مواضيع

غربة الإنسان المعاصر عن نفسه

إن أعظم المشاكل التي تواجه الإنسان المعاصر بسبب جهله بنفسه وأقساها هو الاغتراب عن نفسه، فلا يعرف حقيقة نفسه ولا يعرف ربه، لا يعرف مبدأه ومنتهاه ومصيره، ولايعرف طريقه المثلى في الحياة، وذلك بسبب استغراقه في عالم الدنيا والمادة الطبيعة واتباعه الأهواء والوساوس الشيطانية، والأوهام والخرافات والخيالات الباطلة التي يحسبها حقائق يقينية ثابتة، وتبثها الفلسفات والمذاهب والمدارس المنحرفة، مثل: المادية والعلمانية والليبرالية والبرجماتية والجبرية والقدرية والمجسمة ونحو ذلك، والخضوع للرغبات والشهوات الحيوانية، والجري وراء اللذات الحسية والمصالح الدنيوية العاجلة الفانية، ولا شيء من ذلك يوافق العقل والمنطق والفطرة والطبع السليم والأخلاق والدين الحنيف، مما يؤدي شعور الإنسان الفعلي والحقيقي بالضياع والغربة والحقارة والتفاهة والدناءة، والسير العبثي في طريق اللاوعي الأسود والمجهول، بلا هدف ولا غاية حقيقية في الحياة، حتى ينتهي به المطاف إلى الشقاء الحقيقي الكامل والهلاك الفعلي والخسران المبين في الدارين الدنيا والآخرة.

فالغاية التي تطمح إليها الحضارة الغربية الحديثة السائدة، ويؤسس لها الفلاسفة الماديون والعلمانيون والبرجماتيون وغيرهم، ويقصدها السياسيون بأعمالهم وبرامجهم وسياساتهم واستراتيجياتهم، هي التقدم التكنولوجي وزيادة الإنتاج من أجل المزيد من الكسب والترفيه والسيادة على الآخرين، وهذا في الحقيقة هو مرض العصر المستشري والقاتل، حيث يعيش الإنسان المعاصر متلهياً بالاكتشافات والاختراعات وزيادة الإنتاج، لتحقيق المزيد من الرخاء المادي والترفيه والسيادة، وهو الأمر الذي يتحقق أكثر وفي المقام الأول لمصلحة طبقة الأغنياء من الشعوب والأفراد على حساب طبقة الفقراء من الشعوب والأفراد، فيزداد الفارق بين الطبقتين الأغنياء والفقراء يوماً بعد يوم.

وفي سبيل المزيد من الأرباح وعلى خلاف المنطق والدين والأخلاق، يبذل الناس في ظل الحضارة المادية المعاصرة كل جهدهم، ويسلكون كل طريق، ويأخذون بكل وسيلة مشروعة وغير مشروعة مادية ومعنوية، حتى عواطف الإنسان ومشاعره ومقدساته، تباع وتشترى كسلع في سوق العرض والطلب، وتمحى القيم النبيلة من قاموس السلوك والعلاقات بين البشر، فالشرف والكرامة والضمير والثقافة والدين والعلم والقيم والجنس ونسب العائلة وتاريخها والمكانة الاجتماعية ونحوها، كلها سلع تباع وتشترى في السوق بحسب قانون العرض والطلب، ولكل شيء ثمنه بحسب ما فيه من الربح والمنفعة، وتقوم وسائل الدعاية بعرضها من خلال وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي على اختلافها بما يناسبها، فتقدم مثلاً صورة مضخمة للجنس وتفرضها على أذواق المجتمع بأشكال شتى، وتتسع أبعاد الجنس في الدعاية لتشمل جميع جوانب الحياة، ويبتعد الجنس عن وظيفته الأصلية التلقائية، ليتحول إلى صناعة وحرفة وسلعة تجارية ليس فيه إشباع حقيقي للغريزة، ولا لذة أومتعة حقيقية ولا إنتاج وظيفي (التناسل)، بل يتحول إلى عبثية ولهو وضياع وفجور ودناءة وحقارة ليس فوقها دناءة ولا حقارة، وما يقدم على أنه جنس أو تحت عنوان الجنس ليس فيه شيء من الجنس، بل هو بديل حقير عنه يقدم تحت اسمه وعنوانه، وهو في الحقيقة مجموعة خيالات وأوهام وأوساخ مادية ومعنوية تتعلق بالجنس، وترتبط به وتحل محله، وتشغل مكانه في صورة بشعة حقيرة منافية للعقل والفطرة والطبع السليم والأخلاق والدين الحنيف، وليس وراءه إلا الأمراض الفكرية والروحية والنفسية والاجتماعية والجسمية، بدون أن يسأل الإنسان المعاصر المستغرق في مظاهر الحضارة المادية وفلسفاتها الباطلة ومذاهبها ومدارسها المنحرفة نفسه، عن حقيقة نفسه وعن مبدئها ومعادها ومصيرها وطريقتها المثلى في الحياة وغاية وجودها، وما يصلحها ويضرها ويليق بها بحسب طبيعتها وتكوينها ونحو ذلك، وبدلاً منه ينقاد وراء أهوائه الشيطانية وأوهامه ووساوسه ورغباته وغرائزه وشهواته الحيوانية وملذاته الحسية انقياداً أعمى، فيضع بذلك السلوك والتصرف الأحمق وغير المنطقي وغير الرشيد، الوسائل مكان الغايات، والأوهام والخرافات والخيالات الباطلة والوساوس مكان الحقائق والسنن الثابتة والمنطق السليم، مخالفاً في ذلك حقيقة كونه حيواناً عاقلاً مفكراً، يجب عليه أن يخضع حياته كلها للحقائق ويوزنها بميزان العقل والمنطق والدين الحنيف ليحفظ إنسانيته ويصون كرامته، ويصل إلى كماله الممكن المقدر له واللائق به ويحقق سعادته الحقيقية الكاملة في الدارين الدنيا والآخرة، فالإنسان يخرج من إنسانيته وينسلخ منها وينتهك كرامته وحرمة نفسه، ويجلب لنفسه الشقاء الحقيقي والهلاك الفعلي والخسران المبين بمقدار ما يخالف العقل والمنطق السليم والحقائق والدين الإلهي الحنيف في حياته، في سلوكه وتصرفاته ومواقفه وعلاقاته في كافة الأمور والشؤون الخاصة والعامة، الدينية والزمانية.

فالاكتشافات والاختراعات العلمية والتكنولوجيا وزيادة الإنتاج والترفيه، كلها ما هي في الحقيقة إلا مجرد وسائل لتحقيق غاية وجود الإنسان التي تنبع وتبنى من حقيقة خلقه وفطرته وطبعه السليم وتكوينه المؤلف من جوهرين (عنصرين): الروح والجسد، وهذا يعني أمور عديدة منها:

  • إن الوجود ليس محصوراً في عالم المادة، فهناك عالم الروح والمجردات، وأن لكل من الروح والجسد متطلبات ورغائب وأشواق، وأن ثمة حياة أخرى للإنسان بعد الموت، يجب عليه أن يحسب لها حسابها ويأخذها بعين الاعتبار في خياراته وسلوكه ومواقفه وعلاقاته في الحياة كلها بطولها وعرضها.
  • إن الاكتشافات والاختراعات العلمية والتكنولوجيا وزيادة الانتاج والترفيه ما هي إلا مجرد وسائل للوصول إلى غايات وأهدافها ورائها في حياة الإنسان، وليست غاية في نفسها، وأن الاكتفاء بها والاستغناء بها عن الجوانب الروحية والأخلاقية ومتطلبات الآخرة، فيه إخلال بالتوازن وخروج عن نهج الاعتدال القويم والطريقة الوسطى المثلى في الحياة وهو من الحمق والجهل ومنافى الرشد والعقل والمنطق ومخالف للفطرة وأصل الخلقة والطبع السليم.

وبناء على ما سبق: فإن الحضارة المادية المعاصرة في ظل التطرف والإفراط والتفريط ومخالفة العقل والمنطق والفطرة وأصل الخلقة والطبع الإنساني السليم، تفرض على الإنسان ألواناً من القهر المادي والمعنوي والغربة والضياع والعبثية، وتعمل على تغيير فطرته التي فطره الله تبارك وتعالى عليها، وطبيعته الإنسانية الأصلية السامية التي خلق وجبل عليها، وتعاكس متطلبات الروح ورغائبها وأشواقها، وترغم الإنسان على الانصياع إلى شهواته الحيوانية والملذات الحسية والقبول بالأمر الواقع البائس المنحرف والاستسلام إليه وتشعره بالحقارة والتفاهة والدناءة، قول الله تعالى: <وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ>[1]، وقولة تعالى: <أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إلا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا>[2]، أي: إن الذين يتجاهلون الحق والحقائق والسنن الإلهية في حياتهم وتدبير شؤونهم الخاصة والعامة ويتبعون أهواءهم الشيطانية ورغابتهم ونزواتهم وشهواتهم الحيوانية ويتمتعون بمتاع الحياة الدنيا تمتعاً حسياً محضاً ليس فيه أي لذة روحية، ويأكلون كما تأكل الأنعام، غافلين عما تؤول إليه عاقبتهم وينتهي إليه مصيرهم، ما هم في الحقيقة والواقع إلا كالبهائم التي لا تعقل؛ لأنهم لا يلقون إلى استماع الحق إذناً، ولا إلى تدبره عقلاً، بل هم أضل من البهائم، وذلك للأسباب التالية:

  1. لأن البهائم لم تجهز بالعقل والمنطق والروح الإنسانية التي هي من روح الله سبحانه وتعالى، لتسلك طريق الحق والهدى والرشاد وهؤلاء الجهلة الحمقى مجهزون بذلك ومع ذلك ضلوا وأفسدوا.
  2. لأن البهائم تعرف أربابها التي تعلفها وتتعهدها بالتربية وتتعادلها، وتميز بين من يحسن إليها وبين من يسيء معاملتها، وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها بحسب غريزتها التي أودعت فيها، وهؤلاء الجهلة الحمقى لا يعرفون ربهم الذي خلقهم ورزقهم، ولا ينقادون إليه ولا يميزون بين أصدقائهم الروحانیين وبين عدوهم الشيطان الرجيم وجنوده، ولا يطلبون الثواب والرضوان الإلهي الذي هو أعظم المنافع، ولا يجتنبون العقاب والسخط الإلهي الذي هو أعظم المضار، فهم يرجحون ما يضرهم على ما ينفعهم وهذا ما لا تفعله البهائم.
  3. لأن البهائم لا تعقل التوحيد وبراهينه، ولا تعتقد ببطلانه، وهؤلاء الجهلة الحمقى اعتقدوا بطلان التوحيد رغم كثرة الدلائل والحجج عليه عناداً منهم وتعصباً ومكابرةً وجهلاً، وعليه فالبهائم أسلم عاقبة منهم.

وما سبق كله يدل على دناءة المعرضين عن الدين الإلهي الحق وحقارتهم وسوء طبعهم وشديد غربتهم عن أنفسهم.

وفي الحقيقة والواقع فإن ما يتعرض إليه الإنسان في ظل الحضارة المادية والإعراض عن الدين الإلهي الحق هو قهر يمارسه بإرادته واختياره، بسبب جهله وغفلته عن حقيقة نفسه ومبدئه ومصيره وقلة رشده ووقوعه في اللاوعي الأسود المظلم الموحش جداً، وأن نمو هذه الحضارة العمياء البائسة التي تغذيها الفلسفات المادية الإلحادية والعلمانية والليبرالية والبرجماتية العبثية الوجودية التائهة في ظل رعاية الحكومات والقوى السياسية النفعية التي توظف كافة إمكانيات الدول وسلطتها ومؤسساتها التشريعية والقضائية والتنفيذية لغرض هذا الواقع البائس والاتجاه المخزي على الناس، ومحاربة الدين الإلهي الحق والأولياء الصالحين والمصلحين الحقيقيين، الصادقين المخلصين المضحين الذين يسعون إلى ما فيه صلاح الإنسان وخيره ومصلحته الحقيقية، وكماله وسعادته الحقيقية في الدارين الدنيا والآخرة، وقيام حضارة إنسانية رشيدة نيرة متوازنة تقوم على تطويع الواقع وإخضاعه للعقل والدين الحنيف وإشباع متطلبات الروح والجسد معاً، وتلبية حاجات الدنيا والآخرة، والسعي للسمو الروحي والأخلاقي بالإنسان، والتحكم في الغرائز والشهوات وإخضاعها لسلطة العقل والدين الحنيف وضبطها عن طريق النظم والقوانين العادلة الوسطية، ويتجسد فيها مفهوم الخلافة الإلهية للإنسان على وجه الأرض ونحو ذلك من المعالم والآثار والصفات والأحوال.

ومن الواضح الجلي: أن ما سبق ذكره وبيانه لا يعني أبداً ولا بأي صورة دعوة الإنسان المعاصر إلى التنازل عما حققه واكتسبه من تقدم علمي وتكنولوجي وصناعي واقتصادي واجتماعي وسياسي وحقوقي، ما حققه من رفاه مادي لنفسه والعودة إلى عصور ما قبل الاكتشافات العلمية والاختراعات التكنولوجية والتنظيمات الإرادية ونحوها، بحثاً عن الكمال الروحي والسعادة الحقيقة كما يزعم دعاة الرهبنة والتصوف والزهد الخرافي، فإن ذلك مخالف للعقل والمنطق والدين الحنيف، الذي يسعى لتحقيق التقدم الشامل في جميع المجالات وعلى كافة الأصعدة، والوصول إلى الكمال الحضاري الممكن للبشرية في أنصع وأبهى الصور، لكنه يعني الدعوة إلى الحياة النظيفة الفاضلة الطيبة التي تقوم على الفكر والمنطق والحقائق والسنن وإتباع الدين الإلهي الحنيف وأئمة الحق والهدى (عليهم السلام)، وتوازن بين متطلبات الروح والجسد والدنيا والآخرة، أي: تجمع بين التنمية المادية والتنمية العقلية والروحية، وإخضاع قوة الشهوة وقوة الغضب لسلطة العقل والدين الحنيف وسلوك طريق الاعتدال والوسطية ووضع الاكتشافات العلمية والاختراعات التكنولوجية والتقدم الصناعي وزيادة الانتاج ونحوها من المكان المناسب الذي ينبغي أن تكون فيه بوصفها وسائل تخدم غايات تعلو عليها وليست غاية في ذاتها، على قاعدة: وضع الشيء المناسب في المكان المناسب، وهي قاعدة صحيحة موافقة للحكمة، يقتضيها حسن النظم والظفر بالمراد، ولن يتحقق ذلك للإنسان إلا اذا عرف حقيقة نفسه وسوف يبقى بعيداً عنه ما بقى جاهلاً أو متجاهلاً أو غافلاً عن حقيقة نفسه.

الجدير بالذكر: إن ما حققه الإنسان المعاصر من التقدم العلمي والتكنولوجي والصناعي الذي يسمح له بوفرة الإنتاج وسهولته وقلة الجهد والحد من العمل الجسدي الشاق والمزيد من وقت الفراغ، الأمر الذي التعت عليه مصلحة العامل مع مصلحة رب العمل، وأبعد شبح الصراع بينهما كما صورته الفلسفة الماركسية، ينبغي الاستفادة منه لصالح التنمية العقلية والروحية ولإشباع حركة التكامل الوجودي للإنسان المعرفي والتربوي والحضاري المتوازن، بدلاً من الاكتفاء بالجوانب المادية والمعنوية، والشعور بالغربة وضياع رؤوس الأموال والأغنياء الجشعين، على حساب حقيقة الإنسان وعاقبته ومصيره الوجودي في دورة الحياة الكاملة العرضية في المكان والجغرافيا والطولية في الزمان والتاريخ، أي: يسلخ الإنسان من حقيقته الإنسانية وانتهاك حرمته وكرامته والهبوط به إلى الدرك الأسفل للشيطنة والحيوانية السبعية والبهيمية، وإدخاله إلى متاهة اللاوعي الأسود المظلم الموحش، والشعور بالغربة والضياع وسلوك طريق العبثية والعنف الذي ينتهي به حتماً إلى الشقاء الحقيقي والهلاك الفعلي والخسران المبين في الدارين الدنيا والآخرة، الأمر الذي يتطلب تخليص الإنسان من القهر الإرادي وإخراجه من دائرة اللاوعي الأسود المظلم الموحش إلى دائرة الوعي والبصيرة والهداية والرشاد والصلاح بعمل إرادي واعٍ وبصير وجاد، والسمو بروحه وفكره وسلوكه ومواقفه وعلاقاته من عالم الجسد والمادة والطبيعة السفلى المظلمة، إلى عالم الروح والعقل والفكر العلوي الملكوتي المنير، ولن يتحقق ذلك أبداً إلا بمعرفة الإنسان بحقيقة نفسه ومبدئه ومعاده وطريقته الوسطى المثلى ومتطلبات الروح والجسد والاستجابة لرغباتهما وأشواقهما بشكل متوازن وحكيم، مع تفضيل الروح على الجسد؛ لأنها تمثل حقيقة الإنسان وجوهر وجوده، وتفضيل الآخرة على الدنيا؛ لأن الدنيا فانية والآخرة باقية، ولأن نعيم الدنيا يشوبه الألم والمنغصات ونعيم الآخرة خالص من كل ألم ومنغص.


[1] محمد: 12

[2] الفرقان: 44

المصدر
كتاب معرفة النفس طريق لمعرفة الرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟