مواضيع

اعتراض فرعون على موسى وتوبيخه

<نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ 18 وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ>

لبى موسى الكليم وهارون(عليهم السلام) أمر ربهما وذهبا إلى فرعون ونزلا عليه في القصر الملكي وهما يلبسان مدارع الصوف وبلغاه مع ملئه الرسالة من رب العالمين، وأفهماه بقاء ملكه ودوام عزه إن هو أسلم وأطاع ربه، فاستغرب فرعون من أمر الرسالة ومن جرأة موسى وهارون(عليهم السلام) بحملها إليه وسخر منهما، وذلك لأنه يرى نفسه الرب الأعلى في الأرض، وأنه فوق أن يرسل إليه مثل ما جاءه به موسى وهارون(عليهم السلام)، والتفت إلى موسى الكليم(ع) وتكلم له بكلمات مدروسة بعناية كبيرة، وممزوجة بالخبث والشيطنة، تكشف عن دهائه، حيث ذكّر موسى الكليم(ع) بأمرين يريد بهما أن يُنفى بالمنطق دعوى النبوة وصدق الرسالة، وفيه توبيخ واعتراض وهما:

1. فضله عليه بأن التقطه من أمواج النيل فأنقذه من الهلاك المحتوم، وهيأ له المرضعة التي ترضعه، وكفّ عن قتله على خلاف ما كان يفعله مع بني إسرائيل، وفضلاً على ذلك: ربّاه في بيته منذ كان طفلاً في مهده، وأقامه في أسرته سنين عديدة في محيط هادئ يرتع في نعمته ويحظى بعنايته، ومقتضى هذه التربية والكرامة في ميزان القيم والأعراف أن يكون وفياً له وبعيداً عن كل ما يغيظه ويؤذيه، لا أن يخالفه في دينه، ويعارض نظام دولته وحكومته ويخرج عليه ويدعو إلى إله غيره، وهذه واحدة من طبائع الملوك والفراعنة المتجبرين الخسيسة، فهم يعتقدون أن السلطة استحقاق لهم في أنفسهم، وليست عقداً أو تكليفاً يترتب عليه حقوق وواجبات بين الطرفين: الحاكم والشعب، وأنهم يملكون الأرض ومن عليها ، وأن أبناء الشعب بمثابة العبيد لهم، ويرون أنفسهم أرباباً منعِمين عليهم، فما يقدمونه لأبناء الشعب من خدمات عن طريق مؤسسات الدولة مكرمات يتفضلون بها عليهم، لا أنهم يؤدون واجبات مفروضة عليهم، ولا يرون جرائمهم وظلمهم لأبناء الشعب المستضعفين جرائم، بل يرونها حقوقاً ولوازم لهيبة السلطة واستقرار الدولة.

2. قتل الرجل القبطي الموالي لفرعون ونظامه الملكي، وهذا فساد في الأرض وجريمة خطرة عظيمة الشناعة والفظاعة في جميع القوانين والأعراف، وفعل قبيح في نظام القيم عند جميع الشعوب والأمم لأنك قتلت رجلاً من أصحاب ولي نعمتك الذي نشأت في بيته وأقام على تربيتك والإنعام عليك، ولهذا: فقد جحدت النعمة وخرجت من الأخلاق الفاضلة، وخالفت الشرائع والقوانين والأعراف، وعليه: فأنت إنسان آثم ومجرم وبعيد عن رحمة الآلهة، فلست جديراً بأن تحمل رسالة إله إلى الناس.

وأضاف فرعون: إننا نعرفك ونعرف أصلك وصفاتك وأحوالك كلها، فقد كنت تعيش في بيتنا منذ كنت طفلاً في المهد وحتى فعلت فعلتك الشنيعة بقتل القبطي وفررت من العدالة والقصاص، فأنت فقير من سائر الناس، ولست من أبناء الآلهة والعظماء، فمن أين كان لك هذا الذي تدعيه من أمر النبوة والرسالة؟ فكيف تجمع بين متناقضيْن: بين ماضيك حيث الفقر والتشرد وجحود النعمة وجريمة القتل، وبين النبوة وحمل الرسالة من إله عظيم، وتريد منا أن نسمع لك ونطيع ونحن سادتك وأولياء نعمتك، وهذه منزلة شريفة وعظيمة لا تنبغي إلّا لرجل عظيم المظاهر ومبجل بين الناس ويحمل الكثير من الألقاب التي تشرئب إليها الأعناق، وأنت محروم من كل ذلك.

ثم التفت فرعون إلى جلسائه المتملقين، فقال <فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ>[1] فالثروة والقوة هما أساس المكانة والفضل والجاه والسلطة، ولا نبوة ولا فضل ولا جاه ولا سيادة لفقير مغمور. وهذه المقالة المتغطرسة تكشف عن النظرة المادية البحتة لدى الفراعنة والمترفين عبيد الدنيا والمال والسلطة في تحديد قيمة الإنسان ومكانته، وهي نظرة منحرفة تقوم على الجهل بحقائق الكون وبحقيقة الإنسان وبغاية وجوده، تسيطر على عقول الطغاة والمترفين الخائبين، وتضيع معها الفضيلة والقيمة الإنسانية الفعلية والرتب الروحانية السامية والصفات التي يعرف بها كمال الإنسان وعلو قدره ومنزلته بما هو إنسان، ويجهل في ظلها حقائق الأشخاص ومنازلهم وتؤدي إلى الانحطاط الفكري والروحي والحضاري، وإلى غياب العدالة وانتشار الحروب والصراعات الدامية من أجل الثروة والسلطة وخراب الحياة بالكامل.


  • [1]. الزخرف: 53
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك – الجزء الثاني | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟