الشهادة .. سفر العاشقين
الامام الحسين (ع) : ” ….. أَلَا إِنَّ الدَّعِيَّ ابْنَ الدَّعِيَّ قَدْ رَكَزَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ بَيْنَ القلة [السَّلَّةِ] وَ الذِّلَّةِ وَ هَيْهَاتَ مَا آخُذُ الدَّنِيَّةَ [وَ هَيْهَاتَ لَهُ ذَلِكَ هَيْهَاتَ مِنِّي الذِّلَّة] أَبَى اللَّهُ ذَلِكَ وَ رَسُولُهُ وَ جُدُودٌ طَابَتْ وَ حُجُورٌ طَهُرَتْ وَ أُنُوفٌ حَمِيَّةٌ وَ نُفُوسٌ أَبِيَّةٌ لَا تُؤْثِرُ مَصَارِعَ [طَاعَة] اللِّئَامِ عَلَى مَصَارِعِ الْكِرَامِ أَلَا قَدْ أَعْذَرْتُ وَ أَنْذَرْتُ أَلَا إِنِّي زَاحِفٌ بِهَذِهِ الْأُسْرَةِ عَلَى قِلَّةِ الْعَتَادِ وَ خُذَلَةِ الْأَصْحَاب ِ [النَّاصِر]”[1]
تمهيد
نحن في هذه الحياة الفانية لا نعرف نوع الحياة التي يحياها الشهداء، إلا ما يبلغنا من وصفها من منبع الوحي – القران والروايات – ، وقد أفاد بأن الشهداء أحياءٌ غير أمواتٍ وأنه توجد لهم رابطة مع هذه الدنيا وإن فارقوها ، فهم يُرزقون، وكذا فهم واسطةُ فيضٍ لأُمَّتهم التي رحلوا عنها { وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذينَ قُتِلُوا في سَبيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون }[2]
فليست الشهادة زوالٌ عن الحياة وانعدام للشهيد، بل “للشهيد” حياة خفية جليّة، لا يشعر بها أصحاب القلوب الميتة والأبصار العمياء { وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ في سَبيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَ لكِنْ لا تَشْعُرُون }[3].
التعبئة الروحية للأمة من خلال تصحيح تصوراتها.
إنّ أي مجتمع يُراد له التقدم والرقي، في حياته وسلوكه ومعاملاته وسائر شؤونه، فإنّه لابد أن يلاحظ ويعتنى بـ”فكره وثقافته”، فهو أكثر شئٍ حساسية.
و ما يعتبر أساس البناء: هو الرؤية الكونية والفكرية للحياة بنطاقها الواسع، الشامل للدنيا والآخرة، وأن تكون الأفكار صحيحة لكل المفاصل الصغيرة والكبيرة، والكلية والجزئية، فتميز المجتمعات ورقيها وتقدمها ، أو تخلفها وانحطاطها، يرجع إلى هذه المسألة الهامّة والحساسة يقول الإمام علي (ع) : (( مَا مِنْ حَرَكَةٍ إِلَّا وَ أَنْتَ مُحْتَاجٌ فِيهَا إِلَى مَعْرِفَة))[4].
فالمجتمع الواعي لا يُقدم على شئٍ إلا بعد أن تتم عنده المعرفة التامة الصحيحة، وأي نقصٍ او اشتباهٍ في المعرفة فإنّه سيُؤدي إلى خللٍ في العمل والسلوك الخارجي . ولذلك نلاحظ أنّ الاسلام وهو الدين الرباني الالهي الخاتم يعتني بشكل واضح وجلي بمسألة المعرفة والعلم، فتعاليمه تنصبُّ على طلب العلم والمعرفة والدعوة للتأمل والتفكير، وهو بدوره يتناول الافكار التي يتناولها الناس:
- فيُعطي وجهة نظر ثانية خلافاً لنظرة الناس .
- أو يُقدّم نظرة أدق لا تصل إليها عقول البشر .
- أو يفتح آفاقاً جديدةً ورحبةً، يدعوا الناس للولوج فيها .
فلأنّ الاسلام دين الحياة، فهو يعيش مع الناس في الحياة: فيصقل فكرهم ويصحح أفكارهم ويرسم لهم معالم الطريق ويأخذ بأيديهم إلى برّ الأمان، ولا يتركهم يتخبطون في غشوات الأفكار المضلمة ، أو يتركهم عندما تضعف الأرواح وتتزلزل .
الشهادة حياة
ومن أهمّ المفاهيم المهمة: مفهوم الشهادة؛ فالشهادة عند الإسلام حياةٌ، والإنسان الشهيد حيٌّ ! فهو حي بحياة خاصة، حي عند ربه ، عند الله تعالى !!
نعم ، فكل من ” يموت ” فهو حي؛ لأن الموت لا يعني الهلاك وآخر المطاف، بل هناك حياةٌ أُخرى في نشأةً وعالم آخر: عالم البرزخ والقبر ، وعالم القيامة .
والحياة في هذين العالمين – وبالاخص في عالم القيامة – أحقّ بأن يطلق عليها حياة، وكما يعبّر القران {وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوان}[5] ؛ (فالحيوان) صيغة مبالغة لمعنى الحياة.
لكن الشهيد له حياةٌ خاصةٌ، يتميز بها عن حياة غيره من الأموات؛ ” فهي حياة عند الله “. وهذا مقام خاص لهم وهو ” مقام العندية ” ” وهم يرزقون ” ! الإطمئنان والسكينة والاستقرار، وهم ” فرحين ” بما آتاهم ربهم من عطايا وهبات. ومنها خلاصهم من ” سجن الدنيا ” وفوزهم ” بحياة الأحرار “، حياة القصور والحور والأنهار، حياة القرب والخلّة لله .
الشهيدُ عزُّ الأمّة وكبرياؤها
والشهيدُ بدمه وبالرّوح التي قدمها يكون حياً في مجتمعه؛ فدمه قد أبقى “حياة الأمة”، حياة المبادئ والقيم والعزّة والإباء. حياةُ العبوديةِ لله وحده وعدم الخضوع للطغاة، حياة التّقدم والرقي، الحياة التي أرادها الله لخلقه وأراد الطغاة أن يمنعوها الناس، فكان دم الشهيد !!
فالمجتمع والأمّة التي تعيشُ ثقافةَ الشَّهادة وحبّ الشهادةِ، وعشق الفداء والتضحية هي:
الأمّةُ الربانية الإلهية؛ فقمة التعاليم الإلهية أن يكون الانسان والمجتمع خارج من أسر الدنيا، ومتجردٌ من حطامها وزخارفها، وأن يكون مستعد أن يقدّم دمه وروحه للمبادئ والاهداف عندما يكون تكليفه ذلك.
الأمُّة العزيزة؛ فهي أمّةٌ لا تقبل الظلم والضيم والهوان، فهي مرفوعةُ الرأس والهام ولا تقبل بأن تركع إلا لسيدها وخالقها وربّها، ومتى ما خُيّرت بين “عيش الذّلِّ” و “موت العزِّ” فإنّها لا تترد في الإقدام على الموت والشهادة، فهي ” لَا تُؤْثِرُ طَاعَةَ اللِّئَامِ عَلَى مَصَارِعِ الْكِرَامِ “، فـ ” مَوْتٌ فِي عِزٍّ خَيْرٌ مِنْ حَيَاةٍ فِي ذُلٍّ”[6]
الأمُّة المُهابَة؛ فهي أمّةٌ مُهابَةٌ مُخيفَةٍ للطُّغاة والجبابرة، قد تسلّحت بوسائل العزّة والإباء {وَ لْيَجِدُوا فيكُمْ غِلْظَة}[7]، قد تسلّحت بالوسائل الماديّة والتقنية المتقدمة، وكذا تسلّحت بما لا يمكن أن يحصَل عليها العدو: تسلّحت بالدمعة “وَ سِلَاحُهُ الْبُكَاء” وبالدعاء فـ” الدُّعَاءُ سِلَاحُ الْمُؤْمِنِ “[8] و بالصبر والصّلاة {وَ اسْتَعينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاة}[9].
عاشوراء .. مدرسةُ التصحيح
إنّ المسار الصحيح الذي يسلُك بالإنسان والمجتمعات البشرية إلى الهدف المنشود هو ” التوحيد”، والشرك الكامل أو الجزئي هو انحراف عن هذا المسار ، و “الثورة ” تأتي لتصحيح المسار وإرجاع البلاد والعباد إلى دين الفطرة وما ينسجم مع نظام الكون المبني على الحق والتوحيد.
وعاشوراءُ تجسيدٌ للدفاع عن الدِّين والقيم؛ فبعد وقوع الإعتداء الصارخ الآثم على الدّين وقيمه المعنوية، كان لابد من وثبة كربلاء، فالإنحراف الإجتماعي العام الشامل لا يُمكن تصحيح المسار فيه إلاّ بتضحيات كُبرى كالتي حصلت في عاشوراء.
نعم ، قد نفذت كلُّ الخيارات التصحيحيّة، ولم تبق النصيحةُ والموعظةُ والكلمةُ الهادئةُ تفيد ذلك، فكان لا بُدَّ من لغةٍ جديدةٍ ومن موقفٍ حازمٍ شديدٍ، يصدم الأمة ويوقظها من سباتها، وكان من اللازم تجسيدُ الفداء لهذا الدّين على الواقع كي تعي الأمةُ فداحة ما وصلت إليه … فكانت عاشوراء ” و أنا أحقّ من غيّر “[10] !
عاشوراءُ .. مدرسةُ الأحرار المتجددة
وهكذا يُحفظ الإسلام في كلِّ زمانٍ وفي كلِّ مكانٍ، عندما يتعرّضُ للتحريف والتشويه، فاليوم نرى الحكّام من أمثال يزيد في كُفرهم وطُغيانهم وانتهاكهم للحرمات والآثام، ونداء الامام الحسين “ع” وصل لنا لأسماعنا ” وَ مِثْلِي لَا يُبَايِعُ مِثْلَه “[11] …فلا بُدَّ من اسقاطهم.
و اليوم الإسلامُ في بلاد المسلمين يعيش التشويه و التحريف باسم الدين و الإسلام, و نداءُ الإمام وصل لنا “هَل مِنْ نَاصِرٍ يَنْصُرُنَا “, فلا بُدَّ من نُصرَةِ الدّين.
و اليوم المسلمون يعيشونُ الظُّلم و الضَّيم و الفقر و الحرمان بسبب الإسلام الأمريكي, ونداء الإمام الحسين (ع) وصل لنا “إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي فيا سيوف خذيني”.
عاشوراءُ أحيت في الأمم “هيهات منا الذلة”
فالأُمم و الشعوب و المجتمعات ليست قيمتها وعظمتها و رفعتها بالبنايات الشاهقة و بالدور الفارهة و بالتمدن العمراني و آبار البترول و المعيشة المادية بل ان قيمتها و عظمتها بما تحمل من مبادئ و قيم رفيعة, و لا يوجد أرفع من قيم السماء و تعاليم أرقى من تعاليم الإسلام.
و عاشوراء تقول : عندما تُخيّرون بين “حياة الدنيا” الذليلة البعيدة عن الله وبين “الموت” في طاعة الله و حفاظاً على المبادئ و القيم الحقّة فإنّ الجواب يكون”هيهات منا الذلة”.
عاشوراء الإصلاح الحقيقي
عندما يُبيّنُ الإمامُ الحسين (ع) هدفَ الثورة ِيقول : ((إِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ الْإِصْلَاحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي ’))[12] فهناك أصلٌ و هو الإسلامُ الذي جاء به النبي (ص) و الآن انحرفت المسيرة بالإسلام لكن بالإسلام الأموي و جاء الإمام (ع) لإصلاح ما فسد ” و أنا أحقّ من غيّر “[13] و إرجاع الإسلام المحمدي.
فلا يعني الإصلاح الحقيقي الحلول الترقيعية التي تحقق بعض المكاسب الآنية الدنيوية الشكلية الذي يعود الظلم و الفساد بعدها بشكل أكبر بل الإصلاح الحسيني هو إصلاحٌ للإساس والقاعدة التي هي مُستَند كلِّ إصلاحٍ في كل المجالات السياسية و الإجتماعية و الإقتصادية و الفردية و الفكرية و الثقافية …إلخ , فأولاً لا بد من الرجوع إلى الإسلام المحمدي الأصيل ثم البناء عليه.
ثورة البحرين عاشوراء متجددة
و هكذا نحن في هذه الثورة المباركة , فهناك انحرافات و فساد في أمور كثيرة اثبتتها تقارير ديوان الرقابة و غيرها, و كـ “إسلاميين” لا بد أولاً من الإصلاح الحقيقي و ذلك بالرجوع إلى الإسلام و مبادئه و قيمه, فهذا هو القاعدة الأساس ثم نبني على ذلك كل إصلاح.
وهذا يحتاج إلى دمٍ و إلى شهداءٍ و ضحايا و عذابات و آلام و هذا هو درب سيدنا و مولانا سيد الشهداء و درب أبي الضيم الذي نفتخر بالسير على نهجه.
فإذا خُيّرنا بين الجهاد و التضحية و الفداء و تقديم كل عزيز و بين الذلة و الخنوع و الهوان و القبول بحياة العبيد و الأذلاء فلن نختار إلا مصارع الكرام و لن نؤثر طاعة اللئام و هيهات منا الذلة.
- [1] بحار الأنوار (ط – بيروت)، ج45، ص: 9، بحار الأنوار (ط – بيروت)، ج45، ص: 83
- [2] آل عمران: 169
- [3] البقرة: 154
- [4] بحار الأنوار (ط – بيروت)، ج74، ص: 267، تحف العقول، النص، ص: 171
- [5] العنكبوت: 64
- [6] بحار الأنوار (ط – بيروت)، ج44، ص: 192
- [7] التوبة: 123
- [8] قَالَ الإمام الرضا (ع) : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: الدُّعَاءُ سِلَاحُ الْمُؤْمِنِ وَ عِمَادُ الدِّينِ وَ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْض.عيون أخبار الرضا عليه السلام، ج2، ص: 37
- [9] البقرة: 45
- [10] وقعة الطف، ص: 172
- [11] بحار الأنوار (ط – بيروت)، ج44، ص: 325
- [12] بحار الأنوار (ط – بيروت)، ج44، ص: 329
- [13] وقعة الطف، ص: 172