مواضيع

الزهد واجتناب الارستقراطية

أعزّائي، من الشعارات التي سبقت انتصار الثورة الإسلاميّة -لا أقصد شعارات الثورة، بل الشعارات الداخلية بيننا نحن الأصدقاء وضمن مجموعات الصداقة التي كانت تجمعنا حيث كنا نفكّر ونعمل ونكافح- كانت «بساطة العيش»؛ الحياة البسيطة والانتفاع بأدنى المستويات من مظاهر الدنيا! بعد أن انتصرت الثورة الإسلامية، حاولنا متابعة هذا المنهج، وهذا الشعار وهذا المبدأ. كان إمامنا الخمينيّ العظيم تجسيداً لهذا المعنى؛ كان رجلاً لم يكن يكترث فعلاً للتعلقات الدنيويّة ولم تكن ذات قيمة بالنسبة إليه.

كان المرء يلاحظ ذلك في ذاك الرجل الروحانيّ والعظيم أنّ المناصب، والعلّقات، والتكلّفات الدنيويّة لم تكن تنطوي بالنسبة إليه على أيّ قيمة! وأنتم بفضل الله واعون وأصحاب فهم، لا أرى حاجة لأن أوضح لكم هذه الأمور. ما أقصده بقولي هو الانتفاع الشخصي؛ وذلك لا يعني أنه لم يكن يعمل من أجل البلد وإعمار وازدهار البلد ولا يسعى لازدهار العالم. لطالما بثّ معارضو الإسلام مثل هذه الشبهات، فقد كانوا يقولون بأنّ الإسلام يعارض الدنيا؛ أي أنّه يطلب ألا نعمّر الدنيا! لا، تلك الدنيا التي يتمّ الحديث عنها، هي الدنيا الشخصيّة؛ أي ألا تسعى من أجل رغباتك في الحياة الدنيويّة وتعيش حياة بسيطة. هذا هو المعنى. لقد كان أمير المؤمنين شخصاً عاش أزهد أنواع الحياة؛ لكنّه كان في الوقت عينه يعمل باستمرار، ويهتمّ بازدهار مزرعته ويحفر آبار المياه، ويجاهد ويدير شؤون البلاد، كان يرأس حكومة بتلك العظمة، ويضع السياسات ويشرف على تطبيقها. غايتنا ومرادنا هي التفرّغ للدنيا، ونسبة كبيرة من مشاكلنا سببها هذه القضية![1]

أحياناً فيما بيننا وبين ربّنا تكون لنا حياتنا المترفة والمفعمة بالرخاء، فإن كانت حراماً فهي حرام، وإن كانت مكروهة فهي مكروهة، وإن كانت مباحةً فهي مباحة.

ولكن أحياناً نقوم بإظهار هذا الترف على مرأىً من أعين الناس، وهذا لا يمكن تصنيفه ضمن المباح والمكروه، بل هو الحرام بعينه؛ لأن فيه تثقيف وإشاعة للترف والبذخ بين مَنْ هم دوننا هذا أولاً، وثانيا: فيه تشجيع لعامة الناس على الترف، ولا يصح لنا تشجيع الناس على الترف.

 فقد يكون في المجتمع أثرياء يقومون بتبذير أموالهم -وهو عمل يخصّهم وإن كان سيّئاً- إلا أنّ تبذيرنا كمسؤولين ليس تبذيراً لمالنا الخاص، وإنما هو تبذير لبيت مال المسلمين، هذا أولاً، وثانياً: إنّ تبذيرنا يعدّ عاملاً مشجّعاً للآخرين على التبذير، فإن الناس على دين ملوكهم.

 قرأت في أحد التواريخ أنه عندما استخلف الوليد بن عبد الملك وكان مولعاً بجمع المجوهرات والتحف، أخذ الناس يتحدثون فيما بينهم حول شراء وبيع الثياب والأقمشة والأحجار الكريمة وغير ذلك من الأشياء الثمينة، وحينما استخلف بعده سليمان بن عبد الملك كان اهتمامه منصبّاً على العمارة وبناء القصور، فذكر المؤرخ أنّ الناس أخذوا يتحدثون حول البناء والعمارة واقتناء الأراضي وتوسيع الدور حتى وهم في المساجد.

 وبعدها جاء عمر بن عبد العزيز وكان عابداً، فأخذ الناس يتحدثون فيما بينهم عن فضيلة دعاء رجب أو صلاة ركعتين بخصوصهما، وعليه فإن سلوكياتنا تترك آثاراً تلقائية على الناس. إنّ الزهد شيء جميل للغاية.[2]

اجتناب الحالة الارستقراطية ظاهرة كانت مشهودة في ثورتنا، وقد حاول البعض حلحلتها تدريجياً. لهذه القضية تأثيرها في قضايانا الاقتصادية والنفسية. النزعة الارستقراطية كانت قيمة سلبية في الثورة أي إن الأشخاص وعلى شتى المستويات كانوا يتجنبون بشدة أن ينسبوا إلى الارستقراطية أو أن تلاحظ عليهم أمور تعد من مميزات النزعة الارستقراطية. مسؤولو البلاد بالدرجة الأولى ملتزمون بهذه الحالة ويجب أن يكونوا كذلك. لكن هذه الحالة ضعفت شيئاً فشيئاً. واليوم عاد لحسن الحظ ولله الحمد تيار مناهضة النزعة الارستقراطية واعتبارها قيمة سلبية، بمعنى أن الحكومة ومسؤوليها شعبيون ومتبسطون في معيشتهم وهذه فرصة جيدة جداً، وهي نعمة كبيرة وأحد المعايير.[3]


  • [1] كلمة سماحته في مؤتمر معرفة آفات الثورة بتاريخ 6-3-1999م
  • [2] خطاب سماحته أمام أعضاء الحكومة بتاريخ 30-8-2005م
  • [3] خطاب سماحته أمام أساتذة وطلاب جامعة علم وصنعت بتاريخ 19-7-2008م

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟