مواضيع

أمريكا ستتعاظم

إن لم تحمل الحرب العالميّة الثانية أيّ فوائد، يكفي أنّها حملت فائدة أساسيّة ودوليّة تمثّلت في تعاظم أمريكا. عندما توصّلت القوى العالميّة العظمى إلى هذه النتيجة بأن ينبغي لها أن تريق ماء وجه بعضها البعض، وهذا ما حدث، فقد قامت ألمانيا وبريطانيا وفرنسا و… بسحق بعضها البعض، وبالطبع، طلبوا من أجل تحقيق هذا الأمر المساعدة من الولايات المتحدة الأمريكيّة (التي كانت قد تخطت فترة طفولتها وصباها ووقفت على قدميها). ودخلت أمريكا -التي كانت حريصة بشدّة وبشكل دائم على أن تساعد وتتعاون مع الآخرين (ولا زالت كذلك)- الحرب ودعمت قضيّة الدفاع عن الديمقراطية، حقوق الإنسان والحريّة (المفاهيم التي كانت غريبة وأعزلة وسط الحرب العالميّة الثانية) بشجاعة وسخاء وأقسم المسؤولون الأمريكيّون حينها بشرفهم على أن لا تكون لديهم في هذه الخطوة أيّ دوافع غير التي سبق وذكرناها.

لا يوجد سبب يدفعنا لأن لا نصدق هذه الحقيقة. وإذا أردتم الحصول على ما يثبت هذا الأمر، يكفي أن تعلموا بأنّ أمريكا لم تقم خلال الحرب العالميّة الثانية سوى بتقديم الخدمات من أجل إرساء السلام والعمل على إنهاء الحرب. على سبيل المثال، ما هي الدوافع التي جعلت أمريكا تمطر مدينتي هيروشيما وناكازاكي في اليابان بالقنابل النووية، هل يمكن أن يكون السبب في قيامها بذلك غير إقناع اليابانيّين بأن يخضعوا للسلام ووقف إطلاق النار؟ رغم أنّ أكثر من 150 ألفاً تبخّروا وسط هذه الهجمات وذابت هذه الأعداد بشكل تدريجي إلى أن ذاقت طعم الموت.[1]

لكن لو علمتم بأنّ الرئيس الأمريكيّ أصدر الأمر بشنّ الهجمات وعيناه مغرورقتان بالدموع وقلبه مثخنٌ بالجراح (وذلك من أجل دفع اليابانيّين الدمويّين لإنهاء الحرب)، فإنّ نظرتكم ستتغير حتماً، لأنّ نزعة اليابانيّين الدمويّة كانت متجذّرة لدى الأطفال والنساء وسائر المدنيّين في مدينتي هيروشيما وناكازاكي، ولو لم يتبخّروا، لم يكن سيتّضح متى ستنتهي الحرب العالميّة الثانية.

ضمن هذا الإطار، هاجمت القوات الجويّة الأمريكيّة المناطق المأهولة في ألمانيا مستخدمة أيضاً القنابل الفسفوريّة والمسببة للحرائق، وتسببت فقط في مدينة مثل درسدن[2] بتحويل مئة ألف إلى جمر محترق.[3] تمّ شنّ هذه الهجمات أيضاً لنفس السّبب الذي سلف ذكره، نشر السّلام. لو أنّكم كنتم مكان المسؤولين الأمريكيّين، لكنتم أدركتم كم أنّ المدنيّين الألمانيّين لعبوا دوراً مهمّاً في استمرار الحرب العالميّة الثانية وكيف أنّ انتهاء الحرب لم يكن ليتحقّق لو لم يتمّ تحويلهم إلى جمر محترق. على أيّ حال، فإنّ قوى عظمى وحضارات كبرى مثل أمريكا تتحمّل مسؤوليّات عالميّة وكبرى أمام البشريّة وحيال السلام العالمي، وقد تُجبر على اتخاذ قرارات ضروريّة من أجل صون السلام والاستقرار حول العالم، وبالطبع، قد يؤول اتخاذها لمثل هذه القرارات إلى وقوع خسائر وأضرار قليلة أيضاً (مثل كوارث هيروشيما، ناكازاكي و…) لا بأس بذلك أبداً!

شعور الحكومة الأمريكيّة بالمسؤوليّة تجاه صون السلام وحقوق الإنسان أدّى إلى أن لا يملك هذا البلد فرصة الاستراحة ولو للحظة واحدة، وأن يبقى منشغلاً في نواحي العالم الأربعة بالعمل على إرساء السلام وبسط حقوق الإنسان وتنمية الحضارة. على سبيل المثال، في العام 1950، عندما تعارك أنصار وأعداء أمريكا في كوريا (التي كانت متحدة حينها) وتمّ تهديد السلام وحقوق الإنسان، أُجبر الجيش الأمريكيّ على التوسّط وأدّى ذلك إلى خوض أمريكا المعارك معهما، إلى أن قُسّمت كوريا إلى شماليّة وجنوبيّة، وتمّ حلّ الأمر بعدها. طبعاً، قُتل ضمن هذه الوساطة حولي المليوني كوريّاً.[4] لكن فلتصدّقوا، لم يكن أمام الجيش الأمريكيّ أيّ حلّ آخر، وكان إنهاء الحرب الكوريّة يحتاج فعلاً إلى هذه النسبة من الخسائر البشريّة. أي أنّ الأساليب الحديثة التي أبدعها الجيش الأمريكيّ من أجل إنهاء الأزمات (مثل القصف الشامل للمناطق السكنيّة بالقنابل الحارقة وإحراق القرى بشكل منظّم و…) كانت تنهي الحروب والأزمات بسرعة كبيرة وتختمها على خير. لكن أدركت أم لم تدرك، فإنّها كانت تخلّف ميزاناً كبيراً من الخسائر أيضاً التي إن كنت مدركاً لقضيّة «التكاليف والأرباح»، لن تفكّر أبداً بالاعتراض عليها.


[1] تاريخ أمريكا، هاوارد زين، ص 556.

[2] Dresden

[3] تاريخ أمريكا، هاوارد زين، ص 556.

[4] تاريخ أمريكا، هاوارد زين، ص 564.

المصدر
كتاب تاريخ أمريكا المستطاب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟