مواضيع

من دون الجهاد، لا يملك الفرد أو المجتمع شيئًا ما

في إحدى المراحل وهي مرحلة الحرب والدفاع المقدّس كان هناك دافعٌ ذاتي لدى الشباب للذهاب إلى الميادين، وكان الإيثار والتضحية والتقوى أمورًا واضحةً للجميع، وبقيت شعلة الشهادة والجهاد تضيء الأجواء إضاءةً كبيرةً حتّى بدّدت كلّ تلك الغيوم القاتمة لفتنة النفاق والكفر والفساد.

وهذا لا يعني طبعًا أنّ هذه الطفيليات الغريبة عن الكيان الإنساني الشريف لم يكن لها وجود في بلدنا في مرحلة الدفاع المقدّس، بل كانت موجودة ولكنّها اندثرت تحت تأثير ذلك النور الساطع الذي انبجس من النفوس الطاهرة للمؤمنين في ميادين التضحية والشهادة، وأضاء بنوره عليكم واقتبس الجميع قبسًا من ذلك النور؛ وحتّى إمام ثورتنا الذي كان قائدًا نورانيًا وقائدًا نقيًا وكان مثال القدس والتقوى وكان قائد الروح، تلك الروح المتمحّصة، هو نفسه كان يقتبس من ذلك النور، وكان يصرّح هو بهذا المعنى مرارًا، لقد كانت تلك المرحلة من المراحل التي قلّ نظيرها؛ بل التي لا نظير لها من جهات، وهي الفترة الحاكمة على تاريخنا.

لقد تصوّر بعضهم أنّ انتهاء الحرب كان إيذانًا بانطفاء نور المعنويّة المتوهّج في القلوب، إلّا أنّ هذا التصوّر كان مجانبًا للصواب في الحقيقة؛ لقد أقامت مجموعةٌ من شبابنا المؤمنين والمخلصين مآتم العزاء بعد سماعهم لقرار انتهاء الحرب متصوّرين أن أبواب الشهادة وأبواب المعنويّة قد أغلقت وبقينا نعيش خلف جدران الحصار، لا نشكّ طبعًا «إنّ الجهاد بابٌ من أبواب الجنّة»[1]؛‌ إلّا أنّ جنّة النقاء والمعنويّة الإلهيّة تمتلك أبوابًا متعدّدة، هذا أوّلًا، وأمّا ثانيًا: فإنّ‌ الجهاد في ميادين الحرب شوقًا للإيثار والتضحية، ما هو في الواقع إلّا أحد سبل الجهاد؛ فرسول الله(ص) الذي كان معلّم الأوّلين والآخرين والذي كانت الملائكة تستقي علمها من علمه، وكان قلبه أسمى موضع للوحي الإلهي، قال لشباب عصره بعد عودتهم من الحرب: «مرحبًا بقومٍ قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر»[2]؛ فأنتم قضيتم الجهاد الأصغر، وأمامكم الآن ميادين الجهاد الأكبر، وهو جهاد النفس، وهو جهادٌ في ميادين قاتمة معتمة؛ إذ من المعروف أنّ ميدان الحرب واضحٌ لا لبس فيه، فالعدو في ذلك الجانب، والصديق في هذا الجانب، والمعدّات التي تحت تصرّف العدو معروفة، وخطّته قابلة للحدس؛ إذاً الحرب ضدّ العدو هي أسهل الحروب، ولا يقولنَّ قائلٌ: إنّ الأرواح هناك في خطر، فالخطر يتهدّد الروح في كلّ أنواع الجهاد، ثمّ إنّ الروح ليست دائمًا أثمن شيء يقدّمه الإنسان؛ فهنالك أناسٌ يتمنّون الموت مئة مرّة في اليوم، وهنالك بذلٌ أسمى من بذل النفس، وهنالك عناءٌ يفوق عناء نزع الروح، هكذا أكّد لهم الرسول أنّ الدور قد حان للجهاد الأكبر،‌ وقد كان الجهاد الأكبر في عهد الرسول بالغ المشقّة.

وسأتناول في لقاءٍ آخر مثل لقائي بكم اليوم، بحثًا عن مدى مشقّة الجهاد الأكبر في عهد الرسول(ص)؛ لأنّ سُحُبَ الفتنة كانت ملبّدة، أمّا اليوم فالقضيّة ليست كذلك لأنّ سُحب الفتنة في عصرنا معروفة، والجهاد متواصل كينبوع فيّاض.

أيّها الأعزّة! إنّ بعضهم يُفزعه ذكر اسم الجهاد متصوّرًا أنّه لا يتماشى مع نشوء الدولة، ومع إرساء أسس الحضارة في الحياة، ويتعارض مع التقدّم المادّي والمعنوي، ومع الرفاه المشروع للبشر، ولكن هذا خطأ فظيع؛ فمن دون الجهاد لا ينال الإنسان شيئًا لا في دنياه ولا في آخرته، ومن دونه لا يمكن مقاومة حتّى ذئب في الصحراء مقطوع اليدين والرجلين، فما بالك بالذئاب الكاسرة في عالم السياسة والاقتصاد، والبراثن الملطّخة بدماء الملايين من الناس ممّن افترستهم تلك الذئاب؛ وهل يمكن لشعبٍ ما أن يرفع رأسه من دون الجهاد؟ وهل يمكن لشعبٍ ما أن يذوق طعم العزّة من دون الجهاد؟! أجل دائمًا «إنّ الجهاد بابٌ من أبواب الجنّة»[3]، ومعنى ذلك أنّ نيل جنّة الخلد في الآخرة والراحة في هذه الدنيا، فهذا معنى الجهاد.‌

وهذا المعنى ينطبق على جميع الشعوب وعلى جميع الدول، فإذا كان للجهاد أن يتّخذ معناه الحقيقي، فلا بدّ أن تكون فيه قدوات ورموز يُحتذى بهما؛ إذ من دونهما لا يتحقّق ذلك، فكثير من الشباب يتدّفقون، كجيشٍ إلهيٍّ لا نهاية لأمده، يتدفّقون من غياهب العدم إلى ميادين الوجود، ويدخلون معترك الحياة بأعداد كبيرة في بعض البلدان ـ كما هو الوضع بالنسبة لبلدنا في الوقت الحاضر ـ أو بأعداد قليلة كما هو الحال بالنسبة لبعض البلدان الأخرى.

ولا يمكن الاكتفاء بالكتاب على أنّه وسيلةٌ لإرشاد هؤلاء الشباب نحو طريق العزّة والتضحية على طريق الأهداف الإنسانيّة الكبرى والمرامي السامية؛ أو بكلمةٍ جامعةٍ، نحو الجهاد في سبيل الله، فهم يحتاجون إلى الأسوة والقدوة فضلاً عن الإرشاد، ومن مفاخر حرس الثورة أنّ يضمّ من هذه القدوات أعدادًا لا حصر لها من القادة والشباب الصالحين الأتقياء النورانيّين الذين كان قائدنا النوراني يتمنّى أن يكون أحدهم، أولئك الذين حيثما حلّوا بأريج معنويّاتهم وكلامهم، حلّت معهم في تلك البقعة معالم النور والمعنويّة،‌ تلك المجموعة التي عدّ السيّد الإمام ظهورها بمثابة «فتح الفتوح» للثورة الإسلاميّة.

في صدر الإسلام كانت «فتح الفتوح» عبارة عن حادثةٍ عسكريّة، وذلك حينما توقّف المسلمون عند المناطق الشرقيّة في ميادين الحرب آنذاك،‌ وهي التي تقع الآن غرب إيران، حتّى تمكّنوا من فتح عدّة قلاع، فقالوا عندها: إنّ هذا هو «فتح الفتوح»؛ وفي هذه الأيّام التسمية التاريخيّة لفتح «النهاوند» و«جلولاء» هي فتح الفتوح، أي إنّ هذا الاسم أطلق على واقعة عسكريّة؛ لكنّ السيّد الإمام الراحل قال إنّ «فتح الفتوح» بالنسبة للثورة الإسلاميّة ليست واقعة عسكريّة من صنع البشر، بل هو ظهور الشباب النورانيّين الملائكيّين في عالمٍ لا تجد في أرجائه أحدًا سوى الشيطان.

اليوم بدأت تظهر من جديد الومضات النورانيّة في بعض بقاع العالم، لقد كان فتح الفتوح متجسّدًا بهؤلاء الشباب،‌ وفي القادة الشهداء الذين أسّسوا هذه الفرقة، ومنهم القائد الشهيد «علي فضلي»، والقائد الشهيد «ناصح»، وهؤلاء الشباب المؤمنون الذين يتّصفون بنورانيّة قادرةٍ على إنارة القلوب الأخرى،‌ هؤلاء هم رمز الشرف والعزّة، وهم مصدر الفخر للبلد، في ذكر أسمائهم فخرٌ، وفي إحياء ذكراهم فخرٌ، وفي مواصلة طريقهم فخرٌ.

من الخطأ أن يظنّ شخصٌ أنّ ذكر اسم الحرب، الشلمچة، الإيثار، الجندي، الحرس الثوري، القائد هو ممّا يعكّر صفو الأوضاع التي يُراد لها أن تسود المجتمع، كلّا هذا التصوّر خاطئ؛ لأنّ الوضع المنشود والمطلوب، والبناء الشامخ، وراية العزّ، والحكومة القويّة، والشعب العزيز، والسبيل الواضح، إنّما تتحقّق فيما إذا تجسّد مفهوم الجهاد في الناس المخلصين الورعين الأتقياء، وفيما إذا أصبحت للجهاد تلك المكانة في مجتمعنا.

أيّها الشباب الأعزّاء! أيّها النوارنيّون! نشكر الله على أنّ الحكومة تعرف قيمتكم، وعلى أنّ الشعب والمسؤولين ورئيس الجمهوريّة ومجلس الشورى يعرفون قيمتكم أيضًا؛ ونحمده على أنّ راية العزّ والجهاد والتضحية التي ارتفعت في هذا البلد بأيديكم أنتم الشباب، ما زالت اليوم ـ كذلك ـ بأيدي الشباب المؤمنين الأتقياء النورانيّين، وفي مختلف الميادين.

إذا كانت نزعة الجهاد والوقوف بوجه التحدّيات المعادية موجودةً في نفوس الشباب، أينما كانوا سواء في الثكنة أم في الجامعة أم في الحوزة العلميّة أم في السوق أم في المصنع أم في أيّ مكانٍ آخر؛ فهم مجاهدون في سبيل الله، وهم الحماة للقيم والحرّاس للدين، وهذه الحالة موجودةٌ اليوم ولله الحمد، وعليكم أن تعرفوا قيمتها.

رغم أنّ العديد منكم شارك في الحرب وخاضوا المعارك، إلّا أنّ الذين لم يشهدوها بإمكانهم اليوم أن يشعروا بها في أعماق وجودهم، فالعدو ما انفكّ ماثلًا اليوم يتربّص بنا ولن يتوانى عن شنّ أيّ حربٍ يرى أنّها تلحق الضرر بالشعب الإيراني وبالثورة الإسلاميّة، ولن يتورّع عن استخدام أيّة وسيلةٍ اقتصاديّة أو ثقافيّة أو إعلاميّة أو سياسيّة أو أيّ أسلوبٍ آخر لتوجيه ضربةٍ للراية التي رفعتها إيران الإسلاميّة والشعب الإيرانيّ، فمنحت بها لمسلمي العالم هويّتهم، حيث يستشعر المسلمون اليوم في أفريقيا وتركيا وأوروبا وآسيا وفي كلّ مكانٍ آخر من العالم، كلّهم يستشعرون العزّة التي أحيتها إيران الإسلاميّة، ولا تظنّوا أنّ العدو انصرف عن أهدافه وغاياته؛ بل هو يُخطّط لما بعد عشرين أو ثلاثين أو أربعين أو خمسين عامًا؛ لأنّ العدو ليس بشخصٍ واحدٍ، بل هو معسكرٌ، وفي قباله يوجد الإسلام في المعسكر الآخر أيضًا، وهو يهيئ كذلك لما بعد عشر سنوات أو عشرين أو خمسين أو مئة عامٍ،‌ ليس العدو وحده هو الذي يستشرف خمسين عامًا إلى الأمام، نحن أيضًا نرى ما بعد مئة عام، وسترون بإذن الله أنّ: <كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ>[4] و <إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا>[5]، وسترون أنّهم مخطئون في حساباتهم، وسترون أنّهم سيتلقون الصفعات، وسترون أنف الاستكبار يُمرّغ في التراب، وهذا ما ستراه الشعوب أيضًا، وسيجدون فيه تأويلًا ومصداقًا للآية المباركة: <أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ 24 تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ>[6]، إنّ الله تعالى يأتي بهذه الأمثال لكي نفهم الأمور بالنحو الصحيح[7].


  • [1]– الكافي، الكليني، ج5، ص4
  • [2]– الكافي، الكليني، ج5، ص12
  • [3]– الكافي، الكلينيّ، ج5، ص4
  • [4]– الفيل: ٢
  • [5]– النساء: ٧٦
  • [6]– إبراهيم: ٢٤ – ٢٥
  • [7]– خطاب سماحته في العرض الصباحي لجيش سيّد الشهداء(ع) بتاريخ 18-11-1989م
المصدر
كتاب الحياة بأسلوب جهادي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟