مواضيع

معرفة تاريخ الاستكبار والاستعمار وجناياتهم

هل من الصحيح أن يتصور أحد أن موقفنا من قوى العالم الاستكبارية هو موقف مرحلي أو نفعي أو تكتيكي أو لا؟! إن هذا تصور خاطئ طبعاً؛ فمعنى ومفهوم الاستكبار هو مفهوم قرآني ولم يأت جزافاً في ثقافة ثورتنا، وإن مفهوم الاستكبار يقتضي أن يهبّ المسلمون والمؤمنون والنظام والثورة الإسلامية لمواجهته، وليس هذا بشكل نفعي ومرحلي وتكتيكي؛ بل إن هذه المواجهة مستمرة على الدوام.

فطبيعة الثورة هي هذه، ومادامت هناك ثورة، فسيكون مثل هذا الأمر.

إن مفهوم الاستكبار في القرآن أساساً هو عنصر أو شخص أو مجموعة أو جناح يعتبر نفسه فوق الحق، ولا يمتثل للحق؛ بل ويجعل من نفسه وقوته ملاكاً للحق! وإن أول مستكبر في التاريخ يصوره لنا القرآن هو إبليس: <أَبَى وَاسْتَكْبَرَ>[1]. فهو أول مستكبر.

وإنه لمن المستحيل أن نفرض انصراف مسلم أو مؤمن أو موحد عن عدائه لإبليس والشيطان حتى ليوم واحد أو لحظة واحدة. فخط الإسلام يعني في الأساس الخط المعارض لإبليس والشيطان.

ولقد كان المستكبرون على طول دعوة الأنبياء هم الذين رفضوا الدعوة الإلهية والتوحيد، وهبّوا لمواجهة ذلك واستخدموا القوة: <قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ>[2]. فعندما يقول النبي الحق ويدعو الناس إلى الحق، فإن المستكبرين يقولون: لنخرجنّك، لو تحدثت كثيراً..!

فهذه لغة القوة في مواجهة الداعي إلى الحق، وهذا معنى وتصوير واضح للاستكبار الذي هو في عالم اليوم ذلك النظام السلطوي، وعلى الصعيد السياسي العالمي هو تلك الروح المتعاظمة والمستكبرة وكل شيء يميل وينشد إلى قوة عظمى. وحتى تلك القوى التي لم تصبح عظمى بعد، ولكنها تعتبر نفسها نصف قوة عظمى! فإنهم كذلك أيضاً في سلوكهم.

وللأسف فإن الحياة البشرية اليوم مليئة بممارسات وتصرفات التجمعات الاستكبارية في شتى أرجاء العالم، وعلى رأسها أمريكا بالطبع؛ فأن تعمل دولة في تلك الناحية من العالم على تأمين مصالحها على حساب مصالح شعوب المنطقة، فهذه هي الروح الاستكبارية دون سواها، وأن تعطي حكومة لنفسها الحق في أن تقول علناً وبكل صراحة وبلا حياء إذا عارضتها حكومة أخرى: سأسقط هذه الحكومة، فهذه روح استكبارية، وهو ما تتعامل به أمريكا اليوم حيال كثير من حكومات أمريكا اللاتينية وبعض الحكومات الأخرى في العالم، وإن الاستكبار يتّخذ هذا الموقف لأنه لا يرى جواباً آخر، ومصالحه في خطر، وستزداد مصالحه ضماناً بإسقاط تلك الحكومة.

إنكم ستشهدون الكثير من هذا القبيل إذا ألقيتم نظرة على الساحة السياسية الدولية اليوم، فأن تأتي القوى وتصادر بلداً وتطرد شعباً من أراضيه وتشكل هناك حكومة أخرى عن طريق القوة، فهذه حركة استكبارية. وفي قضية فلسطين تكاتفت القوى السلطوية العالمية وشرّدت الشعب الفلسطيني عن بكرة أبيه، وإن هذا لأمر فادح وعجيب جداً! ولقد اعتاد العالم اليوم على أن يراهم يطردون شعباً من موطنه، ثم يستبدلونه بالقوة بمستوطنين من شتى أنحاء العالم، ويصطنعون شعباً كاذباً ومزيفاً ويقيمون عليه حكومة من أجل ضمان مصالح القوى الكبرى في تلك المنطقة العربية الحساسة!! وهذا هو الاستكبار.

إن ما تشاهدونه اليوم من البرود الأمريكي الكامل إزاء ذبح الآلاف من البشر وانفجار القنبلة في هيروشيما وقتل الآلاف ثم يقولون: لقد كانت هناك مصلحة في ذلك الإجراء وقد وجدنا ذلك ضرورياً!! هو بعينه الروح الاستكبارية، وإذا أسقطت أمريكا طائرة بجميع ركابها ثم قوبلت بالاستنكار، فإنها تقول: لقد انتهت هذه القضية، فلا تتحدثوا عنها!!

إن القتل والجريمة أمر عادي بالنسبة لهؤلاء، أما إذا تعلق الأمر بمصالحهم أو انتقم البعض من واحد منهم بسبب ما مارسه عليهم من ضغوط وأذى في مكان ما من العالم، فإنهم يقيمون الدنيا ولا يقعدونها؛ لأنهم يعتبرون لأنفسهم الحق في الحياة دون سائر البشرية، وهذه هي الروح الاستكبارية السائدة في النظام السلطوي في العالم.

لقد صرحنا للعالم بأن الثورة الإسلامية تعارض النظام السلطوي؛ ومعنى النظام السلطوي هو أن تستعمل الحكومات والقوى لغة القوة، فيقبل بها بعض الشعوب والتنظيمات والبلاد والحكومات. فكلاهما يمثل طرفاً في النظام السلطوي، وإننا رفضنا النظام السلطوي وما زلنا، ولسوف نهبّ دائماً لمكافحته. إننا نعتبر كلا جانبي النظام السلطوي مقصرين، سواء أكانت القوة المتسلطة أم من يرضيها، ومعنى الاستكبار هو هذا النظام السلطوي.

إنكم لو ألقيتم نظرة على مجمل النظام الغربي اليوم فإنكم تلمحون علائم على هذه الخصوصية الاستكبارية والسلطوية.

وبالطبع؛ فإنه لا توجد دولة تفوق الإدارة الأمريكية صفاقة ووقاحة في إظهار التسلط والاستكبار، ولكن هذا لا يختص بأمريكا فحسب؛ فإن الخصائص السلطوية تبدو واضحة في جميع الأنظمة الغربية وكل من يواليها مثل الحكومات الرجعية والموالية لها والأنظمة التي تمثل سلطة في حدّ ذاتها حتى ولو لم يعتبرها العالم قوى كبرى.

وها أنتم تشاهدون تلك الضجة التي أثيرت في أوربا حول الحجاب؛ فمع أنهم يرفعون شعارات الحرية، إلا أنهم لا يتحملون ما قلّ من ميول ومظاهر الفكر الآخر المعارض لأفكارهم على الإطلاق، وهذه هي نفس الروح الاستكبارية، أي <لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ>[3] ولا نتحملك لأنك تقول خلاف ما نقول.

إن الضغوط التي تمارس ضد الشعب اللبناني من أجل فرض النظام الحزبي وتغليب الأقلية على الأكثرية هو أمر مخالف للادعاءات الديمقراطية، ولكننا نرى أن الذين يمارسون هذه الضغوط هم أنفسهم مدّعو الديمقراطية في العالم!! وهذه هي إحدى علامات وخصائص السلطوية والاستكبار في العالم.

كما أن الذي تشاهدونه في جميع أرجاء العالم من نشر الدعايات ضد التنظيمات الإسلامية المناضلة والمخلصة هو حركة استكبارية في الغالب، كما أنهم يصورون الذين يضحون بأنفسهم ابتغاء الخلاص من ظروف الحياة السيئة على أنهم إرهابيون، وكل هذا من خصائص الاستكبار.

وهناك من تحدث عنهم القرآن الكريم باسم الاستكبار والمستكبر، ومنهم فرعون، فلقد كان فرعون يطلق على موسى مثل هذه الأقاويل. ولهذا؛ فإن قضية الاستكبار قضية قرآنية، وإنّنا على خلاف مع كل هذه المظاهر. كما أن نضال الشعب الإيراني ليس نضالاً شعارياً وعاطفياً ومرحلياً وتكتيكياً؛ بل إنه جهاد قرآني وعميق وله جذور دينية.

إننا نواجه كل مظاهر الاستكبار في العالم، ولاسيما أمريكا، لأنها أشد استكباراً وجهلاً وغروراً من الجميع، وتمارس الأسلوب الاستكباري إزاء كل من يعارضها من الشعوب وخصوصاً الشعب الإيراني. وهكذا هو تحليل نضال شعب إيران. وبالطبع؛ فإن المحللين المنتمين للمحافل السياسية غالباً لا يحللون قضايا إيران بصدق وإخلاص؛ بل بطريقة مغرضة. إنهم يقولون: ثمة في إيران جناحان، فجناح يقول هكذا، والآخر يقول هكذا..! أو يقولون مثلاً: إنهم يعدّون التمهيدات والمقدمات حتى يتصالحوا مع هذا أو ذاك! فهذه تحليلات أعدائنا، وهي مجانبة للصواب.

لاشكّ أن الذي يؤمن بالثورة الإسلامية والإسلام والأسس الإسلامية لهذه الثورة في إيران، يؤمن أيضاً بالنضال الدؤوب ضد حاملي لواء السلطة الاستكبارية في العالم، والذين في مقدمتهم أمريكا اليوم. وطبعاً؛ فإن أبواق الدعاية يمتلكها أعداؤنا، وإنهم يستخدمون الأساليب الدعائية بشكل جيد؛ فقد أنفقوا الأموال الطائلة في تعلّم وممارسة الدعاية، ويستطيعون اتهام أي شعب بالعنف والوحشية والتخلف والتهور، لا لسبب سوى أنه تمسك بحقه الإنساني وجابه المنتهكين والمعتدين على حقوق الإنسان، وهو ما فعلوه مع شعبنا خلال السنوات الأخيرة، ولكننا هاهنا، لا ينبغي أن نتأثر بمثل هذه الدعايات.

لماذا يجب أن يتصور أحد في بلدنا الثوري وفي إيران الإسلام بأن الصياح والهتاف ضد أمريكا عنف وتهور؟! إنها دعايات أولئك، إن المتهور هو الذي ينتهك حرمة وطنكم، ولستم أنتم من تريدون طرده أو شكايته أو الصياح في وجهه أو التعبير عن ظليمتكم هنا وهناك.

وإن من يرتكب العنف هو ذلك الذي لا يعير أهمية لحياة المئات والآلاف من الثوريين في أي بلد ومن ذلك بلدنا وشعبنا، ولسنا نحن من نستنكر مثل هذه الأساليب العنيفة والوحشية التي يمارسها الأعداء وتلك القوى، ولا أولئك المستضعفين في لبنان وأمثالهم الذين يقومون بالعمليات الانتحارية جراء ضغوط القوات الأمريكية وعملائهم السياسيين والعسكريين، حتى يعبروا عن وجودهم وسخطهم. نعم؛ فالدعايات العالمية تصور هذا على أنه عنف وتهور وتخلف وما إلى ذلك، غافلين عن سلوكهم وتصرفاتهم هم أنفسهم!

إنكم أيها التلاميذ والطلبة والشباب قواعد الثورة الرئيسية للجيل القادم والمرحلة المقبلة، وحتى اليوم فإن لكم تأثيراً كبيراً على الثورة، لأنكم شباب، وإنكم اليوم عناصر نشطة وفعالة في الجبهات السياسية والعسكرية والعمرانية وحيثما استطعتم أن تكونوا، ولكنكم غداً تمثلون قواعد الثورة. إنكم اليوم عناصر مؤثرة، ولكنكم غداً أعمدة الثورة، فحاولوا أن تعرفوا الثورة بجذورها ومبانيها الفكرية والمنطقية على الوجه الصحيح[4].

للشعارات التي ترفع في أي بلد وفي أي نظام أهمية فائقة، والتعامل مع الشعارات المختلفة في أي بلد يحظى بحساسية ورونق خاص، وإذا كان ذلك الشعب أو المسؤولون لا يتقنون كيفية التعامل مع الشعارات، فإنّهم سيتعرضون لأضرار جسيمة.

وبطبيعة الحال؛ يتناهى إلى الأسماع أحياناً ما يردده البعض: أنّ اليوم ليس يوم شعارات وإنّما يوم عمل، وهذا الكلام غير صحيح، وإن كان بعض من يتلفظ به تحدوه نيّة مخلصة، ومراده أنّ البلد لا يمكن إدارته بالشعارات وحدها، وهو كلام صحيح؛ إذ إطلاق الشعارات لا يُصلح شأن البلد؛ بل ولا يصلح حتّى شأن قرية ولا يديرها ولا يبنيها، فلابدّ إلى جانب الشعار من العمل، إلاّ أنّ البعض يفسّر هذا الكلام عن سذاجة بشكل آخر، أو ربما فسّره البعض الآخر عن غرض؛ وكأنّهم يريدون الإيحاء إلى الشعب بوجوب التخلّي عن الشعارات، وهذا خطأ؛ فالشعار كالراية، مرشد ودليل، والعمل بلا شعار كالشعار بلا عمل.

ولأجل أن يعرف شعب مَساره، وما ينبغي له فعله، فلابدّ له من الحفاظ على شعاراته بصراحة ووضوح، وإذا فُقدت الشعارات، يصبح الوضع كحال جماعة من الناس تسير في صحراء من غير مرشد يصحبهم، الخاصية المميّزة للشعار أنّه لا يدع شعباً أو بلداً يسير في الطريق المنحرف، إذا؛ً فليكن هذا شعار أيضاً: الشعار والعمل؛ الشعار إلى جانب العمل، والعمل في ظل الشعار.

كان الشعار الأساسي للشعب الإيراني هو: «الاستقلال» و«الحرية»، الذي انتهى بشعار «الجمهورية الإسلامية»، ومع تقادم الزمن وتقدّم الثورة أضحى هذا الشعار أكثر وضوحاً وجلاءً؛ أي تولدت من تلك الشعارات، شعارات جديدة ترسم معالم الطريق، ومن جملة تلك الشعارات هو شعار: مقارعة الاستكبار.

لاشكّ أنّ لكلمة الاستكبار معنىً واسعاً، في القرآن الكريم جاءت مشتقات كلمة الاستكبار، كما واستعمل القرآن نفس كلمة الاستكبار في عدة مواضع، ويبدو أنّ الاستكبار هو غير التكبّر، وربّما أمكن القول: التكبر أكثر ما يُشير إلى صفة قلبية ونفسية؛ أي أن يعتبر الإنسانُ نفسه أفضل من الآخرين، أمّا كلمة الاستكبار فهي أكثر ما تُعنى بالجانب العملي للتكبّر؛ أي أنّ من يتكبّر ويرى نفسه أفضل من الآخرين، ينظّم سلوكه مع الآخرين بشكل يجعل هذا التكبر واضحاً وجلياً في العمل؛ فيحتقر الآخرين، ويهينهم، ويتدخّل في عملهم، ويبرز نفسه أمام الآخرين وكأنّه هو الذي يتّخذ القرارات.

وهذا هو معنى الاستكبار الذي جاء في الآية الشريفة التي تتحدث عن المستكبرين في قوله تعالى: <فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُوراً 42 اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ>[5]؛ أي أنّهم استكبروا أمام النبي(ص) وكلام الحق، لم يقولوا نحن أفضل؛ بل أظهروا هذه الأرجحية والأحقية – التي اعتقدوها أو اعتبروها لأنفسهم – في إطار العمل؛ وفي هذا الصراع الطويل وغير المتناهي لجبهة الكفر والعناد والطغيان ضد رسالة الحق والمعنوية والنور والهداية، هذا هو معنى الاستكبار.

قد يتّخذ الاستكبار في كل زمن ولدى كل شعب معنيً خاصاً؛ فمعناهُ عندنا أبناء الشعب الإيراني في أحداث الثورة وما قبلها وبعدها وحتّى هذه الساعة: هو القوى السلطوية في العالم التي كان لها دور جائر ومتجبّر في قضايا هذا البلد وفي مصير وشؤون هذا الشعب.

هذا هو معنى الاستكبار بالنسبة لنا.

لو أردنا العثور على المستكبر من بين دول العالم، لَما واجهنا أية صعوبة؛ إذ أن أمريكا التي أطلق عليها الإمام(ق)اسم الشيطان الأكبر أبدت تكبّرها أمام النداء الحق للشعب الإيراني، فالاستكبار الذي تبلور في زماننا هو الاستكبار الأمريكي، وقبل الثورة كان الحال على هذه الشاكلة أيضاً، وبقي على نفس المنوال في أيام الثورة وحتّى يومنا هذا.

الحوادث الثلاثة التي يعكسها يوم (الثالث عشر من آبان)، لها صلة بهذا الموضوع، فقبل الثورة عارض الإمام(ق) تدخّل وإيحاءات الأمريكيين، واستنكر قانون الحصانة، وبسبب موقفه ذلك، نُفي الإمام في يوم (الثالث عشر من آبان)، توهموا أنّهم كسروا قول الحق في صدر الناطق به، لكنهم أخطأوا ولم ينكسر ذلك الصوت طبعاً؛ بل أثمر بحمد اللّه شجرة طيبة.

في أثناء الثورة، وفي مثل هذا اليوم نزل تلاميذنا إلى الشوارع، واستشهدوا بسبب قولهم «الموت لأمريكا» وبسبب تصديهم لأمريكا، فارتبطت هذه القضية أيضاً بموضوع الاستكبار الأمريكي، وبعد انتصار الثورة انتهت مؤامرات الأمريكيين بأشكالها المختلفة ضد دولتنا الإسلامية الفتية؛ بأن ذهب طلبتنا واحتلوا بؤرة تآمر الأمريكيين ووكر التجسس الذي كان مقرّاً للسفارة الأمريكية في طهران.

وهذه أيضاً حادثة أخرى في سلسلة مقارعة الاستكبار؛ أي أنّ قضية مواجهة الاستكبار، وتبلور الاستكبار في صيغة نظام الولايات المتحدة الأمريكية قد بدأ قبل الثورة، واستمر إلى ما بعد انتصارها، وهو قائم حتى يومنا هذا.

إذاً؛ على الشعب الإيراني أن يحافظ على شعار مقارعة الاستكبار كراية ومشعل؛ ولكن لماذا؟ لأن هذا الشعار إذا فٌقد واضمحل، فسوف يفقد الشعب طريقه أيضاً، والبرهان على ذلك واضح؛ إذ إنّ عدوّنا وإن كان عداؤه بيّن وغير خافٍ على أهل البصيرة، إلاّ أنّ سافِر العداء له أساليب في الخداع والتمويه، وأغلب الشعوب التي خُدعت والحكومات التي أخطأت، إنما كان سبب خطئهم هو عدم معرفتهم بأساليب العدو بشكل صحيح، إن لم نعرف أساليب العدو، وتنصلنا عن مجابهة العدو الذي يبغي القضاء علينا، فمن الطبيعي أننا سنسلك في المسار الذي يحبّذه العدو؛ أي طريق الهلاك والدمار والفساد.

إذاً؛ فمقارعة الاستكبار شعار دائم، غاية ما في الأمر هو أنّ الشعب الواعي يختار على الدوام الطريق الأصوب في التعامل مع الشعارات، فقد ترى إنسانا تارة يلهج بالشعار فقط، وهذا لا عبرة فيه، إلاّ أنّك تراه تارة أخرى يسبر غور الشعار ويتعمق فيه ويعمل على أساسه، وهذا هو الصحيح.

وقد أدى شعار مقارعة الاستكبار حيث ذكرتُ أنّ مُجسّد معنى الاستكبار اليوم هي دولة أمريكا المعتدية بالأمريكيين وزعماء أمريكا إلى انتهاج عدّة طرق من أول الثورة وحتّى الآن في سبيل تقويض هذا الشعار وإزالته من أجواء إيران، لماذا؟ لأنّه طالما بقي هذا الشعار مرفوعاً، ومادام ذهن الشعب مشبّعاً بـ «الموت لأمريكا»، لن يتسنّى لأمريكا التسلّط مرّة أخرى على هذا البلد وخيراته.

إذاً؛ طالما ظلت أجواء بلدنا مشحونة بالعداء لأمريكا المعتدية – بالشكل الذي بيّناه – لا يبقى أمام أمريكا أي سبيل على هذا البلد؛ فلا هي قادرة على التدخل فيه، ولا بإمكانها الهيمنة على ثرواته، ولا يتاح لها حتّى أن تبني لنفسها وجوداً ثقافياً هنا، وإذا شاءوا العودة إلى هذا البلد ثانية فليس أمامهم سوى إزالة هذا الشعار أولاً؛ أي أن يقضوا أولاً على نزعة الشعب الإيراني في مناهضة التسلط والنظام السلطوي، وخاصة ضد أمريكا المستكبرة.

لاشكّ أنّ لدى أمريكا سبل متعددة أيضاً، وقد مارستها منذ اليوم الأول للثورة بصور مختلفة. أحدُها، محاولة إيجاد فكرة في أذهان أبناء بلدنا هي أنّ أمريكا قوّة لا تُقهر، وإنّ لها وجودا وهيبة في العالم ولا يمكن مواجهتها، راجعوا ذاكرتكم؛ فمنذ عهد الإمام(رضوان الله تعالى عليه) ولاسيّما من بعد رحيله حتّى اليوم، حاوَلوا إيجاد هذه الفكرة بأساليب متنوعة، بالمقالة، والقصة، والشعر، والتنظير والتحليل السياسي، وغير ذلك، سواء من قبل العناصر المرتبطة بأمريكا صراحة، أو حتّى العناصر الموجودة في داخل البلد وغير مرتبطة بأمريكا بشكل صريح.

إذا كنتم ممن يطالع الكتب وأنتم كذلك أيضاً يمكنكم العثور قطعاً في أذهانكم على موارد من هذا القبيل، أي أنّهم يوحون لشعب بالقول: لا تُذهبوا جهودكم هدراً؛ فمع من تريدون المجابهة والصراع؟ إنّه فكر خاطئ.

حينما يقول الشعب الإيراني: إنّنا نواجه الاستكبار، فليس المراد من ذلك أننا نُعد الجيوش لنضرب الأسطول الأمريكي في الخليج الفارسي مثلاً؛ فالشعب الإيراني ومسؤولو البلد لا يَقْدِمون على عمل تتخذه أمريكا المتجبّرة ذريعة لتقوم في وقت ما بحركة جنونية عنيفة ضدنا، إذاً؛ فليس المراد من المواجهة، مواجهة عسكرية بهذا النمط، إلاّ أنّنا إذا تعرّضنا بطبيعة الحال إلى هجوم عسكري، فسيرد عليه الشعب الإيراني بضراوة، ولن يتخاذل أمام العدو.

المراد من المواجهة والمقارعة هنا هو أنّ الشعب الإيراني سيقف بصلابة أمام كيد العدو وحِيَله ومساعيه السياسية، وأمام مختلف الأعمال التي يقوم بها لأجل إعادة إيران إلى عهد التبعية، وتحويلها ثانيةً إلى ذنب من أذنابه، هذا هو معنى المواجهة، مواجهة الاستكبار تعني أنّنا سنفضح الاستكبار في أي مكان من العالم تبلغه أيدينا، وسنقف إلى جانب أي مظلوم أصيب بالضرر على يد الاستكبار في أي موضع من العالم.

لقد حاول الأمريكيون بشتى الأساليب ربط إيران الإسلامية بمسيرة المساومة الخائنة في قضية الشرق الأوسط التي أطلقوا عليها اسم مفاوضات السلام، إلاّ أن إيران الإسلامية رفضت ذلك رفضاً قاطعاً؛ وقلنا منذ اليوم الأول: إنّ هذه المسيرة محكومة بالفشل؛ لأنّها على خلاف الحق، ولاحظتم أنّ هذا، هو ما حصل بالفعل، واليوم يرى العالم بأجمعه صحة مقالنا، مواجهة الاستكبار تعني أنّنا سنكشف ونُفشل أية خدعة أو حيلة تمارسها أمريكا، إن هي أرادت استخدام تلك الأساليب ضد شعب ما، أو ضد أي مبدأ من مبادئنا الإسلامية، وضد أيّة حقيقة نتمسّك بها، وهذا ما فعلناه حتّى الآن.

إنّ أمريكا – في هذه المواجهة – ليست قوّة لا تقهر؛ بل إنها شديدة الوهن وتُقهر، انظروا الظرفَ الحاضر؛ تلاحظون أنّ أمريكا هُزمت في عدة جبهات؛ دخلت في أفغانستان لإزالة الحكومة التي كانت على الظاهر حكومة قانونية، والإتيان بحكومة تابعة؛ خدمةً لمصالحهم، لكنهم لم يتمكّنوا. وفي الشرق الأوسط بذلوا جهوداً واسعة، إلاّ أنّهم أخفقوا، وعلى صعيد السياسة العالمية حاولوا تأليب أوربا ضد إيران، فلم يفلحوا، وأرادوا فرض حصار اقتصادي على الجمهورية الإسلامية ولم ينجحوا، وسعوا إلى إثارة الرأي العام لشعوب العالم ضدنا ولم يتمكّنوا إلاّ في الأقّلية من الشعوب التي تماثلهم في نمط التفكير، فيما فشلوا في بقية دول العالم.

أصبحت شعوب العالم اليوم في آسيا وأفريقيا وحتّى في أوربا، تتفاعل مع اسم الجمهورية الإسلامية؛ ومع اسم الأسطورة الخالدة لهذه الثورة – أي إمامنا الراحل – وحتّى إنّ تلك الشعوب ترفع الشعارات في الأماكن التي تستطيع فيها ذلك. إذاً؛ فأمريكا ليست قوة لا تُقهر؛ بل تُقهر، وفي داخل بلدنا ركّزوا جميع جهودهم لعلهم يستطيعون إيجاد حالة من التشكيك في أذهان أبناء شعبنا إزاء مقدسات هذه الدولة؛ إلاّ أنهم خابوا.

إذاً؛ فهذا الكلام الذي يشيعه البعض ويرّوج له ويكتب ويقول: لماذا تُذهبون جهودكم سدىً؟! كلام مغلوط؛ نحن لا نسعى بلا طائل، إن كانت جهودنا قد ذهبت سدى، لكانت الجمهورية الإسلامية قد استحالت عظامها رميماً منذ خمس عشرة سنة! ولكن ترون بحمد اللّه أنّ الجمهورية الإسلامية إن كانت بالأمس برعماً فهي اليوم شجرة باسقة.

ومن جملة المساعي الأخرى للاستكبار وهو ما ينبغي أن يلتفت إليه الشبّان الأعزاء هو إثارة الضجّة ضد من يريدون القضاء عليه وطرده من الساحة، وهذا ما جرى ضد الجمهورية الإسلامية بأعتى الأشكال طوال السبع عشرة سنة المنصرمة. حقّاً؛ ينبغي لشُبّاننا ومثقّفينا ومن يرغبون في تكوين رؤى واضحة عن القضايا العالمية والسياسية أن يلتفتوا إلى هذه النقطة.

إنّ للأمريكيين سياسة يتّخذونها، لا في مقابل إيران فقط؛ بل في مقابل كل دولة لا يشعرون إزاءها بالارتياح، في أية زاوية كانت من العالم، فدولة كالجمهورية الإسلامية يعارضون أصل وجودها، وهناك دول أخرى يرفضون عملاً من أعمالها أو موقفاً من مواقفها، وهذه السياسة لا تقتصر على الأمريكيين وحدهم؛ بل إنّ جميع القوى المتجبّرة تنتهج هذه السياسة في عصر الاتصالات الحديثة والتقنية المتطورة؛ غاية ما في الأمر أنّ الأمريكيين قد اتخذوا اليوم هذا الموقف غير الشريف إزاءنا.

وتتلخص هذه السياسة في ممارسة شتّى الضغوط على تلك الدولة ومواصلة هذا العمل حتّى يضعفوها حسب تصورهم؛ أي يبثّون الدعايات ضدها في أرجاء العالم حتى يُعرض شعب ذلك البلد عن حكومته، ويحاصرون تلك الدولة اقتصاديا، ويعيقونها عن التقدم في مجال العلوم والمعارف والصناعات الحديثة.

لاحظتم كيف أنّهم أثاروا ضجة حول منشآت الطاقة الذرية وإيجاد الفرن الذرّي، فأشاعوا في كل أرجاء العالم أنّ إيران تهدف إلى صناعة القنبلة النووية! وهم يعلمون بطلان هذا الادعاء.

فَهُم يرومون إلى حرمان البلد من الحصول على الطاقة الذرية، ولا يريدون أن تصل الأساليب الحديثة والتكنولوجيا العصرية إلى هذا الشعب؛ لأنّ هذا الشعب بما لديه من كفاءات إذا حصل على العلم والتكنولوجيا الحديثة، لا يعود باستطاعتهم مواجهته بأي شكل من الأشكال، وهذا من جملة تلك الأساليب.

إذاً؛ فَهُمْ يمارسون الضغوط السياسية، والاقتصادية، والعلمية، والإعلامية، ويثيرون الضجيج والمذمّة ما استطاعوا؛ هذا من جهة. ومن جهة أخرى؛ حينما يشاهدون وهناً من دولة ما حسب تصورهم يلمحون لها بالضوء الأخضر؛ إنّنا على استعداد للتفاوض والعمل معكم، ومن الطبيعي أن الدول التي يحكمها مسؤولون ضعفاء، ترتعد فرائصهم في مثل هذه المواقف.

ويتبيّن من هذا، أنّهم يمارسون الضغوط المتزايدة من جهة، ويظهرون البشاشة ويفتحون أمامها الأذرع من جهة أخرى، فتكون النتيجة هي أنّ الدولة – التي يظهرون لها العداء – ترتكب هذا الخطأ وتستجيب لدعوتهم، فتفقد بذلك أدنى درجات العزّة والكرامة التي كانت قد حصلت عليها بسبب استقلالها، وتفقد – إن كان لها سند شعبي – سندها الشعبي، وإذا كان لها دعم عالمي، تفقده، وإن كانت لها إرادة، فستنهار تلك الإرادة، ويضاعفون من ضغوطهم حتّى تسقط تلك الدولة في قبضتهم؛ أي أنهم إذا أرادوا القضاء عليها، قضوا عليها، وإذا أرادوا فرض شيء عليها، فرضوه عليها، وهي مذعنة لذلك طواعية، وهذا الأسلوب بات متعارفاً.

يكمن خطأ الساسة الأمريكيين في أنّهم يَرومون تطبيق هذا الأسلوب على كيان عظيم ذي إرادة واقتدار واعتماد على الذات، كالشعب الإيراني[6].

أهمية معرفة العدو

اعرفوا عدوكم، اعرفوا أذناب العدو في داخل البلد، تعرّفوا على أساليبهم العدوانية، واكتشفوا تطبيقات تلك الأساليب في داخل البلد، تعرّفوا على مخلّفات الاستكبار في الجامعات، والمدارس، وبين صفوف المجتمع، وفي الأجهزة الإدارية، وفي الإعلام والمطبوعات، الاستكبار لا يحلو لهُ أن يتعمّق الإيمان في هذا البلد وبين أبناء هذا الشعب؛ بل يرغب في أن ينهمك في الشهوات، وأن يضيّع «المعروف» ويشيع ما هو «منكر» في الإسلام، الاستكبار يريد أن يشيع الكسل والبطالة في هذا البلد، وأن لا يكون ثمة بناء وإبداع وإصلاح للشؤون الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للشعب، ويريد الاستكبار أن لا يكون هناك تقدم علمي، وأن لا تكون هناك تحقيقات، ولا صفوف دراسية.

ما أكثر من ينفّذ ما يبغيه الاستكبار، من خلال طرحهم للشعارات الخدّاعة، فعليكم إذاً أن تتيقظوا تماماً، وهذا هو أملنا بالجيل الشاب، علينا أن لا نكتفي بالقول: «الموت لأمريكا» و«الموت للاستكبار»، هذا شعار، وهو واجب؛ إلاّ أنّ القضية لا تنحصر في مجرد هذا، فمن جملة الأعمال التي ذكرنا أنها يجب أن تُرافق هذا الشعار، هو العمل وفقاً لهذا الشعار، أنتم أيها الشبان اجلسوا إلى بعضكم وتحدّثوا، وهذا هو معنى قولي: إنّ الجامعة والأجواء الشبابية يجب أن تكون ذات طبيعة سياسية، اشرحوا وحللوا ما يطرح باعتباره عَلَماً ودلالة في مسيرة هذا الشعب وهذا البلد؛ أي مواجهة الاستكبار العالمي[7].

مؤامرات أمريكا على إيران

النفوذ في الثورة

جاءت الثورة الإسلامية وكفّت أيديهم فجأة عن كل هذه المصالح؛ فكانت وكأنها وجهت طعنة لأمريكا، فتلقت أمريكا الطعنة وتكيّفت مع الظروف الجديدة وصارت تخطط لعمل ما، واستقر الرأي على السعي من أجل أن يكون الأشخاص الذين يأتون إلى السلطة في هذا البلد ثوريين في الظاهر ولكن تربطهم معها في الباطن علاقات حسنة ويرتضون الخضوع لسلطتها.

وهذا هو ما حصل في بداية الأمر، وكاد أن يتّسع نطاقه لولا الوجود المؤثر والموقف الحازم لسماحة الإمام؛ فهو قد وقف كالطود الشامخ ووجّه لهم ضربة عنيفة في واقعة الثالث عشر من آبان عام 1358هـ ش، 1979م، وانقلب السحر على الساحر فلم تصطبغ الثورة بصبغة أمريكية؛ بل وترسّخت لدى الشعب النزعة الاستقلالية والانعتاق من النفوذ الأمريكي المتزايد.

تشجيع العراق لشن حربٍ على إيران

كانت إحدى المؤامرات الأمريكية هي تشجيع العراق على شن تلك الحرب التي استمرت ثمان سنوات، ومساعدته في أغلب قضايا الحرب، حتى من خلال وجود ضباط أمريكيين في العراق في مرحلة ما، وأخذت هذه الأمور تتكشف يوماً بعد آخر، عبر ما ينشر من وثائق وما يكتب من مذكّرات.

الحصار الاقتصادي لسقوط الدولة

المؤامرة الأمريكية الأخرى هي الحصار الاقتصادي بين عامي 1359و 1360هـ ش 1980 1981م بهدف إسقاط النظام، وقد تكرر هذا العمل مرّات عدّة، وأحد الجوانب الأخرى التي تنم عن العداء الأمريكي هي المحاولات الأمريكية الرامية لمنع أي تطور أو تقدم يحرزه الشعب الإيراني والنظام الإسلامي في شتّى الحقول والمجالات، وأُشير هنا إلى أنّ جميع المؤامرات الأمريكية المدبّرة ضد هذا الشعب قد مُنيت بالفشل علانية وأمام أنظار الجميع.

لقد أحرز الشعب الإيراني تقدماً في جميع المجالات، ولو شئتم المقارنة بين ما نحن فيه اليوم وما كانت عليه الأوضاع في أوائل الثورة – أي بين الأعوام 1980 – 1983م لوجدتم أنّ تقدماً باهراً قد أُحرز في زمن الثورة[8].


  • [1].  البقرة: 34.
  • [2].  الأعراف: 88.
  • [3].  الأعراف: 88.
  • [4].  بيانات سماحته أمام مجموعة من الطلبة والجامعيين بتاريخ 1-11-1989م
  • [5].  فاطر: 42 – 43.
  • [6].  بيانات سماحته بمناسبة يوم مقارعة الاستكبار العالمي بتاريخ 30-10-1996م
  • [7].  نفس المصدر
  • [8].  بيانات سماحته بمناسبة يوم مقارعة الاستكبار العالمي بتاريخ 5-11-1997م
المصدر
كتاب الثوري الأمثل في فكر الإمام الخامنئي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟