مواضيع

مدخل الإفادات: بقلم الناشط الحقوقي إبراهيم الدمستاني.. هكذا عشت أحداث ١٠ مارس

     السجن هو أحد المحطات الاستثنائية التي تعترض حياة الأحرار. المطالبون بحياة العزّة والكرامة يمرّون غالبا بالسجون. منْ يختار أن يسير على درب المجاهدين والشرفاء والمضحّين؛ فإن السجن سيكون واحدة من المحطّات الطبيعيّة في حياته. هو ديدن الثائرين الأحرار، ولكنه في المقابل كان المجال الذي سخّره الجلادون لامتهان التعذيب والقتل، أملا في النيْل من عزيمة الأحرار وتثبيطهم. كان ذلك محاولة منهم لترهيب المجتمع، وثني حراكِ حاملي مشاعل العزّة والكرامة. هذه سيرة الطغاة ومنهجهم على مرّ الأزمان، تناقلوها جيلا عن جيل، وطاغية بعد آخر.

      في الآونة الأخيرة، وحين هبّت رياح الثّورة في البحرين – وقد اجتاحت عددا من البلدان العربيّة – وجد البحرانيون في ١٤ فبراير ٢٠١١م بريقَ أمل يلوح في الأفق. حملوا الورود على أكفّ أحلامهم المؤودة، وجعلوها شعاراً سلميّاً لهم. الحرية والمطالبة بالإصلاح والتغيير السّياسي المشروع؛ كان أقصى حلمهم. ولكن الردّ على هذه المطالب كان انتقاماً وحشيّاً لم يسلم منه كلّ أطياف المجتمع وكوادره: القيادات السياسيّة، الرموز العلمائية، الكوار الطبية والتربوية والرياضيّة والنقابيّة والعمالية. طلبة المدارس والجامعات. النساء والأطفال وكبار السّن. كلّ هؤلاء هدفاً للغول الذي كشّر عن أنفاسه القاتلة. سُحق الاعتصام السّلمي في دوار اللؤلؤة، واقتلعَ المجرمون نُصب الدّوار، ونكّلوا بالمحتجين والمطالبين، ولم يسلم كلّ منْ أبدى عبارات التعاطف أو كلمات التأييد. زُجّ بهم في غياهب سجون ما يُسمى بجهاز الأمن الوطني ومعتقلات التحقيقات الجنائية. تكدّست السجون وفاضت غرقى بالسجناء السياسيين.

     أُعطي الضّوءُ الأخضر للشاذين واللقطاء لارتكاب التشفّي والثأر البغيض. أرادوا إخماد وهَج انتفاضة ١٤ فبراير، التي هي امتداد للحراك المطلبي في  تسعينات القرن الماضي، ونتاجٌ طبيعي للإحباط واليأس الذي تسلّل إلى نفوس البحرانيين بعد مرور ١٠ سنوات عجاف لما سُمّي بـ”المشروع الإصلاحي”، المشروع الذي كرّس المعنى الحقيقي للدكتاتورية تحت غلاف القانون والبرلمان الفاقد للصلاحيّات المعتبرة.

    وكما يحصل في كلّ المرات التي يتورّط فيها المجرمون في الهستيريا، فقد انقلب السّحرُ على السّاحر. القمع الوحشيّ الذي كان يُراد أن يُخمِد أنفاس حراك ١٤ فبراير؛ ولّدَ روحاً متوقّدة بالاستمرار في الاحتجاج. لم يقتصر ذلك على المستوى الميداني فحسب، بل امتدّ إلى قعر السجون. هناك ارتفع أيضاً الاحتجاج واندلعت المواجهات في وجه الجلاّدين ومنتهكي حقوق الإنسان.

١٠ مارس ٢٠١٥.. أكبر انتفاضة في تاريخ السجون

     بعد انتهاء حقبة “قانون” الاستباحة الذي سُمّي “قانون السلامة الوطنية”؛ استمرت الانتهاكات، وسُلبت جملةٌ من الحقوق الأساسيّة داخل السجون، والمنصوص عليها في أدبيات وزراة الداخلية. كان الوضعُ يختمرُ بالانفجار الوشيك. تكدّست الأعدادُ الغفيرة من السجناء داخل السجون، وانتشر الاحتقانُ في الزنازين والممرات. كما تدنّت الخدمات، وأحيانا كانت معدومة تماماً، مثل توفير الخدمات الطبية والمماطلة في إصلاح المكيّفات في فصل الصيف، كما جرت المماطلة في الحصول على الزيارات العائلية والمنصوص عليها بحسب القانون المحلي (زيارة كلّ أسبوعين). والأهم من ذلك؛ عدمُ السّماح في أحيان كثيرة بإقامة الشّعائر الدّينية، والاعتداء المتكرّر على السجناء، وعدم قيام بعض الضباط بواجباتهم الإدارية تجاه المباني والسجناء.

    في ذلك اليوم، ١٠ مارس ٢٠١٥م، كنّا في مبنى رقم واحد، المعروف باسم (الأمل). الساعة كانت عند حدود الواحدة والنصف بعد الظهر. بلغنا نبأ التعدّي على مجموعةٍ من السجناء من عائلةٍ واحدة، وتعرُّض بعض النساء العائلة نفسها للاعتداء من قبل بعض أفراد الشرطة في قسم الزيارات. وبحسب الأخبار آنذاك، فقد أدّت هذه الحادثة إلى نقل والد العائلة بسيارة الإسعاف إلى قسم الطوارئ، وهو سجين في ذات المبنى الذي أُسْجن فيه.

    أثار هذا الخبرُ حفيظة السجناء في العنبرين (الشمالي والجنوبي)، وسرعان ما تجمهر السجناء، البالغ عددهم ٢٠٠ شخصا، احتجاجاً على ما حصل. كان التجمُّع  بالقرب من البوابة المحاذية لمكتب الشرطة المسؤولين عن المبنى. طالب السجناء بعودة زميلنا المُعتدى عليه وعلى عائلته. لم تُبد الشرطة المناوبة أي اهتمام، وتجاهلت مطالب السجناء. ونتيجة لذلك؛ ازدادت وتيرةُ الاحتجاجات عند الأبواب، ورفضَ أغلبُ السجناء الدخولَ إلى زنازينهم، الأمر الذي دفعني مع بعض الإخوان من العنبرين، مثل الشيخ زهير عاشور والأخ علي محمد حبيب والأستاذ مهدي ابو ديب وآخرين، للتّشاور في شأن الوضع، ومحاولة إيجاد حلٍّ لتخفيف الاحتقان والتوتر. كان الرأي طلبَ مقابلة الضّابط المسؤول، وإبلاغه بضرورةِ إعادة الأخ المُعتدى عليه، إلا أن الشرطة لم يكن لديهم أدنى تجاوب مع هذه المحاولة.

السجناء يقاومون

     واصلَ السجناءُ احتجاجهم بعدم الدخول إلى الزنازين، واتخذوا قرارَ المواجهة مع القوات في حال تمّ الاعتداء عليهم. في حوالي الساعة الثالثة والربع عصراً؛ جاءت فرق قواتِ الشغب التابعة إلى (سافرة). كان الهدف اقتحام المبنى. وُوجهت القوات بالمقاومة من قِبل السّجناء. لم تجد القوات منفذا إلى المبنى، فذهبت إلى أعلى السّطح، ومن هناك ألقت الغاز المسيل للدموع. كان ذلك كارثيّا! المبنى الداخلي كان مغلقا من التهوية، وقد أدى إطلاق الغاز إلى اختناق مرضى (الرَّبْو) وكبار السّن من السجناء. بسبب ذلك، قام  بعضُ السجناء بإشعال حريقٍ وسط الساحة الخارجية (الفنس) على أمل تخفيف نسبة تركيز الغاز وإبطال مفعوله (وهي خبرة اكتسبها السجناءُ من الميادين). استمرّت المواجهات ما يقارب ٤٥ دقيقة، انتهت بانسحاب القواتِ وتوجّههم إلى مبنى رقم ٤ الذي يتواجد فيه ما يزيد عن ١٠٠٠ سجين.

    بعد صلاة المغرب؛ قرأ السجناءُ دعاءَ الثغور المأثور. بدأنا نترقّب بقلقٍ القادم. عند تمام الساعة الثامنة والرّبع مساءا؛ بدأنا نسمعُ آلةَ قطع قطع الحديد. كانت القوات تقطع ألمنيوم النوافذ، بالقرب من قاعة الطعام. في هذه اللحظة؛ دخلت قواتُ الشغب من النافذة وهي مجهّزة بأسلحة المسيل للدموع، لتتمّ السّيطرة على المبنى.

      كان السّجناء داخل الزنازن لحظة اقتحام المبنى. امتدّ طابور مكوَّن من فرقة لقوّات الشغب ابتداءا من الزنزانة رقم ١٠ وانتهاءا ببوابة المخرج من العنبر المؤدي إلى الفناء والساحة الخارجيّة.

الدماء تسيل في المبنى.. وانتقام المرتزقة

     بدأ الاعتداءُ الوحشي على السجناء من قبل قوات الشغب وشرطة سجن جو. شرطة السجن حرصت على حضور حفلات الاعتداءِ من أجل التشفّي وهم يشاهدون العذاب يحلّ على السجناء، خصوصا منْ يحملون عليهم حقداً قديما. كانت فرصة سانحة لهم لإشباعِ هذه الغريزةِ الوحشيّة في تلك اللحظاتِ التي تمّ فيها تفويج السّجناء إلى الساحة الخارجية. هنا بدأ السجناءُ يمرّون على طابورِ قوات الشغب المحمّلين بالهراوات البلاستيكية الصّلبة. كانوا يضربون بها السّجناءَ بشكلٍ عشوائي. الضربات كانت تحلّ على مختلف أجزاء جسدِ السّجناء، وصرخاتهم كانت تصمَّ ثقوب السّماء المظلمة. تزايدت الإصابات في صفوفهم، وبدأت الدماءُ تسيلُ على أرضية ممرّ المبنى.

    أذكر من بين الحالات التي شاهدتها شخصيّاً؛ كانت للشّاب أحمد العرب، وعيسى المشعل (الملقب بحرّوق)، وكذلك الحالة الخطيرة للسجين مصطفى القابدني، وهو أحد المتهمين من منطقة بني جمرة. وقد تعرّض لضربةٍ قوية مباشرة بالهراوة على عينه اليمنى، أدّت إلى تورّمها في الحال، وتسببت له في إصابةٍ بليغة أفقدته الرّؤيةَ الصحيحة. حيث كان يُعاني من التشوّش في الرؤية. وهو ما زال يُعاني منها دون علاج مناسب.

    من حُسن الحظ أنّي كنتُ مع الزّميل الدكتور علي العكري في الزنزانة رقم ٢، أي بالقرب من المخرج. إلا أنّني صادفتُ أحدَ الشرطة اليمنيين المعروفين بالسوءِ والبطش، وقد سبق أن تمّ طرده من المبنى بعد احتجاجنا على وجوده في المبنى، حيث اقتحم سابقاً قاعة صلاة الجماعة في أول جمعة من شهر رمضان، وأجبرنا على مغادرةِ القاعة وإنهاء الصلاة التي كانت بإمامة الشّيخ محمد علي المحفوظ، وأمرنا بالعودة إلى الزنازين بحجّة تغيير وقت فتح الزنازين في الشّهر الكريم. لقد كان ذلك اليوم فرصة لهذا المرتزق للتّشفّي مني ومن الأخ الدكتور علي العكري، وهو يشاهدنا نخرجُ إلى الساحة. استجمعَ حقده الدفين وضربني بالهراوة على ظهري تشفّياً وانتقاما.

فرز “المحرّضين” إلى مبنى ١٠

    خرجنا إلى السّاحةِ الخارجية عند أذان المغرب. أُجبرنا على الوقوف جميعاً (سجناء العنبرين الشمالي والجنوبي) مستقبلين الحائط. تمّ فرْز مجموعة تضمّ الشيخ زهير عاشور، والشيخ المحفوظ، وعلي صنقور، وسيد فيصل – أحد المتهمين العسكريين بقضية جيش الإمام – ونادر العريض، وسيد أحمد الماجد، وعلي عاشور، وسيد مهدي الموسوي، وآخرين بلغ عددهم ١٥ سجيناً. ووُجّهت إليهم تهمة التحريض، ونُقلوا إلى مبنى رقم ١٠ الذي خُصّص لمنْ تُلصق به تهمة التحريض، من مختلف المباني. واستمرّ بعدها الانتقامُ الوحشي قرابة ساعة ونصف.

    عند حوالي السّاعة الثامنة تقريبا؛ ضابط مُحاط بحشدٍ من الضّباط والشرطة. عندما اقترب منّي تبيّن أنه مدير أمن المنطقة الجنوبية خليفة بن أحمد آل خليفة. مرّ على جميع السجناء، وشاهدَ الوضعَ المزري والمهين الذي أنزلوه علينا.

      بعد خروجه مباشرة؛ جاءت مجموعة من القوات، وقال أحدهم بلهجةٍ أردنيّة: “أهل السنة والجماعة يأتون إلى هذه المنطقة.. والشّيعة يذهبون إلى تلك المنطقة”. لم أتحمّل هذا الكلام فاعترضتُ عليه وقلتُ: “ليس بيننا نحن السّجناء هذه التفرقة، فكلنا إخوة”. ردّ بكل وقاحة: “نعم.. هناك فرق بين السنة والشيعة، أنتم تعبدون الحجرَ، ولديكم زواج المتعة”. وحرَّك الأسطوانة النتنة التي غُرست في رأسه الفارغ. بعدها تدخل أحدهم وأبعده عن منطقتنا.

     في منتصف اللّيل، جاء ضابطان أردنيّان ونادا باسمي، وذلك على إثر شكوى من أحد قوات الشغب الذي اتهمني بالتحريض. تم تهديدي بأنه في حال تكرار ملاسنة الشرطة أو التحريض فسوف يتم التصرف معي من قبلهم!

      بتنا في تلك الليلة الباردة دون وجبة عشاء، ودون السماح لنا بأخذ الأدوية، وبيننا حالات المصابين بأمراض مزمنة. توسّدنا أذرعنا وسواعدنا على أرضية من الأسفلت من غير فراش أو بطانيات! وكلما شعر عناصر الشرطة أننا خلدنا إلى النوم؛ يأتون بصورة ترهيبية لإيقاظنا وإجبارنا على النهوض!

الأربعاء ١١ مارس

      صباح هذا اليوم تواصلَ الاعتداء والتعذيب من خلال لجنة مكوّنة من الضبّاط الأردنيين و”البحرينيين”. تم تخصيص قاعة الطعام مقراً لهم. وكل منْ يُستدعى إلى اللجنة يتمّ تعذيبه، ثم يعود إلى مكانه بالساحة زحفاً على البطن واليدين، مع سيْل من الضرب بالهراوات.

     وعند الظّهيرة، ومع اقتراب وقت وجبة الغذاء؛ قررنا – وكنّا ما يقارب ١٢٠ سجينا – الإضراب عن الطعام، احتجاجاً على سوء المعاملة والإهانات والاعتداءات على الشباب، خصوصا من الأعمار الصغيرة. وبعد وصول خبر الإضراب إلى الإدارة؛ اسْتدعي المضربون ليقفوا صفوفا في منتصف الساحة لتدوين أسمائهم وأرقامهم الشخصية، وهو أثار الخوف في نفوس البعض وتراجع عن الإضراب. كنتُ ضمن المجموعة التي ثبُت على قرارها، إلى أن جاء أحد مسؤول نوبة قوة الشغب ليُطمئن الجميع بعدم الاعتداء عليهم وتحسين الظروف! الأمر الذي دفع البعض الآخر إلى إنهاء الإضراب، لكني بقيتُ متمسكاً بالإضراب لعدم ثقتي بوعودهم. وعند انتهاء النوبة الصباحية والمسائية؛ جاءت فرقة مناوبة آخر الليل، والتي عادت إلى اُسلوب التنكيل والإهانات والاعتداءات مرةً أخرى.

حمامة السلام تتضامن معنا.. وتوصل رسالة للمعذبين

     بينما كنّا نتعرّض لأساليب الإذلال والتنكيل والإهانات؛ حلّت بالقرب منا في تلك الليلة حمامة جميلة. اقتربت من أقدامنا، وأخذت تطوف حولنا وكأنها تريد  تسليتنا والتخفيف من آلامنا. كأنها كانت تحمل مظلوميتنا التي يحفرها هؤلاء الأوباش على أجسادنا وأرواحنا. حمامة سلامٍ تُذكّرنا بالنقاء والأمان ونحن بين يدي ذئابٍ بشرية تتقوّى على سجناء عُزّل، ذنبهم أنهم رفضوا الإذلال والمهانة.

الخميس ١٢ مارس

    في حدود الساعة السادسة والنصف صباحاً استلمتْ فرقةٌ جديدة من قوات الشغب المناوبة الصباحية، وكانت برئاسة شرطي أردني برتبة رقيب. كان ذا لهجةٍ بدويّة صرفة. استشعرنا من خلال تصرفاته أنه يبيّت النيةَ للتنكيل. كان محيّاه نذيراً بيوم أسود على الأبواب. بدأ صراخه يتعالى بألفاظ بذيئة. أمعنَ في أساليب الإذلال، لم يستثنِ كبيرا في السن أو صغيرا. أجبرَ الجميعَ على تأدية حركات حاطةٌ بالكرامة، مثل تقليد مشي بعض الحيوانات، وتقليد أصواتها. وفي حالِ الامتناع أو عدم القدرة على التقليد؛ يكون الضّرب هو الجزاء الوفير!

    من بين الذين تعرّضوا للضرب المبرّح كان الأخ علي محمد حبيب، من منطقة كرزكان، والاخ حسين العالي، من منطقة السنابس، وهو المتهم في القضية المعروفة بـ”٥ طن”. استمرّت هذه الحال حتى الساعة الحادية عشر صباحاً، حيث جاء ضابط أردني برتبة رائد، يُدعى (بسّام الحنيطي)، ومعه وكيل القوة من أصول يمنية يُدعى (أبو سلمان) وآخرون. توجّهتُ لهم مستنكراً الأساليب التى يمارسها مسؤول المناوبة ضدّنا، فأعطى أوامره بإيقاف هذه الأساليب زاعماً عدم قبوله بها، وكأنه لا يعلم بما يجري في المباني على أيدي قوات الشغب سيئة الصيت!

    توجّهت بعدها إلى مسؤول النوبة، وناشدته بعروبيته “كيف يقبل لنفسه الاعتداء على أبنائنا الشباب، وإهانة الكبار”، وقلتُ بأن ذلك ليس من شيم العرب. فكان جوابه صريحاً، ومفاده أنه عندما تسلّم المناوبة فإنّ الضّابط المسؤول أعطاه أوامر مباشرة: “أريدك تضغطهم ضغط”.

     توجهتُ بعدها إلى الضّابط الأردني (بسّام الحنيطي)، وناشدته إرسال الشاب مصطفى القابندي إلى العلاج، حيث ساءت حالة عينه، وتورّمت بشكل مقلق بسبب الضربة القوية التي تعرّض لها بالهراوة. أعطى الحنيطي أوامره إلى الشرطي المسؤول، وأُخذ مصطفى للعلاج البسيط، ولم يتم تحويله إلى طبيب مختص.

     هدأت الأمور قليلاً، وتنفّسنا الصعداء! سُمح لنا بدخول الحمامات والزنازن. توجّهتُ مباشرة، أنا وبعض الإخوان، إلى داخل العنبر، ودخلنا الزنازين. كان المشهد وكأنها ساحة حرب. التخريب طال أدواتنا الخاصة، وملابسنا، وكتبنا التي تمّ تكديسها جميعا تمهيداً لإخراجها في الساحة الكبير المقابلة لمبنى الإدارة، ومن ثم إتلافها.

      تم استدعائي مع الدكتور على العكري لمعاينة الإصابات والحالات المرضيّة. طلبنا مجيء الطبيب والممرضين التابعين للسجن لمداواة وعلاج الحالات، وتوفير الأدوية، والعمل على تصنيف الحالات التي تستدعي علاج متكامل.

      عند المساء؛ تحسّن الوضع إلى حدٍّ ما، وتمّ السماح لنا بأخذ البطانيات. بطانية واحدة لكل اثنين! كما تمّ فتح حمامات المبنى الشمالي بعد أن كان الوضع مقتصرا على حمام واحد، لعدد يقارب من ٢٦٠ سجينا، كلهم كانوا يستعملونه لقضاء الحاجة! وللقاريء أن يتخيّل كيف كان الوضع، والطابور الطويل الذي يمتد انتظارا للدّوْر.

الجمعة ١٥ مارس

      في هذا اليوم، تمّ السّماح للأخوة من الطائفة السنية بإقامة الصلاة، وخطبة الجمعة في منتصف الساحة. كما تمّ السماح للسجناء الشيعة بالصلاة فرادى! اُسلوب مبرمج في التمييز الطائفي كان معهوداً من قبل قوات الشغب المسؤولة عن إدارة السجن.

     بعد تناول وجبة الغذاء؛ تم إخبارنا أنه سيتم نقلنا إلى الخيم الموجودة خلف مبنى ٦ (مبنى السجناء الأقل من ١٨ عاماً). تم تجريدنا من جميع الممتلكات الشخصية (بطاقات الاتصال التي لم تُسترجع، والسّجائر، والمأكولات التي تم شراؤها حديثا من دكان السجناء..). بعد تفويجنا إلى الخيمة؛ فوجئنا بأنها تسع في أقصى الحالات لاستيعاب ١٠٠ شخص فقط، في حين كنّا ما يُقارب ٢٦٠ شخصا. إضافة إلى ذلك، فقد كانت الحمامات غير جاهزة للاستعمال، وأعمال الصيانة جارية فيها.

   وفي المساء امتنع القوات عن الإتيان بأدوية المرضى. استمر المنع حتى وقت العشاء، فقرّرنا – أنا ومجموعة من المرضى الذين يتناولون أدوية السكر والضغط وغيرها –  الامتناع عن الأكل، وتمّ إخطار الضّابط بذلك. تواصل الضابط مع الإدارة من أجل إحضار الأدوية، لكن لم تفلح محاولاته، فواصلنا الامتناع عن الأكل.

إلى مبنى ١٠: مبنى المحرِّضين

     في تمام الواحدة بعد منتصف الليل، وبينما كنتُ مستلقياً على الفراش؛ سمعتُ اسمي وهو يُنادَى به. انتهبت، وإذا هو الشرطي اليمني المدعو (صدّيق) ينادي عليّ. هو نفسُه الذي اعتدى عليّ يوم الأحداث عند إخراجنا من المبنى إلى الساحة. أخبرني بقرار نقلي إلى مبنى رقم ١٠. قال بأن هناك أوامر إداريّة بهذا الشأن. وضعَ القيدَ البلاستيكي على يدي من الخلف، وقامَ الضّغط عليها. وعندما شكوته من الألم؛ تعمّد الضغط عليه بشدّة أكثر.

   نُقلتُ إلى مبنى ١٠ في زنزانة رقم ٣. وكان يتواجد فيها كلٌّ من ناجي فتيل، علي الغانمي، سيد أحمد حميدان، يوسف الهندي، وعباس العكري. كان حالهم أشدّ سوءاً منّي.

     عرفتُ لاحقاً أن المبنى استضافَ كلا من الدكتور سعيد السماهيجي، الشيخ المحفوظ، الشيخ زهير عاشو، سيد أحمد الماجد، عبدعلي السنكيس، المحامي علي السماهيجي، والأستاذ مهدي أبو ديب، والأستاذ محمد حسن النويدراتي، نادر العريض، أبو جبرائيل، سيد مهدي الموسوي، سيد فيصل العلوي، وسيد صادق الشاخوري. ولاحقا تمّ إحضار الشيخ جاسم الدمستاني. كما كان في المبنى كلٌّ من الشباب محمد الشمالي، علاء نصيف، وائل الجمري، علي هارون، جعفر عون، حسن الجزيري، سليمان وصادق النويدراتي، أحمد عباس وعبدالرضا المتهمين في القضية المعروفة باسم (راية العز). كما كان هناك غير هؤلاء من الإخوة الذين تطول القائمة بذكرهم.

     وكان مجموعنا آنذاك ٧٥ سجينا، تم إحضارنا من مختلف مباني السّجن.

      تميّز منبى ١٠ عن باقي المباني بأنه حديث البناء، ومجهَّز بالأسرِّة، كما أن الانتظار أقلّ في حال الحاجة للذّهاب إلى الحمام، وذلك لقلّة العدد في المبنى. هذا بالإضافة إلى أنه تمّ السماح بشراء ملابس داخليّة، وصابون الاستحمام قبل مجيء لجنة الصّليب الأحمر الدولي بيوم واحد، وذلك بخلاف حال السّجناء في الخيام الذين كانوا يعانون الأمرَّين، سواء في حال الرّغبة إلى الحمام أو والاستحمام. وقد كانت أعدادهم كبيرة، ما استدعى الانتظار كثيراً أمام الحمام، وفي طابورٍ طويل.

    ولكن، ورغم ذلك، فإنّ التّعامل مع السّجناء في مبنى ١٠ كان أكثر قساوةً، وأشدّ ضراوةً، وصُبّ عليهم حجم أوسع من الانتقام. فكلّ الذين يُنقلون إلى هذا المبنى متّهمون بالوقوفِ وراء ما حدث من ثورةٍ ومقاومةٍ داخل مباني السّجن. لقد تمّ تجميع كلّ أولئك الذين يتصدّون ويقودون السّجناء في التحركات المطلبية، ومن مختلف المباني والعنابر، وحُصُروا في هذا المبنى الذي سُمّي بمبنى (المحرِّضين). كان الهدف من حصْرهم في المبنى هو تحسّباً من قيادتهم لأيّ تحركات احتجاجية أخرى داخل الخيم، أو تحريض السجناء ودفعهم للتّمرُّد على الوضع المزري، في ظلّ ما يمارسه الدرك الأردني سيء الصيت جنباً إلى جنب قوات الشغب.

    بالرّغم من العقاب الجماعي، إلا أنّ التوافق بين الشّباب كان سبباً لإدخال السّلوة في النفس، ومنحها الطاقة والصّمود في مواجهة المعاملة القاسية التي تتقطّر من أيدي الأوباش.

    من محاسن الصّدف أن الله تعالى جمعني بالمجموعة التي تُعرَف بين السّجناء في مبنى ٤ باسم “جماعة الله يستر”. ما إنْ يرى السّجناء أفراد هذه المجموعة مجتمعين في مكانٍ واحد؛ فإنهم يتحسّبون حدثا على وشك الوقوع، أو احتجاجاً يتم التخطيط له، ما يعني أن قوات الشّغب ستبدأ في التكشير عن الأنياب.

الدَّرك الأردني والعقليّة الدّاعشيّة

    استخدم الدّركُ الأردني – سيء الصّيت – أسلوبا ممنهجاً في التعذيبِ والإذلال والتعامل الطائفي. شمِل ذلك كلّ المباني والخيم المنصوبة. لم يستثن أحداً، وطالت الهراواتُ الجميع، جنباً إلى جنب الحطّ بالكرامة والإيذاء اللّفظي والمعاملة المشينة. كانوا يستعملون أكثر الأساليب دناءةً وترهيباً ضدّ السجناء.

السّبت ١٧ مارس

    استلم النوبة أحدُ أسوأ أفراد شرطة الدرك الأردني، وهو يحملُ رتبة رئيس عرفاء، ويُدعى خالد المستريحي. كان ضمن مجموعته المدعو جمعة، سوري الجنسية. بدأ هؤلاء هذا اليوم بسيلٍ من العباراتِ القبيحة التي تنبيء عن مستوى منحطٍّ تربوياً وأخلاقياً. كما أجبروا جميع السجناء في العنبر على الوقوف، وتأدية التحية العسكرية لأي شرطي يدخل، واستمرار الوقوف حتى مغادرته من العنبر! وكذلك إجبار السجناء على مناداة كل الشرطة بلقب (سيدي). كان ذلك محاولة لاستراجع الهيبة الكارتونيّة المحطّمة.

إجراءات أشد من فترة الطواريء

    بعد تفعيل قانون ما سُمّي ب”السلامة الوطنية”؛ كنتُ وقتها في سجن الحوض الجاف. وقد فُرضت وقتها سلسلة من الإجراءات داخل السجن، ومنها:

– منع السجناء من الخروج من الزنازين، باستثناء فترة أوقات الوضوء للصلاة، وبعد الانتهاء من الوجبات الغذائية. أي بواقع ٦ مرات في اليوم

– منع تداول القرآن الكريم.

– السماح بالاستحمام مرتين في الأسبوع فقط. مع السماح باستعمال “الشامبو” والصّابون

– عدم السماح بالخروج إلى العيادة إلا وقت الحاجة فقط.

– المنع من الاتصال والزيارة العائلية.

    لم يتم إجبارنا في تلك الفترة بتأدية التّحية العسكرية للضّباط أو أفراد الّشرطة.

    في أحداث سجن جو، وبعد توصيات ما يُسمى بتقرير (بسيوني)، وإنشاء ما تُسمى المؤسسة الوطنيهة لحقوق الإنسان، ووحدة التحقيق الخاصة، وأمانة التظلمات، ومفوضيّة السجون.. كان الوضع أكثر سوءاً، ولم تستجب هذه الجهات والمؤسسات لنداءات أهالي السّجناء للإطلاع على أوضاع السّجناء، ومتابعة الانتهاكات التي خرجت عن حدود الدّائرة الإنسانيّة. في أحداث جو امتدّت أساليب الاستباحة لتفوق كلّ التصوّرات، وفاقت ما كان يُمارس أبّان قانون الطواريء.

      في كبينةٍ خالية من أيّ موظّف، رُفعت لافتة كُتب عليها: (الأمانة العامة للتظلمات). كانت خلْوا من أيّ شيء، غير الخواء والكذب. نصبوا هذه الكبينة قبل مجيء لجنة الصليب الأحمر الدّولي. ولكنها كانت إشعاراً بكومة الانتهاكات التي تعجّ في أرجاء السجن. وأذكر فيما يلي بعض هذه الانتهاكات التي مورست بشكلٍ عام في جميع المباني وداخل الخيم:

– عدم السّماح للسجناء للخروج للوضوء إلا مدة دقيقتين. وفي حال التأخّر عن هذه المدّة يتعرّض السجين للضّرب بالأهواز البلاستيكيّة على باطن القدم.

– عدم السّماح للخروج إلى عيادة السجن.

– عدم السّماح باستعمال الشّامبو أثناء الاستحمام. وفي فترةٍ لاحقة تمّ السّماح باستعمال صابونة واحدة خاصة للسجم، كان يستعملها جميع نزلاء الغرفة.

– عدم السّماح بالاتصال والزيارة العائليّة.

– الإجبار على التّحية العسكرية والوقوف أثناء وجود الشرطي أو الضّابط داخل العنبر، ولو كان من غير العاملين في المبنى.

– بعد تناول الوجبات يتم غسل الأيدي داخل الزنزانة التي لا يوجد بها مغسلة أو حمام.

– عدم السّماح بدخول القرآن الكريم داخل الزنزانة. ولاحقا تم السّماح بإدخال نسختين فقط يتناوب عليها الجميع.

– الإجبار على تأدية النشيد “الوطني” بعد أذان الصبح، وأثناء الجري في الفناء الخارجي. ومنْ يردّد النشيد كان يجلس وسط برميل القمامة، ويرفع صوته عاليا.

– الإجبار على استعمال كلمة (سيدي) في حال مناداة الشرطي. وفي حال تكرار الكلمة ٣ مرات؛ يتعرّض السجين للضرب والإهانة.

– إهانة العلماء والكوادر الطّبيّة من خلال إجبارهم على تبليل ملابسهم تحت رشّاش الماء، والوقوف أمام الحائط في الفناء الخارجي.

– توجيه الألفاظ البذيئة والحاطّة بالكرامة.

الأحد ١٨ مارس

    بعد الانتهاء من وجبة الغذاء، جرت العادة على أن يتمّ السّماح لنا بالذّهاب إلى الحمام لمدة دقيقتين لغسل الأيدي. كنّا ننتظر قرابة ٤٥ دقيقة بعد الغذاء ثم يُسمح لنا بالذهاب إلى الحمام. في هذا اليوم؛ طال وقت الانتظار حتّى السّاعة الثالثة والثلث تقريبا، أي بعد الثانية وخمس وأربعين دقيقة من بعد الانتهاء من الوجبة.

   نادى الأخ محمد ميرزا، أبو جبرائيل، على الشرطة لفتح الأبواب. لم تتم الاستجابة له، فأخذ يواصل المناداة. توقّعنا أنه سوف يتعرّض للاعتداء، فقمتُ وآخرون بالمناداة معه حتى لا يُستهدَف وحده. استمرّ الوضع حتى الساعة الرابعة عصرا.

     وبدون سابق إنذار، تفاجأنا بدخول فرقة الشغب بالهراوات. كانوا قادمين من الزنزانة رقم ٤، المحاذية لنا، والتي يوجد فيها أبو جبرائيل. لقد شكى ضدّه مسؤول النوبة التابع للدرك الأردني. أبلغهم أنه يُثير الفوضى في المبنى، ويُحرّض السّجناء على التمرُّد. قاموا بإخراج أبو جبرائيل من الزنزانة مسحوباً، وهم ينهالون عليه بالضّرب، وصراخه يهزّ المبنى.

     توجّهتُ إلى مسؤول النوبة الذي كان واقفاً أمام زنزانتنا، ويتابع مشهد الاعتداء على الأخ أبو جبرائيل. قلتُ له: “ليس الأخ محمد منْ نادى لوحده لفتح الأبواب، بل كنتُ أنا أيضاً من بين منْ نادى. هل يُرضيك ما حدث له بسبب عدم قيام الشرطة بواجبهم؟!”. كما تحدّث أيضا بعضُ الأخوة، وطلبتُ منه أن يُخرجني من الزنزانة، لأنني كنتُ منْ الذين نادوا مع أبو جبرائيل. إلا أنه تجاهل كلامي. وبعد فترة وجيزة؛ جاء شخص يبدو أنه مسؤول في قوات الشّغب، واستفسر عن الأشخاص الذين اتهمهم الضّابط. جاء الأمر بإخراجنا جميعاً وإرسالنا إلى الإدارة للتحقيق وتدوين الإفادات. كنّا قرابة ١٢ شخصاً. أتذكر منهم الأستاذ محمد حسن سرحان.

      تم أخذنا إلى الإدارة مشياً ونحن مكبلو الأيدي من الخلف. كنّا نمرّ على حشودٍ من قوات الشغب والدرك الأردني، إلى أن وصلنا إلى كبينة التفتيش المحاذية لمبنى الإدارة، حيث تمّ وضعنا في الكبينة الخشبيّة المحاذية لها.

    بقينا على هذه الحال نصف ساعة تقريبا. كنّا ننتظر المحقق وتدوين الإفادة. شعرتُ والأستاد محمد بالإعياء وضيق التّنفس، وكان الشرطي الأردني يهزأ بحالِ الجميع، إلى أن سقط الأستاذ محمد على الأرض، ما اضطر الشرطة لإرسالنا إلى المركز الطبي. هناك، وبينما كنّا على سرير المرض، جاء ضابط أردني إلى العيادة، وأخذ يتصنّع اللّطف، ويبرّر ما حدث زاعما أن إدارة الأمور تحت سيطرة قوات الشغب، متناسيا أنه الشخص الذي استدعاهم داخل المبنى. أخبرنا بأننا سنعود إلى مبنى ١٠ بعد الانتهاء من العلاج، كما قال بأن الموضوع انتهى دون تحقيق أو كتابة إفادات، وأنّ الجميع سيعودون إلى المبنى.

فحوصات طبية شاملة بعد انتهاء الدّوام الرسمي

     في أحد الأيام، تمّ استدعائي للذّهاب إلى العيادة الطّبيّة بعد انتهاء الدّوام الرسمي في الصباح. لا أتذكّر أنني طلبتُ الذهاب للمستشفى. كنتُ كلما طلبت ذلك يكون الرّد من الدرك الأردني هو الرّفض. تم أخذي إلى العيادة، وكان في اتظاري هناك الطبيب والممرضون والشرطي المرافق للطبيب. زاد ذلك من تعجّبي. لماذا هذا الاهتمام المفاجيء؟ وفي هذا الظّرف؟

      تمّ فحص السّكر في الدّم، وفحص الضغط وتخطيط القلب. سُئلت عن الأدوية التي احتاجها، وتمّ صرفها لي في الحال، خلافاً للوضع المعتاد، حيث يطول ذلك يوم أو يومان.

     لم أصدّق ما أنا فيه من اهتمام. الأمر غريبٌ جدّا! لكن، ما أنْ أصبح الصّباح، وعلمنا أن لجنة الصّليب الأحمر الدّولي سوف تأتي للسّجن؛ تبدّدت سُحب الاستغراب التي خيّمت عليّ. فإذا عُرف السّبب بطُل العجب.

   ‎

الدرك الأردني وخلطة علاج الجرب

    كان السّجناء يخشون من التعرُّض للضّرب أثناء الوقت الخاص لقضاء الحاجة والاستحمام. منْ يتجاوز الوقت المخصوص لذلك فإنّه لا يمكن أن يسْلم من الإهانة والعذاب. والوقت لا يتجاوز ٥ دقائق فقط.

     لهذا السّبب، امتنع كثيرون عن الاستحمام. ومع الوقت، انتشرت الأمراض الجلديّة بين السجناء. زادَ من ذلك عدم تعرُّض الجسم لأشعة الشمس.

    المسؤول الأردني سيء الذّكر، خالد المستريحي، لم يترك ذلك دون مزيدٍ من الانتقام. بدلاً من نقل المصابين إلى العيادة الطبية؛ قام باختراع خلطة لعلاج المرض الجلدي الذي عانى منه الكثيرون. الخلطة مكوَّنة من: صابون غسيل ملابس، ماء ديتول، صابون لوكس المخصص لغسيل الأواني. وضع هذه الخلطة في أنبوبة مخصّصة لتنظيف الزّجاج، وأمر السّجناء المصابين بالوقوف في طابور، وقام – بكلّ استخفاف وسخرية – برشّ المناطق المتأثرة في الجسم بها.

دقيقتا الحمام وإصابة علي صنقور

     كما تمّت الإشارة، فإنّ الوقت المخصص للذهاب إلى الحمام لا يتجاوز دقيقتين. وفي حال التأخّر، فإن الأهواز البلاستيكية تكون هي الردّ الذي يقرّره الوحوش.

     بسبب ذلك، كان السّجناء يذهبون جرياً وبسرعةٍ إلى الحمام، ويخرجون بسرعة. وبسبب ذلك، تعرَّض الأخ علي صنقور لانزلاق وسقط على إحدى العتبات وأصيب في منطقة الحوض. كانت إصابة بليغة، وتسبّبت بالكسر في الحوض، وقد اضطر لاستعمال العكاكيز أكثر من شهرين.

‎الوقوف تحت أشعة الشمس مع تبليل الملابس

    في إحدى المرات، كان دوْر زنزانتنا للذهاب إلى الحمام وغسْل الملابس. لم أتمكّن من الانتهاء في المدّة المخصّصة وهي ٥ دقائق. وذلك تأخّر الشيخ المحفوظ في العودةِ إلى الزنزانة. حالما انتهيت من الحمّام، كان العقابُ ينتظرني مع الشيخ. والعقاب هو أن نذهبَ بملابسنا تحت رشّاش الماء، ومن ثم العودة تحت الشمس والوقوف باتجاه الحائط في الفناء الخارجي. تحمّلنا الوقوف لفترةٍ طويلة، لكن – ومن حُسن الحظ – أن تلك كانت فرصة جيّدة للبقاء تحت الشمس. وقد غبطنا عليها السّجناء المغيّبون في ظلمة الزنازين. وقد حاولتُ أن أنالَ هذه العقوبة مرةً أخرى، لكن لم أفلح في ذلك!

‎المحطة الأخيرة

‎ 

    سقطتُ على الأرض في إحدى المرّات التي كنّا نُجبر فيها على الركض وترديد النشيد “الوطني”. تعرّضت لجروح سطحية في منطقة الرّكبة. رغم الكمية القليلة من الدّم، إلا أن المسؤول الأردني، الوكيل محمد، لم يُبدِ أيّ تجاوبٍ عندما طلبتُ منه الذّهاب إلى المستشفى.

     بعد ٤ أيام، التهبتْ منطقة الإصابة وتورّمت، وبدأ سوائل تخرج منها. عاودتُ طلب الذّهاب إلى العيادة، وخرجت إلى الفناء الخارجي، وكان حينها الشيخ زهير عاشور واقفاً أمامي. إلا الأردني خالد المستريحي تعمّد ركلي في المنطقة المتوّرمة، وبحذائه العسكري. كان ذلك قبل يوم من انتهاء محكوميتي التي قضيتها، وهي ٣ سنوات. إلا أن المستريحي لم يعلم بموعد خروجي، وطلب مني العودة إلى الزنزانة.

     عندما عدّتُ إلى الزنزانة؛ بدأتُ أشعر بعلاماتِ ارتفاع درجة الحرارة، وتكسُّر عام في الجسم، الأمر الذي دعا الإخوة ناجي فتيل وعلي الغانمي لإخبار مسؤول النوبة الأردني بحالتي الصحية. بعد نصف ساعة تم نقلي إلى العيادة، واتضح هناك أن درجة حرارتي  ارتفعت إلى ٣٩.٥ بسبب التهاب الجرح، الأمر الذي استدعى إعطائي إبرة حافظة للحرارة ومخففّة للألم، وتطهير منطقة الجرح.

     وفي صباح اليوم الثاني الموافق، ٣١ مايو ٢٠١٥م، تمّ الإفراج عني. كان الخبر مفاجئاً لأسوأ مسؤولي المبنى: خالد المستريحي، والوكيل محمد حسني. وقد تبدّلت لهجتهم وتصرفاتهم حينما علموا بموعد خروجي وانتهاء محكوميتي.

    الأمر الغريب أنني عندما خرجتُ من السجن، توجّهتُ في اليوم التالي إلى قسم الطواريء للمعاينة، ثم قرّروا إدخالي المستشفى لإجراء علمية جراحية أشرف عليها الجراح الاستشاري وليد المرزوق.

     حينها، نشرت صحيفة (الوسط) خبرا بذلك، وفوجئتُ بزيارة محقّقين تابعين لأمانة التظلمات وحقوق الإنسان، وقالوا إنهم عرفوا بأمر العملية من الصحيفة، وأنهم حضروا للإطلاع على حالتي. أبديتُ لهم استغرابي كونهم لم يبادروا لزيارتنا في السجن عندما بدأت أحداث ١٠ مارس، ولمدة شهرين، رغم مناشدة الأهالي. وكما هو المعتاد، ساقوا تبريرات لا تنطلي على منْ تعامل معهم طيلة ثلاث سنوات قضاها في السّجن.

الخلاصة

    اكتفي بهذا القدر اختصاراً للإفادة، رغم عدم ذكري لكثيرٍ من المحطّات والاكفتاء بالأهم مما حدث في تلك الفترة المشؤومة. مع التشديد على أن ما تعرّضتُ له هو نزْر يسير مما تعرّض له الشباب، وخصوصا منْ هم دون سنّ الثامنة عشر من العمر. كما أن حالتي هي واحدة من آلاف الحالات التي تؤكد استمرار الانتهاكات والاعتداءات داخل السجون، حتّى بعد تشكيل المؤسسات الحقوقية الحكوميّة. هذه المؤسسات لم تُسهم في تخفيض نسبة هذه الانتهاكات، بل إنها عمدت إلى إيجاد تبريرات قانونيّة لها.

المصدر
كتاب زفرات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟