مواضيع

مواصلة مؤمن آل فرعون لنصائحه

<وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ 30 مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ>

لم ينخدع مؤمن آل فرعون بمراوغة فرعون وتمويهه وأدرك ببصيرته النافذة وخبرته الواسعة ومعرفته الدقيقة بذهنية فرعون وشخصيته العدوانية وما تنطوي عليه نفسه الطاغوتية من المكيدة والخداع، ولم ييأس من هداية قومة وإنقاذهم وتجنيبهم ورطة ارتكاب جريمة قتل ولي الله الأعظم موسى الكليم(ع)، فلم يتوقف عن النصح والإرشاد ولم يثنه عتو فرعون وطغيانه وتعصب قومه من تكرار الدعوة والنصح والإرشاد، فمضى في دعوته ونصحه وإرشاده لقومه، ومحذراً لهم من بطش الله(عز وجل) وغضبه وعذابه الشديد لهم في الحياة الدنيا قبل الآخرة كما حصل للأمم السابقة المارقة بسبب كفرهم وتكذيبهم الرسل الكرام(عليهم السلام) وإيذائهم وقتلهم، وبسبب أعمالهم وما جنت أيديهم الآثمة من الذنوب الكبيرة والصغيرة.

وهذه حالة الدعاة المخلصين دائماً في الإصرار والثبات فلا يزالون يدعون إلى ربهم ولا يردهم عن ذلك ولا يثنيهم عتو طاغية مستكبر أو جهل قوم أو تعصبهم أو غير ذلك من العوائق والصعوبات.

وكان الشعب المصري آنذاك يمتاز نسبياً بالتمدن والثقافة وله حضارة عظيمة، وكان مطلعاً على أحوال الأمم السابقة التي لم تكن أرضهم وحضارتهم تبعد عنهم كثيراً في الجغرافيا والتاريخ، وكان عالماً بما آل إليه مصيرهم، فأراد مؤمن آل فرعون أن يوجه أنظار قومه إلى الأحداث المؤلمة والمصير الأسود الذي انتهوا إليه غير مأسوف عليهم، ويحذرهم من أن ينزل بهم ما نزل بتلك الأمم من العواقب السيئة، لعلهم يلينوا ويتعظوا ويفيقوا من غفلتهم المطبقة، ويرجعون عن عبادتهم وكفرهم وطغيانهم وما عزموا عليه من جريمة قتل ولي الله الأعظم موسى الكليم(ع)، فقال: <إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ 30 مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ>[1].

أي: إني أخاف عليكم إن أصررتم على عنادكم وكفركم بالتوحيد وتكذيبكم بنبوة موسى الكليم(ع) ورسالته وتورطتم في قتله بغير حق أن يصيبكم من العذاب الإلهي المؤلم مثلما أصاب الأمم السابقة المارقة التي كفرت بالتوحيد وكذبت بالرسل الكرام(عليهم السلام) واتفقت وتحزبت ضدهم واجتمعت على معارضتهم وعمدت إلى إيذائهم وقتلهم، مثل قوم نوح وقوم هود (عاد) وقوم صالح (ثمود) وغيرهم من الكافرين المكذبين للرسل الكرام(عليهم السلام) الذين بعدهم، مثل قوم لوط الذين غضب الله(عز وجل) عليهم وأنزل عليهم عقوبة الاستئصال فأهلكهم أجمعين قوماً بعد قوم، فكان لكل حزب منهم يوم دمار وهلاك جزاء ما دأبوا عليه من العناد والتعصب الأعمى والكفر والتكذيب للرسل الكرام(عليهم السلام) وإيذائهم وقتلهم والطغيان وارتكاب المعاصي والذنوب الكبيرة والصغيرة الظاهرة والباطنة، وإظهار الفساد ونشره في طول الأرض وعرضها، فأهلكهم الله(عز وجل) بعضهم بالطوفان (الفيضان) العظيم، وأهلك بعضهم بالريح الصرصر العقيم، وأهلك بعضهم بالصواعق المحترقة، وأهلك بعضهم بالزلزال المدمر وغير ذلك.

وهذه سنة إلهية جارية في الأقوام المارقين المكذبين في التاريخ الطويل للمسيرة البشرية، وتأتي وفق مقتضى الحكمة الإلهية البالغة والرحمة الواسعة بالعباد، فليس من الحكمة ترك هؤلاء المارقين يعيشون في الأرض فساداً ويقطعون الطريق على كل سالك يريد الوصول إلى الهدى والصلاح في الأرض وتحصيل السعادة الحقيقية الكاملة في الدارين الدنيا والآخرة، فيحيلون بين الإنسانية وبين الوصول إلى كمالها المعرفي والتربوي والحضاري وتحقيق غاية وجودها، وكأن الله(عز وجل) ضعيف ومغلوب على أمره وعاجز عن ردع هؤلاء المارقين، ووضع حد لسفاهتهم وطيشهم وحماقتهم، وكأنه يفضل هؤلاء المارقين المفسدين بإبقائهم على عباده المؤمنين الصالحين الذين يقطعون عليهم طريق الوصول إلى الله ذي الجلال والإكرام وطاعته، وأرحم بأولئك المارقين من المؤمنين، وحاشا لله سبحانه وتعالى أن يكون كذلك، فقد خلق الإنسان بفضله وفضَّله على كثير، وأنزل الكتب لهدايته، ودعاه إلى الإيمان به، والكفر بالطاغوت، وكلفه بطاعته، ومحاربة الطاغوت والطغاة المفسدين في الأرض والظالمين للعباد، وعليه فإن إهلاك تلك الأقوام المارقة المكذبة بالرسل والتي عاثت في الأرض فساداً وما نزل بها من العذاب الأليم يعد جزاءً عادلاً استوجبوه بكفرهم وأعمالهم السيئة وما جنت أيديهم من الجرائم المشينة.

أي: جزاءً موافقاً لأعمالهم وللحكمة الإلهية البالغة والرحمة الإلهية الواسعة، وليس فيه ظلم لهذه الأقوام المارقة، فإن الله(عز وجل) لا يعاقب فرداً أو قوماً بغير ذنب أذنبوه، أو جرم أسلفوه، ولا يخلي الظالمين المفسدين في الأرض بغير انتقام، فهم الظالمون أنفسهم بسوء اختيارهم وتصرفاتهم وتكذيبهم الرسل الكرام(عليهم السلام) والتمرد على أمر الله(عز وجل) نهيه، وأنتم مثلهم في العناد والاستكبار والكفر والتكذيب والأعمال السيئة والتمرد على أمر الله سبحانه وتعالى ونهيه.

وقد جرت سنة الله(عز وجل) عليهم بالعقوبة، أفلا تخشون أن يصيبكم مثلما أصابهم من العقوبة ويحل بساحتكم مثلما حل بساحتهم من الهلاك والاستئصال؟ فأعمالكم مثل أعمالهم ولستم استثناء في القاعدة أو السنة الإلهية الجارية في الأمم عبر التاريخ الطويل والجغرافيا العريضة، فلا ضمان لكم بأن لا تشملكم العقوبات الإلهية، بل أنتم مرشحون ومستحقون لها بكفركم وأخلاقكم القبيحة وأعمالكم السيئة، وعليه: فإني أخاف عليكم بحق أن يكون مصيركم مثل مصيرهم الأسود، وأن يحل بكم الهلاك والعذاب الأليم في الدنيا والآخرة.

وقيل: في كلام مؤمن آل فرعون تعريض بفرعون ورد عليه حين قال: <وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ>[2] وكأن مؤمن آل فرعون رد عليه فقال: وأنا أيضاً ما قلت الذي قلته لكم إلا خوفاً عليكم من أن يصيبكم مثل الذي أصاب الأمم السابقة المارقة من العذاب الإلهي المؤلم في الدنيا قبل الآخرة، معتمداً في ذلك على المنطق والتجربة التاريخية والمعرفية اليقينية الواضحة بالسنن الإلهية.


  • [1]. غافر: 30-31
  • [2]. غافر: 29
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك – الجزء الثاني | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟