مواضيع

لزوم الإخلاص في الجهاد وضرورته

لقد علّم الإسلامُ المسلمينَ درسًا، وهذا الدرس موجودٌ بينهم كلّ يوم، وحصيلته هو التنوّر والتلألؤ والعلوّ المادّي والمعنوي، وذلك الدرس هو درس المجاهدة الخالصة والمخلصة، فكلّما كانت هناك مجاهدة خالصة ومخلصة، كانت نتيجة ذلك التنوّر التلألؤ، غاية الأمر أنّ المجاهدة الخالصة والمخلصة يمكن القيام بها لوجه الله، ويمكن القيام بها لوجه غير الله، وإذا قام بها الإنسان لوجه الله، صارت عملًا أبديًا ودائمًا وغير قابلٍ للزوال، أمّا إذا قام بها لغير الله، فلن تكون أبديّةً.

من الممكن أن يكون هناك شخصٌ يعشق شخصًا، فيتحرّك بنحوٍ خالصٍ ومخلصٍ من أجله، أو قد يكون الإنسان عاشقًا لوطنه، فيتحرّك بنحوٍ خالصٍ ومخلصٍ من أجل وطنه، وهذه التحرّكات ليست أبديّة، بل هي تبقى طالما يمتلك هذا الشعور وهذا الفوران في قلبه، ثمّ وبمجرّد أن يبرد إحساسه هذا ذرّةً واحدةً، يفتح عينيه ويقول لنفسه: هل أذهب وأقاتل لكي يصبح فلان الفلاني رئيسًا وذا منصب؟! ولكن إذا كان عمله لوجه الله فالأمر سيكون مختلفًا.

كلّما كانت دقّة الإنسان العقلانيّة أكبر، كانت مجاهدته أكبر،‌ وذلك لأنّه يعلم أنّ: <مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ>[1]، وما نفعله لوجه الله يبقى ويدوم.

لقد أحضروا إلى النبيّ الأكرم شاةً، فذبحها وقال: من أراد اللحم فليأتِ وليأخذ، فقصد فقراء المدينة بيت النبيّ، فأعطى النبيّ كلّ‌ واحدٍ منهم قطعةً من اللحم، ثمّ بعد أن ذهب الجميع، لم يتبقَّ من الذبيحة سوى كتفٍ، فقالت إحدى نساء النبيّ(ص) : يا رسول الله ذهبت الشاة الكبيرة، ولم يبقَ إلّا الكتف، فقال النبيّ: بقيت الشاة ولن يذهب إلّا الكتف. ومراده عندما نأكلها سوف تذهب، وأمّا ما تصدّقنا به فهو الذي سيبقى لنا، والأمر واضح جدًا كوضوح حساب (اثنان زائد اثنان يساوي أربعة).‌

حينما يكون العمل لوجه الله، فكلّما كان عقل الإنسان أكبر وذكاؤه أعلى، كانت تضحياته أكبر؛ لأنّه يعلم أنّ الحياة في الدنيا كلّ هذه المدّة، والسعي فيها، وصبّ العرق، والتفكير، والركض خلف رزقه، والحصول على المال، والعيش بطريقة مرفهة ومبهجة، يعلم أنّ كلّ ذلك سيذهب؛ وكلّما كان أمله ورغبته أكبر، كان إحباطه وفشله أكبر، وهذا معنى قول الشاعر:

كفـّارة شاربي الخمر المسرفين         هو زوال العقل من البين[2]

فكلّما كانت لذّة الإنسان أكبر، كانت حسرته أكبر حينما يذهب وقت اللذّة، ولكن في تلك اللحظة التي تتجاوز نفسك بسرعة، حينما شعرتَ أنّ كتيبتك قد تقع تحت الحصار، فنهضتَ من النوم في نصف الليل، وركضت إلى المركز، وأوصلت الخبر إلى المركز بلسانك ـ‌ لأنّه في تلك السنوات لم يوجد لا سلكي حتّى‌ ـ فجاءت قوى الإمداد، وبسبب ذلك نجت الكتيبة بأكملها، فاعلم أنّ تلك النصف ساعة التي قمت بها بذلك العمل تبقى، تبقى للأبد ولا تزول أبدًا، كم هي قيّمة تلك النصف ساعة! قد يمرّ القرون، ومع ذلك تبقى النصف ساعة تلك التي لك مثل الألماس، شيءٌ لا يفقد قيمته أبدًا. والآن تصوّروا لو أنّكم تملكون المئات من تلك النصف ساعة، فانظروا كم ستكون قيمتها!

هذا هو العمل لوجه الله، وليس هناك أيّ عاملٍ يمكن له أن يُزيل العمل الذي قمتم به لوجه الله، نعم، هناك عاملٌ واحدٌ فقط، وهو أنتم أنفسكم.

إنّ الله عزّ وجلّ أنعم على الإنسان بقوى وقدرات ليست بالقليلة، ويمكن لهذه القوى والقدرات أن تخرّب كلّ عملٍ صالحٍ قام به، في المقابل ليس هناك من أحدٍ قادرٍ على أن يزيل أيّ عملٍ أو لحظةٍ صرفتموها في سبيل الله،‌ هل رأيتم قيمة العمل لوجه الله؟

لقد علّم الإسلام هذا الأمر للمسلمين، والآن هل تعتقدون أنّ عالماً يعتقد بهذه العقيدة، هل يمكن أن يضيّع حتّى لحظة واحدة، وأن يتحجّج بقلّة ذات اليد وعدم وجود المنزل وسائر الإمكانات فيقصّر في تكليفه؟!

إنّ جميع العلماء الغربيّين المشهورين الذين عاشوا في الأربع مئة عام الأخيرة، استطاعوا أن يقوموا بأعمال ضخمة جدًا من خلال هذه الروحيّة، فاستطاعوا أن ينالوا كلّ هذا التقدّم العلمي؛ يعني من خلال روحيّة العشق للعمل الذي كانوا ينجزونه. وإذا وجد الإنسان الطريق نحو الله، وتعلّم كيف يعمل العمل لوجه الله، عند ذلك سترون أنّ العشق للعمل كيف يجعل العمل سهلًا جدًا.‌

إنّ الحضارة الإسلاميّة تشكّلت بهذا النحو، فالمعمار الإسلامي حينما يصمّم بناءً من الأبنيّة فهو يُصمّمها بهذه الروحيّة،‌ وحينما ينفّذ عمله فهو ينفّذه بهذه الروحيّة،‌ والضابط العسكري المسلم حينما يجلس في مركزه فهو يجلس بهذه الروحيّة، والجندي المسلم حينما يتحرّك في الخطوط الأماميّة، فهو يتحرّك بهذه الروحيّة، وباني الحصون أيضًا يكون بهذه الروحيّة حتّى لو كان خارج حصنه، الحرس الثوري وحرّاس الشوارع والأزقّة يقفون في مواقع عملهم بهذه الروحيّة، والعالم الدينيّ يدرس بهذه الروحيّة، والحاكم السياسي يجلس في الموطن الذي يُخطط فيه للنهج السياسي بهذه الروحيّة، والخلاصة هي أنّ الجميع يعملون لوجه الله، فهل يمكن لأمّة كهذه ولبلدٍ كهذا أن تتقهقر وتتراجع في لحظات الحياة؟! وهل يمكن أن تتعرّض أمّةٌ كهذه أو بلدٌ كهذا للذلّة والإهانة في الدنيا؟! هل يمكن أن يتجرّأ أحدٌ على أمّةٍ كهذه وأن يقول مقالة زور؟! إنّ دنيا وآخرة أمّة كهذه وبلدًا كهذا ستكون مؤمّنة[3].

أعزّائي! لقد عمل النبيّ(ص) مع الأفراد المؤمنين، ومع الأفراد الذين بنوا أنفسهم والذين يعملون بإخلاص، وأنتم إذا حافظتم على هذا الإخلاص،‌ وإذا حافظتم على هذه المجاهدة في سبيل الله وعلى هذا الصفاء وعلى عدم التعلّق بالدنيا (ولا نقول عدم الرغبة بالدنيا أو النفور منها)، وإذا حافظ عليها شبابنا في وسط جميع هذا الطوفان المتلاطم من الفساد ووسط جميع هذه الرياح المخالفة التي في الدنيا، فإنّ هذه الأسس سوف تزرع وتثبت بحيث قد يطول بالمفسدين الوقت قرونًا متمادية كي يستطيعوا أن ينزعوا طرفًا من أطرافها، وأنتم بإمكانكم أن تثبّتوا هذه الأسس، تمامًا كما فعل ذلك الإمام الخميني؛ وكما أنّ المجاهدة المخلصة استطاعت أن ترفع أعمدة هذه الثورة، فهل كانت هذه الثورة أمرًا سهلًا أو مزحةً؟! هل الثورة في بلدٍ كهذا تطمع فيه جميع القوى العالميّة، هل الثورة فيه أمرٌ سهلٌ؟! انظروا إلى أمريكا ماذا فعلت لبلدٍ كـ«هايتي»! أو لبلدٍ كــ«بانما»! أو لبلدٍ كالكويت! حينما فقدوا الكويت هل رأيتم ما صنعوا؟ عندها إذا نظرنا إلى بلدٍ عظيم كإيران مع ما فيه من النفط والمصادر الطبيعيّة، ومع ما فيه من الأراضي الشاسعة، ومع ما له من الموقع الاستراتيجي والجغرافي المهمّ، فماذا سيحصل لو فقدوها؟! هل يمكن أن تقتلع أمام أعينهم الحكومة التي تقبل أيديهم وتطيعهم وتسمع لهم ولأوامرهم بكلّ إخلاصٍ؟! هل يمكن القيام بهذا العمل؟! إنّ هذا العمل يقرب من الاستحالة، ولكنّه تحقّق.

إنّ أفضل الأشخاص كان يقول: لا يمكن حصول ذلك. لقد كان المرحوم آية الله الطالقاني الذي هو من العلماء وصاحب معرفةٍ ومقامات علميّة وكان رجل سياسةٍ ونضال، وقد سُجن أيضًا، ولم يكن يخشى من السجن، وقد قال لي: حينما قال الإمام الخميني أنّ على الشاه والحكومة السلطانيّة أن يذهبا، خطّأته وقلت: ما هذا الكلام؟! هل يمكن أن يحصل ذلك؟!

حينما قال الإمام الخميني هذا الكلام بالصراحة، فكم سنة كان قبل حصول الثورة؟ يعني حتّى أواخر الأعوام، نجد أنّ شخصًا كالمرحوم الطالقاني ذلك الرجل العظيم المؤمن والمناضل والذي دخل السجن وتعرّض للتعذيب هناك، يقول: وهل هذا الأمر ممكن؟! ثمّ بعد ذلك قال لي‌ (وهذا مضمون كلامه): إنّ هذا الرجل متصلٌ بمكانٍ آخر، وهو يتكلّم من أفقٍ آخر.

لقد كان الإمام الخميني رجلاً مؤمنًا ومخلصًا لله، واستطاع أن يجعل عددًا من الأفراد يمشون خلفه، وأن ينجزوا بعض الأمور التي كانت واقعًا مستحيلةً؛ يعني أصلًا لم تكن قابلةً للتصديق، ولم تكن متوقّعة الحصول.

كنّا في عالمٍ كلُّ ما فيه ضدّ الإسلام، ثمّ أتى شخصٌ إلى المكان الذي كانت فيه كلّ الدوافع الموجودة في الدنيا تهدف إلى إقصاء الإسلام والإيمان والقرآن، وأراد أن يقيم الحكومة الإسلاميّة هناك!! فهل كان بالإمكان فعل ذلك؟! لكنّنا نرى أنّ الإمام الخميني استطاع أن يفعل ذلك، ثمّ بعد ذلك نشأتم أنّتم الشباب المؤمن والمخلص والتعبويّ ونشأ الحرس الثوري والجيش،‌ وقام الناس العاديّون في المناطق المختلفة، وأنجز الأمر.

بحمد لله، البناء أصبح محكمًا جدًا، وينبغي عليكم أن تتابعوا العمل، وعليكم أن تجاهدوا لوجه الله كي يكمل هذا البناء‌[4].


  • [1]– النحل: ٩٦
  • [2]-أصل الشعر باللغة الفارسية: (كفّاره شرابخواري هاي بي حساب… هشيار در ميانه ي مستان نشست است). ديوان تکبیتهای برگزیده (الأشعار المختارة)، للشاعر الإيراني صائب التبريزي: رقم (380). (العرفان)
  • [3]– من خطاب سماحته في لقائه بضبّاط الرتب المختلفة للحرس الثوري بتاريخ 20-9-1994م
  • [4]– نفس المصدر
المصدر
كتاب الحياة بأسلوب جهادي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟