مواضيع

الضمير الحي المؤمن لآل فرعون

<وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ 28 يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا>

ضاق فرعون الطاغية وملؤه الفاسدون المفسدون في الأرض ذرعاً بموسى الكليم(ع)، فأتمروا على قتله والخلاص من دعوته وما تشكله من تهديد جدي على النظام والدولة والحكومة والملك ومصالح الشعب والدين والتراث بحسب زعمهم، وبينما هم في أخذ ورد ويقلبون أوجه الرأي والحيكة لقتله، دفعت المروءة والإخلاص للحق والأهل والعشيرة، رجلاً مؤمناً قبطياً من أقرباء فرعون وخاصته، اسمه: حزقيل، وقيل: صبيت، وقيل: حزبيل، وهو ابن عم فرعون، وقيل ابن خاله، وكان ولي عهده وصاحب شرطته، وقيل: خازن خزائن فرعون والمسؤول عن الشؤون المالية في دولته، مما يشير بحسب منطق الأشياء: أنه كان مطلعاً عن كثب على تفاصيل قصة موسى الكليم(ع) مع فرعون وما جرى بينهما من أحداث ووقائع، وكان قد آمن بالتوحيد وبنبوة موسى الكليم(ع) وصدق رسالته من رب العالمين إيماناً عن يقين لا يشوبه شك أو تردد، لكن آل فرعون لم يكونوا يعلمون بإيمانه؛ لأنه كان قد كتم إيمانه عنهم، خوفاً على نفسه من القتل، ولمقتضى الحكمة والعقل في ذلك الجو المعادي للحق والفضيلة.

أي: كتم إيمانه عنهم تقية، إلى ذلك الوقت الذي قرر فيه أن يواجه فرعون وقومه بالحقيقة، حرصاً على قومه، وطلباً لخيرهم ومصلحتهم وسعادتهم الحقيقية في الدارين: الدنيا والآخرة.

وكان قد اعتبر نفسه من موقعه في القصر والبلاط الملكي الفرعوني، مكلفاً بحماية موسى الكليم(ع) من أي خطر يتهدده من داخل القصر أو البلاط الملكي ودفع الشر عنه، وحين رأى بأن حياة موسى الكليم(ع) في خطر حقيقي وقريب، بسبب غضب فرعون الشديد عليه، وإرادته إيقاع الشر به وقتله، ووافقه قومه على ذلك، دفعته مروءته وحرارة الإيمان إلى أن يحذر قومه من مغبة ذلك، ويستنكر عليهم ما أرادوه من الشر بموسى الكليم(ع)، وأن يتحمل الكلفة الكبيرة من ذلك، فنطق بالحق المبين، وبين لقومه ما فيه الحكمة والفضيلة والصواب، وما فيه خيرهم ومصلحتهم وسعادتهم الحقيقية في الدارين: الدنيا والآخرة.

وذلك: بأسلوب حاذق ومؤثر، فقد لجأ إلى كل وسيلة وعامل منطقي ونفسي ليفتح له الطريق لينفذ إلى أعماق قلوبهم ويحدث فيهم التغيير المطلوب، ويثنيهم عن قتل ولي الله الأعظم موسى بن عمران الكليم(ع) متسلحاً بالحكمة واللين والإخلاص، وهو أسلوب العالم العاقل الخبير بحقائق الأمور ودفائن النفوس، والناصح الحليم والمشفق على قومه والحريص عليهم تمام الحرص، وله العناية التامة والكاملة للوصول إلى مراده، وجاء بما يؤكده العقل والمنطق السليم وتقبله الفطرة والوجدان، فالحق لا يخلو من ناصر ينصره، ولو بكلمة يجابه بها أهل الباطل والضلال والطغيان، فقد دافع مؤمن آل فرعون عن موسى الكليم(ع) دفاعاً مجيداً قوياً وخالصاً لله سبحانه وتعالى، فقال مقبحاً ومنكراً لفعل قومه، ومبيناً لشناعة ما عزموا عليه من قتل موسى الكليم(ع): <أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ>[1].

أي: لا ينبغي لكم بحكم العقل والمنطق والمصلحة المتعينة، أن تقتلوا رجلاً صالحاً لمجرد أنه يقول الكلمة الصادقة <رَبِّيَ اللَّهُ>[2] فهذه ليست بجريمة أصلاً، فضلاً عن أن تكون جريمة كبيرة وخطيرة لا تغفر، ويستحق صاحبها عليها القتل، بل هي في الحقيقة والواقع: عقيدة صحيحة ثابتة، يميل إليها الإنسان بطبعه الإنساني وبفطرته، ويقوم عليها الدليل والبرهان الصحيحان، والحجة القاطعة التي أفحمتكم وعجزتم عن الرد عليها بمثلها، مثل: العصا واليد البيضاء، وهي سبب لاستقامة الحياة وطهارتها وصلاحها وتنميتها التنمية الشاملة المستدامة، والوصول بالحياة إلى أعلى مراتب الكمال، وتحصيل السعادة للإنسان في الدارين: الدنيا والآخرة.

ولم يكن قوله مجرد إدعاء فارغ لا قيمة له ولا وزن في التقييم العلمي والمنطقي، بل <جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ>[3] أي: جاءكم بالمعجزات التسع الباهرات وبالبينات الواضحات، التي تدل دلالة واضحة قاطعة على أنها من عند الله، الذي نسب إليه الربوبية المطلقة الحقة، وادّعى أنه أرسله إليكم، وهو ربكم وربه وليس ربه وحده، مما يوجب عليكم بحسب العقل والمنطق والفطرة، أن تقبلوا ما جاءكم به وتذعنوا إليه، فما جاء به يدل على صدق نبوته ورسالته.

وعليه: فما جاءكم به موسى الكليم(ع) صدق وعدل لا يوجب قتله ولا يستدعي ردة فعل شديدة عليه كما تعتزمون، فإرادة قتله منكر صريح، وفعل فظيع وشنيع، بحكم العقل والمنطق والفطرة، ويجري على خلاف الحكمة والعدل والخير والفضيلة والمصلحة العامة؛ لأنه قتل رجل صالح جاء بالحق من عند ربكم الحقيقي الذي يجب أن تؤمنوا به وتطيعوه وتسلموا لأمره، فالأولى بكم بحكم العقل والمنطق والفطرة، أن تبطلوا صدق ما جاءكم به بالدليل والبرهان، فإن ظهرتم عليه بالحجة والبرهان، تنظروا بعد ذلك إن كان ينبغي بحكم المصلحة قتله.

والحال أنه قد ظهر عليكم بحجته،واستعلى برهانه، وعجزتم عن الرد المقنع عليه، فلا ينبغي لكم بحكم العقل والمنطق والفضيلة والمصلحة قتله، وعليكم بالتروي والتريث، وأن تفكروا جيداً وبسعة وعمق وتحسبوا لعواقب الأمور ولا تعجلوا في أمر خطير كهذا فيكون الندم والخسران حليفكم، فكل الأدلة تدل بصراحة ووضوح على أن محاربة هذا الرجل الصالح فضلاً عن قتله، أمر في غاية الخطورة.

وقد أضاف الرب إليهم <مِنْ رَبِّكُمْ>[4] بعد ذكر البينات، احتجاجاً عليهم واستدراجاً لهم ليحصل منهم على الاعتراف والقبول بما جاء به موسى الكليم(ع)، ومقولة مؤمن آل فرعون، تدل على أن معجزات موسى الكليم(ع) وبيناته الواضحة، كانت قد اشتهرت عند أهل مصر جميعاً اشتهاراً واسعاً بحيث علم بها الصغير والكبير وكانت موضوع حديثهم في المجالس والمنتديات، ثم احتج مؤمن آل فرعون على قومه بطريقة التقسيم، إذ طرح عليهم فرضيتين يدور بينهما حال موسى الكليم(ع) فهو لا يعد أن يكون: إما صادقاً أو كاذباً.

أ.   الفرضية الأولى: <وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ>[5] أي: لو فرضنا أنه كاذب على الله (جل جلاله) فيما يدعيه من النبوة والرسالة، فإن هذا لا ينفي صحة عقيدة التوحيد وأنها الأساس الصحيح لبناء الحياة الصالحة، لقيام الدليل عليها بشكل مستقل، وتبقى تبعات كذبه في دعوى النبوة والرسالة وإثمها على نفسه، حيث امتنعتم عن إجابته وتصديقه، وحصنتم أنفسكم ودولتكم ومصالحكم بالإجراءات الاحترازية، ثم يخذله الله(عز وجل) ويعاقبه على كذبه عليه ويفضح أمره عاجلاً أو آجلاً؛ لأن حبل الكذب قصير بحكم الطبيعة، وينال جزاء الكاذبين المارقين عن الحق وهو الهلاك؛ لأن مقتضى الحكمة الإلهية أن لا يترك الله (جل جلاله) شخصاً يكذب عليه لشأنه، فيكون في ذلك إغراء بالكذب عليه، وسبب لإضلال الناس وإغوائهم، ولن ينالكم أو يصل إليكم ضرر من كذبه، وعليه: دعوه يلاقي من الله(عز وجل) جزاء الكاذبين المارقين، ولا حاجة لكم إلى قتله، ويعتبر قتلكم له سفهاً وجهلاً.

وليس في كلام مؤمن آل فرعون نفي للعواقب السيئة للكذب على الله (جل جلاله) في المجتمع، وإنما في تأكيد على العقاب الإلهي، وعليه: يجب التحرز علمياً وعملياً لدفع العواقب السيئة على المجتمع، وفي كلام مؤمن آل فرعون تعريض بفرعون، بأنه سيلاقي عواقب وجزاء كذبه وإسرافه ومروقه من الحق، في الدارين الدنيا والآخرة، وفرض كذب موسى الكليم(ع) جاء على لسان مؤمن آل فرعون، تلطفاً منه مع قومه، ومجاراته لهم وتحديثهم على قدر عقولهم، وسعياً منه لاختراق الجدران ومع الحجب المضروبة على عقولهم ووجدانهم وضمائرهم، في سبيل توفير أرضية نفسية غير مقاومة ومهيئة لقبول نصيحته الصادقة إليهم، ولم يكن ذلك عن شك منه في صدق نبوة موسى الكليم(ع) ورسالته، فإنه كان مؤمناً بتزكية الله سبحانه وتعالى له ووصفه إليه بالإيمان، وهذا يكشف بوضوح عن أن للحوار والنصيحة قواعد وأصول ينبغي اتقانها وتفعيلها، مثل: الحرص على الطرف الآخر واللين والتلطف معه، والتحلي بالنزاهة والموضوعية والصدق، وأن يقوم الحوار والنصيحة على منطق ومنهج سليم ومعرفة صحيحة، وعدم القول في العلم بغير علم، والمعرفة بأساليب وطرق النفوذ إلى أعماق النفس واختراق الجدران والحجب المضروبة على العقل والقلب والضمير، ونحو ذلك.

ب. الفرضية الثانية: <وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ>[6] أي: لو كان صادقاً ومأموراً فعلاً من رب العالمين الذي يدعي أنه أرسله إليكم، وهذا هو الراجح نظراً لما جاءكم به من المعجزات الخارقة التي يعجز البشر عن أن يأتوا بمثلها، إضافة إلى البينات الواضحات والبراهين العقلية القاطعة، فإن لازم ذلك بحسب السنن الإلهية في الخلق، أن يصيبكم على الأقل، بعض أنواع العذاب الذي توعدكم به في الدارين الدنيا والآخرة، فقد أخبركم عن الله رب العالمين، أنكم إن لم تجيبوه إلى ما دعاكم إليه وطلبه منكم، فإن الله(عز وجل) يعذبكم عذابين: عذاب في الدنيا، وعذاب في الآخرة، فإن لم يصبكم كل الذي توعدكم به من العذاب، فليس أقل من أن يصيبكم بعضه، وعبارة: <يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ>[7] فيها هضم لبعض حق موسى الكليم(ع) في الظاهر؛ لأن لازم صدقه إصابتهم بجميع ما توعدهم به لا بعضه.

ولكن مؤمن آل فرعون يريد في الحقيقة أن يتلطف إلى قومه ويجازيهم ويحدثهم على قدر عقولهم، ويثبت نزاهته وموضوعيته وعدم تعصبه إلى موسى الكليم(ع) على حسب الحقيقة والمنطق السليم، أي: إن مقولته صدرت منه على سبيل الاحتجاج والتنزل في الحوار بالاكتفاء بأيسر التقادير، وليس فيها على التحقيق أية نقيصة لموسى الكليم(ع) أو هضم لأي من حقه، وحاشا لمؤمن آل فرعون أن ينتقص من قدر موسى الكليم(ع) أو يهضمه من حقه الثابت له بالدليل والبرهان والحجة، كيف وقد زكّاه رب العالمين ووصفه بالإيمان.

كما تدل المقولة على المبالغة في التحذير، وأن القليل أو بعض ما توعدهم به موسى الكليم(ع) فيه خراب دنياهم وهلاكهم في الدنيا، مما ينبغي بحكم العقل والمنطق الحذر الشديد منه والحرص على عدم وقوعه، لا سيما إذا علموا بأن قتلهم لموسى الكليم(ع) لن يمنع نزول العذاب الإلهي عليهم، بل سيعجله الله(عز وجل) ويكون أشد انتقاماً لدم وليه الأعظم الطاهر مما يتطلب بحكم العقل والمنطق والفطرة والوجدان: الاحتراز والامتناع عن قتله، وتعتبر مقولة مؤمن آل فرعون، مقوله عقلية منطقية محكمة لا تشويش فيها ولا غموض، من شأنها أن تقنع كل عاقل باحث عن الحقيقة وطالب لها، وهي تدل على مدى حكمته وسلامة منطقه وغزارة علمه وتلطفه بقومه وحرصه الشديد عليهم وسعيه الحثيث لإنقاذهم وحفظ مصالحهم وإيصالهم إلى السعادة الحقيقة في الدارين الدنيا والآخرة.

وقد علل مؤمن آل فرعون هلاكهم، بقوله <إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّاب>[8] أي: أنكم بمخالفة موسى الكليم(ع) وعدم القبول منه، تكونون مسرفين في المعاصي الكبيرة والصغيرة، الظاهرة والباطنة، ومن المتعرين طور العبودية لله(عز وجل)، ومن المكذبين بالحق: بالتوحيد والنبوة والرسالة والمعاد وإقامة العدل والحكم بالشريعة الإلهية المقدسة، ونحو ذلك، والله (جل جلاله) بمقتضى حكمته لا يهدي من هو مسرف في المعاصي، يتجاوز حد الاعتدال والحكمة، بترك الحق والإقبال على الباطل، ولا يهدي من هو كذاب يدعي ما ليس بحق، وما هو بخلاف الفطرة والعقل والمنطق، مثل: دعوى الألوهية والربوبية والملكية المطلقة والاستقلال في التشريع بعيداً عن الله سبحانه وتعالى وعن الإرادة الشعبية واتخاذ أرباب من دون الله سبحانه وتعالى، وينسب ما أسرف فيه من المعاصي والذنوب إلى الله سبحانه وتعالى، فهذا المكذب المارق، لا يهديه الله سبحانه، بل يخزيه ويلعنه ويفضحه في الدنيا والآخرة وينزل به أشد العذاب، بل هو يفضح نفسه بنفسه لما يختلقه من الأباطيل ويخالف به العقل والمنطق والوجدان، وما يقع فيه من التناقضات، وذلك بالضرورة العقلية ومنطق الأشياء، فهو يقف دائماً مفضوحاً عارياً على شفير حفرة هاوية.

هذا وقد رأيتم ما دعا إليه موسى الكليم(ع) من الحق وبينه من الصراط المستقيم والنهج القويم في الحياة، وما أيده به من المعجزات الباهرات الخارقة للعادة، مثل العصا واليد البيضاء، والتي يحكم العقل والمنطق بأنها فوق الطبيعة وفوق قدرة الإنسان: الساحر وغيره، وقد شاهدتم بأم أعينكم انتصاره على السحرة مما حملهم جميعاً على الاستسلام إليه والإذعان لعقيدته عن قناعة تامة، ولم يرضخوا لتهديدات فرعون ووعيده، بل استرخصوا الأرواح في سبيل الحق المبين الذي عرفوه عن يقين لا شك فيه ولا تردد، أضف إلى ذلك ما هداه الله تبارك وتعالى إليه من البينات الواضحات والبراهين العقلية القاطعة، ومن جاء بمثل ما جاء به موسى الكليم(ع) لا يمكن أن يكون مسرفاً ولا كاذباً، بل هو صادق كامل العقل سليم المنطق، وذو قضية عظيمة وعلم واسع لا نظير له ومعرفة يقينية بالله ذي الجلال والإكرام، مما يتطلب بحكم العقل والمنطق والوجدان: الاحتراز والحذر الشديد والامتناع عن قتله، وعليه: فقد أثبت مؤمن آل فرعون صدق موسى الكليم(ع) ودافع عن حياته، وقدم احتجاجاً محكماً ذا وجهين:

–   إذا كان موسى الكليم(ع) سائراً في طريق الكذب والإسراف والتجاوز، فلن تشمله الهداية الإلهية، ولن يكون في مقدوره الإتيان بالمعجزات الباهرات والبينات الواضحات؛ لأن ذلك مخالف للحكمة الإلهية، ولأنه أتى بذلك، فهو صادق وليس بكاذب.

–   إذا تكفل الله(عز وجل) بخذلان موسى الكليم(ع) وهلاكه لكذبه على الله (جل جلاله)، فإنه لا حاجة لآل فرعون إلى قتله.

وعلى كلا الفرضين: صدقه أو كذبه، فإن الإقدام على قتله مخالف للمنطق والصواب والفضيلة والمصلحة.

وعليه: فإن عبارة: <إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّاب>[9] من تمام كلام مؤمن آل فرعون، وفيه ارتقاء في الاحتجاج وبيان لقرب موسى الكليم(ع) من الله ذي الجلال والإكرام، ومعناه: لو كان موسى الكليم(ع) مسرفاً كذّاباً كما تزعمون، لما أيده الله تبارك وتعالى بالمعجزات الباهرات، ولما هداه إلى البينات الواضحات؛ لأن ذلك مخالف لمقتضى الحكمة الإلهية، ولما كان في مقدوره أن يأتي بالأدلة والبراهين الساطعة القاطعة؛ لأن الباطل والرذيلة لا دليل صحيح عليها، ولأن موسى الكليم(ع) قد أتى بكل ذلك، فهو صادق ومخلص فيما يدعيه من النبوة والرسالة.

ثم خاطب مؤمن آل فرعون قومه بعد أن حذرهم من أن يصيبهم بعض ما توعدهم به موسى الكليم(ع) من أنواع العذاب ومنه الهلاك وعقوبة الاستئصال كما حدث للأمم من قبلهم، مثل قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم فقال: <يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَاءَنَا>[10] أي: أنتم اليوم في أمن وأمان وذوو نفوذ وقوة ومناعة وسيطرة، ولكم الملك والحكم والطاعة والغلبة على بني إسرائيل وغيرهم، وتتمتعون بخيرات مصر ونعيمها عالين على غيركم، وتنفذون فيهم إرادتكم وما شئتم من التدبير، وهذه نعمة عظيمة امتنّ الله تبارك وتعالى بها عليكم، وتستوجب منكم الشكر لله سبحانه وتعالى عليها، وليس الكفر والمعصية والجحود بهذه النعم والطغيان كما هو واقع الحال عندكم، فليس من الحكمة والصواب والمصلحة الراجحة أن تفسدوا أمركم بأنفسكم وتعرضوا أنفسكم لبأس الله(عز وجل) وغضبه وضرباته وعذابه الشديد، ولتقلبات الدهر ونكباته وتغير النعمة ورغد العيش إلى العذاب والهلاك؛ بسبب التمادي في العناد والاستكبار على الحق وأهله والكفر بالله ذي الجلال والإكرام وعصيانه والتكذيب بدينه وأنبيائه ورسله وكتبه، وتتورطوا في العمل الشنيع المستقبح وهو قتل عبد الله الصالح ورسولة إليكم موسى الكليم(ع) لمجرد أنه قال <رَبِّيَ اللَّهُ>[11]، وتعرضوا مستكبرين عما جاءكم به من الحق المبين والمعجزات الباهرات والبينات الواضحات الدالة دلالة قطعية لا يشوبها الشك على صدق نبوته ورسالته فهذا من السفه والحمق ومخالف لمقتضى الحكمة والفضيلة والمصلحة حتى وإن كان الذي توعدكم به موسى الكليم(ع) احتمالاً لا يقيناً فكيف إذا كان يقيناً لا شك فيه.

ثم نهى مؤمن آل فرعون قومه عن الاعتزاز بما لديهم من الملك الظاهر وأنواع القدرة والقوة وعدم التعويل عليها لتحصيل النجاة والخلاص من العذاب؛ لأنها لا تقدر على الثبات لحظة أمام قدرة الله المطلقة والنافذة في كل شيء، وعلى جميع الناس بدون استثناء فلا يستطيع أحد أي كان قدره ومكانته وقوته حتى فرعون أن يدفع عنا عذاب الله(عز وجل) وبأسه، ويحول بيننا وبينه عند مجيئه، وعليه: فلا ناصر ينصرنا من بأس الله(عز وجل) وعذابه الذي توعدنا به موسى الكيلم(ع) إذا جاءنا بياتاً أو نهاراً عقوبة لنا على قتل ولي الله الأعظم موسى الكليم(ع)، فلا ينبغي لنا الغفلة ونسيان النتائج الوخيمة المحتملة بحكم العقل والمنطق والسنن الإلهية في الخلق، وتجاهل عواقب الأمور الخطيرة، واعلموا أن لا سبيل لنا للنجاة والخلاص من العذاب الإلهي سوى الإيمان الصادق بالتوحيد والتصديق بنبوة موسى الكليم(ع) ورسالته والتسليم له وتوليته أزمة أمورنا في الحياة كلها.

وعبارة <إِن جَاءَنَا>[12] فيها إدخال لنفسه معهم على تقدير مجيء البأس والعذاب، وليكون ذلك أبلغ في النصح وأوقع في قلوبهم مما يدل على ذكائه ولباقته وحكمته وقوة منطقه وحسن دعوته، إذ أظهر قرابته منهم وجعل الآمر والمصير مشتركاً بينه وبينهم ليفهموا أنه معهم، يطلب لهم ما يطلبه لنفسه من السلامة والعافية والنصح لهم كما ينصح لنفسه، ويريد لهم الخير الذي يريده لنفسه.


  • [1]. غافر: 28
  • [2]. نفس المصدر
  • [3]. نفس المصدر
  • [4]. نفس المصدر
  • [5]. نفس المصدر
  • [6]. نفس المصدر
  • [7]. نفس المصدر
  • [8]. نفس المصدر
  • [9]. نفس المصدر
  • [10]. غافر: 29
  • [11]. غافر: 28
  • [12]. غافر: 29
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك – الجزء الثاني | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟