مواضيع

أمور انفرد فيها أمير المؤمنين (ع)

هنالك أمور هي من خصائص أمير المؤمنين (ع) واختص بها دون غيره، وتكاد لا تذكر إلا بجوار أمير المؤمنين (ع)، أو عند الحديث عنها أول من يتبادر إلى الذهن هو علي بن أبي طالب(ع) وهنا نذكر بعضًا منها:

أنا الذي أهنت الدنيا

ذكر في نهج البلاغة بينما كان أمير المؤمنين (ع) راكبًا على حماره ورجله في جانب واحد قال: «أنا الذي أهنت الدنيا»[1]، هذه الدنيا التي نلهث وراءها كانت تلهث وراء أمير المؤمنين (ع)، وكان الأمير يدير ظهره لها وخاطبها ذات مرة: «يا دنيا غري غيري»[2]، فليس علي بن أبي طالب الذي يغتر بالدنيا وزخارفها وهو الذي في موارد عديدة كان يبين نظرته للدنيا وقيمتها عنده فتارة يقول عنها: لا تساوي عندي «عفطة عنز»[3] وأخرى «كورقة في فم جرادة»[4]، نعم أمير المؤمنين أذل الدنيا وأهانها حتى لو كان للدنيا لسان لنطقت وقالت: كفاني إهانة يا بن أبي طالب، من الذي بإمكانه أن يحتقر الدنيا ويهينها هكذا غير علي (ع)، العبارة تقول: «أنا الذي» أي أن هذا الأمر خاص بأمير المؤمنين، لذلك يقول لنا الأمير في مورد آخر بعد أن يقف معيشته في الدنيا: «ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد»[5] فليس بمقدور أحد أن يعيش كأمير المؤمنين حتى يتمكن من تحقير الدنيا وإهانتها ولكنه علي بن أبي طالب الذي أهان الدنيا ولكن تكلفينا كما حدده الأمير في هذا الطريق هو العمل بجد واجتهاد وبورع وتقوى على خطى الأمير ونهجه واقتداء بصيرته.

أنا الذي فقعت عين الفتنة

مرة أخرى يقول الأمير: «أنا الذي»، أي أن هذا أمر خاص بأمير المؤمنين وقد قال الأمير بعد تصديه للخوارج وفتنتهم: «أنا الذي فقعت عين الفتنة ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيري»[6]، تحدثنا عن هذه الفئة وخصالهم في عنوان سابق، الآن تخيل أنك في مواجهة مع مجموعة من الفقهاء الحافظين للقرآن والزهاد في الدنيا وأهل قيام الليل وصيام النهار وأشداء في الحرب، مجرد تخيّل هذا الأمر صعب فضلًا أن تقوم به في الواقع، هذا على المستوى الشخصي فكيف بإمكانك أن تقنع الآخرين أن مجموعة بهذه الصفات تستحق الضرب؟

وحده علي بن أبي طالب يمكنه فعل ذلك؛ لأن علي ميزان الحق والباطل فلو وقف في وجه هؤلاء غير علي لما تمكن لأن المجتمع كله سيقف ضده ويتعاطف مع هذه المجموعة المنحرفة، لذلك قال الأمير: «أنا الذي»، ثم قال: «ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيري»، هنا أمر آخر، والموضوع يمر بمرحلتين:

الأولى: تشخيص انحراف هذه الفئة ووجوب التصدي لهم.

الثانية: امتلاك الجرأة اللازمة لمواجهتهم -وهي الأصعب-، وهذه الجرأة موجودة عند الأمير فقط كما أشار هو بنفسه.

شرطة الخميس

ذكرنا فيما سبق أن من إبداعات أمير المؤمنين تأسيس كتيبة في الجيش باسم شرطة الخميس وهذه من الأمور التي انفرد بها الأمير وقد أشرنا إلى النتاج الثوري والعسكري عند الحديث عن الشخصيات التي كانت في هذه الكتيبة وتضحياتها، وهنا لابد من الإشارة أن هذا الإبداع العلوي كان الهدف منه تقوية الجوانب التالية:

  1. الثوري
  2. السياسي
  3. العسكري
  4. الإداري

فقد بنى أمير المؤمنين كوادر شجاعة فدائية في ساحات الحرب والجهاد وفي الوقت نفسه لديها قدرات إدارية عالية وقوة التدبير والإلمام بالأوضاع العامة وفهم العدو ومخططاته، لذلك أصحاب هذه الكتيبة أصبحوا ولاة وقادة الجيش، حيث استلموا مناصب عليا في حكومة أمير المؤمنين ولولاهم لما استطاع أمير المؤمنين إجراء العدالة وتقديم النموذج المتكامل للحكم الإسلامي، وشرطة الخميس كان لهم دور ثوري وسياسي على أساس عقائدي راسخ ومتين.

تجدر الإشارة إلى الصفات التي ذكرناها لشرطة الخميس، حيث هي نفسها التي يجب أن تتوفر للولي الفقيه، أي الشجاعة والكفاءة والتدبير والإلمام بأوضاع هذا الزمان ومعرفة العدو ومخططاته، وحتى يظهر الحجة أرواحنا فداه لا بد من بناء كوادر من هذا النوع ليستعين بهم الإمام في الحرب ومن ثم في إدارة الدولة، إذا توفرت هذه الكوادر فسيظهر الإمام أرواحنا فداه ومن دونهم لن يظهر الإمام؛ لأن حكومته (ع) ستكون نفس حكومة جده أمير المؤمنين لذلك هو بحاجة إلى أشخاص نفس أولئك الذين كانوا مع أمير المؤمنين.

حنكة علي العسكرية

اشتهر أمير المؤمنين بشجاعته وضرباته الحيدرية، وقد أشدنا فيما سبق إلى جانب من دوره في الغزوات وتأثير مواقفه في تغيير مجريات الأحداث لصالح المسلمين، وهنا سنتطرق إلى جانب مهم في الحروب في شخصية أمير المؤمنين الذي للأسف لا يتم التطرق إليه وهو حنكة علي العسكرية، وسنشير إلى بعض النماذج منها:

  1. غزوة ذات السلاسل: قيل أن سبب نزول سورة العاديات أن النبي بعث عليًا مع بعض المهاجرين والأنصار ليحارب جمعًا غفيرًا من الكفار تجمعوا لمحاربة المسلمين، وهجموا عليهم صباحًا ودحروهم وقتلوا جماعة وأسروا النساء والأطفال وغنموا أموالًا كثيرة، فلما نزلت السورة خرج رسول الله إلى الناس وصلى بهم وقرأ في الصلاة: <وَالْعَادِيَاتِ>[7] «فلما فرغ من صلاته قال أصحابه: هذه السورة لم نعرفها. فقال النبي: نعم، إن عليًا ظفر بأعداء الله وبشّرني بذلك جبرئيل في هذه الليلة. فقدم علي بعد أيام بالغنائم والأسارى.»[8] والآيات الخمس الأولى من هذه السورة المباركة تتحدث عن التكتيك العسكري الذي اتبعه أمير المؤمنين ووقائع المعركة، أما التكتيك العسكري الذي لجأ إليه وانتصر به القائد الإسلامي الفذ علي بن أبي طالب فهو: بعد أن عرض عليهم أمير المؤمنين دخول الإسلام حقنًا للدماء ورفضوا وأصروا على قتالِ المسلمين، قام أمير المؤمنين بتجهيز الجيش ليلًا وحدد وقت الهجوم فجرًا قبل الشروق، وكان يهدف من ذلك مباغتة القوم وهو قوله تعالى: <فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا>[9] صلى الأمير بالجيش صلاة الصبح وتحرك نحو العدو وكانت الخطة هي مباغتة القوم واختراق جيش العدو حتى وسطه ليتم تفريقه إلى قسمين، والأهم هو انقطاع الاتصال بين الجيش وقائده، وهذا يؤدي إلى هزيمة الجيش تلقائيًا وهذا الذي حدث، وهو قوله تعالى: <فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا>[10] وانتصر المسلمين بأقل الخسائر وجروح بسيطة، كان تفكير أمير المؤمنين وهدفه من هذا التكليف هو حقن دماء المسلمين وتحقيق النصر بأقل الخسائر، وقد تحقق هذا الأمر بالإضافة إلى الغنائم الكثيرة والأسرى الذين ربطهم أمير المؤمنين بحبل على شكل سلسلة، لذلك سميت بغزوة ذات السلاسل، وهذا يعكس جانب من الحنكة العسكرية عند أمير المؤمنين.
  2. معركة الجمل: موقف آخر يعكس حنكة علي العسكرية وذلك في معركة الجمل، في البداية وعظ أمير المؤمنين القوم لمنع حدوث قتال بين الطرفين حقنًا لدماء المسلمين ولكن بعد إصرارهم على القتال ومع تركيز الأمير على الحفاظ على دماء المسلمين وإنهاء المعركة بأقل الخسائر، كان لابد من تكتيك يحقق هذا الهدف فنظر علي بحنكته العسكرية وقال[11]: أن هذه الحرب قائمة على شخص عائشة لأنها بشخصيتها الاعتبارية كونها زوجة رسول الله كانت هي في الوسط والجيش ملتف حولها فإذا تم قطع أرجل الجمل وسقطت عائشة أرضا ستنتهي الحرب، فأعطى أمير المؤمنين السيف لمحمد بن الحنفية وطلب منه اختراق الجيش حتى يصل إلى الجمل ويقطع أرجله، فذهب محمد وحصل على مقاومة من أصحاب الجمل فلم يتمكن من الاختراق ورجع، فسلم علي السيف للإمام الحسن وتقدم واخترق الجيش وقطع أرجل الجمل فسقطت عائشة وانتهت المعركة ولم تحصل مواجهة حقيقية بين الطرفين، وانتصر جيش الأمير بأقل الخسائر، ومن هنا حملت عائشة الأحقاد على الحسن، ثم لاحقًا منعت دفنه عند جده رسول الله (ص).
  3. حكم علي في أهل الجمل وصفين: ونعرض هذا السؤال الذي سأله القاضي يحيى بن أكثم الإمام الهادي وجواب الإمام عليه إذ يكشف الحنكة العسكرية الاستثنائية للأمير وقدرته التدبيرية العالية في اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب في ساحة المعركة وبعد المعركة، والسؤال هو: لماذا ترك علي أهل الجمل ولم يلاحقهم ويواصل محاربتهم بعد انتهاء المعركة، في حين لم يترك أهل صفين وواصل الحرب عليهم، فلما هذا التفاوت في الموقف؟

فجاوبه الإمام الهادي (ع): «إن علیا (ع) قتل أهل صفين مقبلين ومدبرين وأجاز على جريحهم، وإنه يوم الجمل لم یتبع موليًا ولم يجز على جريح ومن ألقى سلاحه آمنه ومن دخل داره آمنه، وأن أهل الجمل قتل إمامهم ولم تكن لهم فئة يرجعون إليها وعندما رجع القوم إلى منازلهم غير محاربين ولا مخالفين رضوا بالكف عنهم فكان الحكم فيهم رفع السيف عنهم والكف عن أذاهم إذ لم يطلبوا عليٍّ أعوانا، وأهل صفين كانوا يرجعون إلى فئة مستعدة وإمام يجمع لهم السلاح والدروع والرماح والسيوف ويسدي لهم العطاء ويهيئ لهم الأنزال ويعود مريضهم ويجبر كسيرهم ويداوي جريحهم ويحمل راجلهم ويكسو حاسرهم ويردهم فيرجعون إلى محاربتهم وقتالهم فمن رغب عرض عن السيف أو يتوب من ذلك»[12] هذه بعض المواقف التي تعكس حنكة أمير المؤمنين العسكرية والتي لا تقل أهمية عن شجاعته وضرباته الحيدرية في الحروب وتكشف عن كمال هذه الشخصية الإلهية.

أفي سلامٍ عن ديني

عندما أخبر رسول الله أمير المؤمنين عن استشهاده لم يسأل الأمير كيف وأنا وحتى وأين وعلى يد من؟ فهذه الأسئلة تقع في دائرة اهتمامات الماديين أو الذين يعبدون الله عبادة التجار، أما علي فيهمه أمر واحد فقط، لذلك سأل سؤال واحد: «يَا رَسُولَ اَللَّهِ وَ ذَلِكَ فِي سَلاَمَةٍ مِنْ دِينِي»[13] هذا هو المهم عند علي الذي يعمل لوجه الله ويريد رضا الله تعالى، فليس مهم أين نكون وعلى أي حال، في السلم أم في الحرب، في الشدة أم في الرخاء، مرضى أم بكامل صحتنا، المهم أن يكون ذلك في سلامة من ديننا، وإذا كان الأمر كذلك فلا يهم حتى لو بقينا كل أعمارنا نعيش في السجن وفي شدة، هذا هو المنطق العلوي وقد تسأل وكيف يسأل أمير المؤمنين هذا السؤال والنبي يخبره عن استشهاده؟ وهل تكون الشهادة في غير سلامة من الدين؟ نعم ليس كل من يقتل في الظاهر في سبيل الله فهو كذلك فقد تكون نيته ليست خالصة لله تعالى، بل هي ليست إلى الله تعالى وإنما لمصلحة مادية وهدف دنيوي، وقصة شهيد الحمار معروفة في هذا الخصوص، وما أكثر الذين يخرجون إلى الساحات ليس لله ومن أجل تهيئة الأرضية لظهور بقية الله الأعظم أرواحنا فداه، وإنما من أجل الحصول على بعض المكاسب المادية الزائلة التي يعتبرونها من حقوقهم التي حرموا منها وهذا حق مشروع ولكن علي (ع) بهذا السؤال يعطينا درسًا مفاده يجب أن يكون القيام لله في مقام الدين والعمل ومن كان هذا مبدؤه لن يمل ولن يتعب ولا يشتكي ولن يهزم في منتصف الطريق.

لماذا علي دون الباقي؟

الخوارج الحمقى سعيًا منهم لإقامة حكم الله كما كانوا يزعمون، قرروا التخلص من ثلاثة أشخاص واعتبروهم بمثابة حجرة عسرة في طريق تحقيق هدفهم، وهم أمير المؤمنين ومعاوية وعمرو بن العاص، ولأن هذا الأخير اللعين كان يسعى للوصول إلى كرسي الحكم فقد استدرج الخوارج لخطة يتم التخلص منها من هذه الشخصيات، فكان الموعد ليلة 19 من شهر رمضان المبارك وأثناء صلاة الفجر وما حصل هو أن عمرو بن العاص كان مطلعًا وشريكًا في وضع الخطة بطريقة غير مباشرة، فلم يذهب للصلاة، أما معاوية فقد أصيب في فخذه وتم معالجته، وأمير المؤمنين نال الشهادة الرفيعة وقد تتساءل مع نفسك من باب المحبة لأمير المؤمنين وتقول: لماذا نجحت الخطة مع علي دون غيره وبقى أعداؤه ولم يهلكوا؟ قبل الجواب لابد من الإشارة أننا نتحدث هنا وبحسب الظاهر، أو كما يرى البعض أن هذه الأسماء هي شخصيات إسلامية وعلى هذا الأساس سنجيب على هذا التساؤل وإلا أين الثرى من الثريا؟ وأين معاوية من علي؟ وفي مقام الجواب نقول:

  1. هذا مقام لا يناله إلا علي وشيعته.
  2. لو حصل هذا الأمر لافتقدت الشهادة في المحراب قدسيتها وعظمتها لحصول معاوية عليها.
  3. ما كانت هذه إلا منقبة لأمير المؤمنين ولأحتج القوم علينا لأن صاحبهم نالها أيضًا.
  4. لاستغلوا هذا الأمر في تعظيم مقام أعداء علي لذلك جاءت الحكمة الإلهية لصالح علي كما كانت دائمًا.

علي على الأرض

الحديث عن أمير المؤمنين هو حديث عن العجائب فعلي هو مظهر العجائب ونحن أمام شخصية استثنائية عزيزة من كل المقاييس، وقد يعجب البعض من عبادة علي أو جهده أو شجاعته أو قلعه لباب خيبر أو رجوع الشمس إليه أو أي صفة من صفات أمير المؤمنين، ولكن كل ذلك ليس بعجيب وإنما العجيب هو كيف عاش علي على الأرض؟ كيف استطاعت الروح الملكوتية والجبروتية للأمير أن تبقى على الأرض؟ وهذا هو أعجب من كل عجيب لذلك قال الأمير: «فزت ورب الكعبة». فقد تخلصت روحه الإلهية من غربة الدنيا وحلقت إلى محلها الطبيعي عند الله.

فزت ورب الكعبة

لماذا فاز أمير المؤمنين؟ باستشهاده في محراب العبادة؟ بلا شك إن الشهادة بالمحراب فوز وأمر عظيم ولكن ليس هذا هو فوز الأمير علي (ع) العاشق، فاز بوصال المعشوق وهل الذي يردد في سجوده كل ليلة: «إِلهِي فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَلَىٰ فِرَاقِكَ»، وقد انتهى زمان الفراق وحان وقت الوصال، الروح الوالهة العاشقة لعلي قد ذابت في المعشوق، امتنى علي وتجلى العلي، هذا هو مقام الفوز الذي لا يعرفه إلا عاشق كعلي، علي يوصي بقاتله: بينما كان أمير المؤمنين في فراش موته جيء بقاتله اللعين ابن ملجم وكان خائفا مضطربا نظر إليه مظهر الرحمة الإلهية على الأرض علي بن أبي طالب ثم التفت إلى الإمام الحسن وقال له: «ارفق يا ولدي بأسيرك وارحمه وأحسن إليه وأشفق عليه، ألا ترى إلى عينيه قد طارتا في أمّ رأسه، وقلبه يرجف خوفًا ورعبًا وفزعًا»[14]« تعاملوا معه برأفة ورحمة وهذا لا يعني أن المعاملة كانت معه سيئة وإنما حالته هذه كانت لعلمه بعظم جريمته، وأمير المؤمنين بالرغم من أنه قاتله رأف بحاله وأراد تسكين روعه ثم أكد أمير المؤمنين على الإمام الحسن أن تكون ظروف السجن ملائمة لكافة حقوقه وتوفر له احتياجاته الأساسية ويعامل معاملة حسنة، وأخيرا أوصى أمير المؤمنين الإمام الحسن وقال: «فإن أنامتّ فاقتص منه بأن تقتله وتضربه ضربة واحدة، ولا تمثل بالرجل فإني سمعت جدك رسول الله (ص) يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور»[15].

أين الغرب الذي تبجح عن حديثه بحقوق الإنسان ويتهم الإسلام زورًا بالقسوة والغلظة من هذه الإنسانية التي ليس لها نظير، وعلي بفراش موته يوصي بقاتله على جميع الجوانب النفسية والمعنوية والمادية وحفاظًا على كرامته يأمر بتوفير كافة حقوقه واحتياجاته إليه، وأخيرًا من الناحية المادية يوجه بعدم التعرض إليه وإلى بدنه لا قبل ولا بعد إجراء الحكم عليه، كم أنت عظيم يا علي وما هي هذه الرحمة الواسعة، إنها الرحمة الإلهية، وعلي هذه الرحمة على الأرض وسعت رحمته حتى قاتله سلام الله عليك يا أبا الحسن.

أول مظلوم

نقول ونخاطب أمير المؤمنين بأول مظلوم فمن أين جاء هذا اللقب؟ إن أول من أطلق هذا اللقب على أمير المؤمنين هو إمامنا الصادق (ع)، فجاء الإمام الصادق وقف على قبر جده أمير المؤمنين زائرًا وقال: «اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا وَلِيَّ اللهِ، اَنْتَ اَوَّلُ مَظْلُوم»[16]. وهذا اللقب ليس لقب عاطفي أطلقه شيعة أمير المؤمنين وإنما أطلقه الإمام المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى.

نعم، فأي مظلومية أكبر من مظلومية علي؟ وبالإضافة إلى الأحداث التي جرت بعد رسول الله (ص) وصبر علي عليها، بلغ الحال إلى أن يذكر اسم علي إلى جنب اسم معاوية حتى قال الأمير: «الدهر أنزلني ثم أنزلني ثم أنزلني حتى قيل علي ومعاوية»[17].

فأي مظلومية أكبر من هذه؟ السلام عليك يا أول مظلوم.

اعتذار

سيدي ومولاي يا إمام القيم والمبادئ يا ناصر الحق حتى لم يبقَ لك صديق، يا أيها المتمسك بتعاليم الإسلام حتى لو وقع ضرر عليك، يا من علّمت أتباعك ألا يكونوا كذّابين، يا من أهان الدنيا ويا من فقع عين الفتنة ولم يبالِ، ويا من وسعت رحمته قاتله، يا من نصحتنا أن نكون مظلومين ولا نكون ظالمين ودعوتنا لنصرة المظلومين ومحاربة الظالمين، ويا من أوصيتنا بالاهتمام بالصلاة والتقوى ونظم أمرنا، ويا من طلبت منا أن نعينك بالاجتهاد والعفة في ترك الدنيا وملذاتها والالتزام بطاعة الله تعالى.

بعد هذا كله اعذرنا يا أمير المؤمنين ونحن ندعي أننا شيعتك ولكننا لا نقيم للقيم والمبادئ وزنًا ولنا أصدقاء كثر لأننا تركنا الحق وتركنا تعاليم الإسلام لأنها تتعارض مع مصالحنا الدنيوية وأصبحنا لا نتورع من توجيه السباب والشتائم واستخدام الكلمات والعبارات الغير لائقة مع الأخوان فضلًا عن الأعداء، وصار كل همنا الدنيا وزخارفها حتى أهانتنا الدنيا وأذلتنا ونحن ننحني لها ولا نواجه المنكر ونتصدى للفتنة؛ لأننا لا نبالي برضا الله ولكن نبالي برضا الناس وكلامهم، وافتقدنا الرحمة بيننا حتى صرنا نتصارع على الدنيا باسم الدين ولا نتردد في تسقيط إخواننا لمجرد الانتماء لأفكارنا ومنهجنا السياسي، وارتضينا لأنفسنا أن نمارس الظلم ولا نكون مظلومين حتى لو كان في ذلك رضا الله تعالى وركعنا إلى الظالمين على حساب نصرة المظلومين بحجة القبول بالأمر الواقع، والأدهى والأمر نفتخر بالصلاة ولا نؤديها بأول وقتها ولا نراعي شروطها وآدابها ولا نصليها بخشوع وحضور قلب وصار أمرنا فرض، وأما التقوى فبعيدون عنه كل البعد فلا زلنا عن الحرام غير متواضعين وخذلناك وأقبلنا على الدنيا وتركنا طاعة الله ولجأنا إلى المعاصي كالكذب والغيب والسرقة والشر والغش والتعاون مع الظلم وغيرها بصبغة شرعية تحت عنوان المخرج الشرعي، مدعين أنه لا يمكن لنا أن نعيش في زماننا هذا من غير أن نتسافل إلى هذا المستوى من الانحطاط الأخلاقي وأصبحنا شينًا عليك بدل أن نكون زينًا لك لتستمر مظلوميتك يا أول مظلوم هذه المرة على يد شيعتك فنعتذر إليك بقلب دامٍ وأملنا بقبول هذا العذر، وأملنا بقبول هذا الاعتذار ليس باستحقاق منا وإنما لكرمك وفضلك سيدي ومولاي ومعتمدي ورجاي.

عشق وجنون

قيل لي مجنون ليلى قلبه بالحب يسعى

ظل مجنونًا بها ما عاش في الدنيا وعمّر

إن يكن قيس بليلى جن يا صحبُ فيُعذر

فأنا بالعذر أولى فأنا مجنونٌ حيدر

من لا يعشق أمير المؤمنين إلى حد الجنون، فهو لم يعرف معنى العشق ولم يذق حلاوته، ومن لا يعشق علي ففطرته ليست سليمة؛ لأن الفطرة السليمة تعشق الكمال وتنجذب إليه لا إراديًا، وعلي ليس فقط هو الإنسان وإنما هو الكمال وكيف لا أعشق من عشقه الله، فهل سمعت أن الله تعالى مدح إنسانًا بشكل مباشر غير علي، وذلك عندما نزل جبرئيل وقال: «لا فتى إلا علي»[18] وهل هناك إنسان أهداه لله تعالى هدية بشكل مباشر غير علي، وذلك عندما نزل جبرئيل بذي الفقار وقال: «لا سيف إلا ذوالفقار». يا علي الكعبة تتباهى وتفتخر، وتشرفت بولادتك فيها، والشمس حظيت بشرف رجوعها إليك ليقترن اسمها باسمك وتخلد في التاريخ، علي لولاك لما كان لرسول الله أخ، ولولاك لما كان لفاطمة كفء ولولاكم لما خلق الله الأفلاك، علي لولاك لما تجلى الله في الأرض ولولاك لما عرف الله، ولولاك لما كان للإنسان الكامل من مصداق، ولولاك لما كان للعشق من معنى.

يلوموني عندما أقوم وأقول يا علي، آدم عندما قام قال: يا علي، ونوح عندما ركب السفينة قال: يا علي، وإبراهيم عندما ألقي في النار قال: يا علي، ويوسف في الجب نادى: يا علي، ويونس في بطن الحوت نادى: يا علي، وموسى عندما ضرب بالعصا صرخ: يا علي، وعيسى كان يحيي الموتى بذكر يا علي، ومحمد كل ما ضاقت به الدنيا قال: يا علي، ومن يعتقد أن هذه مبالغة أو غلو فليراجع الروايات أولًا، ثم أنه لم يعرف عظمة علي ومقامه بعد، كل شيء في هذه الدنيا تنادي يا علي، بل حتى بن ملجم عندما رفع سيفه قال: يا علي.

سيدي ومولاي أردت أن أقول أنت الراية فوجدتك أنت الإسلام، وأردت أن أقول أنت آية فوجدتك أنت القرآن، فمن القرآن الناطق، ومن عدل القرآن وفيمن نزلت النبأ والعاديات والإنسان والمباهلة والولاية، وخير البرية يا علي من له ولاية كولايتك بلغت من العظمة والأهمية أن دعوة رسول الله كلها وقفت على الإبلاغ عنها، وعبادات البشر لا تقبل إلا بها، يا علي أنت وجه الله وأنت عين الله وأنت أذن الله وأنت لسان الله وأنت يد الله وأنت أسد الله وأنت مظهر الله على الأرض.

اختصارًا وبعبارة واحدة أنت من الله ولست من البشر ومن أبى ذلك فقد كفر.

تم في يوم ميلاد إمامي أمير المؤمنين علي (ع)

13 رجب 1440 هجرية


  • [1] موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (ع) في الكتاب والسنة والتاريخ، محمد الريشهري، جزء 9، صفحة 183
  • [2] الغدير، الشيخ الأميني، جزء 2، صفحة 319
  • [3] ميزان الحكمة، محمد الريشهري، جزء 2، صفحة 899
  • [4] نفس المصدر
  • [5] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، جزء 40، صفحة 340
  • [6] شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، جزء 7، صفحة 44
  • [7] العاديات: 1
  • [8] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، جزء 21، صفحة 66
  • [9] العاديات: 3
  • [10] العاديات: 5
  • [11] المنقول بالمضمون
  • [12] تحف العقول، الحرّاني، صفحة 477
  • [13] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، جزء 42، صفحة 190
  • [14] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، جزء 42، صفحة 287
  • [15] جامع أحاديث الشيعة، السيد البروجردي، جزء 26، صفحة 230
  • [16] زيارة أمير المؤمنين (ع) المطلقة الخامسة
  • [17] حديقة الشيعة، المقدس الأردبيلي، جزء 1، صفحة 208
  • [18] شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، جزء 1، صفحة 9

المصدر
كتاب مرج البحرين يلتقيان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟