مواضيع

مظاهر وتجلّيات أخلاق الرسول

قول الله تعالى: <فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ>[1].

وقول الله تعالى: <لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ>[2].

تتضمن الآيتان الكريمتان نقاطاً رئيسية عديدة، منها:

  1. أنّ ما يتحلى به الرسول الأعظم الأكرم (ص) من مكارم الأخلاق والخصال الحميدة والكمالات العظيمة، هي في الحقيقة من مظاهر رحمة الله ذي الجلال والاكرام وتجلياتها، قول الله تعالى: <فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ>[3]، وأبرز مظاهرها: معاملة المؤمنين بالرأفة واللطف واللين والرحمة والشفقة، والانفتاح الروحي والقلبي عليهم والانبساط وسعة الصدر وطلاقة الوجه والتفهم الواعي لأوضاعهم وظروفهم الموضوعية ولمشاكلهم الحقيقية ولنوازعهم الذاتية ومشاركتهم الفعلية الصادقة في همومهم وأفراحهم وأتراحهم، وتحمّل أخطائهم وتقصيرهم والصبر عليهم، وتجنّب القسوة والفظاظة والخشونة معهم في الأقوال والأفعال، وتعتبر هذه الخصلة الحميدة الممدوحة من أهم أسباب ميلهم إليه والتفافهم حوله والتعلّق به، ومن ثمّ هدايتهم إلى الدين الحق والخلق الكريم والسلوك المستقيم، وإيصالهم إلى كمالهم المقدّر لهم واللائق بهم تدريجياً خطوة بعد خطوة وتحصيل سعادتهم.

ولو كان جافياً سيء الخلق قاسي القلب غليظ الطبع فظاً شرساً في أقواله وأفعاله غير ذي رأفة ولا رحمة، لما كان مؤهلاً لهداية الناس وإرشادهم، ولأن يكون طريقاً لوصولهم إلى كمالهم اللائق بهم والمقدر لهم، ولتركوه ولم يسكنوا ويرتاحوا ويأنسوا به، ولتفرّقوا عنه حتى لا يبقى معه منهم أحد على الدين الحق والإسلام الحنيف، فيشمت به العدو ويطمع فيه وفي دينه وأصحابه، ولا يتمُّ له الأمر ولا تنتشر الرسالة، على خلاف ما هو مطلوب منه ومأمور به، يقول العلّامة الشيخ ناصر مكارم الشيرازي: «ومن البديهي أنّ الذي يتصدّى للقيادة لو خلى عن هذه الخصلة الهامة (العفو واللين) وافتقر إلى روح السماحة، وافتقد صفة اللين، وعامل من حوله بالخشونة والعنف والفظاظة، فسرعان ما يواجه الهزيمة، وسرعان ما تصاب مشاريعه وبرامجه بنكسات ساحقة تُبدّد جهوده، وتذري مساعيه أدراج الرياح، إذ يتفرّق الناس من حوله، فلا يمكنه القيام بمهام القيادة ومسؤوليتها الجسيمة»[4]، ويقول العلّامة الشيخ محمد جواد مغنية: «إنّ المقصود من بعثة الرسول هداية الخلق إلى الحق، وهم لا يستمعون إلّا لمن تميل قلوبهم إليه، وتسكن نفوسهم لديه، والنفوس لا تسكن ولا تركن إلا إلى قلب رحيم كبير، كقلب محمد (ص) الذي وسع الناس كل الناس، وما ضاق بجهل جاهل أو ضعف ضعيف»[5]

وقيل: النبوات السماوية تقوم بأمرين: المظهرية التامة لأخلاق الله ذي الجلال والإكرام والرحمة الإلهية الواسعة الشاملة، واجتماع جميع الخصال الإنسانية في النبي من دون نقص أو شائبة، بالأمر الأول: يستفيض النبي من الله سبحانه وتعالى، وبالأمر الثاني: يخالط الناس ويعاشرهم ويعاملهم، فيفيدهم ويهديهم إلى الرشد والصلاح، وإلى مافيه خيرهم وسعادتهم في الدارين الدنيا والآخرة.

  • تأمر الآية الكريمة المباركة الرسول الأعظم الأكرم (ص) بأمور رئيسية جوهرية عديدة في تعامله مع المؤمنين، وهي:
  • فَاعْفُ عَنْهُمْ: اعفُ عن مسيئهم فيما يعود إلى حقّك الخاص، واستقبلهم بصدر رحب ووجه بشوش.
  • وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ: استغفر لذنوبهم فيما يعود إلى حقوق الله سبحانه وتعالى عليهم.
  • وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ: شاركهم في كل خطوة من خطوات العمل والتخطيط والبرامج الاستراتيجية العملية في الحرب والسلم، والتنمية، وجميع أمور الحياة التي تخصّهم وتعنيهم وتعود عليهم في واقع حياتهم وتحتاج إلى نظر وتفكير واستشارة، مثل: شؤون إدارة الدولة في حالتي الحرب والسلم، والمشاريع التنموية والخدمات التي تقدمها الدولة للمواطنين، والمصالح العامة، وقضايا الأمن والدفاع ونحو ذلك، وليس الشورى في مسائل الدين التي يجب الرجوع فيها إلى الوحي والتسليم إليه فيها، قول الله تعالى: <وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا>[6]، وعليه: فالأمور تنقسم إلى قسمين:
  • أمور الله سبحانه وتعالى: وهي الأمور التي تعود إلى الله وحده، ومنها: تعيين الخليفة أو الإمام بعد الرسول، ويجب التسليم فيها إليه ولا مكان فيها للشورى.
  • أمور الناس: وهي الأمور التي تخصّ الناس وتعود إليهم، وهي موضع الشورى بين الناس، ولهذا التشاور ثمار طيبة ومنافع ومصالح عظيمة دينية ودنيوية، منها: تطييب خواطر المواطنين ورفع روحهم المعنوية ومستوى الوعي والشعور العميق بالمسؤولية وإيجاد البصيرة النافذة لديهم في الأمور، وتوثيق عرى المحبة والصلة بينهم وبين القيادة على أساس المسؤولية والمصير المشترك، والرفع من أقدارهم ومكانتهم وأهميتهم للدين والوطن والدولة، وإيجاد الاستقرار النفسي لديهم، وتفعيل قدراتهم ومواهبهم وإمكانياتهم واستعداداتهم لخدمة الدين والدولة والوطن، وتربيتهم على الجد والاجتهاد وتحمل المسؤولية، وتنويرهم وتأهيلهم لممارسة المراقبة والمحاسبة والمحافظة على الرسالة ومقدرات الدولة والوطن، وترسيخ حالة الممانعة وتحصين الأمة والشعب ضد اختراقات الأعداء، وتربيتهم على الشجاعة الأدبية، وإفساح المجال أمامهم للتراجع عن الأخطاء وتصحيحها، ويعطي القيادة الشعور العميق بالثقة والمسؤولية، ويقطع الطريق على القيادات المنحرفة، ولكي لا يفرض القائد مزاجه الشخصي ونوازعه الذاتية ويقدم مصالحه على مصالح الأمة والرسالة، ولتمييز الصادقين المخلصين من الانتهازيين المتعصبين تمهيداً لوضع الشخص المناسب في المكان المناسب من قبل القيادة والشعب، ونحو ذلك من الفوائد والمنافع والمصالح الدينية والدنيوية.
  • إذا فرغ من التشاور واتخذ القرار وعُقد الرأي على فعل شيء، فالذي يعلن القرار هو القائد الأعلى في مجلس القيادة والشعب، ويجب المضي قدماً في تنفيذ القرار بعزم وقوة إرادة، والحذر من التلكؤ والتردّد والتراخي في تنفيذ القرارات، الأمر الذي يؤدي حتماً إلى الوهن والضعف والفشل، ويجب ألّا يقع الإعتماد على الرأي ولا على القوة الذاتية لتحقيق النجاح والظفر والوصول إلى ماهو مطلوب، بل يجب التوكل على الله (عز وجل) والإعتماد على حوله وقوته وتأييده وإعانته وتسديده لتحقيق النجاح والفوز والوصول إلى الأصلح في النتائج المرجوة، والتبرّي من الحول والقوة الذاتية، والحذر من الغرور والتكبر الذي يقود إلى الضياع والهلاك، فلا شيء يستقلّ بالتأثير عن الله (عز وجل)، وهو الأعلم بالأصلح، وهو وحده الذي يقضي ما يشاء ويحكم ما يريد، فالفكر والمشورة والتخطيط والبرامج والسعي والعمل، لا تكفي وحدها لتحصيل النجاح والظفر وتحقيق المطلوب، فيجب أن ينضم إليها الإذن الإلهي، فلا محيص إذن من التوكل على الله (عز وجل)، فيجب أن نأخذ الأهبة وتستكمل العدة والاستعدادت، ويؤخذ بجميع الأسباب المادية الظاهرية المأمور بها من جميع الجهات في التفكير والتخطيط والاستعداد والعمل، وترك الاستعجال والتقصير في الدراسة والتخطيط والعمل ونحو ذلك، فإذا فعلوا ذلك فقد أدّوا ما عليهم وما أمروا به من التكليف، ثم إيكال النجاح والظفر وتحصيل النتائج المرجوة إلى الله (عز وجل) مُسبّب الأسباب، إذ لا يقدر على ذلك ولا يملكه أحد غيره، وهذه هي حقيقة التوكل، وقد بيّن الله تبارك وتعالى أنه يُحِب المتوكلين اللاجئين المنقطعين إليه الواثقين به، الذين يملكون القوة في الصبر والإيمان والإرادة، وهو مؤيدهم وناصرهم وهاديهم إلى الصلاح، لما يتمتعون به من الصدق والإخلاص وصفاء السريرة، ولشديد حُبّهم لله ذي الجلال والإكرام وثقتهم به واعتمادهم عليه، ولقيامهم بما يجب عليهم من المسؤوليات وما أُمِروا به من التكليف.

ويعتبر التوكل من أعظم الفضائل، وأشرف منازل الإيمان، وأعلى مراتب ومقامات الإنسانية الكاملة، وهو من خواص الأنبياء الكرام (عليهم السلام) والعباد المؤمنين الصالحين؛ لأنه لا ينفك عن حقيقة الإيمان وكماله.

وفي الآية الكريمة تحذير شديد من التقصير في الواجبات، ومن الغرور والاستقلال عن الله (عز وجل) في أي من الشؤون الخاصة والعامة، وفيها تشويق وترغيب في محبة الله ذي الجلال والإكرام التي هي من أعظم الكمالات وهي الخير الجامع، والانقطاع إليه عن كل شيء سواه، وفي الجد والاجتهاد وبذل الوسع والطاقة في جميع الأعمال وتحمل المسؤوليات والقيام بجميع الواجبات، وفي التوكل على الله (عز وجل) والثقة به.

نتائج مهمة

ونتوصل مما سبق إلى النتائج المهمة التالية:

  1. إنّ الحكومة الإسلامية والجماعة المؤمنة ذات صبغة إنسانية قيمية راقية، وأنها دستورية منظمة وشورية عادلة، وليست مادية أو مستبدة أو ظالمة.
  2. إنّ الشورى مبدأ أساسي وثابت في إدارة الدولة الإسلامية الراشدة والجماعة المؤمنة الناصحة وتدبير شؤونهما، ولا يجوز إبطال الشورى أو تعطيلها تحت أية حجة أو في ظل أي ظرف من الظروف أو حال من الأحوال.
  3. إنّ الشورى قد تتسبب في بعض الأحيان في حصول نتائج سلبية، وهذه حالات إستثنائية لا يؤخذ بها ولا يعوّل عليها، وأنّ نتائجها الإيجابية كثيرة وثابتة بحيث لا تقاس بها النتائج السلبية، والشورى من علامات الصدق والحكمة في التدبير، ومن معالم الإنسانية ومظهر من مظاهر الكرامة، والأمة التي تقوم بتدبير أمورها على الشورى يقلّ خطؤها وتنذر عثرتها، على خلاف الدكتاتورية والاستبداد التي هي من معالم الانحطاط، ومظهرمن مظاهر الحيوانية المتوحشة والشيطانية الخبيثة.
  4. يجب أن يكون القائد الإسلامي على درجة عالية من حسن الخلق، ولا يكفي أن يكون على درجة عالية من العلم والخبرة، وهذا شرط لنجاح القائد في مهامّه الرسالية والإنسانية والحضارية.

الأقوال حول إلزامية الشورى

وبخصوص إلزامية نتائج الشورى للقيادة العليا، هناك قولان رئيسيان، وهما:

  • إنّ الأمر بالشورى للندب وليس للوجوب، وأنّ الإمتثال لما تتمخض عنه الشورى من نتائج غير واجب ولا مزلم للقيادة العليا؛ لأنّ الهدف من الشورى معنوي، وهو تطييب خواطر المؤمنين، وهو الأمر الذي تفرضه العلاقة الإنسانية والروحية التي تربط بين القيادة والأتباع.
  • إنّ الأمر بالشورى في الأمور التي تعود إلى الناس فيما هو تدبير بشري وليس فيما هو تكليف شرعي للوجوب وليس الندب، قول الله تعالى: <وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ>[7]، وأمّا قوله تعالى: <فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ>[8] هو أمر تنظيمي وإداري بحت؛ لأنّ القائد الأعلى هو المسؤول عن تنظيم عملية التشاور وإدارتها، وإعلان النتائج وإمضائها بعزم وثبات، ولا يدلُّ على الندب أو الإستحباب.

وبناءً على ما سبق: يجب التمييز بين ثلاثة أنواع من الإدارات:

  • الإدارة المعيّنة: مثل: الحكومة، وإدارة الشركة، ويعود القرار النهائي فيها إلى القائد الأعلى.
  • الإدارة المنتخبة: مثل: البرلمان المنتخب، ويُحسم القرار النهائي فيها بالأغلبية: المطلقة أو النسبية بحسب النظام الأساسي للمؤسس.
  • الإدارة المزدوجة: مثل: إدارة الأحزاب والجمعيات الأهلية، حيث يعود القرار النهائي فيها إلى القائد الأعلى أحياناً، ويُحسم بالأغلبية أحياناً.

والخلاصة: تتأثر مرجعية القرار في الإدارات بماهية المؤسسة.

  • إنّ الأخلاق العظيمة للرسول الأعظم الأكرم (ص) لا يظهر أثرها مع المؤمنين فقط، بل يشمل المؤمنين وغير المؤمنين؛ لأنه أرسل رحمة للعالمين.

فهو يتألّم لما يظهر من خصومة الجفاة القساة الغلاظ من الشقاق والعناد والسفاهة والحماقة، وما يقع عليهم من الشدائد والمكاره والمشاق والمتاعب، وما يلحق بهم من الضرر وآفات الدنيا والاخرة، ويخاف عليهم سوء العاقبة والهلاك والعذاب الأليم؛ بسبب تركهم الإيمان به والإصرار على مخالفته ومعاندته والجحود برسالته؛ لأنه حريص على الجميع، ويريد الهداية والإيمان وصلاح الشؤون وإيصال خيرات الدنيا والآخرة والسعادة والنجاة للجميع، ويسعى جهده لإيصالهم إلى كمالهم وسعادتهم الحقيقية، ويخاف أن يخرج أحد من الناس عن السعادة والنجاة بسبب تركهم الإيمان بدينه الذي جاء به، والاصرار على معاندته والجحود برسالته، غير أنه بحكم الرابطة الروحية والإيمانية، ولما يتمتّع به المؤمنون من خصال حميدة وصفات روحية جميلة وأعمال صالحة ونافعة، فإنه أكثر رأفة ورحمة بهم من غيرهم، وهذه حالة منطقية وموافقة لمقتضى العدالة، حيث يجب التمييز بين المُحق والمُبطل، وبين المُحسن والمُسيئ.


  •  آل عمران: 159-[1]
  •  التوبة: 128-[2]
  •  آل عمران: 159-[3]
  •  تفسير الأمثل، ناصر مكارم الشيرازي، جزء 2، صفحة 447-448-[4]
  •  الكاشف، محمد جواد مغنية، جزء 2، صفحة 188-[5]
  •  الأحزاب: 36-[6]
  •  الشوى: 38-[7]
  •  آل عمران: 159-[8]
المصدر
رسول الرحمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟