مواضيع

تدخل فرعون واعتراضه

<قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ>

فلما سمع فرعون الطاغية منطق مؤمن آل فرعون وفهم كلامه وما جاء به من النصائح الصادقة، وشاهد ما تركه من أثر بالغ في نفوس حاشيته وبطانته وقومه؛ لأنه مس عن قرب دنياهم ومصالحهم التي يخافون عليها ويخشون فواتها، وحذرهم من عواقب الأمور وخوفهم بجدية حول مصيرهم في الحياة، فتيقن فرعون من خطورة كلامه، وخشي على نظامه ودولته وملكه وهيبته وامتيازاته الملكية، فلم يلتزم الصمت، بل بادر إلى قطع كلام العبد الصالح وجاء بمراوغة شيطانية يوهم بها حاشيته وقومه بأنه لهم من الناصحين، وأنه الراعي المخلص الأمين لمصالحهم ووحدتهم الوطنية، ولا يسلك بهم إلا مسلكاً فيه طلب النفع لهم ودفع الضرر عنهم، يريد بذلك تثبيت حاشيته وقومه على ما كانوا عليه من الدين والولاء له، ويحافظ على هيبته ومكانته وموقعه بينهم.

فقال معارضاً لكلام الرجل المؤمن والعبد الصالح الناصح، وتجلداً وتمويهاً وتعزيزاً لحاشيته وقومه بدهاء وخبث: <مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ>[1] أي: لا أشير عليكم برأي إلا بما أراه خيراً ناصعاً وحقاً ثابتاً وصلاحاً لي ولكم، وهو عينه الرأي الذي أشير به على نفسي في السر والعلانية، ولا أدعوكم ولا أرشدكم إلا إلى طريق السداد والصواب المطابق للواقع والمؤدي إلى النجاة، ولا استصوب غيره، وهو قتل موسى(ع)، وليس في ذلك غش أو تمويه أو تغرير بأي حال من الأحوال، بل هو طريق الهدى والنور والفضيلة والمصلحة العامة لكم.

فقد رأى فرعون الطاغية أن طريق الهدى والصواب والنجاة والمصلحة هو في قتل موسى الكليم(ع) وليس في تركه حياً كما أشار عليه به المستشارون؛ لأن بقاءه حياً يعني تغيير الدين الرسمي للدولة وهو الدين الذي ورثناه من الآباء والأجداد، وكانوا يتعبدون به وعاشوا وماتوا عليه لقرون عديدة متطاولة ويجب أن نبقى ونستمر على التعبد به أبد الدهر، أو أن يظهر في الأرض الفساد، بإعلان التمرد والثورة على النظام والدولة والملك والتراث وعز ووحدة الشعب الوطنية، ويضر بمصالحهم الحيوية في الحياة، فلا سبيل في رأيه لحل المشكلة القائمة مع موسى الكليم(ع) إلا بقتله ولا حل سواه، وقد أراد فرعون الطاغية التجلد والتمويه، وأن يظهر لحاشيته وبطانته وقومه، بأنه على يقين من صحة رأيه وصواب ما عزم عليه من قتل موسى الكليم(ع) وأن فيه الهدى والاستقامة والخير والفضيلة والمصلحة الوطنية العامة والصلاح لهم.

وقوله في الحقيقة: تمويه وتغرير وغش وقلب للحقائق، استخف به قومه وغشهم واستعداهم على موسى الكليم(ع) وحرضهم على موافقته الرأي في قتله والتخلص منه لما ثبت لديه من خطره الجسيم على الدين والنطام والدولة والحكومة والملك والتراث والمصلحة العامة، ولم يكن صادقاً معهم ولم يظهر لهم الحقيقة التي تيقنها واستقربها في أعماق نفسه، فقد كان في داخل نفسه متيقناً بصدق نبوة موسى الكليم(ع) ورسالته وأن ما جاء به هو من عند رب العالمين وليس من نوع السحر، ولكنه جحد ذلك وإن كان على حساب الحقيقة والفضيلة والمصلحة الوطنية العامة، بل وإن كان على حساب آخرته، تماماً كما فعل إبليس الرجيم حين أبى السجود لخليفة الله في الأرض ووليه الأعظم آدم(ع) إذ أمره الله سبحانه وتعالى بذلك، استكباراً منه على الحق وأهله بسبب أنانيته وتضخم ذاته إلى درجة الإصرار على المعصية، رغم يقينه بأنها معصية وذنب كبير وتؤدي به إلى غضب الله(عز وجل) وعقوبة العذاب الأبدي العظيم في نار جهنم، وقد بالغ في العناد والضلال بالإصرار على إضلال أبناء آدم(ع) حسداً منه لهم وانتقاماً منه لنفسه، ليكونوا شركاء في المعصية والشقاء والعذاب المؤلم في الآخرة في نار جهنم. يقول الشيخ عبدالرحمن السعدي: «فلو أمرهم باتباعه اتباعاً مجرداً على كفره وضلاله لكان الشر أهون، ولكنه أمرهم باتباعه وزعم أن في اتباعه الحق وفي اتباع الحق اتباع الضلال»[2].

وهذا هو دأب الطغاة المستكبرين والفراعنة المتجبرين في التعامل مع متبوعيهم ومرؤوسيهم وشعوبهم، فهم يعتبرون أنفسهم على حق دائماً وأن كلامهم صدق وعدل ولا كلام فوقه، فالرأي رأيهم وليس لغيرهم إبداء وجهة نظر مخالفة أو أن يروا غير ما يرونه هم؛ لأنهم يتوهمون بأن لهم عقولاً كاملة وعلماً واسعاً وشاملاً وسلطة مطلقة على الناس، وليس عند الناس ما عندهم من العقل والعلم الواسع بالمصلحة، فالواجب على الناس طاعتهم والامتثال لأمرهم ونواهيهم، يريدون بذلك تثبيت ملكهم ورئاستهم وامتيازاتهم وإن كان ذلك على حساب الحقيقة والفضيلة والمصلحة الوطنية العامة غشّاً منهم لشعوبهم وخيانة منهم لأمانة الحكم والرئاسة وحمل المسؤولية العامة، وهذا يمثل منتهى الجهل والحماقة والغرور والأنانية، ومن المؤسف جداً أن يجد هؤلاء الحمقى المهووسون من يصدقهم ويجاريهم في سياساتهم الشيطانية ومواقفهم الجاهلية الضارة بإنسانية الإنسان وكماله ومصالحه الجوهرية والحيوية كما فعل الأقباط مع فرعون.

وينبغي أن نتذكر ولا ننسى في هذه الطامة الكبرى دور النخبة الانتهازية الفاسدة من السياسيين والمثقفين والكتاب ورجال الأعمال وغيرهم.

وقيل: إن مؤمن آل فرعون دافع عن موسى الكليم (ع) بالحكمة والموعظة وجادل قومه بالتي هي أحسن وقد استطاع بأسلوبه الرائع والمحكم والمؤثر أن يثني فرعون الطاغية عن عزمه على قتل موسى الكليم(ع) أو على الأقل تأخير تنفيذه إلى أن استطاع موسى الكليم(ع) أن يتغلب بإذن الله(عز وجل) على الخطر، وكان المؤمن الشجاع دقيقاً جداً في حساب وتقدير قيمة الوقت حيث تدخل في الوقت المناسب واللحظات الصعبة والحساسة جداً بالدفاع المنطقي المحكم والمتقن عن موسى الكليم(ع)، حتى استطاع أن ينقذه ببراعة من مؤامرة خطيرة كانت تستهدف حياته والقضاء على دعوته.

وعبارة <مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ>[3] تدل على شبه الاعتذار من فرعون عما كان قد عزم عليه من قتل موسى الكليم(ع)، ومعناه: ما عزم على قتل موسى(ع) إلا بعد التفكير وإمعان النظر والتدبر في عواقب الأمور، في الحالتين: قتل موسى(ع) وتركه حياً. وقد وجدت الحق والهدى والخير والفضيلة والمصلحة في قتله وأن الضلال والفساد والشر والرذيلة والضرر في إبقائه حياً، أي: إنني أردت بقتله خيركم وما فيه مصلحتكم وصلاحكم وصلاح مجتمعكم ودولتكم وليس لمصلحة أو رغبة خاصة أو نحو ذلك.


  • [1]. نفس المصدر
  • [2]. تیسير الكريم الرحمن فی تفسیر کلام المنان، عبدالرحمن السعدي، صفحة 1035
  • [3]. غافر: 29
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك – الجزء الثاني | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟