مواضيع

موقف فرعون وجهازه من دعوة موسى الكليم (ع) ومعجزاته

<قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ 109 يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ 110 قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ 111 يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ>

أمام الحقائق العظيمة الدامغة التي ظهرت أمامهم فجأة على يد موسى الكليم (عليه السلام)، صغر شأن فرعون عند نفسه، وأدرك الملأ ذلك بوضوح تام، وشعروا جميعاً بالفزع والمذلة والهوان والخوف الشديد على مستقبلهم السياسي، وعلى مصالحهم التي يضمنها لهم النظام الملكي الفرعوني الفاسد، وأنهم أمام خطر وجودي عظيم داهم، وفي مأزق محكم شديد الخطورة، لكنهم مع ذلك تمالكوا أنفسهم، ولم يعترفوا بالحق المبين الجلي الواضح، ولم يذعنوا للدليل الساطع القاطع ويستسلموا له، بل عاندوا وكابروا وعتوا عن الحق، وفكروا في مواجهة الحقائق العظيمة الدامغة الصارخة بالدلالة على التوحيد والمعاد وصدق نبوة موسى الكليم (عليه السلام) ورسالته، وكيفية طمسها بالحيلة والخداع والتمويه والتضليل، خوفاً على مستقبلهم السياسي وقوتهم ومصالحهم وامتيازاتهم الأنانية غير المشروعة التي يضمنها لهم النظام الفرعوني الفاسد الجائر، كما هو دأب الطواغيت الضالين والفراعنة المتجبرين والحكام المستبدين الظلمة والمترفين المستغلين الفاسدين والانتهازيين النفعيين الأنانيين في العالم على طول التاريخ وعرض الجغرافيا، في إنكار الحقائق التي تتعارض مع أهوائهم الشيطانية ورغباتهم وشهواتهم ونزواتهم الحيوانية ومصالحهم الأنانية وامتيازاتهم وصلاحياتهم غير الواقعية وغير المشروعة، فاتهموا موسى الكليم بالسحر، وأن ما جاء به من عند رب العالمين ليس بمعجزة تدل على صدق دعواه النبوة والرسالة، وإنما هو مجرد سحر جاء به من عند نفسه، من أجل التضليل ليتوسل به إلى تحقيق أهداف دنيوية سياسية واقتصادية، أي: من أجل قلب النظام السياسي الملكي الفرعوني القائم والسيطرة على الحكم والثروة والمقدرات العظيمة في البلاد والاستئثار بها، وطرد الأقباط، وهم قوم فرعون الموالون له وللنظام القائم في مصر.

فقالوا: <إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ 109 يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ ۖ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ>[1] أي: قال الأشراف والأعيان والنبلاء وكبار الموظفين والقادة المدنيين والعسكريين والكهنة وغيرهم المحيطين بفرعون في القصر الملكي لما شاهدوا انقلاب العصا إلى ثعبان حقيقي عظيم، وتحول اليد السمراء إلى بيضاء تتلألأ وتشع نوراً، وبهرهم ما رأوا، وهما معجزتان حقيقيتان عظيمتان من عند رب العالمين العظيم الرحمن الرحيم، قالوا بعد التشاور والتحاور بينهم لقائدهم وولي نعمتهم فرعون: هذا يعني أن موسى الكليم (عليه السلام) القائم أمامهم بلحمه ودمه وروحه وعقله وقلبه، الذي جاءهم بالمعجزات النيرات الباهرات والحجج البالغة من عند رب العالمين، ما هو في الحقيقة عندهم وبحسب زعمهم، إلا ساحر مخادع ضال غير صادق فيما ادعاه من النبوة والرسالة وطلب الهداية إلى الناس، وأنه قوي العلم واسع المعرفة بفنون السحر ودقائق أسراره وخباياه، حاذق محترف كثير الخبرة في السحر، وأن ما جاء به من الأعمال الخارقة للعادة، ما هو إلا سحر محض يتوسل به مع ادعاء النبوة والرسالة وطلب الهداية إلى الناس لتحقيق أهداف دنيوية سياسية واقتصادية واستعمارية، وليس بمعاجز أو آيات من عند رب العالمين كما يزعم، فهو كاذب فيما يدعيه من النبوة والرسالة وطلب الهداية إلى الناس؛ لأن النبوة والرسالة غير ممكنة، ولا يمكن أن يقوم عليها دليل صحيح. أي: أن فرعون الطاغية وملأه المستكبرين الفاسدين، لم يقبلوا حجة موسى الكليم (عليه السلام) وما جاءهم به من المعجزات النيرات الباهرات والبينات الواضحات والأدلة النيرة الساطعة القاطعة، فلم يؤمنوا به، ولم يصدقوا رسالته، وعاندوا الحقيقة وتكبروا عليها وعلى أهلها، وطلبوا التبريرات والتأويلات الباطلة الفاسدة، وبحثوا عنها لإبطال ما جاءهم به، وأنكروا فضله ومكانته وأهانوه ووصفوه بالسحر والكذب، ونالوا من كرامته وأمانته ومصداقيته، كما هو دأب الفراعنة المتجبرين وبطانتهم الفاسدة وأتباعهم المارقين وأنصارهم من المتملقين والمتزحلقين والمتزلفين والانتهازيين والنفعيين الأنانيين الطامعين في الفتات والمناصب والمصالح والامتيازات والصلاحيات غير المشروعة، التي يضمنها لهم النظام الفاسد في مواجهة المعارضين للحاكم والنظام، حين يشعرون بالضعف أمام المعارضين، والعجز عن مواجهة حجتهم بحجة مثلها، ودليلهم بدليل مثله، فيلجؤون إلى إلصاق التهم الجزافية الباطلة بهم؛ من أجل تشويه سمعتهم والنيل من كرامتهم، بهدف إبعاد الناس عنهم ومنعهم من التعاطف معهم عند معاقبتهم بغير جرم أو جريرة تحت عنوان الإرهاب والخيانة ونحوهما، بل قد يحصلون على التأييد التام والمساندة للإجراءات القمعية الجائرة ضدهم، بغض النظر عن قوة منطقهم وسلامة حجتهم وعدالة قضيتهم ومطالبهم.

قول الله تعالى: <انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ 24 وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ 25 وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ>[2] وذلك لأنانيتهم المفرطة، واستغراقهم في عالم الدنيا والمادة، وعدم النظر إلى غير أنفسهم ومصالحهم الأنانية العاجلة، وتجاهلهم التام إلى الحقائق الواقعية الفعلية الساطعة البينة، والى الحقوق المشروعة الطبيعية والمكتسبة إلى الناس، والى المبادئ الرفيعة والقيم الإنسانية السامية، والمصالح الحيوية والجوهرية العامة إلى أبناء الشعب والمواطنين، وفصلهم التام بين الحقائق والمنطق، وبين الواقع والسلوك، والمواقف والمصالح، مما يدل على أن مجرد ظهور الحقيقة الجلية، حتى الحقائق الوجودية التي يتوقف عليها المصير والمصلحة الجوهرية للإنسان في دورة الحياة الكاملة وصلاحه وكماله وخيره وسعادته في الدارين الدنيا والآخرة، وقيام الدليل النير الساطع القاطع عليها، لا يكفي لإقناع الطواغيت الضالين والفراعنة المتجبرين والحكام المستبدين الظلمة والمترفين المستغلين والانتهازيين الأنانيين بها، والتسليم إليها، وذلك: بسبب حجاب الأنانية المفرطة والاستغراق في عالم الدنيا والمادة والمصالح الدنيوية، ولخبث نفوسهم وفساد طباعهم واستيلاء الشيطان الرجيم عليهم، فلا ينفع معهم دليل أو برهان، ولا يفقهون حجة أو آية، قول الله تعالى: <وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا>[3]) فهم من الضالين الذين لا يرون إلا عالم الدنيا والمادة، ولا يرون عالم الغيب والآخرة، ومن المغضوب عليهم الذين لا يعفون عن ذنب أو جريمة؛ لأنهم لا يفكرون إلا في أنفسهم ومصالحهم وشهواتهم وغرائزهم الحيوانية، وأهوائهم الشيطانية ولا يعيشون إلا اللحظة، ولا يرون المستقبل والعاقبة والآخرة، فلا ينزلون على الحقيقة، ولا يرون الواقع كما هو عليه، ولا يعطون الحقوق لأصحابها إلا مكرهين مرغمين لا طائعين مختارين.

الجدير بالذكر: أن القرآن الكريم قد نسب هذا القول المشين في سورة الشعراء إلى فرعون نفسه، قول الله تعالى: <قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ>[4] بينما هنا في سورة الأعراف ينسبه إلى الملأ من قوم فرعون قول الله تعالى: <قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ>[5] وهذا يدل على توافق الملأ التام مع فرعون في هذا الوضع الخبيث لموسى الكليم (عليه السلام)، وذلك ليس حصيلة التشاور والتداول الحر بينهم للآراء وتنقيحها والبحث بحرية عن الصواب فيها، وإنما هو من الثمار الخبيثة لطبيعة الحكم الاستبدادي ونشاطه وأسلوب إدارته للأمور، فالبطانة والمعاونين ومؤسسات الدولة الخاصة كسلطة الحاكم المستبد في النظام الدكتاتوري الفاسد، كلها تفكر وتعمل باسم الدكتاتور ومن أجل تحقيق إرادته ورغباته، وليس لهم هدف إلا رضاه، ولا يفكرون بحرية ومنطق سليم واستقلال، ولا يبحثون عن الحقيقة، وما فيه الصلاح والخير والمصلحة للشعب والوطن، فهم أرقام تضاف إلى بعضها وصور لزخرفة وتزيين النظام، وكلها مختصرة أو ذائبة في فكر الحاكم المستبد وإرادته ورغباته ومصالحه، وتكرر ما يقول لتحصل من وراء ذلك على الفتات.

وليس هذا السلوك المشين المخالف للعقل والمنطق وكرامة الإنسان يختص بفرعون وحاشيته، بل هو دأب وسلوك جميع الطواغيت والفراعنة والحكام المستبدين في العالم كله مع حواشيهم وأعوانهم على طول التاريخ وعرض الجغرافيا، فقد ألقى الدكتاتور الطاغية الملك فرعون إلى بطانته وأعوانه (الملأ) برأيه، وتركهم يتشاورون ويتبادلون الرأي بخصوص ما يجب عليهم فعله واتخاذه من اجراءات لمواجهة موسى الكليم (عليه السلام) ودعوته وحركته الإصلاحية، أي: هو الذي يرسم الاستراتيجية والسياسة العامة، وليس هم، فوافقوه بالطبع فيما رسمه، وقدموا ما أجمعوا عليه من رأي حول أسلوب المواجهة في المرحلة الراهنة، ولم يظهر بينهم رأي رشيد واحد يعكس الحقيقة كما هي، ويسعى لردهم إلى رشدهم وصوابهم، مما يدل على تبعيتهم التامة وخضوعهم المطلق إلى إرادة فرعون ومسايرته في جميع ما يريد!

ثم أضاف فرعون الطاغية بوصفه الزعيم الأوحد والبصير بمختلف الشؤون والمصالح، والقادر على كشف المؤثرات والأسرار بخصوص أهداف موسى الكليم (عليه السلام) وراء دعوته وما جاء به من الأفعال الخارقة للعادة، فقال: <يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم>[6] أي: أن لموسى الكليم (عليه السلام) وراء دعوته الباطلة وما جاء به من الأعمال الخارقة للعادة، أهداف دنيوية انقلابية سياسية واقتصادية واستعمارية، خبيثة خطيرة جداً على النظام الملكي والحكومة وشخص الملك، وعلى مصالح الشعب ومقدراته، ولا علاقة لها بالدين والعقيدة، فهو يريد بأعماله الخارقة للعادة وبادعاء النبوة والرسالة، الانقلاب على النظام الملكي الفرعوني الشرعي القائم، الذي يمثل إرادة الآلهة، ويخدم مصالح الشعب ويحافظ على مقدراته، وأن يدغدغ عواطف الهمج من بني إسرائيل ليؤثر فيهم تحت عناوين براقة جذابة ساحرة، ولكنها كاذبة ولا واقع لها، مثل: المظلومية والحرمان والتمييز وإرادة التحرير من الاسترقاق والاستعباد وتحصيل الاستقلال في أمرهم ونحو ذلك، ليستميلهم إلى نفسه، ويحرضهم على التمرد والخروج عن طاعة الملك العظيم (فرعون)، والثورة على النظام، ليتأيَد ويتقوى بهم من أجل إسقاط النظام والقضاء عليه وتصفية رموزه وقادته، وتغيير الطريقة الملكية الفرعونية المثلى في الحكم وتوزيع السلطة والثروة وتدبير كافة شؤون الدولة، وفرض الهيمنة الكاملة على الأرض والبلاد، ويتملك مصر ويستعمرها، ثم يخرج أهلها الأقباط الذين هم قوم فرعون والموالون له ولنظامه من أرضهم ويجليهم عن ديارهم ووطنهم، للاستئثار بالحكم والثروة والمقدرات في البلاد مع قومه بني إسرائيل، كما جرت العادة في ذلك العهد القديم، أن يهجم قوم على قوم في أرضهم وبلادهم، فيتغلبوا عليهم، ويملكوا أرضهم وديارهم وثراوتهم ومقدراتهم، ويخرجوهم من أرضهم وبلادهم، ويشردوهم في الأرض كما يفعل الكثير من الهمج في وقتنا الحاضر.

إلا أن الاستعمار الغربي رائد الحضارة، قد طوّر ذلك إلى نسخة عصرية تتناسب مع روح العصر الحديث، فبدأ بالاستعمار التقليدي الذي يقوم على الاحتلال العسكري للأرض وفرض سيطرته السياسية والاقتصادية والإدارية على شعب دولة بغير رضاه، وتشجيع رعاياه على الهجرة إلى الدولة المستعمرة لغرض الاستيطان بهدف وإرادة إحكام السيطرة على البلاد المستعمرة، وقد يلجأ إلى طرد السكان الأصليين من بلادهم بوضعهم تحت ظروف معيشية وأمنية قاسية جداً، وقد يلجأ إلى إبادتهم وتصفيتهم الجسدية إذا اقتضت الحاجة الاستعمارية ذلك، ثم طوّر الغرب الاستعمار إلى نسخة أكثر عصرية بغرض هيمنته على البلاد عن طريق الاتفاقيات الثنائية غير المتكافئة، التي تكبِّل الدولة المستعمرة بشروط تحرمها من حرية التصرف، أو باستغلال المشاكل السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية للتدخل في الشؤون الداخلية للدولة، والضغط عليها عن طريق تقديم المعونات والمساعدات الفنية والإدارية المشروطة، أو يخلق مشاكل وإثارة القلاقل والاضطرابات والانقسامات الدينية والطائفية والعرقية والحزبية ونحوها؛ لإضعاف الدولة ووضعها تحت السيطرة (الفوضى الخلاقة) وإقامة القواعد العسكرية والتكتلات الاقتصادية وإنشاء المشروعات، وتشجيع الأقليات والنخبة الموالية لها للسيطرة على الحكم ومقدرات البلاد وتصدير أنماط السلوك والثقافة الاستعمارية (القوة الناعمة) ونحو ذلك، مما يسمى اليوم بالإمبريالية الجديدة.

وقد أراد فرعون الطاغية من وراء تضليله ومغالطاته بهذا الطرح الخبيث، تخويف ضعفاء العقول وسفهاء الأحلام من ملئه والعامة من الأقباط والموالين له وللنظام، الذين ارتبطوا بالنظام ارتباط وجودٍ ومصير، وارتبطت مصالحهم بشخص الملك ونظامه، وتخويفهم من أبعاد الحركة الإصلاحية والثورية لبني إسرائيل بقيادة إمامهم وزعيمهم موسى الكليم (عليه السلام) وخطرها عليهم، وإيهامهم بأنها تمثل خطراً وجودياً عليهم، وليس مجرد خطر ديني أو ثقافي على هويتهم الدينية والثقافية، أو خطراً أمنياً أو سياسياً أو اقتصادياً محدوداً ثم يزول، وذلك من أجل استفزازهم وتحريضهم على مناهضة موسى الكليم (عليه السلام)، والتكذيب بنبوته ورسالته ودعوته، ومحاربة الحركة الإصلاحية والثورية الاستقلالية والحقوقية لبني إسرائيل بقيادته وإمامته، وليقفوا إلى صف فرعون الملك والنظام، ويقدموا لهما الدعم والمساندة المادية والمعنوية والبشرية، في حربهما ضد موسى الكليم (عليه السلام) ودعوته ورسالته وحركته الإصلاحية والثورية، والسعي للقضاء المبرم على دعوته وإبطال رسالته، تحت تأثير الخوف والتعصب الديني والمذهبي والعرقي، رغم أنه لا مصلحة للأقباط في الحقيقة والواقع وراء محاربة موسى الكليم (عليه السلام) ودعوته، ودعم فرعون الطاغية ونظامه الملكي الفاسد، بل هم يتضررون من وراء ذلك ضرراً بليغاً؛ لأن النظام الملكي الفرعوني نظام فاسد جائر، وفرعون طاغية وحاكم مستبد لا تهمه إلا نفسه ومصلحته، ويسخرهم من أجل ذلك، فهو في غاية الأنانية والاستئثار والقسوة، ولا يهتم بأحد من شعبه الأقباط وبني إسرائيل وغيرهم، إلا بمقدار ما يخدم نظامه وعرشه وسلطته ومصالحه الأنانية الخاصة، ولا يؤمن بدين ولا مذهب ولا مبادئ ولا قيم ولا مصالح عامة دينية أو وطنية، ولا بأي شيء من هذا القبيل. وفي المقابل، موسى الكليم (عليه السلام) ولي عظيم من أولياء الله الصالحين، اصطفاه الله تبارك وتعالى للنبوة والرسالة وهداية الناس، وهو حريص تمام الحرص على صلاح الناس وخيرهم وكمالهم ورفاههم وسعادتهم في الدارين الدنيا والآخرة، وأمين على كافة مصالحهم الخاصة والعامة وحركته الإصلاحية ليس فيها مصلحة دنيوية خاصة به، بل تقتضي منه بذل التضحية والفداء، ولا تخدم مصالح بني إسرائيل فقط، بل تخدم مصالح كل المواطنين والمقيمين في مصر، الأقباط وبني إسرائيل وغيرهم، بل مصلحة كل إنسان على وجه الأرض ويريد لهم تمام الخير والصلاح والرفاه والسعادة الحقيقية الكاملة في الدارين الدنيا والآخرة.

وعليه: فقد رمى فرعون الطاغية موسى الكليم الصفي الصادق الأمين (عليه السلام) بداء نفسه، وما في نفسه من الخبث والأنانية وسوء الطبع والنية والاستغراق في عالم الدنيا والمادة، وفي مصالحه الدنيوية والأنانية الخاصة العاجلة، وسعيه من أجل تسخير الآخرين في مصالحه، وإرغامهم على اتباعه والخضوع المطلق لإرادته.

وهذا الاتهام الباطل من فرعون الطاغية لموسى الكليم الصفي القديس (عليه السلام)، هو الاتهام الباطل المجافي للحقيقة والواقع، الذي دأب كل الطواغيت الضالين والفراعنة المتجبرين والحكام المستبدين الظلمة والمترفين المستغلين والانتهازيين الأنانيين على توجيه مثله لخصومهم السياسيين والمعارضين لهم، حين يستشعرون خطر حركة المعارضة الإصلاحية والثورية الشريفة عليهم، فيعملون على إثارة الفتن الدينية والطائفية والعرقية والحزبية، والقلاقل الأمنية على الوجه الذي فيه خدمة مصالحهم، ويحقق أهدافم وغاياتهم على كافة الأصعدة، ويثيرون الخوف والفزع لدى أتباعهم وأنصارهم والموالين لهم من الإصلاح والتعبير ووصول المعارضة إلى سدة الحكم والسلطة في البلاد، لكي يقفوا إلى صفهم ويستميتوا في الدفاع عنهم، ومناهضة الحركة الإصلاحية والثورية ومحاربتها بكل وسيلة وما أوتوا من قوة وبأس.

الجدير بالذكر: أن الحكام المستبدين وإن خالفوا في ذلك الدين والمنطق والمبادئ والقيم والضمير، فإنهم يفعلون ذلك من أجل مصالحهم الدنيوية، والعتب الحقيقي ليس عليهم وإنما على الموالين لهم من عامة الناس، الذين يساندونهم في تعزيز سلطتهم وبسط نفوذهم وظلمهم إلى المعارضين والجور عليهم، ولا فائدة لهم ولا مصلحة من وراء ذلك، بل يلحقهم الضرر المادي والمعنوي كما يلحق المعارضين للنظام، لما يتصف به النظام من الاستبداد والفساد والظلم والجور وانتهاكات حقوق الإنسان ونحو ذلك، وقد يضحون بأنفسهم وفلذات أكبادهم في دفاعهم المستميت عن النظام، أي: باعوا دينهم وكرامتهم من أجل دنيا غيرهم، وليس ذلك إلا بسبب الجهل والحمق والتعصب وضعف المنطق وانسياقهم وراء الرواد الخونة لأمانة الكلمة والقادة الأنانيين.

وقد لجأ فرعون الطاغية وملؤه الفاسدون إلى الكذب والتضليل رغم أن موسى الكليم (عليه السلام) قد حدد بوضوح تام أهدافه السياسية، وهي:

1. إصلاح النظام وإعادة بنائه على أساس عقائدي وقيمي سليم وتشريعي عادل، وهو التوحيد الواقعي الفعلي القائم على الإيمان بربوبية رب العالمين والتسليم لأمره ونهيه، وهو التوحيد المدعوم بالدليل العقلي المنطقي الصحيح، ويميل إليه الإنسان بحسب طبعه السليم وفطرته، بدل البناء القائم على أساس ألوهية فرعون الكاذبة وربوبيته الباطلة وفرض إرادته التشريعية القانونية على الناس بدون وجه حق، وعلى خلاف العقل والمنطق والفطرة والطبع السليم وكرامة الإنسان، ولحقيقة كون الإنسان مخلوقاً لله سبحانه وتعالى، وهو ربه الوحيد وإليه معاده وعليه حسابه، وجزاؤه على أعماله في يوم القيامة، وعلى خلاف صلاحه وخيره وكماله ورفاهه وكرامته وسعادته في الدارين الدنيا والآخرة.

2. تحرير بني إسرائيل من العبودية والاسترقاق، ورفع المظلومية والحرمان والتمييز عنهم، ومساواتهم مع الأقباط في الحقوق والواجبات على أساس المواطنة، وهو حق طبيعي وسياسي مشروع لهم، وإعطائهم حقهم الطبيعي في تقرير المصير، وحقهم في الإقامة والهجرة، بأن يقرروا لأنفسهم ما يشاؤون، البقاء في مصر أو الهجرة منها والسفر معه إلى الأرض المقدسة فلسطين التي أمرهم الله تعالى بالعودة إليها والإقامة فيها واتخاذها موطناً لهم؛ لأنها أرض مقدسة، فهي مهبط الوحي والتنزيل؛ ولأنها موطنهم الذي ولد فيها جدهم الذي ينتسبون إليه إسرائيل، وهو نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل (عليه السلام)، وعاش فيها مع أبيه إسحاق (عليه السلام) قبل هجرته منها إلى مصر في عهد حكومة ابنه يوسف الصديق (عليه السلام) في مصر في القرن الثامن (18) قبل الميلاد، أي قبل أكثر من أربعمائة سنة، والمطالبة بهذا الحق لبني إسرائيل؛ لأنهم كانوا ممنوعين من ذلك من قبل النظام الفرعوني، ليبقوا دائماً وأبداً خاضعين له ومسخرين في الأعمال الشاقة في البلاد التي لا يريد الأقباط وهم قوم فرعون العمل فيها، مثل: البناء والزراعة ونقل الصخور والمياه وأعمال التنظيف، أي: لأهداف سياسية واقتصادية واجتماعية طبقية.

وعليه، فإن النظام الملكي الفرعوني نظام فاسد غير واقعي، ومخالف للعقل والمنطق والفطرة والطبع السليم ولمصلحة الإنسان ورفاهه وكرامته، وفيه هلاك الإنسان وشقاؤه الحقيقي الكامل في الدارين الدنيا والآخرة، وأن دعوة موسى الكليم (عليه السلام) إلى التوحيد الواقعي الصحيح، وحركته الإصلاحية المطالبة بإعادة بناء النظام في الدولة على أساس التوحيد الواقعي والتشريع الإلهي والقيم الإنسانية السامية، وتحرير بني إسرائيل من العبودية والاسترقاق وإعطائهم كافة حقوقهم الطبيعية والمكتسبة المشروعة، هما: دعوة وحركة منطقية مشروعة وواجبة وضرورية جداً، وتتوقف عليها المصالح الجوهرية والحيوية لأبناء الشعب جميعاً، الأقباط وبني إسرائيل وغيرهم من الأقليات، وفيهما صلاح أبناء الشعب وخيرهم وكمالهم ورفاههم وكرامتهم وسعادتهم الحقيقية الكاملة في الدارين الدنيا والآخرة، وتدخلان ضمن الحقوق الطبيعية للإنسان بما هو إنسان، ويطالب بهما بحسب عقله وفطرته وطبعه السليم، أي ضمن حقه في حرية العقيدة والضمير والتعبير عن الرأي وتقرير المصير، وهما تستندان إلى الدليل الصحيح والبرهان النير الساطع القاطع، وهما دعوة وحركة سلمية تقومان على الحوار والجدال بالتي هي أحسن، ولا تلجئان إلى العنف والإرهاب، وقد أوصى الله تبارك وتعالى موسى الكليم وهارون (عليه السلام) باللين مع فرعون، وإقراره على ملكه إن هو آمن وصدّق بنبوة موسى الكليم وهارون (عليه السلام) ورسالتهما إليه من عند رب العالمين، قول الله تعالى: <اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي 42 اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ 43 فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ>[7] فليس بين أهداف موسى الكليم (عليه السلام) في الأصل الاستيلاء على السلطة والثروة والمقدرات، فضلاً عن طرد الأقباط من وطنهم الذي هو ظلم ينزه موسى الكليم (عليه السلام) وحركته الإصلاحية عنه، وهذا معروف لدى أصحاب العقل والمنطق المنصفين.

إلا أن فرعون سخر منهما ولم يصدق بنبوتهما ورسالتهما، ووصفهما بالكذب، ورماهما بالسحر؛ لأنه كسائر الطواغيت الضالين والفراعنة المتجبرين والحكام المستبدين الظلمة، لا يؤمنون بعقل أو منطق ولا بحق وحقوق، ومنفصلين عن الواقع كل الانفصال، ويقيسون حقيقة المصلحين بحقيقة أنفسهم الخبيثة، ودوافع المصلحين النبيلة في الإصلاح والثورة بدوافعهم الأنانية الخسيسة في السلطة، وأفكار المصلحين النيرة بأفكارهم المظلمة المنحرفة ونحو ذلك، إذ أنهم متعلقون تمام التعلق بعالم الدنيا والمادة، ومستغرقون كل الاستغراق في الأهواء الشيطانية والشهوات الحيوانية والمصالح الدنيوية الأنانية الخاصة، ولا يرون إلا أنفسهم ومصالحهم، ولا يفكرون إلا في السلطة والثروة والامتيازات والصلاحيات التي يمنحها لهم النظام الفاسد، ولا يقيمون وزناً للدين والمذهب والمبادئ والقيم والأخلاق والعقل والمنطق والحق والحقوق ولكرامة الإنسان والمصالح العامة الإنسانية والدينية والقومية والوطنية أو نحو ذلك، بل يتخذونها عناوين ووسائل يتاجرون بها وعلل لمهاجمة خصومهم والنيل منهم وتشويه سمعتهم وقلب الطاولة عليهم على خلاف الصدق والمصداقية وبغير وجه حق، حتى لوكان خصومهم ومعارضوهم من خيرة الناس وأشرفهم وأرفعهم مكاناً ومنزلة ومن القديسين والصديقين والصالحين، مثل موسى الكليم، وهارون، والحسين الشهيد (عليهم السلام) وأمثالهم، وتكون خيارات الطواغيت والفراعنة والحكام المستبدين الظلمة مفتوحة في مواجهة المصلحين والثوار الصالحين والشرفاء النبلاء المضحين، والسعي للقضاء على حركتهم، وتشمل الخيارات، التضييق الأمني والمعيشي والتعبير عن الرأي وتشويه السمعة والسجن والتعذيب والنفي والتشريد والقتل ونحو ذلك.

وبعد أن حدد فرعون ماهية ما جاء به موسى الكليم (عليه السلام) وأهدافه السياسية من وراء ذلك، استشار أعوانه حول الخيارات المناسبة؛ للتعامل معه بهدف القضاء على دعوته وإخماد فتنته ونار ثورته، أمن الواجب أن يقتل، أو يصلب، أو يسجن ويعذب، أو يضيق عليه في حياته ومعيشته، أو تقيد حريته في الحركة والتعبير، أو ينفى من البلاد ويشرد في أقطار الأرض، أو يعارض بسحر مثل سحره، أو أي شيء آخر؟ فقال: <فَمَاذَا تَأْمُرُونَ >[8] أي: بعد أن شخصتم ما جاء به موسى بأنه مجرد سحر وليس فيه دليل على صدق النبوة والرسالة من رب العالمين كما يزعم، وأن له أهدافاً سياسيةً انقلابيةً خبيثةً، وخطراً وجودياً على النظام والدولة ومصالح الشعب ومصالحكم الخاصة، وأهداف اقتصادية واستعمارية، فماذا تأمرون به من الإجراءات للتصرف معه لإبطال كيده ودفع خطره الوجودي وإخماد نار فتنته التي أوقدها بيننا؟ فإن ما جاء به وادعاه من الخطورة بمكان كبير، فإن لم يقابل في الحال أو بأسرع ما يمكن بما يبطله ويدفع خطره ويمنع ضرره، فإنه سيدخل إلى كل بيت وينتشر بين الناس كانتشار النار في الهشيم، ويتمكن من عقول الناس وأحلامهم وعندئذ لن ينفع حل وستقع المصيبة على رؤوس الجميع!

وفي عبارة <فَمَاذَا تَأْمُرُونَ > إشارة إلى ضرورة توحيد الكلمة والصفوف والاتحاد في الموقف لمواجهة الخطر الوجودي الداهم وشدته، ولوحدة المصير المشترك والمصالح بينهم.

الجدير بالذكر: أن فرعون الطاغية الذي كان يزعم أنه الرب الأعلى لجميع أهل مملكته، ويجب عليهم جميعاً أن يخضعوا لإرادته المطلقة، وينفذوا جميع أقواله في الحال وبدون نقاش أو تراخي أو تردد؛ لأنها عين الحقيقة والحكمة والصواب، نجده في هذه الساعة الحرجة التي يواجه فيها الخطر الوجودي والمصير الكبير المحدق به ويهدد ملكه ونظامه، يظهر على حقيقته ويكشف عن ضعفه وحاجته الوجودية إلى معاونيه ومستشاريه للإشارة عليه بالرأي والوقوف إلى صفه في مواجهه الخطر، مما يدل على كذب ادعائه للألوهية والربوبية، وعلى الطبيعة الخسيسة للفراعنة الطغاة المتجبرين والحكام المستبدين الظلمة في العالم، فهم جميعاً يستعلون حينما يتمكنون ويشعرون بالقوة، ويتمسكنون حينما يشعرون بالضعف والخطر، ويعطون الوعود والعهود والمواثيق الغليظة على أنفسهم، حتى إذا تمكنوا من جديد وشعروا بالقوة، نقضوا جميع وعودهم وعهودهم وما أعطوه من المواثيق والأقسام المغلظة، وعادوا إلى ما كانوا عليه من الاستعلاء والاستبداد والظلم والطغيان والبطش والقسوة والفساد، وكأن شيئاً لم يكن، فلا يثق بوعودهم إلا جاهل أحمق سفيه، وفي الحديث الشريف عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنه قال: «صاحب السلطان كراكب الأسد، يغبط بموقعه وهو أعلم بموضعه»[9] أي: يغبطه الناس، ويتمنون منزلته وما يتمتع به من امتيازات وصلاحيات، ولكنه أعلم بموضعه من الخطر، فهو يشعر دائماً بالخوف ويخشى من السلطان أن يعزله ويغتاله، فهو وإن خاف على مركزه، فهو في خوف دائم على حياته ومستقبله.

فأجاب الملأ فرعون بما أجمعوا عليه وانعقد عليه رأيهم، وكان جواباً مملوءاً بالتملق والتزلف والخضوع المطلق لإرادته الطاغية، فقالوا: <قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ 111 يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ>[10] أي: أنهم رأوا أن يأخذوا بالخيار السياسي السلمي، بدلاً من الخيار الأمني بقتل موسى الكليم (عليه السلام) وتصفيته جسدياً، أو بسجنه وتعذيبه، أو بنفيه وتشريده، أو نحو ذلك من الخيارات الأمنية القمعية، وبدلاً من الخيار العسكري بمحاربة بني إسرائيل الذين هم قوم موسى الكليم (عليه السلام) وحاضنته الشعبية، وأخذهم لهذا الخيار ليس رحمةً، ولا تورعاً عن القمع والعنف والإرهاب والقسوة، فهذه الأخلاق السيئة المذمومة تجري في نفوسهم مجرى الدم في العروق، وإنما أرادوا لجهلهم وقصر نظرهم وبعدهم عن المنطق وانفصالهم عن الواقع، أن يفضحوا بحسب وهمهم سر موسى الكليم (عليه السلام) ويكشفوا حقيقة أمره عند جميع الناس، لا سيما عند قومه بني إسرائيل؛ لكي لا ينخدعوا به ويصدقوا بنبوته ورسالته، ويستجيبوا إلى حركته التحررية، فيخرجوا على النظام الملكي الفرعوني القائم ويثوروا عليه، أي: أنهم كذبوا وصدقوا أنفسهم، بأن موسى الكليم (عليه السلام) مجرد ساحر عليم بالسحر، وأن ما جاء به من المعجزات العصا واليد هما من السحر، وليس فيهما الدليل على صدق نبوته ورسالته، ثم أرادوا أن يسوّقوا هذه الكذبة على الناس عن طريق الخداع والتضليل، وكأن الكذب والخداع يغيران الحقائق، وأملهم أن لا يميز الناس بين السحر والمعجزة لما بينهما من التشابه الظاهري، فكلاهما عمل خارق للعادة، وبهذا ينكشف لنا دور الغرور بالسلطة والثروة والقوة والاستغراق في عالم الدنيا والمادة والمصالح في حجب الإنسان عن الحقائق وإضعاف منطقه وعقله وفصله عن عالم الواقع.

وعلى كل حال، يعتبر الخيار السياسي السلمي المبارزة أو مقابلة ما جاء به موسى الكليم (عليه السلام) على أساس أنه سحر يقابل بسحر مثله – وإن كان في الحقيقة والمنطق مخالف للحقيقة والواقع – فإنه الخيار الأفضل للنظام؛ لأنه أقل كلفة للنظام من الناحية المادية والمعنوية والبشرية، ولأن الخيار الأمني والعسكري يخلق التعاطف معه ومع قومه، بسبب ما يتجسد فيهما من المظلومية والقسوة والاستضعاف، والناس دائماً يتعاطفون بحسب فطرتهم وطبعهم مع المظلوم، إلا الذين طبع الله  (جل جلاله) على قلوبهم المظلمة بالتعصب والحقد، لا سيما وأن دعوة موسى الكليم (عليه السلام) وحركته التحررية، قد امتزجت فيهما القداسة الدينية مع العاطفة القومية المرتبطة بالتحرر من العبودية والتخلص من المظلومية والحرمان، ونيل الحرية والاستقلال وتقرير المصير، مما أكسبه مسحة من القداسة الروحية والرمزية القومية والجاذبية النضالية والجهادية، ولأن خيار المقابلة بالسحر يسقط في حال نجاحه – في الواقع أو بالتضليل لعدم التمييز بين السحر والمعجزة – الاعتبار والقدسية عن موسى الكليم (عليه السلام) بشكل تام، ويحطم قواه المادية والمعنوية، ويهدم دعوته من الأساس بحسب ما يتوهمون، ويخلق الأرضية والأجواء الفكرية والنفسية والسياسية؛ للانتقام منه بدون أن يحصل التعاطف الشعبي معه، وقد ترتفع الأصوات المطالبة بالانتقام منه، لما ثبت من كذبه وخداعه وتضليله وخطره على النظام والدولة والدين والثقافة والتراث ومصالح الشعب، وهو لا يمتنع في حال فشله من اللجوء إلى الخيارات الأخرى الأمنية والعسكرية اذا اقتضت الحاجة، بل يمنح فرصة كسب الوقت للتفكير الملي ودراسة الخيارات بشكل أفضل، فلا حاجة إذن إلى الاستعجال، ويجب حساب الخطوات بدقة كبيرة، وذلك لخطورة الموقف على مستقبل النظام والدولة والأشخاص والمصالح، وعليه فهم يريدون افتعال ذريعة سياسية مقنعة لأي موقف أمني سيتخذونه ضد موسى وهارون (عليه السلام) والحاضنة الشعبية لهما ولدعوتهما وحركتهما التحررية، وتمنع إثارة غضب الرأي العام الإسرائيلي أو القطبي، والتعاطف معهما كما هي عادة الطواغيت والفراعنة والحكام المستبدين مع خصومهم ومعارضيهم، حينما يكونون في سعة من أمرهم، ويعتبرون ذلك شطارةً ودهاءً وحسن سياسة وتدبير!! وعليه: فكروا في بداية الأمر في إجهاض دعوته بأعمال خارقة للعادة (السحر) وإسقاط اعتباره وقدسيته، ثم معاقبته والانتقام منه بقتله وتصفيته جسدياً أو غير ذلك من الخيارات الأمنية، مثل: السجن والتعذيب، أو النفي والتشريد ونحو ذلك.

ويتألف خيار فرعون وملئه من نقطتين رئيستين، وهما:

أ.   تأخير الخيارين الأمني والعسكري. أي: عدم التعرض لموسى الكليم وأخيه هارون (عليه السلام) بالقتل، أو السجن، أو النفي، وعدم اللجوء إلى الحرب مع بني إسرائيل في أول الأمر، وذلك بالنظر إلى ما تركته المعجزتين من رغبة لدى مجموعة في دعوته، ولكي لا يتهم النظام والملك بالظلم والقسوة، وتستثار عواطف بني إسرائيل: العرقية والدينية كما هي العادة عند الأقوام والجماعات في مثل هذه الحالات، وكان بنو إسرائيل يتعبدون على الأرجح على دين ابراهيم الخليل (عليه السلام)، فيزيد تعاطفهم الشعبي والنخبوي مع موسى الكليم (عليه السلام) وتزيد نصرتهم له ولدينه ودعوته، ويزيد غضبهم على النظام الفرعوني والملك، خصوصاً وقد امتزجت فيه فكرتي النبوة والرسالة مع الدفاع عن المظلومين والمحرومين وتحريرهم من العبودية والاسترقاق، ثم يضاف إلى ذلك المظلومية التي تقع عليه والشهادة، فيزيد الطين بلة وينقلب الأمر إلى عكس ما يراد منه، وربما يحصل التأثير في الأقباط الموالين للنظام والملك، فتظهر جماعات منهم تتعاطف معه وتنصره وتؤيده، بدافع من فطرتهم وطبعهم الإنساني، بسبب ما قد يعتقدون أنه وقع عليه من الظلم والجور والقسوة، وعدم استفراغ الوسع في إقامة الحجة عليه وإدانته، مما يشكل خطراً شعبياً وتهديداً أمنياً وسياسياً واجتماعياً حقيقياً على النظام والدولة والحكومة والملك.

ب. إرسال أفرادٍ من الجيش، ضباط وجنود إلى كافة المناطق المدن والقرى في مصر؛ من أجل التعرف على كل ساحر عليم بأسرار ودقائق وخبايا ودفائن السحر، وحاذق في صناعته، وماهر في فنونه، وحشدهم جميعاً في العاصمة السياسية في البلاد ومركز الحكم فيها حيث يقيم الملك (فرعون) وجهازه المركزي اجتماعاً، وذلك لمبارزة موسى الكليم (عليه السلام) ومقابلة سحره بسحرٍ مثله كما يزعمون، في الموعد المحدد للمبارزة وهو يوم الزينة، أي: يوم العيد الكبير في مصر.

وكانت مصر تموج بالسحرة في عهد الفراعنة، ويمثل السحرة طبقة مهمة من طبقات المجتمع المصري في النظام الفرعوني القائم على التقسيم الطبقي الوراثي، ويتمتع السحرة بتعليم أفضل من سائر الطبقات، ولا يضاهيهم في ذلك ويبادلهم فيه إلا الكهنة وسدنة الآلهة، وكان الكهنة وسدنة الآلهة يمارسون السحر أيضاً، وكان فرعون نفسه يمارس السحر، وبه توصل إلى الملك والاستيلاء على السلطة والثروة، وكان يوظف السحرة لأهداف عديدة دينية وسياسية واجتماعية تخدم النظام وسلطة الملك ونفوذه، مما يكشف لنا عن أهمية معجزتي العصا واليد بشكل خاص، وقيمتهما العلمية والروحية وتأثيرهما الكبير في إحداث التغيير في ذلك الوقت والنظام في مصر، على قاعدة أن معجزة كل نبي تأتي من الفن الأكثر شهرة وأهميه في عهده، فالعصا واليد تشبهان من حيث الشكل أكثر الفنون والعلوم قيمة وأهمية في المجتمع المصري والنظام الفرعوني في ذلك الوقت، وهي السحر والطب والكيمياء، ويتفوقان عليها في الحقيقة والمضمون والظاهر؛ ليكون بذلك التحدي أقوى والحجة أبلغ وأتم.

وكان يقين فرعون وملئه بأن السحرة سوف يتغلبون حتماً بسحرهم على سحر موسى الكليم (عليه السلام)؛ لأن ما لديه بحسب زعمهم مجرد سحر لا أكثر، وهو واحد في مقابل جيش من السحرة المهرة الحاذقين في فنون السحر والمدربين عليه العارفين بدقائق أسراره وخفاياه، وقيل: أن عدد السحرة الذين حشدهم فرعون الطاغية لمبارزة موسى الكليم (عليه السلام) قد بلغ عشرة آلاف ساحر، وقيل: غير ذلك، فمهما بلغت مهارة موسى الكليم (عليه السلام) في السحر، فلن يستطيع أن يهزم ويتغلب على هذا الجيش العظيم من السحرة المهرة، أو على الأقل سوف يستطيع السحرة بجمعهم العظيم ومهارتهم، خداع الناس وتضليلهم، حيث يكون الكم الهائل في مقابل النوع، فلا يستطيع الناس معرفة الحقيقة؛ لأن التمييز بين السحر والمعجزة، يحتاج إلى معرفة لا يتمتع بها العامة من الناس، الذين تخدعهم المظاهر ويميلون إليها أكثر من الجوهر والحقائق، وهذه من القواعد المهمة التي يعتمد عليها الفراعنة والحكام المستبدون الظلمة في خداع عامة الناس وتضليلهم، وليس لموسى الكليم (عليه السلام) الذي يعتمد على قاعدة النوع مقابل الكم، أن يحتج ويعترض على أنه واحد والسحرة كثر؛ لأنه يدّعي بأن ما لديه معجزة تقف وراءها قوة مطلقة فوق الطبيعة وفوق طاقة البشر وليس سحراً، والمعجزة لا يمكن أن تهزم بالسحر مهما كان عظيماً وهائلاً وكبيراً، وعليه: فإن الكثرة في مقابل واحد، لا تخل بقواعد المواجهة، ثم إذا تمكنوا منه وغلبوه من خلال المواجهة السلمية الحضارية التي تتسم بالواقعية والمنطقية والإنصاف، وسقطت حجته، وسقط عنه القناع والزيف، وسقط اعتباره، وانمحت هالة القدسية التي تحيطه، أو استطاع السحرة خداع الناس وتضليلهم، كان قتله والتخلص منه مبرراً ومقبولاً في الرأي العام، بل قد ترتفع الأصوات مطالبةً بالانتقام منه؛ لما ثبت من كذبه وخداعه وتضليله وخطره على النظام والدولة ومصالح الشعب، ولن تكون للانتقام منه عواقب تخشى، كما لو قتل أو سجن أو نفي قبل فضحه وإسقاط اعتباره.

وعلى فرض أن موسى الكليم (عليه السلام) استطاع التغلب على السحرة وهزيمتهم، وهو بعيد جداً في تقديرهم، فإن الفرصة لا تزال باقية للخيارات الأخرى الأمنية والعسكرية، بهدف القضاء عليه وتصفيته، والقضاء على دعوته، وإخماد نار فتنته، ولجم زمام نهضة بني إسرائيل الإصلاحية وثورتهم التحريرية <وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ>[11] إذ أصبح الجيش العظيم من السحرة المهرة عامل حسمٍ نهائي في المعركة، فنتج عنها إيمان السحرة جميعاً وتسليمهم بنبوة موسى الكليم وهارون (عليهما السلام) ورسالتهما من عند رب العالمين وعدالة قضيتهما ومطالبهما الحقوقية والسياسية من النظام وفساد النظام وعدم شرعيته ومعارضتهم له والوقوف في وجهه إلى درجة الاستشهاد!!

ولاشك فإن التسلسل الذي أخذ به النظام الفرعوني في ترتيب خيارات المواجهة مع موسى الكليم (عليه السلام) مع أنها لم تغنِ له شيئاً، إلا إنها كانت الأفضل لصالح النظام الملكي الفرعوني مع سياسة المواجهة التي قررها، ويدل التسلسل في الخيارات على ذكاء فرعون ودهائه وخبثه ووجود سياسة منهجية مدروسة وواضحة لديه، ولم يكن متخبطاً رغم عظيم المفاجأة وخطرها الوجودي العظيم على نظامه ودولته وملكه، أي: كان متماسكاً رغم كل ما أصابه من القلق، وأدار المعركة باقتدار، ولم يتخل عن غروره وكبريائه واستعلائه حتى في أشد اللحظات حلاكة.

وهنا ينبغي التنبيه إلى ثلاثة أمور رئيسية، وهي:

1. ما دأب عليه فرعون وملؤه من توظيف إمكانيات الدولة وقدراتها المادية والبشرية والمعنوية، واستخدام السلطة ومقدرات الدولة ووسائل إعلامها وغيرها، لخدمة مشاريعهم ومصالحهم الخاصة وتعزيز سلطتهم الشخصية والحفاظ على مصالحهم الخاصة وامتيازاتهم من الدولة، ومواجهة قوى المعارضة للقضاء عليها وتصفية قادتها ومشروعها في الإصلاح والثورة بكل وسيلة وما أوتوا من قوة، وهذا السلوك الأناني المشين القديم الجديد، هو الأسلوب الذي تلجأ إليه كافة الأنظمة الدكتاتورية والحكومات المستبدة في العالم على طول التاريخ وعرض الجغرافيا، وكأن النظام والدولة وإمكانياتها ومقدراتها المادية والبشرية والمعنوية ملك خاص للحاكم المستبد، وليس للنظام والحكومة أية علاقة بإرادة الشعب ومصالحه، وأن أبناء الشعب عبيد يجب أن يسبحوا بحمد الحاكم المستبد ويصفقوا له ويؤدوا ما عليهم من الواجبات بحق الحاكم وليس لهم عليه حقوق، وأن ما يعطيه لهم هي مكرمات ملكية يجب أن يشكر عليها ويدينوا له بالولاء بسببها!!

2. أن فرعون الطاغية الذي كان يزعم أنه إله والرب الأعلى لجميع أهل مملكته، ويجب عليهم الخضوع المطلق لإرادته وينفذوا أوامره ونواهيه بدون تخلف أو استرخاء أو نقاش مهما كانت قاسية وصعبة، ومهما كان في ظاهرها من مشقة وضرر؛ لأنها عين الحقيقة والحكمة والصواب، ويجب عليهم أن يعملوا باسمه، وليس لهم حق معارضته ومخالفته، فإذا به يخاطب معاونيه ومستشاريه، بقوله <فَمَاذَا تَأْمُرُونَ >[12]؟ ما يدل على بشريته في الحقيقة والواقع، ونفي صفتي الألوهية والربوبية عنه، كما يدل على الضعف الملازم لهؤلاء الفراعنة المتجبرين والحكام المستبدين وخسة طبعهم، فهم طغاة متجبرون، يبطشون ويقتلون ويهاجمون المستضعفين بكل ضراوة كالسباع التي لا تبقي ولا تذر وبلا رحمة، ولا يتعففون عن ارتكاب أية جريمة أو خيانة بحق أي إنسان لا سيما المعارضين لهم، ما داموا يشعرون بالقوة والتمكن، ولكن بمجرد أن يشعروا بالخوف ويقترب منهم الخطر ويحدق بهم ويهدد وجودهم ونظامهم وسلطتهم ومصالحهم، يظهرون على حقيقتهم، ويهربون إلى جحورهم كالفئران فزعين مرعوبين يرتجفون من شدة الخوف والفزع، ويتمسكنون ويظهرون الطيبة والميل إلى الديمقراطية والشورى والحرص على مشاركة الناس همومهم وآمالهم كذباً ويزايدون في ذلك على الشرفاء النبلاء المضحين، ويعطون الوعود والعهود والمواثيق والأقسام الغليظة على أنفسهم، حتى إذا تمكنوا من جديد وشعروا بالقوة، نقضوا كل ما أعطوه من وعود وعهود ومواثيق، وعادوا إلى ما كانوا عليه من قبل من الاستبداد والظلم والجور والبطش والتنكيل بمعارضيهم بدون رحمة ولا شفقة، فلا تأخذهم في سلطتهم ومصلحتهم لومة لائم، وعليه: لا يثق في الحكام المستبدين الظلمة الخبثاء إلا أحمق جاهل أو مجنون، ولا يمكن لعاقل أن يقع في هذه الخطيئة الجهلاء، وفي الحديث النبوي الشريف: (لا يلدغ مؤمن من جحر مرتين)[13] وكفى بذلك حكمة وموعظة.

3. الحالة الخلقية السيئة المذمومة التي يكون عليها أتباع وأنصار وأعوان وبطانة الفراعنة والحكام المستبدين الظلمة، وما يظهرونه من التملق والتزلف والتضامن المطلق معه، فالكل يسبح بحمد الفرعون والحاكم المستبد ويقدس له، ويفكر ويعمل من أجل رضاه وتحقيق رغباته ونزواته ويزين له كل ما يريد، ولا يفكرون بحرية واستقلال أبداً، ولا يتصرفون بنبل وشرف، فهم مجرد أرقام تضاف إلى بعضها وصور توضع للتزيين والزخرفة والتسلية واللهو واللعب والتباهي والتفاخر والاستعراض كما يفعل تماماً مع المقتنيات، وعقولهم وأفكارهم ووجدانهم وضمائرهم مختصرة في عقل الفرعون والحاكم المستبد وفكره ووجدانه وضميره، وليس لهم فيها استقلال أو تنوع أو إضافة حقيقية، فلا يمكن أن يهتدوا إلى رشد أو خير أو صلاح، بل يساندون ويدعمون ويصفقون لما يريده الفرعون والحاكم المستبد ويرغب فيه ويحقق رضاه، فهو ولي نعمتهم وبطرهم، ولأن مصالحهم تلتقي مع مصالحه، ومصيرهم مع مصيره. وقيل: أن عبارة <فَمَاذَا تَأْمُرُونَ >[14] هي خطابٌ وجهَه الملأ إلى فرعون حين استشارهم، يعني أنهم وافقوه الرأي فيما وصف به موسى الكليم (عليه السلام) من أوصاف وحدده من أهداف سياسية واقتصادية واستعمارية، تقف وراء دعوته، ثم ردوا عليه بقولهم: <فَمَاذَا تَأْمُرُونَ> حضرتكم وجلالتكم، فالرأي رأيكم والقرار قراركم، ونحن على نهجكم سائرون، ولأمركم متبعون، وصيغة الجمع في لفظ (تأمرون) لرعاية التعظيم منهم إلى فرعون الطاغية، وهذه أحد الثمار الخبيثة للحكم الاستبدادي المطلق، ويبقون على هذه الحالة المشينة المذمومة ما داموا يشعرون بأنها السبيل لتأمين مصالحهم الأنانية الخاصة وكسب المعركة، فهم لا يفكرون إلا في أنفسهم ومصالحهم، ومحجوبون عن رؤية الحقيقة والفضيلة، فهم عملياً لا يؤمنون بدين أو مذهب أو مبادئ أو قيم خارج ذواتهم ومصالحهم، ولا يقيمون وزناً لغيرهم مهما كان عظيماً ومقدساً في نفسه ولا للمصالح العامة الإنسانية والدينية والقومية والوطنية، ولكن متى شعروا بخسارتهم للموقف أو للمعركة وأن الخطر يقترب منهم، انقلبوا على أولياء نعمهم وعلى خلفائهم وأسلموهم إلى قدرهم ومصيرهم وولوا عنهم مدبرين وكأن لا معرفة سابقة بينهم ولا رابطة، قول الله تعالى: <أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ 11 لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُون>[15] أي: تعجب من حال المنافقين، وهم عبدالله بن أبيّ وأصحابه الذين معه، إذ يقولون مغررين لإخوانهم في الكفر وعداوة الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين، وهم حلفاء اليهود (بني النضير)، نقسم لكم أننا معكم ولا نسلمكم ولا نفارقكم، ولئن أخرجكم المسلمون وأجلوكم من دياركم، لنخرجن معكم وننزح من ديارنا في صحبتكم ملازمين لكم ولا نفارقكم ولا نطيع في شأنكم ومن أجلكم أحداً، ولا نصغي إليه ولا نسمع منه إذا أشار علينا أو أمرنا أو نصحنا بالتخلي عنكم ومفارقتكم وخذلانكم، أو يعذبنا أو يخوفنا، لا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا غيره وإن طال الزمان. وإن قاتلكم المسلمون لنقاتل معكم وننصركم عليهم.

والله يشهد أن المنافقين بما هم منافقين انتهازيون نفعيون كاذبون فيما يقولونه، ولا يفون بما أعطوه لحلفائهم على أنفسهم من وعود بالخروج معهم والنصرة لهم. ثم أقسم رب العزة والجلال: لئن أُخرج بنو النضير من ديارهم لا يخرج معهم حلفاؤهم المنافقون كما وعدوهم، بل يقيمون في بيوتهم وديارهم ويحافظون على أملاكهم فيها، ولئن وقعت الحرب والقتال بين اليهود (بني النضير) وبين المسلمين، فإن حلفاء اليهود المنافقين لا ينصرونهم، ولئن نصروهم فرضاً وتقديراً في أول الأمر، فإنهم لا يثبتون في نصرتهم وسيولون الأدبار فراراً حين يطول أمد الحرب، أو حين تشتد المعركة ويظهر الانكسار على حلفائهم، فهذه هي الطبيعة الخبيثة الثابتة في المنافقين الانتهازيين الأنانيين الذين يركضون وراء مصالحهم الخاصة ولا يفكرون إلا في أنفسهم، الذين تخالف ألسنتهم قلوبهم، وتخالف أفعالهم أقوالهم، وتخالف علانيتهم سرهم، والكذب صفتهم، والغدر ملازم لهم لا يفارقهم، والجبن والخوف يصحبهم أينما كانوا، ومن يعتمد عليهم ويثق بهم، فإنه يجني الخيبة ولا ينتصر، وينتهي أمره إلى الخسران والهلاك!!


المصادر والمراجع

  • [1]. الأعراف: 109-110
  • [2]. الأنعام: 24-26
  • [3]. الأعراف: 146
  • [4]. الشعراء: 34
  • [5]. الأعراف: 109
  • [6]. الأعراف: 110 – الشعراء: 35
  • [7]. طه: 42-44
  • [8]. الأعراف: 110 – الشعراء: 35
  • [9]. نهج البلاغة، قصار الحكم، حكمة 263
  • [10]. الأعراف: 111-112 – الشعراء: 36-37
  • [11]. آل عمران: 54
  • [12]. الأعراف: 110 – الشعراء: 35
  • [13]. بحار الأنوار، جزء 19، صفحة 346
  • [14]. الأعراف: 110 – الشعراء: 35
  • [15]. الحشر: 11-12
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك - الجزء الأول | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟