مواضيع

انتقام فرعون من بني إسرائيل

<فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ>

وعلى أساس وصفهم لما جاء به موسى الكليم(ع) بالسحر والكذب، فقد قرروا مقابلة السحر بسحر مثله، من خلال مبارزة تاريخية فاصلة بين أمهر السحرة في مصر وبين موسى الكليم(ع)، بهدف إثبات كذبه وعدم صدق نبوته ورسالته، وإثبات سوء سريرته وأهدافه الانقلابية، ولمّا انتصر موسى الكليم(ع) على السحرة، وأعلن السحرة إيمانهم أمام الجماهير، لم يذعنوا للحق المبين، ولم يقبلوا به، وكان من الواجب قبوله والإذعان له بحكم المنطق والفطرة والضمير، وعلى العكس من ذلك: ازدادوا عتواً وطغياناً ونفوراً من الحق وأهله، وقرروا إعادة السيرة الفرعونية السابقة في بني إسرائيل، فقالوا: <اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ>[1].

أي: أعيدوا عليهم سيرتنا الأولى فيهم، وهي: قتل أبناء المؤمنين من بني إسرائيل وإبقاء نسائهم للخدمة والمتعة الجنسية، وعبارة: <آمَنُوا مَعَهُ>[2] تدل على الإيمان مع المناصرة وليس مجرد الإيمان، يريدون بذلك، القضاء على الطاقات الفاعلة التي تمد حركة موسى الكليم(ع) بالقوة والشكيمة، وترك غير الفاعلين للإفادة منهم في خدمة النظام: الطبقة السياسية والموالين لهم، وتلك واحدة من الممارسات والخطط الاستكبارية المشؤومة في مواجهة القوى المعارضة، وبلاء مبين، من أجل نشر الرعب والخوف من تبعات الإيمان بدعوة موسى الكليم(ع)، فلا يؤمن أحد بدين موسى الكليم(ع) ولا يظاهرونه في دعوته وحركته التحررية، وهذا هو دأب الأنظمة الدكتاتورية والحكومات المستبدة الظالمة، وهو الاعتماد على الإغرار والعنف والإرهاب؛ لإخضاع الناس عامة لا سيما أصحاب النفوس الضعيفة.

وفي الآية الشريفة المباركة مقايسة عجيبة بين ما جاءهم به موسى الكليم(ع) ودعاهم إليه، وبين ما قابلوه به، فقد جاءهم بالحق المبين من عند الله تبارك وتعالى وأقام عليه الدليل القاطع الذي لا يقبل الشك أبداً، ودعاهم إلى التوحيد واتباع سبيل النبوة والرسالة والفضيلة وإقامة العدل بين الناس والتنمية الشاملة المستدامة، وحذرهم من عواقب المخالفة في الدارين، الدنيا والآخرة، وكان من الواجب وبحسب المنطق والطبع السليم والفطرة أن يقبلوا منه، ولكنهم بدلاً من أن يذعنوا للحق ويقبلوه، قابلوه بالكيد والإيغال في الضلال والعناد والاستكبار والظلم والطغيان.

إلا أن العنف والإرهاب ضد المعارضين وأبناء الشعب المستضعفين، وإن أفاد الأنظمة الدكتاتورية والحكومات المستبدة الظالمة على المدى القريب، لكنه يقوض سلطتهم وحكوماتهم على المدى البعيد، قول الله تعالى: <وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ>[3] فقد قضى الله(عز وجل) أن ينتصر الحق وأهله، وأن يزهق الباطل وأنصاره، مما يجعل كيدهم وتخطيطهم للقضاء على الحق وحركة المستضعفين وحركات الإصلاح والتحرر في ضياع، فقد كاد فرعون وملؤه تلك المكيدة الخبيثة: <اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ>[4] وظنوا أنهم إذا قتلوا أبناء المؤمنين من بني إسرائيل الذين يمثلون القوة الضاربة فيهم، فإنهم بهذه المكيدة الخبيثة، سيبقون بني إسرائيل ضعفاء لا حول لهم ولا قوة، ولا يتمكنون من مناصرة حركة موسى الكليم(ع) الإصلاحية والتحررية، وسيبقون في رقهم وعبوديتهم للأقباط، وخاضعين لسلطة فرعون وحكومته الغاشمة، إلا أن فرعون وملأه أصيبوا بالإحباط والخيبة ولم ينالوا ما أرادوا، فبقي بنو إسرائيل على إيمانهم بنبوة موسى الكليم(ع) ورسالته، والتفوا حوله وثبتوا على مناصرته، وعلى العكس مما أراد فرعون وملؤه: فقد أهلكهم الله(عز وجل) وأبادهم عن آخرهم، واستخلف بني إسرائيل، وهذا كان على خلاف ما قصدوا تماماً.

وعبارة: <وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ>[5] تدل على أن ما حصل لفرعون وملئه، هي سنة إلهية وقاعدة ثابتة، فلم يقل مثلاً: وما كيد فرعون إلا في ضلال، وإنما قال: <وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِين>[6] مما يدل على العموم، وأن ما أصاب فرعون وملأه ليس مختصاً بهم، بل يشمل كل من اتصف بصفاتهم وتطبع بطباعهم ومارس نفس أعمالهم القبيحة.

لقد أمر موسى الكليم(ع) بني إسرائيل بالصبر على البلاء العظيم والمحن التي وضعهم النظام الفرعوني فيها، ووعدهم بالفرج وهلاك عدوهم واستخلافهم في الأرض بدلاً من آل فرعون.


  • [1]. غافر: 25
  • [2]. نفس المصدر
  • [3]. فاطر: 43
  • [4]. غافر: 25
  • [5]. نفس المصدر
  • [6]. نفس المصدر
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك – الجزء الثاني | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟