مواضيع

توصيات موسى (ع) لقومه لمواجهة التهديدات الجديدة

<قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ۖ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين>

أمام الشدائد والصعاب والتهديدات والتحديات الجديدة القديمة التي قصد بها فرعون الطاغية بني إسرائيل، توجه موسى الكليم (عليه السلام) بوصفه القائد الإلهي الأعلى والمرشد والموجّه لبني إسرائيل والمسؤول الأول عنهم يوصيهم ويسكّنُ من ضجرهم وجزعهم ويسلي قلوبهم ويعزيهم بالرجاء ويرسم لهم استراتيجية المواجهة لما سمعوه من فرعون من تهديد ووعيد وما يمكن أن تواجههم من صعوبات وتحديّاتٍ صعبة وقاسية، فقال: <اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا>[1] وفيه تتضمن الاستراتيجية نقطتين رئيسيتين، وهما:

أ.   الاستعانة بالله (عز وجل) والتوكل عليه والثقة به في جلب ماينفعهم ودفع ما يضرهم، ومنه بلاء فرعون ووعيده فيهم، وأن يتم لهم ما يأملون من النجاة من ظلم فرعون وقومه وأذاهم وطغيانهم والنصر عليهم، وذلك لأن الله (عز وجل) هو المدبّر للمسيرة التاريخية للإنسان على وجه الأرض، وهي خاضعة لإرادته ومشيئته وقدرته المطلقة، كما هو المدبّر لعالم الطبيعة، وهي خاضعة لإرادته ومشيئته وقدرته كذلك، فإرادته ومشيئته وقدرته ماضيةٌ فيهما بشكلٍ مطلقٍ ولا يحيد منهما شيء عنها مطلقاً، وأنّ النصر والغلبة بيده لا بيد غيره. أي: أنّ بني إسرائيل قد لا يكونون بأنفسهم وبالاعتماد على قوتهم وقدراتهم الذاتية وإمكانياتهم الخاصة قادرين على إنقاذ أنفسهم من قبضة فرعون وقومه وتخليص أنفسهم من أذاهم والانتصار عليهم، ولكنهم إذا أخلصوا لله سبحانه وتعالى وتوكلوا عليه ووثقوا به وعملوا بتكليفهم الشرعي وقاموا بما يجب عليهم القيام به من الرفض والمقاومة والصبر والتخطيط والعمل المبرمج والممنهج وتقديم ما يلزم من تضحيات، فإنّ الله (عز وجل) قادر على نجدتهم ونصرهم وإنقاذهم من أذى فرعون وقومه وتخليصهم من شرهم وقبضتهم والانتصار عليهم، قول الله تعالى: <كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ>[2]، وقول الله تعالى: <إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ>[3] أي: أنّ النصر الحقيقي بيد الله (عز وجل) وبإرادته ومشيئته وحده لا شريك له، وهو يمنحه لمن يشاء من عباده، وليست العبرة فيه بالكثرة والعتاد، وإنما بالصدق والإخلاص والثبات على الحق والحقوق والاستقامة في الحق وعمل التكليف والقيام بما يجب القيام به من الأعمال، وأنّ الكثرة والعتاد لا تنفع مع خذلان الله (عز وجل)، كما لا تضر القلّة مع نصرة الله (عز وجل) ونجدته ومعونته، وعليه: فالاستغاثة بالله  (جل جلاله) لا تنفصل عن العمل من جانب العبد.

وفي توصية موسى الكليم (عليه السلام) لقومه بالاستغاثة بالله (عز وجل) سبيل للربط على قلوبهم ورفع معنوياتهم وتحذيرهم من الاغترار بأنفسهم والانفصال عن الله سبحانه وتعالى ومن التعدي للحدود الشرعية والقيم الأخلاقية والمبادئ السياسيّة والوقوع في الظلم والطغيان والفساد والتقصير؛ لأن الاغترار بالنفس والانفصال عن الله سبحانه وتعالى من الشرك؛ لأنه يتضمن الاعتقاد باستقلالية التأثير للقوة والعدد والعتاد عن الله  (جل جلاله)، ومن شأنه أن يؤدي إلى الخذلان أو إلى ما هو أسوء من ذلك وهو الاستدراج، قول الله تعالى: <لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ>[4] والاستعانة بالله (عز وجل) والتوكل عليه والثقة به، تعني في الحقيقة أموراً عديدة، منها:

1. استقامة العقيدة وصحتها، واستقامة عملية التفكير ومنهجيتها وسلامة المنطق في دراسة الأمور وتحليلها، مما يتطلب التأهيل الفكري للأمة لا سيّما القيادات لكي تنتصر الأمة أو الجماعة على الأعداء.

2. العمل بالتكليف والقيام بما يجب القيام به من الأعمال، مثل: التخطيط ووضع الاستراتيجيات الصحيحة الواضحة والبرامج العملية الفاعلة، والتحلي بالصبر والثباب والتحمّل، والمثابرة والعمل الدؤوب وتقديم التضحيات اللازمة.

3. الاستقامة والالتزام بالحدود الشرعية والقيم الأخلاقية الرفيعة والمبادئ السامية وذلك من لوازم العقيدة الصحيحة وشكر النعمة الإلهية، وتجنّب الغرور وتعدي الحدود والوقوع في الظلم والطغيان والفساد ونحو ذلك، وهو من جحود النعمة الإلهيّة ومخالفٌ لمقتضى العقيدة الصحيحة والشريعة السماوية السمحة، قول الله تعالى: <إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ 1 وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا 2 فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا>[5] أي: أمرٌ بالشكر لله سبحانه وتعالى وحمده والثناء عليه لما تحقق من النصر وصدق الوعد به، وتسبيحه؛ لأنّ النصر من عنده وحده لا شريك له، وتنزيهاً للنفس عن الزهو والفخر، واستغفاره عن كل غرورٍ بالنصر أو بالقوة والعدد أو نحو ذلك، وعن استعجال النصر قبل أوانه، وعن التعالي في الأرض وتجاوز الحدود الشرعية والقيم والمبادئ والخروج عن الاستقامة في أمر الجهاد أو بعد النصر بالطغيان على الأعداء وحب الانتقام والزهو والفخر والغفلة عن قدرة الله جلّ جلاله أو نحو ذلك، ولا يتم الشكر ولا تحصل سلامة العقيدة إلا بهذا الاستغفار، وقيل: الأمر بالاستغفار مع التسبيح والحمد تكميل للأمر بما هو قوام الدين من الجمع بين الطاعة والاحتراس من المعصية، والتخلق بأخلاق الإسلام الحنيف والقرآن الكريم، وبهما يستمر النصر ويزداد، وبفقد أحدهما يضيع النصر ويتلاشى، يقول السعدي: «لم يزل نصر الله مستمراً حتى وصل الإسلام إلى ما لم يصل إليه دين من الأديان، ودخل فيه من لم يدخل في غيره، حتى حدث من الأمة من مخالفة أمر الله ما حدث، فابتلوا بتفرق الكلمة وتشتت الأمر، فحصل ما حصل»[6].

ب. أن يلزموا الصبر على ما يحل بهم من المصائب والشدائد والمحن والنكبات، والثبات أمام الصعوبات والتحديات وفي وجه فرعون الطاغية وقومه المستكبرين، وكسر إرادتهم الشيطانية، وانتظار الفرج من عند الله (عز وجل)، وهذا يعني الصبر على الهدى ودين الحق، والاستقامة على الطاعة لله سبحانه وتعالى وترك معصيته، والصبر على المقاومة السلبية التي تعني عدم الخضوع لإرادة الأعداء، وعلى المقاومة الإيجابية التي تعني النهوض للتغلب على ظلم الظالم وقهر إرادته وتحقيق النصر عليه، وذلك في الحالتين: وفق استراتيجية واضحة وخطط وبرامج عمل منهجية واقعية وفعالة وتقديم ما يلزم من الجهود والتضحيات، وانتظار الفرج في وقته من عند الله (عز وجل)، وترك استعجاله قبل أوانه، أي: أنّ الصبر المطلوب ليس هو الصبر الأسود الأجوف الذي هو صبر المغلوب على أمره ويعني الخنوع والخضوع لإرادة الأعداء والسلبية والاستسلام والقبول بحكم الأمر الواقع المفروض، ويقال له: صبر الحمير، وإنما هو الصبر الأبيض الإيجابي الفعّال، المقرون بالمقاومة والعمل من أجل النهوض و الإصلاح وتحصيل الحقوق، الذي هو رائد الخير والسابق لكل فرج ونصر، وفي الحديث النبوي الشريف: «لا يعدم الصبور الظفر وإن طال به الزمان»[7].

وفي وصية موسى الكليم (عليه السلام) لقومه أموراً عديدة، منها:

أ.   بيان لوظيفة العبد الشرعية والعقلية والأخلاقية، فهو ممكن شرعاً وعقلاً وأخلاقاً عند القدرة بأن يدافع عن نفسه ويعمل من أجل أن يحصل على حقوقه كاملة، وذلك بحسب ما يقدر عليه وتتوفر له من إمكانيات، وعند العجز يصبر ويستغيث بالله (عز وجل) وينتظر الفرج من عنده ولا يستسلم ولا يستكين ولا يضعف ولا ييأس، فإن ذلك مخالفٌ للعقل والشرع ولكرامة الإنسان ويتنافى مع العقيدة الصحيحة والمعرفة بسنن الحياة والتاريخ.

ب. تسكيناً لبني إسرائيل من ضجرهم وجزعهم وتسليةً لقلوبهم وتعزيتهم بالرجاء وإزالة اليأس من قلوبهم، واستنهاضاً لهم للعمل بحسب ما يقدرون عليه، للتخلص من استعباد آل فرعون لهم، والفوز بالحرية والاستقلال والعزة والكرامة والحصول على مقصدهم، والثبات أمام الشدائد والمحن والنكبات والصعاب والتحديات وألوان العذاب الذي يهددهم بها فرعون، وعدم الاستكانة والاستسلام لإرادة الأعداء.

وهنا تنبغي الإشارة إلى بعض الأمور المهمة:

أ.   إنّ الصبر بالمعنى السابق من الأخلاق الإسلامية الحميدة التي هي ثمرة من الثمار الطيبة للعقيدة الصحيحة، فكل عقيدة لا تولّد الصبر والشجاعة والصلاح والإخلاص والاستقامة ونحوها، فهي عقيدة عقيمة لا قيمة لها ومشكوك في صدقها وصحتها.

ب. إنّ الصبر شرط من شروط التوفيق والتسديد والعون الإلهي للعبد، وتحصيل النصر والغلبة على الأعداء، وأنّ الجبناء وضعفاء الإرادة سفهاء الأحلام لا نصيب لهم من النصر ولا حظّ لهم فيه، قول الله تعالى: <وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ>[8].

ج. لمّا كان الصبر والتصميم والإرادة الصلبة والثبات والشجاعة والاستقامة والصلاح من شروط الانتصار على الأعداء وتراكم الانتصارات والمكتسبات والمحافظة عليها، كان الإيمان والعقيدة الصحيحة من الشروط؛ لأنها هي التي تولّد هذه القيم الرفيعة وسائر القيم والأخلاق الحميدة عند الإنسان.

د.  أنّ الصبر والثبات والنصر لا دوام لها من دون الإيمان بالله ذي الجلال والإكرام والاستقامة على الدين الإلهي الحق والصراط المستقيم والنهج القيّم والأعمال الصالحة وترك المعاصي والموبقات والذنوب.


المصادر والمراجع

  • [1]. الأعراف: 128
  • [2]. البقرة: 249
  • [3]. آل عمران: 160
  • [4]. التوبة: 25
  • [5]. النصر: 1-3
  • [6]. تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، السعدي، صفحة 1321
  • [7]. بحار الأنوار، جزء 71، صفحة 95
  • [8]. البقرة: 249
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك - الجزء الأول | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟