موازنة الشهيد بين الدنيا و الآخرة
لم نحن نعلم بأن الشهيد فخراوي فتح الله عليه أسباب الدنيا، و لكنه لم يغتر بالدنيا و تأخذه الدنيا فجعل له منهاجاً في حياته سار عليه و هو مصداق للآية الكريمة ( و ابتغِ فيما آتاك الله الدار الأخرة و لا تنسَ نصيبك من الدنيا )([1])، و هذا ما يجعل هذه الشخصية قدوة لأمثاله من التجار، و ممن فتح الله عليهم أسباب الدنيا.
تعلمون أيها الأعزاء بأن الغنى موجبٌ للبطر و الطغيان على حسب طبع الإنسان، و قد وصف خالق الإنسان ذلك الوصف بالنسبة إلى الأغنياء حينما قال ( إن الإنسان ليطغى إن رآه استغنى )([2])، و لكن هذه الآية للإنسان الذي لم يربي و يزكي نفسه، أما الإنسان الذي التفت إلى المواهب الحقيقية التي أودعها الله تبارك و تعالى في نفس الإنسان و حاول أن يستثمرها الاستثمار الصحيح فإنه لا يطغى و لا يبطر، و يحاول أن يوازن بين ما أعطاه الله تبارك و تعالى من خير و مراعاة المرحلة التي سوف ينتقل إليها بعد الموت، حيث تعلمون بأن كل إنسان سوف ينتقل من هذا الوجود الصوري الممري الذي يمثل مزرعةً لحياةٍ أخرى كما ورد في قول رسول الله صلى الله عليه واله : “الدنيا مزرعة الآخرة “([3]) و قول الإمام علي عليه السلام ” الدنيا دار ممر و الأخرة دار مقر “([4])، فعلى الإنسان أن لا يغتر بما أنعمه الله عليه من مالٍ و جاهٍ، و عليه دائماً أن يكون متصلاً بالخط الذي يحقق له النجاة و السعادة في الأخرة و الكرامة في الدنيا.
أنا أعتقد بأن شهيدنا الغالي أتقن التعامل مع هذه المفردة، و تمكّن من الموازنة بين ما أعطاه الله من نعمٍ و توفيقٍ و نجاحٍ في الحياة الدنيا و بين ما كلفه الله تبارك و تعالى من تكاليف هي وراء سعادة الإنسان في الآخرة لو أتقن التعامل الصحيح معها، وأنا أحتفظ ببعض الشواهد على ما أدعي بالرغم من عدم امتلاكي النظرية العامة على الشهيد، و لكن لأن الشهيد كان منفتحاً على الناس فسوف أذكر بعض النماذج التي امتاز بها الشهيد، و سار بها على الخط الذي ذكرناه ( و ابتغِ فيما آتاك الله من الأخرة و لا تنسَ نصيبك من الدنيا )([5]) :
- علاقته مع الله تبارك و تعالى
- علاقته مع العلماء الروحانيين
- علاقته مع عمل الخير
- علاقة الشهيد مع الله تبارك و تعالى
هذا باب واسع، لكنني سوف أختار مفردة في هذا الباب تتمثل في التزامه في الحج، ففي سنة 2003 كان معنا في حملة الصيرفي، و من هناك عرفته من قرب بالنسبة إلى رحلة الحج، و رأيته في الحج مع حملات أخرى و أظنه بأنه كان مدمن الذهاب إلى الحج، إنسان فتح الله عليه الدنيا و مع هذا إذا جاء موسم هذه العبادة في أجواء غير مريحة في مكة المكرمة – كما وصف أمير المؤمنين ( ع ) الموقع الجغرافي للكعبة المشرفة و أجواء الحج – ” بين جبالٍ خشنة و رمالٍ دمثة لا يزكو فيها خِفٌ و لا حافرٌ و لا ضلف “([6])، يعني مكان لا تكون فيه راحة، فإذا أعطى الله تبارك و تعالى الإنسان الخير فمن الطبيعي بأنه لا يختار هذه الأماكن و يذهب إليها كما هو الحال بالنسبة إلى الكثير من أبناء الدنيا الذين يُسوفون هذه الفريضة و يقضون فترة الموسم في أماكن سياحية بعيدة عن الله تبارك و تعالى، أما شهيدنا الغالي لم يكتفي بأداء ما فرضه الله تبارك و تعالى عليهِ من الحج الذي هو مرة واحدة في العمر مع الاستطاعة، فقد كان مواظباً على هذه العبادة، و قد أثرت عليه هذه العبادة و هذا الاتصال الروحاني بالله تبارك و تعالى أيما تأثير، فإنه يتجرد من كل الدنيا و يواجه الله تبارك و تعالى بثوبين أبيضين كالميت تماماً عندما يوضع في ملحودة قبره و يذهب ملبياً نداء الله حينما قال ( و أذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً و على كل ضامرٍ يأتين من كل فجٍ عميق ليشهدوا منافع لهم و يذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام )([7]).
شهيدنا الغالي فخراوي عندما يقترب موسم الحج تراه يفرغ نفسه للحج، و يقول ( إني ذاهبٌ إلى ربي سيهدين )([8])، فأعماله و أشغاله يتركها و يذهب بالعكس لكثيرٌ من الأشخاص الذين يعتذرون عن الذهاب إلى المناسك العبادية بعذر أعماله الكثيرة، لكن الشهيد كان يعد المقدمات لكي يأتي موسم الحج و لا يوجد لديه أعمال ينشغل بها و يذهب ملبياً الله تبارك و تعالى بقوله ” لبيك اللهم لبيك “، و هذا الموقف يعوض الله تبارك و تعالى صاحبه أيما تعويض فإذا كان الإنسان مؤمناً خالصاً ترك الدنيا و قصد الله، فالله تبارك و تعالى يعوضه.
- علاقته مع العلماء الروحانيين
شهيدنا الغالي معروف باحترامه و تجليله و تقديره للعلماء، و لا تمنعه وجاهته و غناه عن العلماء من تبجيلهم و تعظيمهم، فأنا كطالب لمست منه هذا الشيء، فكيف بكبار العلماء، ففي حدود سنة 2008-2009م في أيام المجلس الإسلامي العلمائي جاء عنده ضيف و هو سماحة آية الله الشيخ محسن الآراكي حيث كان لديه علاقة خاصة به، و المجلس كان يهتم بضيوف البحرين من العلماء حينما يأتون من الخارج، و يخصص لهم زيارات خاصة، فنحن سألنا عن مكان إقامة الشيخ آراكي، فقالوا لنا بأنه يقيم عند الحاج عبدالكريم فخراوي، فقمنا بترتيب الموعد من أجل الزيارة في منزله، و فعلاً ذهبنا إلى هناك مع مجموعة من العلماء و طلاب العلم، فطرقنا الباب و دخلنا، و قام الشهيد باستقبالنا، و حاله كأنه خادمٌ في البيت، فقام بالترحيب بنا و جلسنا إلى أن جاء سماحة الشيخ، و حينها إذا كان أحد لم يعرف من صاحب المنزل حتماً سوف يعتقد بأن الشيخ الآراكي هو صاحب المنزل وأن الشهيد فخراوي خادمٌ في البيت، و أن حاله هذا يذكرنا بقول الشاعر :
يا ضيفنا إن جئتنا لوجدتنا نحن الضيوف و أنت رب المنزل
جلسنا مع ساحة الشيخ و كان مبجلاً و معظماً في بيت الشهيد فخراوي، فالشهيد معروف بصفات التعظيم و التبجيل للعلماء، و هذه صفة كريمة لا تنزل من قدر الإنسان بل العكس هو الصحيح، فإذا الإنسان احترم العلماء لعلمهم و تقواهم فالله تبارك و تعالى يجله و يجعل له مقام في نفوس الناس، كما في قوله تعالى ( إن الذين اتقوا سيجعل لهم الرحمن ودا )([9]).
- علاقته مع عمل الخير
في سنة 2008م أطلق المجلس الإسلامي العلمائي شعاره السنوي، والذي كان ” التزويج من الشعار إلى التفعيل “، فأراد المجلس أن يحرك الزواج و لكن بشكل صحيح و منتج و مشكّلٍ لبيوتٍ زوجية قوية و صامدة، فتحرك المجلس على خدمتين للمقبلين على الزواج وهما :
- خدمة الإرشاد الأسري بحيث يكون المنزل الزوجي مبتني على وعي الحياة الزوجية و محاط بسياج يمنع من تصدعه أو عروض عليه ما يتأثر به و التقليل من السعادة الزوجية.
- المساعدة المادية.
أُعلن عن هذا المجلس، و في خلال فترة زمنية بسيطة و هي 3 أيام توافد على هذا المجلس المئات من الشباب من المقبلين على الزفاف و العقد، و تم تسجيل في حدود ألف شخص، و بعد إغلاق التسجيل جاء عدد كبير أيضاً، و لكن لم تكن الفرصة متاحة بسبب انتهاء موعد التسجيل، و كانت مساعدة كل شخص تقريباً ما يقارب ألف دينار، و البعض يحتاج الأكثر لوضعهم المادي الضعيف، فالمشروع يحتاج إلى مبلغ مالي كبير، وفي الحقيقة عرضت علينا بعض الجهات تغطية حاجة هذا المشروع، و لكنها جهات تعطي و تأخذ، فرفض الاستجابة لمتطلباتهم، و اعتمدنا على الأساليب التقليدية في جمع المساعدات و التبرعات لإنجاح هذا المشروع، و من جملة الجهات المتبرعة هم المؤمنين المقتدرين من التجار، حيث وجهت لهم رسائل، و من ضمن هذه الأشخاص هو الشهيد عبدالكريم فخراوي، و فعلاً تمكن المشروع من الناحية المادية و كانت مساعدة الشهيد فخراوي آنذاك مساعدةً سخية، و لم يقصر بل بادر مبادرةً سريعة، و بمبلغ سخي جداً لم أعرفه تحديداً، لكنني من خلال المبادرة عرفت بأن الشهيد فخراوي بادر مبادرةً سخية، و كان الشهيد من الناس المهتمين لهذا الجانب.
و هذا الجانب من الجوانب المهمة جداً في حياة الإنسان، و هو فرصة بين يدي الإنسان، فإذا كان مقتدراً عليه أن يعمّر آخرته من خلال الإنفاق في سبيل الله ( و أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتى أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجلٍ قريبٍ فأصدق و أكن من الصالحين )([10])، حيث إنها تشير إلى أن الإنسان حينما ينتقل إلى الحياة الأخرة و يرى بأنه قصّر في هذا الجانب يتمنى من الله بأن يرجعه إلى الحياة الدنيا حتى يُنفق في سبيل الله، و السؤال هنا لماذا بعد الموت و لم يكن هذا قبل الموت ؟ لأن الإنسان إذا لم يكن بصيراً في حياته و عارفاً بمواقع مصلحته التي يعمّر من خلالها الأخرة سوف يطّلع على هذا الواقع بعد الموت. قال الله تعالى ( فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد )([11]) لا ينفع الندم بعد الموت.
إذاً شهيدنا السعيد الشهيد فخراوي كان واعياً لدنياه و آخرته، و قد تاجر مع الله تبارك و تعالى تجارةً رابحة كما قال الله تعالى ( من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة )([12])، وفي الآية الأخرى ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبةٍ أنبتت سبع سنابل في كل سنبلةٍ مئة حبةٍ )([13])، و هذا شرف الإنسان في الحقيقة أبن يستفيد من الفرصة في وقت الفرصة لا بعد ذهابها.
أختم بهذه الآية المباركة التي تنطبق على شهيدنا فخراوي و هو ممن اهتم بهذه الجوانب، وهي قوله تعالى في سورة المعارج ( إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) )([14])، والهلوع معناه بأنه الحريص على الدنيا، و ينهار عند الشر و من طبع الإنسان إذا أعطاه الله تبارك و تعالى الخير يحبسه و يخزنه عنده و لن ينفق في سبيل الله، و لكن هناك فئة مستثنية من هؤلاء و يتصفون بثمان صفات تذكرها الآية الكريمة :
- الديمومة على الصلاة و الالتزام بها.
- مساعدة السائلين و الفقراء.
- التصديق بيوم القيامة.
- الخوف من عذاب الله.
- عفة الفرج.
- رعاية الأمانة.
- إتيان الشهادة بالحق.
- المحافظة على الصلاة.
و العجيب في الأمر بأن الصفة الأولى هي الديمومة على الصلاة و الصفة الأخيرة هي المحافظة على الصلاة و إتيان الصلاة بخشوع و تضرع، و نتيجة كل هذه الصفات إذا اتصف بها الإنسان هي ( أولئك في جناتٍ مكرمون )([15])، فهو كريمٌ و اسمه عبدالكريم و هو مكرم في الجنة.
نسأل الله تبارك و تعالى أن يرفع درجاته في جنانه، و أن يجعله مع النبيين و الصديقين و الشهداء، و حسن أولئك رفيقاً و أن يحشره مع محمدٍ و آل محمد.
