعادته.
وأمّا الذي يحمل الرؤية الكونية الإلحادية: فهو منكرٌ للمبدأ ولا يؤمن بالمعاد والحياة الآخرة وبالتّبع لا يعتقد بالوحي والطريق الذي يوصِل إلى الهدف! فهو يبحث عن مصدرٍ آخر غير الله(عز وجل) فيجعل نفسه محوراً دون الله!
ويرفض منهج الأنبياء(عليهم السلام) وتعليمات السماء، فيأتي بالقوانين الوضعية التي ضلّ فيها وأضلّ البشرية.
والنتيجة أنّ البشرية اليوم تعيش التيه والضياع بسبب ابتعادها عن تعاليم السماء وتبنيها لقوانين الأرض، فوثقت بالإنسان وأعرضت عن رب الإنسان العالمِ بكل شيء مما يصلح الإنسان ومما يفسده!
وهكذا نجد المآسي في حياة «العالم الغربي» التي طالت حياته الفردية والأُسرية والإجتماعية والإقتصادية والسياسية و…، كل ذلك بسبب الإعراض عن نهج الله(عز وجل)، وطاعة الشيطان وقوانينه وتشريعاته.

ثالثاً: النسبية

تمهيد

إنّ أحد الأركان الأساسية في تكوين الدولة المدنية هو القول بفكرة «النسبية»: النسبية على صعيد الفكر والنتائج العقلية، والنسبية على صعيد العمل والقيم والممارسات الخارجية.
والقول بالنسبية يُؤدي بأصحابها للقول بـ«التعددية» الذي يعتبر أيضاً من خصائص الدولة المدنية، كما يتضح قريباً إن شاء الله تعالى.

النسبية في الفكر

تعتقد بعض المدارس الفكرية أنه لا توجد حقيقة ثابته وعقيدة حقّة وأطروحة صحيحة 100%، بل المسألة على خلاف ذلك: فكلُ شيءٍ فيه نسبة من الحقّانية ونسبة من البطلان، وكذا العقائد فلا يمكن القول بأنّ عقيدة التوحيد مثلاً هي العقيدة الحقة 100%، وغيرها من العقائد – كعقيدة التثليث – خاطئة 100% بل كل عقيدة تمتلك شيئاً من الصحة وشيئاً من البطلان، فلا يُمكن الإلتزام في المعارف إلا بالنسبية، ولا يحق لنا إعطاء الأحكام المطلقة!
واستدلّوا على هذه الأطروحة بأنّ الإنسان قد يعتقد بحقانية شيء، ثم يتبين له بعد ذلك خطأ تفكيره واعتقاده السابق، لينتقل – في بعض الأحيان – إلى الفكرة المقابلة والمضادّة لما اعتقد به سابقاً.
فالخطأ الذي يحصل في الحواس أمرٌ لا يمكن إنكاره، فكيف -بعد ذلك- يتأتّى لنا الجزم «بالمدركات العقلية» وأنّها مطابقة للواقع 100%؟!
إذن لا بد لنا أن نعترف بالنسبية في الأفكار، ولا ينبغي لنا التّعصب والتّشدد اتجاه الأفكار التي نصل إليها ونعتقد بها، لأنّها قد تتغير يوماً ما.

تعدد القراءات

والالتزام بالنسبية جرّ البعض للقول بـ«تعدد القراءات» وأنّه لا يوجد ثبات، بل الأمور في تغيّرٍ وتحوّلٍ دائم.
وحاصل كلامهم أنّه يوجد بين العلوم ترابط وثيق، وأيّ تغيير في أيّ علم فهو يؤدّي إلى التغيير في باقي العلوم.
فمثلاً: إذا حصل تغيّر في فكرة فيزيائية فإنّ هذا التغير سوف يؤثر – ولو بمستوى طفيف – في علم العقائد وعلم الفقه، وعلم الأخلاق و…؛ كما لو ألقيت حجراً في بحيرة: فإنّ سقوط الحجر يؤدي إلى حصول تموّجات على كل البحيرة، وإنّ كان بمستويات مختلفة.
والحاصل أنّه ما دامت العلوم تعيش واقع التغيير يؤثّر ذلك على كل العلوم، فلا ثبات في المعارف وهذه هي النسبية.

نقد النسبية الفكرية

تمهيد

قبل الإجابة على أطروحة النسبية لا بُدّ من ذكر مقدمة هامة في المقام حاصلها: أنّه يُطرح في مباحث علم المعرفة أنّه هل يمكن أن نعلم ونجزم بالأشياء أو لا؟
والصحيح أنّه يُمكن أن نجزم ونعتقد بالأشياء، مع حفظ الاختلاف في مستويات العلم بين المعرفة الحسّية والمعرفة العقلية، وعلى كل حال، فيقف في القبال من يرى بأنّ حصول العلم بالأشياء أمرٌ مستحيل!
وهناك من خفّف الطرح وقال: بأنّنا نشك في قدرتنا على التصرف والعلم بالأشياء «مذهب الشك»، وهذه سفسطة على صعيد الفكر والعلم.

وجود الحقائق الثابتة

توجد بعض الحقائق الثابتة التي لا يشك فيها أحدٌ والتي لا يمكن أن تتغير، ومثال ذلك: المسائل الرياضية؛ فهل أنّ حاصل جمع ( 1+1 ) والذي هو العدد (2) سوف يتغير يوماً من الأيام؟
وهل ترابط العلوم مع بعضها البعض وتغيّر نظرية في الفيزياء -مثلاً- سيؤدي إلى أن يكون حاصل (1+1) يساوي (4) مثلاً!
إذاً، النّسبية المطلقة التي ينادي بها هؤلاء لايمكن الالتزام بها.

الخطأ في العلوم الحسية والعقلية

وقوع الخطأ في بعض العلوم، لايعني لزوم القول بالنسبية؛ وذلك لأنّ المعيار لحقّانية العلوم الحسيّة هو العلوم العقلية كما بُيّن ذلك مفصلاً في أبحاث نظرية المعرفة.
والعلوم العقلية على قسمين: بديهية ونظرية، ولا بُدَ من إرجاع النظرية إلى البديهية، والبديهيات غير قابلة للخطأ.
والاختلاف الواقع بين العلماء هو اختلاف واقع في «النظريات» والمطالب غير البديهية، وأما «البديهيات» – كاستحالة اجتماع النقيضين – فهو أمرٌ لا يُمكن أن يقع الاختلاف فيه بين العلماء.
والحاصل أنّه توجد مسائل كثيرة تقبل التغيّر، بل التغيّر حاصلٌ فيها بالوجدان، كما نلاحظ ذلك كثيراً في مسائل العلوم المتغيرة، ولكن هناك مسائل كثيرة أيضاً لا تقبل التغيّر، فهي ثابتة وغير قابلة للتّغيّر، فالنسبية لا يُمكن الالتزام بها في كل مسائل الحياة: فهل يمكن الاستغناء عن الماء؟ وهل يوجد له بديل لرفع العطش؟ وهل إنسان القرن الواحد والعشرين أصبح مستغنياً عن الهواء والأكسجين؟
فهذه الحقائق -وغيرها كثير- مما لا تقبل النسبيّة ومما تتّصف بالثبات والاستمرار.

النسبيةّ في القيم

وهناك من يطرح النسبية على صعيد القيم والسلوك العلمي: حيث لا يرون الثّبات في سلوكٍ خاص بأنّه صحيح أو أنّه غير صحيح، بل يقولون: أنّه قد يكون صحيحاً في زمانٍ وقد يكون غير صحيح في زمانٍ آخر، وقد يكون مطلوباً في فترة وقد يكون مرفوضاً في فترة أخرى.
ومثال ذلك: إنّ العلاقة غير المشروعة بين الرجل والمرأة كانت غير صحيحة وكانت مرفوضة في الزمان السابق، ولكن الآن ومع تغيّر الظروف فإنّ العلاقات غير المشروعة ليست مرفوضة فحسب بل اعتُبرت من علامات تطوّر المجتمع الذي يحتوي على مثل هذه العلاقات!
واتّصاف المرأة بالعفاف ولبسها للحجاب كان سابقاً يدل على ميزة إيجابية، ولكن التهتّك والسفور يدل اليوم على تميزها!
والناس هم الذين يضعون القيمة الإيجابية أو السلبية على الأشياء:
فتارة يرون التّقدم في شيء، وبعد مُدّة يرون التخلّف في نفس ذلك الشيء!
وتارة يدعون للعمل بشيء، وبعد مُدّة قد ينهون عنه ويعاقبون على فعله!
فالناس هم المحور في إضفاء القيمة والاعتبار بالأشياء.
والنتيجة أنّه لا يمكن الالتزام بدين معيّن، والإسلام غير قابل للعمل به؛ وذلك لأنّ الثبات في الدين يتنافى مع التغيير والنّسبيّة، والحياة تعيش التغير والتّطور والتّبدل، فكيف يمكن التعايش مع دين ثابت في قيمه غير متغير في معاييره؟!
والذين يدعون إلى الدين والتّمسك بأحكامه هم في الواقع يعيشون التحجّر وعدم مواكبة المتغيرات، بل هو جرٌّ للمجتمع لحياة القرون الوسطى المظلمة!

نقد النسبية في القيم

بين الحقيقة والاعتبار

إنّ الدين الإسلامي الذي يحتوي على الأحكام والتشريعات، كوجوب الصلاة والصوم والحج و…، وحرمة الزنا والربا والغيبة…إلخ، فإنّ هذه التشريعات الاعتبارية تستند إلى حقائق وواقعيات وهو ما يعبّر عنه بلغة أصولية: «أن الأحكام تابعة لملاكاتها».
فحرمة شرب الخمر ناتجة من وجود ملاك المفسدة في شربه، فبسبب المفاسد العظيمة التي تترتب على شربه فإنّ الله تعالى حرّمه.
فالمفسدة الشديدة – وهو أمرٌ حقيقي وواقعي – هو ملاك في إصدار القانون والتشريع بحرمة الخمر.
فالتحريم لم يكن جُزافاً واعتباطاً ومن غير مستند واقعي وحقيقي.
ووجوب الصلاة ناتج من وجود مصلحة شديدة في فعلها والاتيان بها، ومفسدة شديدة في تركها وعدم الإتيان بها، ولذلك كان التّشريع بوجوبها، فهذه المصلحة الشديدة في تحقق تكامل الإنسان هو أمرٌ واقعي وهو الملاك في إصدار هذا القانون والتشريع بوجوب الصلاة.
والحاصل أنّ الأحكام تستند إلى ملاكات واقعية وحقيقية، والله(عز وجل) هو الذي يعلم بمثل هذه الملاكات، وهو الذي يكشفها لنا من خلال الوحي والتشريعات.
فكيف للإنسان الجاهل والقاصر في علمه أن يتعدى حدّه ويضفي القيمة على الأشياء، بل ويُصدر الأحكام؟ فهذا في الواقع جهل يجرّ إلى تخبطات في السلوك وضياع وضلال يجرّ البشرية إلى التيه والهلاك.

المصدر
كتاب تأملات في الفكر السياسي | الشيخ زهير عاشور

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟