مواضيع

التوصية الإلهية لموسى (ع) وهارون (ع) بالرفق واللين مع فرعون

<فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَينًا لَعَلهُ يَتَذَكرُ أَوْ يَخْشَىٰ>

ثم أسدى الله سبحانه وتعالى بعض التعليمات الأساسية التي تتعلق بإيصال الرسالة بشكل واضح وخالٍ من كل لبس أو غموض ولا يقبل الاجتهاد والتأويل، ومن أجل إيجاد أفضل الفرص للنجاح، فقال الله تعالى: <فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ>[1]، أي:

عليكما بمراعاة مكانته ومقامه ونفسيته ونمط شخصيته وتفكيره ولا تتجاهلوا شيئاً من ذلك، فلا تجابهاه بما يكره، وخاطباه بالرفق وقولا له قولاً سهلاً لطيفاً ليناً، وبأدب بالغ، بعيداً عن الصلف والخشونة والتعنيف والغلظة والفحش والفظاظة والقسوة، وكنياه، أي: خاطباه بكنيته.

وقيل كان فرعون يكنى بكنى عديدة مثل أبي الوليد وأبي مصعب وغيرهما.

وباشرا إيصال الرسالة مباشرةَ من يرجو ويطمع في أن يثمر عمله ولا يخيب سعيه ويصل إلى مراده، ولا تدخرا جهداً أو مسعىً في ذلك، أي: إبذلا أقصى ما لديكما من الجهد والوسع والطاقة، ولا تدخرا شيئاً من ذلك من أجل الوصول إلى الهدف وإقامة الحجة، ولكن بدون مداهنة أو تملق أو تلبيس للحقائق أو أي شيء من نحو ذلك؛ لأنه مخالف للصدق ولروح الرسالة وحقيقتها ويبطل الحكمة منها ولا يحقق غايتها.

فإن فعلتما ذلك فهو سلوك حكيم ومن شعارات الدين الإلهي الحنيف، قول الله تعالى: <فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللـهِ لِنتَ لَهُمْ>[2]، وهو من أوجب واجبات الشريعة وألزم آدابها وأخلاقها، وأحرى بفرعون أن يمعن النظر فيما تبلغانه، ولا تستفزان لديه آليات المقاومة النفسية والدفاع عن الذات التي تحجبه عن رؤية الحق والاستماع إليه وتعقّل آياته وبيناته، فتكون له الحجة عليكما بدل أن تكون لكما الحجة عليه.

وقيل بحق: إن من عادة الجبابرة إذا غلظ لهم في الوعظ، أن يزدادوا عتواً ونفوراً وتكبراً على الحق وأهله، وهذا ما ثبت بالتجربة الواسعة التاريخية والمعاصرة، وهو مخالف للحكمة والمراد.

ومن شأن المخاطبة باللطف واللين والمنطق الملائم، وبيان المطالب بصدق وصراحة ووضوح وحزم، أن يساعد على العودة إلى الرشد والعقل والوجدان والفطرة والضمير وما ترشد إليه من قيم إنسانية ومنطق سليم، فيستمع إلى الأدلة الواضحة الساطعة القاطعة، ويتأمل في المعجزات والآيات والبينات بموضوعية ونزاهة فيعقلها ويستيقظ قلبه وضميره على وقعها، فيتعظ ويقبلها ويأخذها، فيعطي الإنصاف من نفسه، ويذعن للحق ويسلم له ويرجع عن إنكاره، فيؤمن ويعمل بمقتضى إيمانه برجاء جلب الخير والمنفعة لنفسه فينفع نفسه وتحسن عاقبته ويكون من السعداء الفائزين المفلحين في الدارين الدنيا والآخرة، وهذا هو مقصد الرسالات السماوية في الأساس والمقام الأول، وليس المقصود منها زيادة الضرر وإهلاك العباد، فإن الله واسع الرحمة رؤوف بالعباد.

وإن لم يفكر في الخير والمنفعة لنفسه، فإنه قد يفكر في دفع الضرر عن نفسه في الدارين الدنيا والآخرة، ويحرص على ذلك تمام الحرص، فيخاف من العقاب الإلهي وعاقبة السوء على نفسه في الدارين الدنيا والآخرة، وزوال ملكه إن هو خالف ما جئتما به إليه، أي: يخاف أن يكون الأمر كما تصفان بعد أن يكون قد رأى الآيات الكريمات والبينات الواضحات والمعجزات النيرات الباهرات القاهرات الدالة على صدق نبوتكما ورسالتكما، واستمع إلى أدلتكما المنطقية التامة المحكمة، فيجره ذلك إلى الإذعان للحق والتسليم به، فيؤمن ويجيبكما إلى كل أو بعض ما جئتما به إليه وما تطلبانه منه، من الإصلاحات الدينية والسياسية والحقوقية الواقعية المشروعة، ولا يخالفكما لكي لا يجره إنكاره ومخالفتكما إلى الهلكة، فالعقل والمنطق والطبع السليم تدفع صاحبها إلى التحرز والحذر الشديد من المهالك والأخطار العظيمة حتى مع الاحتمالات الضئيلة لوقوعها، فإن شدة الحذر والتحرز من المخاطر والمهالك تتأثر بدرجة اليقين بوقوع الخطر، وبدرجة خطورته، فكلما كان اليقين أكثر، كان الحذر أشد، وكلما كانت درجة الخطورة كبيرة، كان الحذر أشد حتى لو كان اليقين بوقوعه ضئيلاً.

وقد ثبت بالتجربة، وأكد علماء النفس والأخلاق: أن القول اللين مشوّق عادة، وتحبه النفس وتميل إليه، ويؤدي إلى إمضاء الأمور وإنجاح المقاصد. والقول العنيف منفّر وتكرهه النفس عادة وتنفر منه، ويؤدي إلى اختلال الأمور وإفشال المقاصد.

يقول الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآل وسلم): «إن الرفق لم يوضع على شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه»[3]، ويقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): «عليك بالرفق فإنه مفتاح الصواب وسجية أولي الألباب»[4]، وفي حديث آخر: «الرفق مفتاح النجاح»[5]، ويقول الإمام الباقر (عليه السلام): «إن الله (عز وجل) رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف»[6]، ويقول النراقي: «التجربة شاهدة بأن إمضاء الأمور وإنجاح المقاصد موقوف على الرفق واللين مع الخلائق، فكل ملك كان رفيقاً بجنده ورعيته انتظم أمره ودام ملكه، وإن كان فظاً غليظاً اختل أمره وانفض الناس من حوله وزال ملكه وسلطانه في أسرع زمان. وقس عليه غيره من طبقات الناس من العلماء والأمراء وغيرهما من ذوي المناصب الجليلة وأرباب المعاملة والمكاسبة وأصحاب الصنايع والحرف»[7]. فالإنسان بطبيعته مجبول أو مفطور على دفع الضرر عن نفسه، وجلب النفع إليها.

ويختلف تأثير هذا من العاملين في الناس، فمنهم من يتأثر بالحرص على دفع الضرر عن نفسه أكثر من تأثره بالحرص على جلب المنفعة إليها، فإذا كانت هناك منفعة ولم يكن هناك ضرر، فإنه قد لا يستجيب ولا يتحرك، أي: لا تحركه المنفعة، وإذا كان هناك ضرر وإن لم تكن هناك منفعة فإنه يستجيب ويتحرك، أي: يحركه الخوف من الضرر.

ومنهم من يتأثر بالحرص عل جلب المنفعة لنفسه أكثر من تأثره بالحرص على دفع الضرر عنها، فإذا كان هناك ضرر ولم تكن هناك منفعة فإنه قد لا يستجيب ولا يتحرك، أي: لا يحركه الخوف من وقوع الضرر، وإن كانت هناك مصلحة وإن لم يكن هناك ضرر، فإنه يستجيب ويتحرك، أي: تحركه المنفعة، وهذا يتوقف على غلبة قوة الشهوة أو الغضب لدى الفرد.

وعليه: جمع الله سبحانه وتعالى بين الترهيب والترغيب، البشرى والإنذار في دعوات الرسل الكرام (عليهم السلام) إلى الإيمان والتوحيد، قول الله تعالى: <رسُلًا مبَشِرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلناسِ عَلَى اللـهِ حُجةٌ بَعْدَ الرسُلِ وَكَانَ اللـهُ عَزِيزًا حَكِيمًا>[8]، وقول الله تعالى: <وَما نُرسِلُ المُرسَلينَ إِلا مُبَشِرينَ وَمُنذِرينَ فَمَن آمَنَ وَأَصلَحَ فَلا خَوفٌ عَلَيهِم وَلا هُم يَحزَنونَ ٤٨ وَالذينَ كَذبوا بِآياتِنا يَمَسهُمُ العَذابُ بِما كانوا يَفسُقونَ>[9].

وقد ثبت بالتجربة الواسعة التاريخية والمعاصرة أن ميول الفراعنة المتجبرين والحكام الطغاة المستبدين الظالمين إلى التحرك والاستجابة تحت تأثير الحرص على دفع الضرر، ولهذا فهم يأخذون بالتهمة والظنة، ويوجهون الضربات الاستباقية لخصومهم ومعارضيهم؛ خوفاً من أن يتقووا ويظهروا عليهم ويأخذوا السلطة منهم أو يقيدوا إرادتهم ويقلصوا من صلاحيتهم أو يقللوا من امتيازاتهم أو نحو ذلك، ولا يتحرجون من ارتكاب أشد الجرائم وحشية وأشنعها همجية، مثل: القتل والسجن والتعذيب والتنكيل والتضييق والطرد والتشريد ونحو ذلك؛ لغلبة القوة الغضبية لديهم.

وعليه: فقد لجأ فرعون الطاغية إلى ذبح الأطفال الذكور من بني إسرائيل؛ خوفاً من تكاثرهم وتقويهم عليه؛ وخوفاً من أن تصدق نبوءة الكاهن بأن يولد منهم مولود تكون على يديه نهايته ونهاية ملكه ونظامه الفاسد.

وهذا ما يفعله الفراعنة المتجبرون والحكام المستبدون الظلمة والمترفون المستعلون والمستكبرون الطغاة في العالم على طول التاريخ وعرض الجغرافيا.

وقد اتخذ الفراعنة والحكام المستبدون في الوقت الحاضر أساليب جديدة عصرية تتناسب مع روح العصر وأدواته وآلياته وأساليبه ووسائله؛ لحماية عروشهم؛ ولاستمرار بقائهم في السلطة ودوام مصالحهم وصلاحياتهم وامتيازاتهم بغير رضا أبناء الشعب وعلى خلاف إرادتهم ومصالحهم، منها: توظيف المؤسسات الصورية التشريعية والقضائية ومؤسسات المجتمع المدني؛ لتحقيق أهدافهم غير المشروعة وغاياتهم الخبيثة، وقد تنبه المجتمع الدولي والرأي العام العالمي ومؤسسات حقوق الإنسان، لذلك فأكدوا على عدالة القانون وتوافقه مع المواثيق الدولية وحقوق الإنسان، وأن يكون الدستور والقوانين والمؤسسات تعبر عن الإرادة الشعبية، وعدم الاكتفاء بشعار دولة المؤسسات والقانون، فإن أكثر دول العالم دكتاتوريةً واستبداداً ودمويةً وانتهاكاً لحقوق الإنسان في الوقت الحاضر، يوجد بها دستور وقوانين ومؤسسات.

وقيل: إن القول اللين الذي أمر الله   (جل جلاله) به موسى الكليم وهارون (عليهما السلام) قوله: <فَقُلْ هَل لكَ إلى أَن تَزَكى ١٨ وَأَهْدِيَكَ إلى رَبِكَ فَتَخْشَى>[10]، ففي هذا القول: لطف وسهولة وعذوبة للنفس، ولفظ <هَل>[11]: يدل على التضامن والتبادل والمشاورة، ثم دعاه إلى التزكّي والتطهّر من الأدناس والذنوب والموبقات والسير في طريق الحق والعدل والخير والفضيلة والصلاح والكمال الإنساني، وهذا مما يأخذ بمجامع القلوب ويقبله كل عقل سليم ويرتضيه كل إنسان سوي لنفسه، ويبحث عنه ويطلبه أولو الرشد والألباب، ويتنافسون فيه، لاسيما أن لفظة <تَزَكى>[12]: يعني أن تقوم أنت بتزكية نفسك وتطهيرها، ولم يقل: أزكيك، كأنه يجعل نفسه فوقه ورقيباً ووصياً عليه وهو تابع وخاضع له، فيحمله ذلك على البغي ويزداد عتواً وعناداً وكفراً.

ودعاه إلى سبيل ربه الرحيم القهار القائم على التدبير لأمره وشأنه وأحواله والمنعم عليه بالنعم الظاهرة والباطنة، والذي إليه مرجعه ومصيره، وهذا من شأنه أن يدفعه إلى المزيد من معرفته وحبه ورجاء رحمته الواسعة والخشية من غضبه وعقابه، والقبول بهذا الأمر بعد ثبوته وقيام الدليل عليه من موجبات الفطرة والطبع السليم والعقل والمنطق.

وتنبغي الإشارة إلى أن لفظة <لَّعَلَّه> في قوله <لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ>[13] يدل على حالتين:

أ.   أن يقبل الدعوة ويؤمن عن قناعة تحت تأثير الرغبة في الخير وجلب المنفعة لنفسه، أو تحت تأثير الرهبة والخوف من سوء العاقبة في الدارين الدنيا والآخرة، وهو المطلوب في المقام الأول.

ب. أن يستمر في العناد والاستكبار وإنكار الحق ومجابهته، وتكون الفائدة من دعوته إلى الحق وإظهار الآيات والمعجزات والأدلة القاطعة، هي إقامة الحجة التامة عليه تمهيداً لمؤاخذته وعقابه.

فالعبارة: <لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ>[14] تحمل روح الرجاء للاستجابة للدعوة، وهذا من شأنه أن يرفع معنويات الداعية، وهما: موسى الكليم وهارون (عليه السلام)، ويزيد في رغبتهما وحرصهما على الاجتهاد والمثابرة وبذل أقصى الوسع والطاقة، ويمنع من اليأس والقنوط، وهما مما يهبط بالمعنويات ويدفع إلى الكسل والخمول والتقصير، وعليه: فإن هذا التعليم الإلهي ينسجم كلياً مع التحذير لموسى الكليم وهارون (عليهما السلام) في قوله تعالى: <وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي>[15]، فبدون الرجاء لا توجد قيمة واقعية من التحذير من التقصير والكسل والفتور.

وفي الحديث الشريف عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنه قال: «واعلم أن الله جل ثناؤه قال لموسى (عليه السلام) حين أرسله إلى فرعون: <فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ>[16]، وقد علم أنه لا يتذكر ولا يخشى، ولكن ليكون ذلك أحرص لموسى (عليه السلام) على الذهاب»[17]، وذلك لكي تقوم الحجة البالغة التامة لله سبحانه وتعالى على فرعون، ولا تكون له على الله   (جل جلاله) حجة ولا عذر إذ يهلكه في الدنيا أو يعذبه في الآخرة، قول الله تعالى: <وَلَو أَنا أَهلَكناهُم بِعَذابٍ مِن قَبلِهِ لَقالوا رَبنا لَولا أَرسَلتَ إِلَينا رَسولًا فَنَتبِعَ آياتِكَ مِن قَبلِ أَن نَذِل وَنَخزى>[18] أي: لو أنا أهلكناهم بسبب كفرهم بعذاب من قبل أن نبعث إليهم رسولاً ونقيم الحجة عليهم، لقالوا يوم القيامة ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً من عندك في الدنيا فنتبع آياتك التي يأتي بها الرسول، قبل أن نذل بعقوبة الهلاك والاستئصال في الدنيا، ونخزى بعذاب نار جهنم وفضيحة العار في يوم القيامة، فهذا ما يلزم به العقل والمنطق، ولكانت الحجة لهم علينا، لكنا ألقمناهم ناراً وقطعنا عليهم كل عذر على أيدي الرسل والذين جاؤوهم بالآيات والبينات والمعجزات النيرات القاهرات، وأقمنا عليهم الحجة التامة البالغة، ومع ذلك عاندوا وجحدوا الحق وأنكروه ولم يؤمنوا حتى رأوا العذاب الأليم وكانت لنا الحجة عليهم، وهذا يدل على وجوب اللطف الإلهي بالعباد.

وإقامة الحجة مما ينبغي أن يلتفت إليه الدعاة والمصلحون، ويأخذوا به في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وإلى الدين الحق أو في المطالبة بالإصلاح والحقوق، وهذا يتطلب أن تكون القضية عادلة، وأن تكون المطالب والأهداف واقعية وقابلة للتحقيق، والأساليب والوسائل مشروعة ومناسبة، وتقف وراء ذلك استراتيجية واضحة المعالم والخطوط، وخطط وبرامج عمل فاعلة ومؤثرة، والتحلي بالجرأة والشجاعة الكافية التي تلامس الإمكانيات المتوفرة المادية والبشرية والمعنوية، وتفعلها ولا تقصر عنها في الحركة والمقاومة ونحو ذلك.

وقد ثبت بالتجربة الواسعة التاريخية والمعاصرة، أن اللين يعطي غالباً أكثر وأفضل مما يعطي العنف والخشونة، ولكن الذين يتأثرون باللين غالباً هم العامة من الناس، أما الخاصة من الطواغيت الضالين والفراعنة المتجبرين والحكام المستبدين الظالمين والمترفين المستغلين والمستكبرين الطغاة والانتهازيين الأنانيين سيئي الخلق والطبع والنفعيين الخبثاء الساقطين ونحوهم، فإنهم أقل تأثراً بالرفق واللين والإحسان، وقد يسعون إلى قلب الحقائق وتضليل الرأي العام وتهييجه على الأولياء الصالحين الشرفاء الأوفياء والمطالبين بالحقوق المخلصين والاستفادة من كل الفرص، حتى روحهم الطيبة للإضرار بهم، لأنهم لا يقيمون وزناً للحقائق والحقوق والمنطق والقيم والمبادئ والدين والمصلحة العامة الإنسانية والدينية والقومية والوطنية والجماعية، ولا تهمهم، وإنما يقيمون الوزن والاهتمام لذواتهم ولرغباتهم وشهواتهم وملذاتهم ومصالحهم وآرائهم وأهوائهم، وهدفهم قلب الطاولة على معارضيهم بأي وسيلة، ومع ذلك لا ينبغي للدعاة والمصلحين والمطالبين بالحقوق أن يبدؤوهم بالخشونة والعنف في الأقوال والأفعال، لأنه منهي عنه عقلاً وشرعاً وعلى خلاف الخلق الحميد والفطرة والطبع الإنساني السليم.

لأنهم إن فعلوا ذلك معهم، فإنهم يستفزون دفاعاتهم النفسية، فيلجأوا إلى المقاومة والدفاع عن الذات بشكل انفعالي بعيداً عن العقل والمنطق والواقعية والرشد، فيشكل حجاباً إضافياً غليظاً يحجبهم عن رؤية الحق والمصلحة الحقيقية لأنفسهم وغيرهم، ولا يسمعون إلى الأمناء الناصحين، فتكون الحجة لهم وليست عليهم، ولكن ليس بشكل تام وتكثر الخسائر المادية والبشرية والمعنوية، وهذا كله خلاف المراد والمطلوب، وخلاف الحكمة والمصلحة، والحكيم لا ينقض غايته.

ولهذا أمر الله   (جل جلاله) الكريم عبديه وولييه موسى الكليم وهارون (عليهما السلام) أن تكون مخاطبتها لفرعون الطاغية الذي ادّعى الألوهية والربوبية، وقال للناس: <أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ>[19] باللين والرفق، وليس بالقسوة والخشونة والعنف والفظاظة؛ لكي لا تكون له حجة على الله سبحانه وتعالى، قول الله تعالى: <رسُلًا مبَشِرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلناسِ عَلَى اللـهِ حُجةٌ بَعْدَ الرسُلِ وَكَانَ اللـهُ عَزِيزًا حَكِيمًا>[20].

ولكن مع الأسف الشديد جداً، هناك من يتشدق بالدين والإيمان والزهد والصلاح والفضيلة، ويلجأ إلى إظهار الغضب والتشنج بغير مبرر وبدون مقدمات، وإلى العنف في الكلام، وإلى أقسى العبارات، والفظاظة في السلوك والتصرفات في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى في الأمر بالمستحبات والنهي عن المكروهات، بل في النهي عن المباحات بدعاوى باطلة مخالفاً بذلك الأحكام الشرعية الصريحة الواضحة والعقل والمنطق والأخلاق الحميدة والفطرة والطبع السليم.

وهذا التصرف من الحمق الشديد، ويكشف عن تضخم الذات والأنانية والعدوانية، والجهل بالحقائق والسنن، وضعف البصيرة، ولا علاقة له بالدين والزهد والفضيلة والصلاح، ويدل على قلة الصدق وعدم الإخلاص، أي: إنه يكشف عن رغبة الشخص النفسية الدفينة في البروز وإثبات الذات، وتزكية النفس المنهي عنها في القرآن الكريم، قول الله تعالى: <هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِنَ الأرض وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنةٌ فِي بُطُونِ أُمهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقَى>[21]، وقول الله تعالى: <أَلَمْ تَرَ إلى الذِينَ يُزَكونَ أَنفُسَهُم بَلِ اللـهُ يُزَكِي مَن يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا>[22]، وهم يفعلون ذلك على حساب كرامة الآخرين وحقوقهم، ويأخذون من التظاهر بالدين والزهد والصلاح ساتراً يستترون به، والله (عز وجل) فاضحهم ومخزيهم، فعلى المؤمنين الصالحين الأعزاء التطهر من هذه الأرجاس والرذائل القبيحة، ويحذروا حذراً شديداً من المطب والدرك الشيطاني الخطير، ويتمسكوا بقول الله تعالى: <ادعُ إلى سَبيلِ رَبِكَ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجادِلهُم بِالتي هِيَ أَحسَنُ إِن رَبكَ هُوَ أَعلَمُ بِمَن ضَل عَن سَبيلِهِ وَهُوَ أَعلَمُ بِالمُهتَدينَ>[23].

الجدير بالذكر: أن الموعظة الحسنة تقتضي أن لا يريد الواعظ بموعظته إلا الخير الحقيقي والصلاح لمن توجه إليه الموعظة، وأن يشعر بأنها في مصلحته ومن أجل هدايته وإرشاده إلى الخير والصلاح والفلاح، وليس فيها أي خدش لإنسانتيه وكرامته، ولكن يجب التمييز بين اللين والرفق والاحترام ومراعاة المقام وأدب الخطاب والكلام، وبين المداهنة والتملق والتساهل في توضيح الحقائق وتحديد المطالب والكشف عنها بصراحة ووضوح وتمييزها عن كل باطل وظلم.

وللأسف الشديد جداً: هناك من يتساهل في بيان الحقائق والمطالب تملقاً أو تحت تأثير الخوف أو الطمع أو نحو ذلك، ولكن بحجة مراعاة أدب الخطاب والكلام ومراعاة المقام، وتحت عناوين مضللة، مثل: المرونة والتسامح والواقعية والوسطية والاعتدال ونحو ذلك، وهي عناوين صحيحة ولكن الخطأ في التطبيق والمصاديق، وما يقوم به هؤلاء هو تصرف فيما لا يملكون، وهو خلاف الصدق والإخلاص والوفاء والأمانة، ومن الحمق ومخالف للحكمة.

والأنبياء الكرام والأوصياء المطهرون المهديون والأولياء الصالحون والعلماء العدول والمؤمنون المتقون والمصلحون الحقيقيون الشرفاء بعيدون عن هذا التصرف الأخرق الأحمق، وهو من كمالهم وصلاحهم وقوتهم وثباتهم وأحد مصاديق قول الله تعالى: <وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي>[24]، ويقع في هذه الرذيلة والتصرف الأخرق الأحمق الضعفاء والانتهازيون والنفعيون الفاسدون، وينبغي للمؤمنين الأعزاء أن يقتدوا بساداتهم أئمة الهدى والدين من الأنبياء والأوصياء والأولياء الصالحين (عليهم السلام)، لكي يحصلوا على نفس النتائج التي حصل عليها سادتهم في دعوتهم إلى الله سبحانه وتعالى وجهادهم في سبيله، مثل: التأييد والتسديد والتوفيق والنصر على الأعداء، ويصلوا إلى نفس الأهداف والغايات العظيمة التي جاهدوا من أجلها، مثل: الكمال الروحي والقرب من ساحة القدس والزلفى والنعيم المقيم والرضوان الإلهي العظيم.

وتجدر الإشارة هنا: أن الحكمة والمصلحة قد تقتضي في بعض الحالات، مثل: الإصرار على العناد والمكابرة والاستمرار في الظلم والطغيان والعدوان والإضلال والإفساد في الأرض بغير الحق، وعدم جدوى الرفق واللين واللطف والحوار، تقتضي اللجوء إلى الشدة والخشونة والعنف والغلظة، قول الله تعالى: <وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ>[25]، وقول الله تعالى: <أُولَئِكَ الذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا>[26]، ولكن ينبغي تشخيص الحالات بدقة وتمييزها، وعدم الخلط فيها، وفرزها بموضوعية تامة وعناية فائقة وإخلاص شديد كامل، ومراقبة شديدة ومحاسبة للنفس حتى لا تخون ولا تفرط في الحقيقة والنصيحة والمصلحة.

وقيل: إن الله تبارك وتعالى أمر موسى الكليم (عليه السلام) بالرفق واللين مع فرعون؛ لأن لفرعون على موسى الكليم (عليه السلام) حق الحضانة والتربية والرعاية، فأمره الله تبارك وتعالى أن يخاطبه برفق ولين رعايةً لتلك الحقوق، وفي ذلك تنبيه بليغ جداً على تعظيم حق الأبوين والمحسنين ومقابلة الإحسان بمثله، وأن مقابلة الإحسان بالإساءة مخالف للدين الحنيف والعقل والمنطق والفطرة والطبع السليم والأخلاق الحميدة، فهو من سوء الطبع وقبيح الأخلاق ومذموم الخصال.

وعليه: ينبغي على المؤمنين الأعزاء أن يتنزهوا عنه ويتطهروا منه، وهو غير لائق بالنبوة قطعاً من حيث هي اتصال بالله سبحانه وتعالى وتلقي منه وسفارة عنه، ومن حيث مبادئها وقيمها وأحكامها وأهدافها وغاياتها، فمقابلة الإحسان بالإساءة يهدم النبوة من الأساس ويهدم قواعد الدين الحنيف، ولا يمكن أن يحصل من الأنبياء الكرام المطهرين المعصومين (عليهم السلام) مطلقاً.


المصادر والمراجع

  • [1]. طه: 44
  • [2]. آل عمران: 159
  • [3]. الكافي، جزء 2، صفحة 119
  • [4]. غرر الحكم 614
  • [5]. غرر الحكم 294
  • [6]. الكافي، جزء 2، صفحة 119
  • [7]. جامع السعادات، النراقي، جزء 1، صفحة 201
  • [8]. النساء: 165
  • [9]. الأنعام: 48-49
  • [10]. النازعات: 18-19
  • [11]. نفس المصدر
  • [12]. نفس المصدر
  • [13]. طه: 44
  • [14]. نفس المصدر
  • [15]. طه: 42
  • [16]. طه: 44
  • [17]. الكافي، جزء 7، صفحة 46
  • [18]. طه: 134
  • [19]. النازعات: 24
  • [20]. النساء: 165
  • [21]. النجم: 32
  • [22]. النساء: 49
  • [23]. النحل: 125
  • [24]. طه: 42
  • [25]. العنكبوت: 46
  • [26]. النساء: 63
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك - الجزء الثاني | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟