سنة الاستبدال
أولاً: قول الله تعالى: <وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم>[1]؛ أي: لقد أمر الله جل جلاله عباده بإنفاق اليسير من أموالهم في سبيل الله(عز وجل) وأوجه الخير والصلاح والمستحقين من إخوانهم، وفي جهاد أعداء الله جل جلاله والدين الحق والإنسانية، فوجد من يبخل عن الإنفاق ويمنع ما فرض الله عليه في ماله، بسبب حب المال والأنانية والحرص على متاع الدنيا، ولو أمروا بإنفاق جميع أموالهم لبخل الجميع إلا من عصم الله سبحانه وتعالى، مع أن المال في الحقيقة هو مال الله والإنسان مجرد مستخلف فيه، قال الله تعالى: <وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ>[2]، والإنفاق من أجل خيرهم وصلاحهم ومصلحتهم العامة: الدينية والدنيوية، ولسعادتهم في الدارين الدنيا والآخرة، وفيه عزتهم ومنعتهم وقوتهم لأنه السبيل إلى تغلبهم على أعدائهم وانتصارهم عليهم ومنع مهاجمتهم لأراضي المسلمين والسيطرة على ديارهم وأموالهم وانتهاك حقوقهم وحرماتهم ومقدساتهم، فلا يبقى لهم شأن ولا قيمة ولا شوكة ولا هيبة ولا عز ولا كرامة بين الشعوب والأمم، وفيه أيضاً الوقاية من النار ومن غضب الجبار وسخطه وهجرانه.
وعليه؛ فإن نفع الانفاق والجهاد، وضرر الإمساك عن الإنفاق والامتناع عن الجهاد عائد إلى المنفق والمجاهد نفسه، فلا يظن أحد أنهم لا ينفقون على غيرهم ولا يجاهدون من أجلهم بل لا ينفقون على أنفسهم ولا يجاهدون من أجل خيرهم وعزتهم ومنعتهم وصلاحهم وسعادتهم في الدارين، مما يدل على عدم رشدهم وعدم سداد منطقهم في التفكير وغفلتهم عن الحقائق الإلهية والسنن الاجتماعية والتاريخية، وعما فيه خيرهم وصلاحهم ومصلحتهم وسعادتهم، فضرر بخلهم وتركهم للجهاد في سبيل الله لا يتعدى أنفسهم بل يعود عليها؛ لأنهم يمنعون الخير عن أنفسهم بأن يسيروا في طريق الذل والهوان والخزي والعار والشقاء والهلاك في الدارين، ويعرّضوا أنفسهم لغضب الله جل جلالة ولسخطه وعذابه ونقماته وهجرانه، ويمنعوا عنها الأجر والثواب والرضوان الإلهي، ويحرموها من النعيم الأبدي الخالد في الجنة، فإن الله جل جلاله حينما يأمر بالإنفاق والجهاد لا يأمر بهما لينتفع هو بهما، فهو غني مطلق منزه عن جميع الحاجات، بل ينتفع بهما المنفق والمجاهد نفسه في دنياه وآخرته، فالعباد هم الفقراء إلى الله ذي الجلال والإكرام في وجودهم واستمرار بقائهم وفي صفاتهم وأفعالهم، وإلى ما عنده من الخير والنعمة والرحمة والثواب والوصول إلى كمالهم الإنساني المقدر لهم واللائق بهم معرفياً وتربوياً وحضارياً، وتحصيل السعادة الحقيقية الكاملة في الدارين الدنيا والآخرة، ولن يضروا الله شيئاً، ولن يوقفوا مسيرة الدين الإلهي الحق فإن الله(عز وجل) بالغ أمره لا محالة، وسيظهر دينه الحق على الدين كله ولو كره المشركون.
وفي الآية الشريفة المباركة حث شديد على الإنفاق والجهاد في سبيل الله(عز وجل) عن طيب نفس، لأن فيهما الخير والصلاح والمصلحة العليا للإنسان في الدارين الدنيا والآخرة، وفيها كذلك تحذير شديد اللهجة من ترك الإنفاق والجهاد في سبيل الله(عز وجل) ومن عواقبهما الوخيمة على الإنسان في الدارين الدنيا والآخرة.
ثم تشير الآية الشريفة المباركة إلى سنة الاستبدال التي تحمل التنبيه والتحذير إلى جميع الناس: المؤمنين وغير المؤمنين، فتقول لهم: إنكم أيها الناس، إن تُعرضوا عن الله ذي الجلال والإكرام، وتصروا على العناد والاستكبار والاستعلاء، وتنصرفوا عن الدين الإلهي الحق أو تقصروا في تحمل أعباء الرسالة، وتمسكوا عن الإنفاق في أوجه الخير والصلاح، وتتركوا الجهاد في سبيل الله(عز وجل)، فإن الدين الإلهي الحق لن يضيع، ولن يقطع ولن يمحي ويزول من الوجود؛ لأن الله(عز وجل) فرض على نفسه المقدسة إنزال الدين الحق لهداية الإنسان وضمن استمرار بقائه وإيصاله إلى كل من يطلبه، ويبحث عنه بصدق وموضوعية وإخلاص، بأن ضمن بقاء الكتاب وحفظه، فقال: <إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ>[3].
وضمن وجود الحملة الأمناء على الدين الإلهي الحق وعلى الكتاب، في الحديث عن الإمام الصادق(ع) أنه قال: «إن الأرض لا تترك إلا بعالم يحتاج الناس إليه ولا يحتاج إلى الناس، يعلم الحرام والحلال»[4]، وضمن وجود المؤمنين المصدقين بالدين الإلهي وبإمام الحق والهدى، وبأن يهديهم الله تبارك وتعالى ويوفقهم للإيمان بالدين الإلهي الحق والعمل بمقتضاه واتباع إمام الحق والهدى وطاعته والاقتداء به، وللإنفاق والجهاد في سبيل الله(عز وجل) والتضحية بالأنفس والأموال والأولاد من أجل رضوان الله سبحانه وتعالى وثوابه، ويعملون له وحده، ولا يشركون به شيئاً، وقد فعل الله(عز وجل) بهم ذلك لما يتحلون به من الصدق والإخلاص في البحث عن الحقيقة والعمل بها، ومن طهارة النفس وسلامة النية وطيب الفطرة، فيكونون مكانكم في اتباع الدين الحق والعمل به والحفظ له والتبليغ به ونشره والدعوة إلى إقامته وتطبيقه، ثم لا يكونون على مثل صفاتكم في ضعف الروح والإرادة والانصراف عن الدين الحق وترك العمل به وعدم الثبات عليه والبخل بالمال والأنفس والإمساك عن الإنفاق وترك الجهاد في سبيل الله(عز وجل)، بل يكونون خيراً منكم عقيدةً وخصالاً وعملاً، وأصوب منكم منطقاً، وأطوع منكم لله جل جلاله ولرسوله الكريم(ص) ولأئمة الحق والهدى والدين، وأحرص منكم على الإيمان والدين الحق وعلى مصالح المؤمنين والعباد أجمعين، قال الله تعالى: <يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ>[5]، وليس ذلك الاستبدال على الله(عز وجل) بعزيز (ممتنع)، قال الله تعالى: <أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ۚ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ>[6]؛ أي أن من خلق الكون العظيم بمن فيه هو قادر كذلك على أن يهلك العصاة المعاندين متى شاء، ويأتي مكانهم بخلق جديد يطيعه فيما يأمر به وينهى عنه؛ لأنه قادر بالذات؛ أي: قادر مطلق لا اختصاص له بمقدور دون آخر، فإذا أخلص له الداعي إلى إيجاد شيء، وانتفى الصارف عنه بمقتضى الحكمة البالغة، أوجده من غير توقف أو تأخير، فإنّ أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، ولفظ (بالحق) في قوله تعالى: <أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ>[7] يدل على أن الخلق هو لغاية حقيقية راجحة ومطلوبة لديه لا عبثاً ولا لعباً ولا لهواً، وهذا يقتضي الإبقاء على الخلق ما دام سائراً في طريق الغاية، وإزالة كل مانع يمنع من حصول الغاية حتى وإن تطلب الأمر إهلاك بعض الأقوام أو الأمم المعاندين والمفسدين في الأرض ومحوهم من صفحة الوجود.
وفي الحديث الشريف سُئل الرسول الأعظم الأكرم(ص) عن هؤلاء القوم الذين ذكرهم الله تعالى في كتابة وكان سلمان الفارسي بجانبه، فضرب على فخذه وقال: «هذا وقومه والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس»[8].
ثانياً: قول الله تعالى: <أُولَٰئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ۚ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ>؛ أي: بعث الله تبارك وتعالى الأنبياء العظام، ونصب الأوصياء المطهرين(عليهم السلام) وأنزل عليهم الكتب السماوية؛ مثل: صحف إدريس، وكتاب نوح، وصحف إبراهيم، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى، وزبور داوود، وقرآن محمد صلوات الله تعالى عليه وعليهم أجمعين التي تشتمل على المعارف الإلهية الحقة، والشرائع السماوية السمحة، والأخلاق الحميدة الفاضلة، وسائر ما يحتاجه الناس من المعارف في حياتهم، وذلك عن طريق الوحي، وألهمهم الحكمة والعلم اليقين التام الذي لا يتطرق إليه الشك أو الخطأ؛ لأنه بتعليم خاص من الله تبارك وتعالى، قال الله تعالى: <وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا>[9]، وجعل لهم الإحاطة الشاملة التامة بحقائق الكتاب والوحي وأسرارهما، وجعل لهم الحكم النافذ والقضاء العادل بين الناس فيما اختلفوا فيه طبقاً لما في الكتاب، وأوجب على الناس الإيمان بهم والرجوع إليهم وتصديقهم وطاعتهم فيما يأمرون به وينهون عنه والأخذ منهم، ولفظ (أولئك) في قوله: <أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ>[10] يدل على عظيم شأنهم وعلو مقامهم ورفعة درجتهم ومرتبتهم عند الله جل جلاله، ولا شك فإن من اتصف بالهداية الربانية واصطفاه الله تبارك وتعالى لمقام النبوة والرسالة والإمامة وهداية الناس، لابد أن يكون ذا شأن عظيم ومقام رفيع ودرجة عالية في نفسه وعند رب العالمين.
ثم تشير الآية الشريفة المباركة إلى سنة الاستبدال فتقول: <فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ>؛ أي: فإن يكفر قومك المعاندون أو غيرهم بهذه الحقائق الإلهية الثابتة: الهداية والنبوة والرسالة والإمامة والكتاب والشريعة وما فرض الله(عز وجل) للأنبياء والأوصياء(عليهم السلام) من الاتباع والاقتداء والطاعة في الحكم والقضاء وسائر الواجبات التي هي من مقومات الدين الإلهي الحق والهداية الربانية للإنسان التي أمر الله سبحانه وتعالى العباد الإيمان بها واتباعها، فإن دعوة التوحيد والإسلام الحنيف، لن تتوقف ولن تضيع ولن تُمحى من الوجود، ولن تبقى بدون استجابة واتباع وتحمل وقيام؛ لأن الله(عز وجل) سيبعث أناساً من عباده الصالحين، الذين يتحلون بالصدق والإخلاص في نياتهم وأقوالهم وأفعالهم، والثابتين على الحق والصدق، ويوفقهم لقبول الدين الإلهي الحق والإيمان به والحفاظ عليه والعمل بمقتضاه وبما أنزل الله تبارك وتعالى في كتابه وبما جاء به الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام) من عنده.
وفي ذلك تسلية من الله(عز وجل) للرسول الأعظم الأكرم(ص) على إعراض بعض قومهم وعنادهم، وتقصير بعض أصحابه في تحمل أعباء الرسالة وإمساكهم عن الإنفاق وتركهم الجهاد في سبيل الله(عز وجل) ونحو ذلك، وطمأنته ببقاء الرسالة وحفظها حتى يظهرها الله(عز وجل) على الدين كله في آخر المطاف ونهاية المسيرة التاريخية التكاملية للإنسان.
ولفظ (وكلنا) في قوله: <فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا>[11] يدل على أن أولئك القوم الأبدال هم قوم وفقهم الله تبارك وتعالى للإيمان حتى كأنهم خلقوا له وخلق لهم، وأن الله تبارك وتعالى قد زادهم من ألطافه ورحمته، وعهد إليهم القيام بأعباء الرسالة ومراعاتها والحفاظ عليها وأداء حقوقها، وما يلزم عليهم نحوها، تماماً كما يوكل الإنسان بالشيء ليقوم به ويتعهده ويحافظ عليه، والوكالة تقتضي حتماً وجود الشيء الموكل به بيد الوكيل وهو مطالب بحفظه وتعهده ورعايته وأداء حقه عليه.
وعبارة: <لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ>[12] تدل على مسارعة الأبدال للإيمان وثباتهم عليه والعمل بمقتضاه بصدق وإخلاص نية، وعدم التفريط في شيء من الواجبات، والتفكير في لفظ (قوماً) في قوله: <فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا> يدل على شرفهم وعلو منزلتهم وأن لهم دوراً كبيراً وخطراً عظيماً في التاريخ والمسيرة البشرية التكاملية المباركة.
نتائج مهمة
نتوصل مما سبق إلى النتائج المهمة التالية:
- ليس لأحد أن يمن إيمانه على الله سبحانه وتعالى أو على الرسول الأعظم الأكرم(ص) أو يمن بإنفاقه أو جهاده عليهما، بل لله عز وجل المنة على الجميع وأن هداهم للإيمان ووفقهم للإنفاق والجهاد في سبيل الله(عز وجل)، قال الله تعالى: <يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ۖ قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم ۖ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ>[13].
- أن لا يخاف المؤمن على ضياع الدين؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو القائم على الدين والحافظ له حقيقةً وصدقاً، بل يجب على الإنسان المؤمن أن يخاف على نفسه من أن يحرم شرف الإيمان وتحمل أعباء الرسالة والإنفاق والجهاد في سبيل الله(عز وجل)، فيستبدل الله(عز وجل) به من هم خير منه في العقيدة والأخلاق والعمل والنية الصادقة، وعليه: جاء في الدعاء عن الإمام الرضا(ع) قوله: «واجعلنا ممن ينتصر به لدينك وتعز به نصر وليك ولا تستبدل بنا غيرنا، فإن استبدالك بنا غيرنا عليك يسير وهو علينا كثير»[14]، ومثله للإمام الصادق(ع) في أدعية شهر رمضان المبارك.
- إن الإنفاق والجهاد سبيل إلى صلاح المجتمع وأمنه واستقراره؛ الداخلي والخارجي، وإلى عزة الأمة وكرامتها ورفعتها ورقيها، وإن فرضهما على العباد من النعم الإلهية العظيمة على الناس التي يجب إكبارها وشكرها وأداء حقها والعمل والتمسك بها والثبات عليها، وإن البخل بالمال والأنفس والإمساك عن الإنفاق والجهاد في سبيل الله(عز وجل)، من الصفات السيئة والخصال المذمومة التي ينبغي للمؤمن بما هو مؤمن أن يتنزه عنها، ويتطهر من رجسها، وهي تدل على ظلمة النفس وتعلق القلب الشديد بعالم الدنيا والمادة والمصالح، والتحلي بالأنانية وضعف الإيمان واليقين والإرادة وضعف الثقة بالله(عز وجل)، وإهمال القيم الروحية والمعنوية والمبادئ الإنسانية السامية، فيجب على الإنسان المؤمن الحذر الشديد من البخل والإمساك عن الإنفاق وترك الجهاد في سبيل الله(عز وجل)، وأن يجاهد نفسه ويستفرغ طاقته ووسعه للقيام بهما خير قيام وبطيب نفس وقناعة تامة.
حقائق قرآنية ثابتة
تجدر الإشارة هنا إلى بعض الحقائق القرآنية الثابتة المهمة ذات الصلة بالموضوع، وهي:
- إن لفظ (القوم) في قوله: <يَسْتَبْدِلْ قَوْماً>[15] وقوله: <وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا>[16] يدل على أن إحداث التغيرات والإصلاحات الجوهرية في المجتمعات البشرية وحمل الرسالات لا يقوم به الأفراد متفرقين، بل يقوم به الأفراد مجتمعين متحدين في جماعات على أهداف معينة ومحددة تحديداً دقيقاً وواضحاً، وأن يكونوا منظمين ومنتظمين ومنضبطين، وأن يقدموا مصلحة العمل الجماعي المشترك ومتطلباته ومقتضياته على مصلحة أنفسهم وآرائهم الشخصية، وأن يخضعوا لقيادات موحدة، ويلتزموا بطاعتها وبتوجيهاتها في العمل، وأن يحذروا من الخضوع للمصالح والأهواء والرغبات والآراء الشخصية والانجراف وراء الأفراد الشاردين والواردين الذين في كل وادٍ وعلى كل وجه يهيمون، فيضعفوا بذلك العمل الجماعي والقيادات الواعية؛ أي: يجب تفضيل وتعزيز العمل الجماعي في مقابل الأعمال الفردية، وهذا بدون شك يحتاج إلى بصيرة ووضوح رؤية وقوة إرادة ورسوخ روح الإيثار والصدق والإخلاص في النفس، وتقابله الأنانية والضياع والأثرة وحب الذات ونحو ذلك.
- 2- إن المعجزات الإلهية تنقسم إلى قسمين وهما:
- معجزات الفتح: وهي المعجزات التي يأتي بها الأنبياء الكرام(عليهم السلام) لإثبات صدق نبوتهم ورسالتهم؛ مثل: القرآن الكريم، وعصا موسى وناقة صالح ونحوها.
- معجزات البقاء الاستمرار: وهي المعجزات التي تضمن بقاء الرسالة واستمرارها؛ مثل: طوفان نوح، ونجاة إبراهيم من الحرق، وفلق البحر لموسى(ع) وبني إسرائيل، وهلاك عاد وثمود، وقوم لوط وقوم شعيب، وانتصار المسلمين في معركة بدر، ونجاة الإمام علي بن أبي طالب من القتل في زمن النبي(ص)، ونجاة الإمام زين العابدين(ع) من القتل في كربلاء ونحو ذلك، لأنه على هذه المعجزات يتوقف بقاء الدين الحق في الدورة الرسالية المقررة له، وهي من مقتضيات سنة الاستبدال، يقول الرسول الأعظم الأكرم(ص) في دعائه في يوم بدر قبل بدء المعركة: «اللهم انجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد بعد في الأرض أبداً».
- يوجد في كل زمان أحد المعصومين العظام(عليهم السلام) يكلف بالهداية الإلهية والدعوة إلى الدين الإلهي الحق والصراط المستقيم والنهج القويم والطريقة الوسطى، تجب على الناس معرفته وطاعته والرجوع إليه في أمور الدين والدنيا والاقتداء به، وفي الحديث النبوي الشريف: «من مات وهو لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية»[17]، وبوجوده يحفظ الله(عز وجل) دينه من الزوال والضياع ويقيم الحجة التامة على عبادة، وإلى جانبه يوجد قوم من المؤمنين يتابعونه ويقتدون به، وقد اعتصموا بالتقوى والصلاح والاستقامة، مطيعون لله سبحانه وتعالى وللرسول الأعظم الأكرم(ص) ولأئمة الحق والهدى والدين، وقد خرجوا تماماً من ولاية الطاغوت والشيطان الرجيم، قال الله تعالى: <فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ>[18]، ويتحملون أعباء الرسالة السماوية، ويبذلون في سبيلها النفس والنفيس، وهم إلى جانب الإمام المعصوم من ضمانات بقاء الرسالة واستمرارها ووصولها إلى من يطلبها ويبحث عنها بصدق وإخلاص، ووجودهم من مقتضيات سنة الاستبدال الإلهية.
- التأسيس لمبدأ الحتميات التاريخية؛ مثل: حتمية ظهور الدين الإلهي الحق وانتصاره واستعلائه على كل دين في نهاية مطاف المسيرة التاريخية التكاملية للإنسان، قال الله تعالى: <هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا>[19]، وقال تعالى: <هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ>[20].
[1] محمد: 38
[2] الحديد: 7
[3] الحجر: 9
[4] بحار الأنوار، جزء:23، صفحة:15
[5] المائدة: 54
[6] إبراهيم: 9
[7] إبراهيم: 19
[8] سنن الترمذي، جزء:5، صفحة:383، حديث:3260
[9] الكهف: 65
[10] الأنعام: 89
[11] نفس المصدر
[12] نفس المصدر
[13] الحجرات: 17
[14] دعاء لصاحب الأمر، مفاتيح الجنان
[15] محمد: 38
[16] الأنعام: 89
[17] كنز العمال، حديث: 464
[18] البقرة: 256
[19] الفتح: 28
[20] التوبة: 123