مواضيع

موانع تحقّق الجهاد والثقافة الجهاديّة

هناك بعض العراقيل التي تعترض طريق الإنسان، وفي الحقيقة إنّ وجود هذه العراقيل هو الذي يُضفي المعنى والحقيقة المعنويّة على مساعي الإنسان فتُسمى جهادًا، وإلّا فلو لم يكن هناك موانع أو عراقيل لما كان للجهاد أيّ معنى.

إنّ الجهاد يعني الجدّ والجهد المصحوب بالعناء وتحدّي العقبات، فما هي تلك العقبات؟ تواجهنا نوعان من العقبات: العقبات الداخلية، والعقبات الخارجية.

ما هي العقبات الداخلية؟

إنّها الأشياء الموجودة في داخلنا نحن البشر – سواء أصحاب القرار أم آحاد الناس من أبناء الشعب- فهذه موانع وعقبات داخليّة، إنّها حالات الضعف؛ الضعف الفكري، والضعف العقلاني، والركون إلى الراحة والسهولة، وتصوّر أن الأمور سهلة بسيطة؛ هذه الحالات تمثّل أحيانًا عقباتٍ تحول دون تحقيق الهدف. ينبغي أن يكون تقييم العمل ومشكلاته بنحوٍ يتطابق مع الواقع أو يقترب من الواقع في الأقل،‌ وإنّ‌ تخيّل سهولة الأمور يشبه حالتي التساهل واللامبالاة، وهو أيضًا من عقبات الطريق.

إنّ التهرّب من التحدّي يعدّ واحدًا من حالات الضعف الداخليّة عندنا، إنّ تسمية الهرب من التحدّي طلبًا للعافية، هي تسمية خاطئة، فطلب العافية شيءٌ جيّدٌ، والعافية من أعظم النعم الإلهيّة: «يا وليّ العافية، نسألك العافية، عافية الدنيا والآخرة»، ليست العافية بمعنى عدم الخوض في المشكلات، بل معناها التصرّف تصرّفاً صحيحاً واتخاذ الخطوات الصائبة، والهجوم في الوقت الصحيح والانسحاب في الظرف المناسب، ومعنى العافية من البلاء هو كما لو قلنا العافية من المعصية، إذاً طلب العافية والسلامة ليس أمرًا سيّئًا، لكنّهم يُخطئون ويُسمّون التهرّب من التحدّي طلبًا للعافية، بل هو في الحقيقة تكاسلٌ وتقبيحٌ لمواجهة المشكلات، ترك الاستعداد لمواجهتها، وهذه من حالات ضعفنا الداخلي.

مِن الحالات الأخرى أنواع التربية الاجتماعيّة والتقاليد التاريخيّة التي كانت موجودة لدى الأمّة الإيرانيّة في بداية الثورة، أنتم الشباب قد لا تكون لديكم صورة واضحة عن أحوالنا النفسيّة وتربيتنا التاريخيّة حينما انتصرت الثورة، نرى اليوم أن الجميع يرفعون شعاراً؛ وهو عبارة «نحن قادرون»، وبالفعل، لو قيل لأحدكم: هل تستطيع التفوّق في أدقّ صناعات العالم؟ لقال: نعم، إذا عقدنا الهمم وبذلنا الجهود فنحن نستطيع، إنّ العالِم الشابّ المسلم في الجمهورية الإسلامية يعتبر نفسه فعلاً قادراً على أيّ شيءٍ؛ وهذه الروحيّة لم تكن كذلك في بداية الثورة.

إنّ التربية السابقة كانت على العكس منها تمامًا، فكلّما أُثيرت قضيّةٌ أو مشروع معيّن، قالوا: لكنّنا لا نستطيع، وإذا قيل لهم: اصنعوا الشيء الفلاني، قالوا: لكنّنا لا نستطيع. أو إذا قلنا لهم: عليكم مواجهة الشعار الفلاني الخاطئ في العالم، فإنّهم يقولون: سيّدنا نحن لا نستطيع، قوّتنا لا تسمح بذلك! لكنّنا اليوم أصبحنا «نستطيع»، أمّا في تلك الأيّام فكنّا «لا نستطيع» وذلك بسبب تلك التربية الأخلاقيّة والتاريخيّة الموروثة عن العهد الماضي.

كان كلّ من الخضوع للجور، والإصغاء إلى الكلامِ الظالم، ومشاهدة الفسق مِمّن يَتوقع المجتمع منهم العدالة والإنصاف والطهارة والنزاهة،‌ قد أصبحت أمورًا اعتياديّةً، بمعنى أنّ الناس لا يستغربون لو قيل لهم في عهد ما قبل الثورة: إنّ المسؤول الكبير الفلاني في البلد، إمّا الرجل الأوّل أي الشاه نفسه، أو الوزراء، أو المسؤولون فعلوا الفعل المشين الفلاني، أو الفسق الفلاني، أو العمل القبيح الفلاني. فإنّهم كانوا يقولون: نعم حصل طبعًا، وهذا معروف عنهم! أي إنّهم تعودوا على مشاهدة المسؤولين الذين لا يجب أن يكونوا نزيهين طاهرين؛ بل ملوثين قذرين.

إنّنا نستغرب كيف صلّى في صدر الإسلام خليفةٌ ثملٌ بالناس صلاة الصبح! وقد ورد هذا التصرّف عن أحد الخلفاء، كما ورد هذا الفعل عن أحد الأمراء المنصّبين من لدن أحد الخلفاء، وهذا الأمر قد حصل وهو معروفٌ وثابتٌ في تاريخ الإسلام.

صلاة الصبح ركعتان لكنّه صلاها ستّ ركعات؛ لأنّه كان في حال نشوةٍ وسكرٍ، قالوا له: صلّيت الصبح أكثر ممّا هي، فقال: نعم، أنا في حالةٍ طيبةٍ وإذا شئتم زدتكم! إنّ هذه الحادثة واردةٌ في التاريخ.

في ذلك الزمن كان الناس يرون الخليفة يمارس مثل هذا الفسق فيتحمّلون ويمرون على القضيّة دون اكتراث، وكذا كان الحال في زماننا، هكذا كان الحال في عهد الطاغوت الذي عشناه إلى ما قبل انتصار الثورة، لم يكن الناس يستغربون من ملك البلد الإسلامي حين يفسق ويفجر ويشرب الخمر ويأتي بالمنكرات.

ربما سبق أن ذكرت أن أحد علماء تبريز الكبار وكان رجلًا عالماً فاضلاً، وقد التقيته ـ كان أستاذ والدي ـ وكان رجلاً كبيرًا في العمر وكان عالماً، لكنّه كان بسيطًا جدًا! وحينما ذهبتُ ذات مرّةٍ إلى تبريز، روى لي تلاميذه وأصدقاؤه ومحبّوه أنّ محمد رضا[1] جاء في عهد شبابه إلى تبريز وذهب إلى هذا الشخص واحترمه وزار المدرسة التي يُدرِّس فيها، وبعد ذلك حينما غادر محمّد رضا، أعجب هذا العالم بالشاه ـ رغم أنّه كان عالماً متقياً فاضلاً لكنّه إنسان بسيطٌ طيب ـ وراح يمدحه، فقال له الأصدقاء: إنّك تمدح شخصًا وهو يفعل كلّ هذه الأعمال المحرّمة ـ الأعمال التي كانت تعدّ كبيرةً في نظر ذلك العالم، كشرب الخمر مثلًا ـ فقال لهم: إنّه ملكٌ على كلّ حال، وهل تتوقّعون أن لا يشرب الخمر؟! فقالوا له: يا سيدي إنّه يلعب القمار، فقال لهم: هو ملكٌ على كلّ حالٍ، وهل تتوقّعون أن لا يلعب القمار؟!

كان العرف يرى أن هذا الشخص لأنّه شاه أو وزير فهو يستطيع أن يفسق ويفجر ولا يكون نزيهًا. هذه من العادات التي كانت في مجتمعنا.

هذه هي العقبات الداخليّة التي تحول دون الوصول إلى الهدف والغاية السامية: الغضب، والشهوات المنفلتة غير المهذّبة، والانشداد إلى التقاليد والعقائد الخرافيّة الموروثة، وإساءة فهم دساتير الدين كلّها من ضمن نقاط ضعفنا.

بعضهم لم يكن يفهم كثيراً من الأمور، حيث كنّا نناضل، فيستشهد بعضهم بروايات تقول إن كلّ رايةٍ تُرفع قبل راية الإمام المهدي (أرواحنا فداه) في النار، وبهذا كان يعارضون ذلك النضال؛ كانوا يقولون: هل تريدون بدء النضال والجهاد قبل قيام الإمام المنتظر(عج)راية الجهاد التي ترفعونها هذه في النار؛ لم يكونوا قد فهموا معنى الحديث.

كان هناك بعضٌ ممّن سمعوا في صدر الإسلام وفي زمن الأئمة(عليهم السلام) أن المهدي سيظهر ليملأ الأرض قسطًا وعدلًا، فراحوا يدّعون المهدويّة، وقد اشتبه الأمر بالنسبة إلى بعضهم حتّى تجاه أنفسهم، فلا بأس أن تعلموا أنّ ادعاء المهدوية كان حتّى في بني أميّة وبني العباس أو لدى أشخاصٍ آخرين في الزمن العباسي وما تلاه.

نعم، إذا رفع أحدٌ راية المهدويّة هذه فإنّ تلك الراية في النار، ولكن ذلك لا يعني ألّا يقارع الناس الظلم، وألّا يثوروا ولا يناضلوا من أجل تشكيل المجتمع الإلهي الإسلامي العلوي، هذه إساءةُ فهمٍ للدين. هل لاحظتم كيف أنّ هذه كلّها كانت عقباتٍ داخليّة، وقد حاولنا نحن بعد انتصار الثورة أن نتغلّب عليها، وأن نسير بالبلد نحو تلك الأهداف.

لقد كان كلّ واحدٍ من هذه الأمور عقبةً، وبالطبع هي من العقبات القابلة للإزالة، ولم تكن مستعصية أو مستحيلة، وقد أزيح الكثير منها بالإيضاح والتبيين، ولذا يمارس الإيضاح والتبيين دورًا كبيرًا في النضال والعمل الإسلامي.

وأنا أقول لكم بين قوسين أيّها الشباب الذين لديكم شعورٌ بالمسؤولية: إن الإيضاح مهمٌ جداً.

الأهميّة الخاصّة للتبليغ في النضال الإسلامي

إنّ الإيضاح والبيان في العمل الإسلامي وفي كلّ الأحوال مهمٌّ جدّاً (أي: بيان الواقع ونقله والقيام بالتبليغ)، وينبغي عدم التفريط به خلافًا لما ذهب إليه الفكر الماركسيّ الذي شاع في السابق، لم يكن الماركسيّون يُؤمنون بالتبيين والإيضاح، بل كانوا يقولون: إن النضال سُنّةٌ ستتحقق شئتم أم أبيتم، ذكرتم ذلك أم لم تذكروه، فالديالكتيكيّة التي فسّروها، فسروها بحيث لا يقتضي فيها النضال إلى إيضاح وتبيين.

في عام 1349 ش -الموافق لـ 1390هـ و 1970م-، التقاني شابٌ مشهديٌّ كنتُ أعرفه، وكان ينتمي لإحدى الجماعات الشيوعيّة التي تشكلت حديثًا يومذاك ـ كجماعة الغابة وغيرها ـ التقاني في أحد الأماكن، وشرح لي كيف أنّهم يريدون القيام بالأعمال الفلانيّة، فقلت له: هذا غير ممكنٍ في مثل هذه الأرضيّة الاجتماعيّة؛ تحدّثوا مع الناس قليلًا واشرحوا لهم وبيّنوا وأفهموهم ما الذي تريدون القيام به. فقال بمنتهى اللاأباليّة: هذا هو الأسلوب الإسلامي!

نعم، هذا هو الأسلوب الإسلامي، إنّه أسلوب التبيين، وهذا الشرح والتبيين هو الذي جعل الثورة الإسلاميّة تتغلّب على كثيرٍ من الخلفيّات التاريخيّة وحالات التربية المغلوطة، طبعًا لم نستطع التغلّب على بعضها لغاية الآن، وتلك لها دوافع أخرى ـ كهذه النـزعة الاستهلاكيّة والإسراف وما شاكل ـ هذه من موروثاتنا عن الماضي وما زلنا نحتفظ بها للأسف.

علينا -نحن الشعب الإيراني- أن نخلع هذا الرداء النشاز القبيح عن أجسادنا، إنّنا استهلاكيّون جدّاً. وهذه مشكلة يجب حلّها، وعلى الجميع أن يتعاضدوا ويعالجوا هذه القضيّة، وطبعًا للإذاعة والتلفزيون دورها في هذا المجال بلا شكّ[2].


  • [1]– الشاه المخلوع. (المترجم)
  • [2]– من خطاب سماحته في لقائه بأساتذة وطلّاب جامعات من أنحاء إيران بتاريخ 3-8-2008م
المصدر
كتاب الحياة بأسلوب جهادي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟