مواضيع

نجاة بني إسرائيل وتفضيلهم على العالمين

قول الله تعالى: <وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ 30 مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ 31 وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ 32 وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ>[1].

الأفكار الرئيسية والمضامين العامة

بعد أن بيّن الله تبارك وتعالى كيفية إهلاك فرعون الطاغية وحزبه المجرمين وانكسار شوكتهم وانتهاء سلطتهم وحكومتهم، بيّن كيفية إحسانه لعباده المؤمنين الصالحين المجاهدين: موسى الكليم(ع) وقومه الإسرائيليين، إذ نجاهم الله(عز وجل) بقيادة وليه الأعظم موسى بن عمران الكليم(ع) من العذاب المهين: الجسمي والمعنوي الذي كان يذيقهم إياه فرعون الطاغية المستبد وحزبه المجرمون وقومه الفاسقون، حيث كانوا يستعبدونهم ويذبحون أبناءهم الذكور الذي يمثلون القوة الضاربة فيهم؛ ليبقوهم ضعفاء خاضعين لإرادتهم وسلطتهم، ويستحيون نساءهم للخدمة في منازلهم وللمتعة الجنسية إذلالاً لهم، واستخدام رجالهم في الأعمال الشاقة الوضيعة، والتمييز ضدهم مع الأقباط في المعاملة وأمام القانون والقضاء، وغير ذلك من التعذيب والانتهاكات لحقوقهم.

ولا شك فإن وقوع أمة أو شعب تحت سلطة غاشمة وحاكم دموي مستبد لا يعرف الرحمة والشفقة مثل فرعون، لهو أمر مؤلم حقاً وابتلاء عظيم، وقد ابتليت به الكثير من الشعوب المستضعفة ونكبت به في العالم على طول التاريخ وعرض الجغرافيا.

وقيل: المراد بالعذاب المهين هو فرعون نفسه للمبالغة، كأنه في نفسه عذاب مهين لإفراطه في استضعاف بني إسرائيل وإذلالهم وتعذيبهم، ولأنه كان عظيم السعي في إهانة المحقين والصالحين والمصلحين المعارضين لحكمه ونظامه، وهذا ينطبق على جميع الطواغيت والمستكبرين والفراعنة والحكام المستبدين الظلمة والمترفين الذين يفعلون مثل فعله في العالم على طول التاريخ وعرض الجغرافيا.

ويعتبر فرعون موسى من أكثر الفراعنة تجبراً، وكان متكبراً ومتغطرساً ومعتداً كثيراً بنفسه وعالي الدرجة في طبقة المسرفين، ومتجاوزاً لكل الحدود التي يرسمها العقل والدين الحنيف في الكفر والضلال والفسوق والعصيان والعتو والتعالي والتعاظم والشيطنة والبطش والقسوة والبغي والظلم والطغيان والعدوان والجور والجرأة على محارم الله(عز وجل) وحدوده ومقدساته، وقد أهلكه الله(عز وجل) بسبب كفره وضلاله وخصاله المذمومة وأعماله السيئة وجرائمه الشنيعة، وخلص بني إسرائيل المستضعفين من شره وأذاه وطغيانه، واستخلفهم بعده في الأرض بدلاً عنه وعن قومه.

وقيل: في الآيات الشريفة المباركة تطييب لنفس الرسول الأعظم الأكرم(ص) والمؤمنين الذين معه، وفيها إيماء إلى أن الله(عز وجل) سينجيهم من فراعنة مكة ويختارهم ويمكنهم في الأرض فينظر كيف يعملون بعد الانتصار والتمكين، على قاعدة: التبشير للمؤمنين المطيعين، والتحذير للكافرين والمنافقين والعاصين، فعليهم ألا يخافوا من كثرة الأعداء وتعاظم قوتهم، ولا يحزنوا على شيء فاتهم من الدنيا، وليطمئنوا بأن الله(عز وجل) سيمنّ عليهم بالنصر كما منّ على بني إسرائيل.

وهذا التطمين والتطييب في الحقيقة يعم كل المؤمنين المجاهدين المخلصين الملتزمين بالصراط المستقيم والنهج القويم والطريقة الوسطى في العالم على طول التاريخ وعرض الجغرافيا، وفيه تحذير ظاهر من الانحراف بعد الانتصار والتمكين بالانصراف إلى البغي والطغيان والعدوان والاستئثار والإقصاء لغيرهم كالذين سبقوهم وكما حدث من بني إسرائيل وغيرهم الكثير في العالم على طول التاريخ وعرض الجغرافيا، فإن الحساب سيكون عليهم عسيراً جداً والعذاب عظيم ومؤلم جداً.

وقد فضل الله تبارك وتعالى بني إسرائيل على العالمين في عصرهم وما قبله وما بعده، حتى بعث الله تبارك وتعالى الرسول الأعظم الأكرم نبينا محمد بن عبدالله(ص) ففضلت أمته المسلمة على العالمين أجمعين، وامتن الله تبارك وتعالى عليهم بما لم يمتن بمثله على غيرهم من الأمم، مثل: القرآن الكريم والعترة الطاهرة، قول الله تعالى: <كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ>[2] وتدل الآية الشريفة على ميزتين سوف تبقيان ملازمتين لأمة محمد(ص) إلى آخر الدهر، وهما: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاستقامة على الدين الحق والصراط المستقيم والطريقة الوسطى.

ومن تفضيل الله تبارك وتعالى لبني إسرائيل على العالمين: أنه اصطفى منهم أنبياءً على علم منه بمكان الخيرة وباستحقاقهم لفضيلة حمل مسؤولية الرسالة الإلهية وترجيحهم على غيرهم.

وقيل: اختيار بني إسرائيل كقوم وكأمة على علم منه باستحقاقهم لذلك التفضيل على العالمين في عصرهم وما قبله وما بعده حتى بعث الرسول الأعظم الأكرم(ص) فكانت أمته خير الأمم قاطبة، حيث امتاز بنو إسرائيل على سائر الأقوام والأمم بكثرة الأنبياء الكرام المبعوثين منهم، إذ لم يظهر في أي قوم أو أمة مثل ما ظهر فيهم من عدد الأنبياء الكرام(عليهم السلام) ولصبرهم مع موسى الكليم(ع) ولجهادهم في سبيل الله(عز وجل)، وجعل فيهم ملوكاً عظاماً مثل سليمان وداوود ويوسف الصديق(عليهم السلام) وخصهم بكثير من النعم العظيمة دون غيرهم من الأمم والأقوام، مثل: إنزال الكتب السماوية المقدسة عليهم، مثل: التوراة والإنجيل والزبور، وتضليل الغمام عليهم في صحراء سيناء، وإنزال المن والسلوى طعاماً لهم أثناء فترة التيه في صحراء سيناء لمدة أربعين سنة، وتفجير العيون لهم من الصخور الصماء ونحو ذلك، قول الله تعالى: <وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِين>[3].

وقال الشيخ محمد جواد مغنية: «والآن استوحينا من الآية التي نحن بصددها أن المراد بالعالمين فيها فرعون ومن أقر له بالربوبية فقط، وليس كل أهل ذلك الزمان، أما السر في تفضيل بني إسرائيل على فرعون ومن استجاب له فواضح، وهو أن الإسرائيلين لم يعبدوا فرعون كقدماء المصريين»[4].

وقيل: على علم منا بأنهم سيزيغون ويسيئون استغلال النعم الإلهية، ويصدر عنهم الفرطات في بعض الأحوال، ومع ذلك فقد أنعمنا عليهم ومنحناهم التفوق والتفضيل لنختبرهم؛ لأن الاختبار الإلهي كما يكون بالمصيبة، يكون بالنعمة، قول الله تعالى: <وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَٰلِكَ وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون>[5].

وقيل: ربما كانت كثرة الأنبياء فيهم دليلاً على غاية تمردهم وقمة عصيانهم.

وقيل: إن ترتيب الآيات موضوع البحث يدل على صحة القاعدة العقلية، وهي: «أن دفع الضرر مقدم على إيصال النفع» فقد بدأ الله تبارك وتعالى في بيان كيفية دفع الضرر عن بني إسرائيل، قول الله تعالى: <وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ>[6] ثم شرع في بيان كيفية إيصال النفع والخيرات لبني إسرائيل، قوله تعالى: <وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِين>[7].

وقد امتحن الله (جل جلاله) بني إسرائيل بأن آتاهم البينات النيرات، والآيات الكريمات، والمعجزات الباهرات القاهرات مثل: انشقاق البحر من أجل نجاتهم، وانطباقه من أجل هلاك عدوهم فرعون وقومه، وخلاصهم من شرهم وأذاهم واستخلافهم في الأرض بدلاً عنهم، بالإضافة إلى المعجزات التسع: اليد والعصا والطوفان والقمل والجراد والضفادع والدم والقحط ونقص الثمرات وغيرها، وهو عدد لم يعهد مثله في غيرهم من الأمم والأقوام.

وتعتبر هذه الآيات والبينات والمعجزات نعمة جلية ظاهرة امتن الله تبارك وتعالى بها عليهم، وامتحان عظيم ظاهر لهم وحجة بالغة عليهم، أي: ابتلوا بما آتاهم الله العزيز الحكيم من البينات والمعجزات ابتلاءً مبيناً لينظر الله (جل جلاله) كيف يعملون وكيف يتصرفون، وليظهروا على حقيقتهم كما هم في علم الله سبحانه وتعالى، وليظهر من أعمالهم ما يستحقون به الثواب أو العقاب.

أي: هل يشكرون النعمة ويؤدون حقها إلى الله سبحانه وتعالى وإلى الناس، أم يجحدون بالنعمة ويستخدمونها فيما يغضبه ولا يرضيه من المعاصي والذنوب والآثام والجرائم، فتقوم لله (جل جلاله) عليهم الحجة البالغة.

وما يؤسف له بحق وحقيقة، أنهم رغم كثرة النعم والآيات والمعجزات التي اختصهم الله تبارك وتعالى بها، فإنهم لم يعرفوا قدرها ولم يؤدوا حقها عليهم وفشلوا في الامتحان، فقد ظهر منهم من البغي والغدر والفساد والطغيان والعصيان والتمرد على الحق والأحكام أكثر مما ظهر من غيرهم، وأن أجيالهم اللاحقة بعد موسى الكليم(ع) قد ارتكبوا من المعاصي والجرائم ما لا تقل بشاعة وفظاعة عن المعاصي والجرائم التي ارتكبها الفراعنة وغيرهم بحق أسلافهم، ومن جرائمهم: قتل الأنبياء بغير حق والتمرد على أحكام الدين الحنيف بكل تصلب وعناد وأكل الربا وأموال الناس بالباطل ونحو ذلك.

ومنها الجرائم التي يرتكبها الجيل المعاصر في الكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين بحق أبناء الشعب الفلسطيني المستضعفين المظلومين.

ولأنهم غيّروا وبدّلوا فقد غيّر الله (جل جلاله) عليهم وبدّل، فلعنهم وغضب عليهم وهددهم بأشد العقوبات، وجعل منهم القردة والخنازير بسبب جرائمهم الشنيعة وسلط عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة، قول الله تعالى: <وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ>[8] وقول الله تعالى: <فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ 166 وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ>[9].


  • [1]. الدخان: 30-33
  • [2]. آل عمران: 110
  • [3]. المائدة: 20
  • [4]. الكاشف، محمد جواد مغنية، جزء 7، صفحة 12
  • [5]. الأعراف: 168
  • [6]. الدخان: 30
  • [7]. الدخان: 32
  • [8]. البقرة: 61
  • [9]. الأعراف: 166-167
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك – الجزء الثاني | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟