مواضيع

التكاليف العسكريّة للحضارة

أمريكا أكثر بقاع العالم تحضّراً، ولا يتكلّم ويكتب ضدّها إلا الذين يحسدونها على مكانتها وعظمتها وحضارتها. ضمن أجواء الحرب العالميّة الثانية، حيث كانت البطالة والفقر بسبب الحروب قد عمّت أرجاء بلدان العالم، كانت أمريكا البلد الوحيد الذي تراجع عدد العاطلين عن العمل فيها من 10 مليون شخص في بداية الحرب إلى أقلّ من 8 ملايين شخص في العام الثاني للحرب، وتحوّل رأس مالها الصناعي الذي كان يبلغ 40 مليار دولار في بداية الحرب إلى 60 مليار دولار مع انتهائها.[1] لم يكن ليتحقّق كلّ هذا إلا بسبب روحيّة حبّ الإنسان ومساعدة الآخرين التي تجلّت وبرزت في الصناعات العسكريّة وإنتاج الأسلحة داخل أمريكا، ونتج عنها توفير فرص العمل للأمريكيّين والأمن والسلام لشعوب العالم.

ضمن هذا الإطار، زادت أمريكا من مستوى تضحياتها وضاعفت عدد القواعد العسكريّة التابعة لها حول العالم حيث وصلت حتى العام 2014 إلى 737 قاعدة بحريّة، جويّة وبريّة (متواجدة في 120 دولة حول العالم) وفيها أكثر من مليون و150 ألف جندي[2] لكي تضمّد بهذه الخطوة جراح البشريّة وتصون الديمقراطيّة والحريّة والأمن في أنحاء العالم. وكم هي عظيمة اللحظات التي يضحّي فيها الجنود الأمريكيّون بأرواحهم من أجل إحياء حقوق الإنسان والديمقراطيّة حول العالم!

ولكي تدركوا كم أنّ الأمريكيّين شعبٌ مضحٍّ ومتفان، يكفي أن تعلموا أنّ الحكومة الأمريكيّة أنفقت على صناعة غواصات ترايدنت[3] النوويّة (التي تملك القدرة على قذف مئات الرؤوس النوويّة) لوحدها يفوق الـ 1.5 مليار دولار، هذا في الوقت الذي كان يكفي فيه هذا المبلغ من المال لتلقيح جميع أطفال العالم ضمن مشروع يستمرّ لخمس أعوام ويؤدّي إلى الوقاية من موت 4 مليون طفل! أين تجدون بلداً في العالم ينفق من جيبه كلّ هذا المال من أجل السلم والأمن العالميّ وفي سبيل صون الحريّة والديمقراطيّة والترويج لحقوق الإنسان؟ وبالمناسبة، ترايدينت هي واحدة من مئات، بل آلاف الموارد التي أنفق عليها الأمريكيّون بشكل مستمرّ من أجل الدفاع عن قيمهم الحضاريّة حول العالم، وما زالوا مستمرّين في إنفاقهم.

الأسلحة، مفتاح قفل حقوق الإنسان

إلى جانب كلّ هذه الخطوات، تفكّر أمريكا طبعاً بصناعة الثقافة وتحاول دفع سائر الحكومات أيضاً للاحتذاء بها، ولأن ينفقوا الأموال دفاعاً عن القيم الأمريكيّة الحضاريّة. ضمن هذا الإطار، دفعت أمريكا في العام 1994 لوحده الدول الحليفة لها لإنفاق أكثر من 32 مليار دولار من أجل أن يشتروا منها أسلحتها، ويُذكر أنّ ثُلثي الدول التي اشترت هذه الأسلحة هي من الدول الفقيرة! منذ أعوام وأمريكا تستحوذ بشكل وسطي على ثلث سوق بيع الأسلحة حول العالم.[4] كلّ هذه الخطوات كانت ترمي إلى الترويج للدفاع عن حقوق الإنسان، الحريّة والديمقراطية. وإلا، فإنّ الأمريكيّين لم يسعوا في أيّ وقت من الأوقات لجني الأرباح وتحقيق المصالح الخاصّة بهم، وهم كما رئيسهم المرحوم آيزنهاور[5] يعتقدون أنّ: «كلّ بندقية يتمّ تصنيعها، وكلّ بارجة حربيّة تُسيّر في المياه وكلّ صاروخ يُطلق، بمعنى سرقة الجياع والفقراء الذين يرتجفون من البرد ولا يملكون ما يرتدونه من اللباس ولا ما يأكلونه من الطعام!»[6] وفي حال صادف أن ذهبوا إلى مكان ما من أجل الدفاع عن الديمقراطيّة وحقوق الإنسان واضطرّوا لحمل السلاح، فإنّ قلبهم يُثخن من الجراح لقيامهم بهذا العمل. تماماً مثل رئيسهم الحنون جورج بوش الأب، الذي صرّح رسميّاً بعد توجيهه الأمر بقصف باناما: «لقد جُرح قلبنا لأجل عائلات الأشخاص الذين قضوا في قصف باناما، لكنّ اعتقال الجنرال نوريغا[7] وتطبيق العدالة كان يستحقّ هذا القصف ونتائجه.»[8]

أمريكا وحرقة قلبها المنظّمة فيما يخصّ شؤون سائر الدول

الأمريكيّون شعبٌ مبدئي وصاحب أخلاق، وهم لا يتدخّلون عبثاً في الشؤون المحليّة لسائر الشعوب؛ إلا عندما يكون الأمر مرتبطاً بهم. على سبيل المثال، عندما ضرب الجفاف العظيم غرب أفريقيا (بحيث شارفت ست دول من هذه المنطقة على الوقوع في كارثة بسبب القحط، وفقد أكثر من مئة ألف إنسان أرواحهم بسبب الجوع) انتقد البعض أمريكا بسبب عدم تقديمها المساعدة لهذه الدول، لكنّ ردّ أمريكا على هذا الانتقاد الحساس كان أنّنا لم نملك مع هذه الدول أي علاقات سياسيّة، تاريخيّة أو اقتصاديّة، ولا يوجد أيّ مبرّر يدفعنا للتدخّل في شؤونها.[9] لكن عندما يصل الدور إلى قوم اليهود المظلومين، المسالمين والضعفاء (لأنّ قضايا قوم اليهود ذات ارتباط وثيق بأمريكا)، تختلف القضيّة، وكما يقول لوئيس برانديس[10]: «لا ينبغي لأيّ أمريكيّ أن يظنّ بأنّه توجد أيّ فروقات بين الصهيونيّة والحبّ لأمريكا. فروح اليهوديّة هي في الأساس نفسها الحضارة الأمريكيّة، وقبل أن نكون أمريكيّين صالحين، لا بدّ أن نكون صهاينة صالحين.»[11] وبسبب هذا الأدب وهذه الرصانة والتضحيات، كانت أمريكا وحيدة دون منافس، ولم يقدر أحدٌ على أن ينافسها! لدرجة أن وزارة الدفاع الأمريكيّة تعتقد أن: «أمريكا مكلّفة بأن لا تسمح لأي منافس حقيقي بالظهور بعد سقوط الاتحاد السوفيتي. إن كان منافساً أوروبيّاً، أو آسيويّاً.»[12]

منظّمة الأمم المتحدة الأمريكيّة

ولكونها بلا منافس ولا نظير، تستطيع أمريكا أن تتعامل بشكل خاصّ مع منظّمة الأمم المتحدة. التعامل الذي وصفه بطرس غالي[13] (الأمين العام السابق للأمم المتحدة) كما يلي: «أمريكا تقوم عبر العنف، التهديد والاستفادة من حق «الفيتو» بصورة ماهرة ودقيقة بالتلاعب بالنظام العالمي بما يخدم مصالحها. عندما تنوي أمريكا القيام بعمل معيّن، ترتدي على الفور رداء الأمم المتحدة لكي تضفي على ممارساتها صفة الشرعيّة والقانون، ومتى ما اتحدت بعض الأفكار داخل منظّمة الأمم المتحدة ضدّها، تبادر أمريكا لإهانة الأمم المتحدة كلّها. أمريكا قامت منذ تأسيس منظمة الأمم المتحدة باستخدام الفيتو ضدّ أي قرار أو إعلان لا يخدم إرادة ومصالح أمريكا.»[14] لا بدّ أنّكم ملتفتون إلى كون أمريكا صاحبة البيت في منظّمة الأمم المتحدة، ومن الطبيعي أن تعتبر الأمم المتحدة كبيتها، والمرء يتصرّف داخل بيتها براحة أكبر من أيّ مكان آخر ويكون حرّاً في سلوكياته، وهذه حقيقة غفل عنها بطرس غالي للأسف!

أمريكا، متفوّقة في كلّ شيء

من الخصائص الأخرى التي تتميّز بها أمريكا هي أنّها البلد المتفوّق في كلّ شيء! فلا مبرّر يجعلها تنضم وتكون عضواً في الاتفاقيات والمعاهدات الدوليّة مثل سائر الدول. على سبيل المثال، أمريكا ليست عضواً في «معاهدة الدفاع عن حقوق الأطفال». لأنّ حقوق الأطفال يتمّ تأمينها في أمريكا أفضل من أيّ بلد آخر، ويقع عدد من الأطفال الأمريكيّين بشكل يومي ضحايا للعنف الجنسي، وهذا بحدّ ذاته سبب كافٍ لأن لا تنضمّ أمريكا إلى هذه المعاهدة. أو عدم اهتمام أمريكا بمعاهدة «منع التعذيب»، سببه أنّ أحداً لا يجرؤ على تعذيب الأمريكيّين، وثانياً، في حال ارتأى الأمريكيّون لأجل ضرورة أو مصلحة معيّنة تعذيب أحد، لن يعود هناك معنى لمعاهدة منع التعذيب، فهي لن تكون قادرة على تغيير أيّ شيء![15]

ولكي تدركوا بشكل أفضل أمريكا ومكانتها في النظام الدولي، يكفي أن تقرؤوا هذه المذكرة:

«نشب نزاع كبير بين يونان وتركيا بصفتهما أعضاء في حلف الناتو، وصعّب هذا النزاع الأمر على أمريكا في قضيّة التنسيق بين دول الناتو. في ذلك الوقت، استدعى الرئيس الأمريكي ليندن جونسون[16] سفير اليونان وأوضح له اقتراحه بشأن الحلّ لهذه القضيّة. لفت سفير اليونان انتباه جونسون بأنّ هذا الحل مرفوض من قبل البرلمان اليوناني ويتعارض مع دستور هذا البلد. غضب جونسون وقال للسفير: اسمعني أيها السفير! فليذهب برلمانكم ودستوركم إلى الجحيم! أمريكا كالفيل وأنتم أشبه بالبعوضة! إذا حاولت البعوضة إغضاب الفيل، فإنّ الفيل سيسحقها بخرطومه حتماً.»[17]

والجملة الأخيرة ننقلها عن نعوم جومسكي[18] وهي تعبّر عن أمنية أمريكا العميقة: «التحوّل إلى امبراطوريّة فريدة من نوعها، لكي تكون لديها القدرة على التفاوض بشأن أيّ قضيّة دوليّة وقول الكلمة الفصل.»[19]


  • [1] النصف المستور من أمريكا، شهريار زرشناس، ص 86.
  • [2] التعرّف على قواعد أمريكا العسكريّة حول العالم، محمد عجم، وكالة همشهري اونلاين الاخباريّة، (http://hamshahrionline.ir/details/39116)
  • [3] Trident ballistic missile submarines
  • [4] تاريخ أمريكا، هاوارد زين، ص 848.
  • [5] Dwight David “ike” Eisenhower (1890 – 1969)؛ رئيس الولايات المتحدة الأمريكيّة الرابع والثلاثين والذي حكم منذ العام 1953 حتى العام 1961.
  • [6] تاريخ أمريكا، هاوارد زين، ص 858.
  • [7] Manuel Antonio Noriega Moreno (born 1934)؛ دكتاتور باناما العسكري الذي حكم منذ العام 1983 حتى العام 1989.
  • [8] قمع الأمل، ويليام بلوم، ص 764.
  • [9] تاريخ أمريكا، هاوارد زين، ص 745.
  • [10] Louis Dembiz Brandeis (1856 – 1941)؛ خبير حقوق أمريكي، قاضي في المحكمة العليا الأمريكيّة ومن قادة الحركات الصهيونيّة في أمريكا.
  • [11] تاريخ أمريكا المستور وغير المحكي، نصير صاحب خلق، ص 59.
  • [12] النصف المستور من أمريكا، شهريار زرشناس، ص 114؛ نقلاً عن نيويورك تايمز، 8 آذار 1992.
  • [13] Boutros Boutros-Ghali (born 1922)؛ الأمين العام السادس لمنظّمة الأمم المتحدة منذ العام 1992 حتى العام 1996.
  • [14] لماذا يكره الناس أمريكا؟ مريل وين ديويس، ترجمة عظيم فضلي بور، طهران، دار نشر اطلاعات، الطبعة الأولى: 2004، ص 94.
  • [15] لماذا يكره الناس أمريكا؟، مريل وين ديويس، ص 96.
  • [16] Lyndon Baines Johnson (1908 – 1973)؛ رئيس الولايات المتحدة الأمريكيّة السادس والثلاثين، حكم منذ العام 1963 حتى العام 1969.
  • [17] قمع الأمل، ويليام بلوم، ص 527.
  • [18] Avran Noam Chomsky (born 1928)؛ فيلسوف، خبير لغات ومحلل سياسي أمريكي.
  • [19] قمع الأمل، ويليام بلوم، ص 965.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟