مواضيع

الشهادة في ظل الخلافة الإلهية للإنسان

تمهيد

قال الله تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }. ( البقرة : 30 )

لقد نال الإنسان دون غيره من المخلوقات في عالم الوجود مقام الخلافة عن الله جل جلاله ، وأرغب في هذه الليلة المعظمة في أن أتناول بعض النقاط المهمة التي تتعلق بمقام الخلافة الجليل وصلته بالإنسانية الرفيعة ، لأنتهي إلى تشخيص حالة الشهادة وتحديد مكانة الشهداء على طريق الإنسانية الشامخة الرفيعة في عالم المجد والسمو الروحي والمعنوي طبقا لمنهج الخلافة الإلهية للإنسان في الأرض ، وسوف أجعل الحديث على شكل نقاط من أجل المزيد من الوضوح وتسهيلا للفهم ..

النقطة الأولى ـ معني الخلافة والخليفة :

الخلافة في اللغة هي قيام شيء مقام شيء آخر ، والخليفة هو النائب عن الغير والقائم مقامه فيما استخلف فيه من أمر ، وجمعه : خلفاء وخلائف ، وللخلافة والخليفة في الاصطلاح معاني عديدة أهمها ..

المعنى الأول ـ المعنى السياسي : ويطلق فيه لفظ الخلافة على نظام الحكم الإسلامي بعد وفاة الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأساسه الذي يقوم عليه هو الحق والعدل الذين هما وجهان لعملة واحدة : الحق هو الوجه النظري ، والعدل هو الوجه العملي لها ، وقد استخدم الفقهاء من مدرسة الخلفاء والمؤرخون هذا الاصطلاح في هذا المعنى ، ويدل عليه من السنة قول الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ” كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء ، كلما هلك نبي خلفه نبي ، وإنه لا نبي بعدي ، وستكون خلفاء ” ( صحيح مسلم . كتاب الإمارة ) .

أما الخليفة طبقا لهذا المعنى : فهو القائد الأعلى في الدولة الإسلامية بعد الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) دون أن تكون له صفة الرسالة ، وهو يجمع بين القيادة الدينية والسياسية للمسلمين ، ويستمد سلطته من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ، ويقوم بتنفيذ الشريعة الإسلامية في الدولة في جميع مجالات الحياة وميادينها .

المعنى الثاني ـ المعنى الخاص : والمراد به القيام مقام الخالق في التبليغ بالرسالة الإلهية والولاية على الناس في الحكم والتدبير للشؤون العامة والقضاء ، وتسمى بالخلافة الإلهية ، ويشترط فيها : أن يكون الخليفة عالما بإرادة الله تبارك وتعالى وصفاته العليا وأسمائه الحسنى علما شهوديا لا يخطأ يتلقاه الخليفة من الله تبارك وتعالى بغير واسطة { وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا } لكي يتمكن من التعبير عنها وتحقيق ملاك إعطاء الخلافة له في الأرض بتجسيدها في قيادة بناء حياة الإنسان الفردية والمجتمعية وتشييد الحضارة الإنسانية على أساس النظام الإلهي العظيم ، والخلافة بهذا المعنى لا تكون إلا للأنبياء والأوصياء ( عليهم السلام ) وتقوم على أساس الحكم بالحق وهدفها إقامة العدل بين الناس .

قال الله تعالى : { يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } ( ص : 26 ) .

وقال الله تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } ( الحديد : 25 ) .

المعنى الثالث ـ المعنى العام : والمراد به قيام الإنسان مقام الخالق في عمارة الأرض وتشييد الحضارة الإنسانية السامية على أساس النظام الإلهي العظيم ، وهي الوظيفة العامة الأولى لبني الإنسان في الحياة الدنيا ، والخليفة هو الإنسان الذي يلتزم بمنهج الخلافة الإلهية في عمارة الأرض وتشييد الحضارة الإنسانية السامية في كل زمان ومكان .

قال الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ” من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، هو خليفة الله في الأرض ، وخليفة كتابه ، وخليفة رسوله ” ( كنز العمال . ج3 . ص75 . الحديث : 5564 ) .

والخلافة بهذا المعنى هي محور حديثنا في هذه الليلة المعظمة ، وهي لا تتم إلا إذا كان الإنسان معبرا عن الله ذي الجلال والإكرام فيما استخلفه فيه وهو عمارة الأرض وتشييد الحضارة الإنسانية السامية على ربوعها بتجسيد صفاته العليا وأسماءه الحسنى وفق إرادته التشريعية التي بينها للناس بواسطة أوليائه من الأنبياء والأوصياء ( عليهم السلام ) في بناء الحياة الإنسانية الكريمة والارتقاء بها في معارج الكمال المادي والمعنوي ، وهذا يتطلب ثلاثة أمور ..

الأمر الأول : أن يكون الإنسان عالما بإرادة الله جل جلاله التشريعية وصفاته العليا وأسماءه الحسنى .

الأمر الثاني : أن يكون عالما بشؤون الكون وخواصه .

الأمر الثالث : أن تكون له القدرة على التصرف في الكون والقدرة على الإبداع في التدبير ، وحرية الاختيار للمنهج الذي يسير عليه في الحياة ، لكي يتمكن من أداء حق الاستخلاف بإتباع الإرادة التشريعية لله تبارك وتعالى وتجسيد صفاته العليا وأسماءه الحسنى بإرادته واختياره في تعمير الأرض وتشييد الحضارة الإنسانية على ربوعها ، مما يؤدي إلى ارتقائه في سلم الكمال الإنساني الروحي ، ونجاحه في إقامة حضارة إنسانية رفيعة شامخة على أسس الحق والعدل والخير والفضيلة والعلم والمعرفة ، يظفر فيها الإنسان بالأمن والاستقرار والتقدم والرخاء في الحياة الدنيا ، ويفوز بالسعادة الأبدية في الآخرة .

النقطة الثانية ـ الأساس الذي تقوم عليه خلافة الإنسان :

 يمتاز الإنسان من بين كافة المخلوقات بالعقل والإرادة وحرية الاختيار ، وهذا يؤسس لحركة صعود وهبوط في مكانته المعنوية ومنزلته في الوجود ، فهو يستطيع أن يصعد في حركته التكاملية حتى يتخطى كمال الملائكة كما هو الحال بالنسبة إلى الرسول الأعظم الأكرم محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي تجاوز سدرة المنتهى ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى من العلي الأعلى ، حيث بلغ السبحة ـ وهي الحد الفاصل بين الخالق والمخلوق ـ وهي درجة من القرب لم يبلغها أحد من الملائكة ، فقد توقف الأمين جبرائيل ( عليه السلام ) في رحلة المعراج عند سدرة المنتهى وقال : لو تقدمت أنملة لاحترقت ، بينما تقدم الحبيب محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) منفردا حتى بلغ السبحة ، وهي الحد الفاصل بين الخالق والمخلوق ـ كما قلت ـ فهو أكمل المخلوقين ، وأحبهم إلى الله عز وجل ، وأقربهم إليه ، وأخصهم زلفة لديه ، لا يضاهيه في ذلك أحد من المخلوقين على الإطلاق . ومن جهة ثانية يستطيع الإنسان أن يهبط بإرادته واختياره في حركة السقوط والهبوط حتى ينسلخ من إنسانيته السامية ويهوي إلى مقام الحيوانية السحيقة ، ثم يتخطى إبليـس ( عليه اللعنة ) في خزيه وشيطنته وشره ، فيقوم بما يعجز عنه إبليس من تدمير الخليقة والإفساد في الأرض .

قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ” ابن آدم أشبه شيء بالمعيار : إما ناقص بجهل ، أو راجح بعلم ” ( تحف العقول . ص150 ) .

ومما سبق نتوصل إلى النتائج المهمة التالية ..

النتيجة الأولى : أن الالتزام بشروط الخلافة والسير طبقا للنظام الإلهي في الحياة يمثل مقام الإنسانية الأسمى والأرفع ، وأن هذا المقام يقوم على أساسين ..

الأساس الأول : قدرة الإنسان على تحصيل العلم والمعرفة وقدرته على الإبداع في تسخير الأشياء لمصلحته .

الأساس الثاني : قدرة الإنسان على النمو والتكامل الروحي والمعنوي وسلوك طريق الحق والعدل والخير والفضيلة في الحياة بإرادته الحرة واختياره للنظام الإلهي كمنهج شامل في حياة ، ومن ثم تجسيد الإرادة التشريعية للرب العلي القدير وصفاته العليا وأسماءه الحسنى في عمارة الأرض وتشييد الحضارة الإنسانية السامية ، مما يؤدي إلى إقامة حضارة إنسانية متوازنة وشامخة ماديا ومعنويا .

النتيجة الثانية : أن الإنسان الكامل يمثل الغاية القصوى من خلق الإنسان ، وهو معشوق الله جل جلاله من بين كافة المخلوقات ، وخليفته المطلق في الوجود ، وهو العالم بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا والمعبر عن إرادته في الخلق والتدبير .

النتيجة الثالثة : أن خروج الإنسان عن منهج الخلافة الإلهية كمنهج شامل في الحياة ، يمثل أقصى ظلم من الإنسان لنفسه ، حيث يؤدي إلى انسلاخه من إنسانيته والفساد في الأرض واستحقاقه لغضب الله جبار السماوات والأرض والخلود في النار ، وكان في وسعه أن يبلغ من خلال اختياره لمنهج الخلافة الإلهية كمنهج شامل في الحياة الكمال المعنوي في إنسانيته فيصلح الحياة الاجتماعية للإنسان على وجه الأرض ويحظى بمحبة الرب تبارك وتعالى وقربه ويفوز بالسعادة الأبدية والنعيم الدائم في أعلى الغرف في جنة الخلد في الآخرة .

قال الله تعالى : { ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ . وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } ( هود : 100 ـ 101 ) .

النقطة الثالثة ـ متطلبات الخلافة :

ليكون الإنسان خليفة الله في الأرض بحق وحقيقة يتطلب منه عدة أمور ..

الأمر الأول ـ الشعور بالمسؤولية وتحملها في الحياة :

 لقد منح الله جل جلاله الإنسان على أساس الخلافة الإلهية للإنسان من الطاقات والمواهب والقدرات والخصائص ما يمكنه من الانطلاق في سبيل الحق والعدل والخير والفضيلة وتحقيق ما يريد الله تبارك وتعالى منه أن يحققه في الأرض من التعمير والبناء وإقامة الحق والعدل والمحبة والسلام على ربوعها ، ليسمو ويصعد في سلم الكمال المعنوي والروحي حتى يكون أفضل من الملائكة ، ويشيد حضارة إنسانية متوازنة وشامخة ماديا ومعنويا من شأنها أن تستجيب لكافة احتياجات الإنسان ومتطلبات راحته وسعادته المادية والمعنوية في الحياة .

وتعتبر تلك الطاقات والمواهب والقدرات والخصائص من الأسس التي تقوم عليها سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة ، وقد أودع الله جل جلاله للإنسان ضميرا يدعوه إلى أن يتحمل مسؤولياته الإنسانية على ضوء منهج الخلافة الإلهية للإنسان وتحقيق غاياتها العظيمة والمقدسة في الحياة ، ويؤنبه على التقصير فيها ، فإن استجاب لنداء الضمير وأدى ما عليه من الوظائف والمسؤوليات ارتاحت نفسه وسكن ضميره ، وإلا فهو القلق الذي لا ينتهي ، والسقوط إلى هوة الحيوانية السحيقة ، والشقاء في الدنيا والآخرة .

قال الله تعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } ( الأحزاب : 72 ) .

ومما سبق نتوصل إلى النتائج المهمة التالية ..

النتيجة الأولى : ليس للإنسان الحق في أن يقف موقف اللامبالاة أو على الحياد في ساحات الصراع وفي مواجهة القوى العدوانية المضادة للحق والعدل والخير والفضيلة والحرية والمحبة والسلام الخارجة على منهج الخلافة الإلهية للإنسان في الأرض ، لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس ، فالسكوت عن الحق والعدل حالة شيطانية ومشكلة حقيقية تقف أمام الشعوب التي تتطلع إلى الحرية والاستقلال والعزة والكرامة والتقدم والرخاء في الحياة ، تصل إلى حد الخيانة لأمانة الخلافة الإلهية للإنسان في الأرض ولقضايا الشعوب ، فهي المسؤولة عن ضعف الشعوب وهزائمها وترسيخ الباطل والظلم والاستبداد في المجتمعات والدول ، وذلك لأنها تخذل قوى الحق مما يعطي قوى الباطل والظلم والاستبداد والفساد والرذيلة قوة أمام قوى الحق التي خذلوها بمواقف اللامبالاة غير المسؤولة ، ومن شأن ذلك أن يرسخ وجود تلك القوى الغاشمة في الأرض ، ويمكنها من التسلط وفرض هيمنتها على الناس ، وظلمهم وسحق كرامتهم وإنسانيتهم ، وجرهم إلى الفساد والرذيلة والخطيئة ، وهذا خلاف مقتضى الخلافة الإلهية للإنسان في الأرض ، ويتطلب من الإنسان المؤمن بخط الخلافة الإلهية ومنهجها في الحياة ، أن يقول كلمة الحق التي يؤمن بها عند اختلاف الآراء ، وأن يقف مع الحق عمليا في ساحات الصراع كلها ، وأن يعيش تحديات الرسالة الإلهية في مواجهة التيارات الأخرى على كافة الأصعدة ، ليحرك الواقع في الاتجاه الذي من خلاله يمكن أن تتحقق للإنسان أصالته الإنسانية وكرامته ، ويكون كما أراد الله جل جلاله له في الحياة ، وهذا ما يفعله الشهداء الأبرار بمواقفهم البطولية الشجاعة بالضبط والحقيقة .

النتيجة الثانية : ليس لمن يؤمن بمنهج الخلافة الإلهية في الأرض الحق في أن يمارس دوره بعيدا عن موقع المسؤولية فيقوم بتعطيل الطاقات والمواهب والقدرات والخصائص التي منحه الله تبارك وتعالى إياها أو توجيهها في خدمة الباطل والظلم والشر والرذيلة ، فيعيش الضعف والتخلف والحرمان على الصعيد العلمي والتقني والعمراني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي في الحياة ، ويتسافل في إنسانيته ويهبط من عليائها حتى ينسلخ منها ويسقط في هوة الحيوانية السحيقة وليكون أسوء من إبليس فيما يفعله من الشر وتدمير الحياة الإنسانية على وجه الأرض . 

النتيجة الثالثة : أن مساحة المسؤولية للإنسان وفق منهج الخلافة الإلهية تتسع لتشمل جميع جوانب الحياة وكل قضايا المصير والتحدي والصراع في الحياة على مستوى الدين والدنيا .

يقول الإمام السجاد ( عليه السلام ) في رسالة الحقوق : ” وأعلم رحمك الله : أن لله عليك حقوقا محيطة بك في كل حركة تحركتها ، أو سكنة سكنتها ، أو منزلة نزلتها ، آو جارحة قلبتها ، أو آلة تصرفت بها ، بعضها أكبر من بعض ” ( الصحيفة السجادية ) .

النتيجة الرابعة : أن الإنسان المؤمن الذي يتمسك بخط الخلافة الإلهية ومنهجها في الحياة يعيش الأمل دائما ، ولا يعيش الإحباط النفسي والروحي أمام التحديات والقوى العدوانية المضادة ، ولا يمكن أن يتسرب اليأس إلى نفسه مهما كانت الظروف والصعوبات التي تقف في وجهه ، لأن أبواب الفرج مع القدرة الإلهية مفتوحة ، ولأن اليأس نقيض الإيمان { وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } ويعتبر اليأس من الكبائر في عقيدة المسلمين ، وهذا يتطلب من كل مؤمن بخط الخلافة الإلهية أن يدرس الواقع والصعوبات ، ويبحث عن المخارج والثغرات الموجودة في الواقع والوسائل التي يمكنه الوصول إليها بهدف الإصلاح ، وأن يتحلى بالتقوى والصبر والمثابرة في البحث والتخطيط والجهاد ، ويتوكل على الله عز وجل حتى يحصل على الفرج ويبلغ مبتغاه في الحياة .

قال الله تعالى : { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } ( الطلاق : 2 ـ 3 ) .

وهذا ما يفعله الشهداء بالضبط والحقيقة ، فالشهداء إنما يعيشون بشهادتهم الأمل في الإصلاح ، وليس اليأس كما يفهمه البعض خطأ ، فلو كان الشهداء يشعرون باليأس من الإصلاح أمام الواقع المنحرف الصعب ، ويرون أن لا أمل في إصلاحه ، لما ضحوا بأنفسهم ، لأن تضحيتهم بأنفسهم مع يأسهم من إصلاح الواقع الصعب الفاسد والمتخلف هي تضحية بدون ثمن ، فتضحيتهم بأنفسهم دليل على أنهم يثقون بربهم جل جلاله أشد الثقة ، ويتوكلون عليه حقيقة التوكل وأجداه ، وأنهم يعيشون الأمل ويتوقعون تغير الواقع وإصلاحه من خلال العمل والتضحية والفداء ، ولهذا استشهدوا ، وأن الذي يعيش اليأس والضعف والتخلف الروحي والأخلاقي هو غيرهم لا هم .

الأمر الثاني ـ الطاعة لله جل جلاله والاستقامة على أمره :

الهدف من الخلق وفق منهج الخلافة الإلهية للإنسان في الأرض هو العبودية التامة والطاعة المطلقة لله ذي الجلال والإكرام ، فلم يخلق الإنسان عبثا ، ولم يخلق ليرتكب المعاصي والرذائل ، وإنما خلقه ربه سبحانه وتعالى للعلم والعمل الصالح ، وإظهار مواهبه وقدراته التي منحه الله جل جلاله إياها من أجل البناء والتعمير ، ليحاكي صفات الله ذي الجلال والإكرام وأسماءه الحسنى ، ويعبر عن إرادته التشريعية في الحياة ، فيكون خليفته في الأرض بحق وحقيقة ، ويتمكن من تشييد حضارة إنسانية متوازنة وشامخة على الصعيدين المادي والمعنوي . وقد نهاه ربه جل جلاله عن الظلم والإفساد والإضرار بالخلق والخليقة وعن الخمول والكسل وعن أتباع الهوى والشيطان ، لكي لا ينسلخ من إنسانيته السامية الشامخة ، فيبوء بغضب ربه جل جلاله وسخطه ، ويكون مستحقا لعقابه له في الدنيا والآخرة .

ومما سبق نتوصل إلى النتائج المهمة التالية ..

النتيجة الأولى : أن أول مسؤولية يتحملها الإنسان المؤمن بخط الخلافة الإلهية في الأرض ، هو أن يعيش الإسلام كله : عقيدة وشريعة ومنهجا وهدفا في الحياة ، وهذا يتطلب منه الكفر بالباطل والطاغوت ، وأن يكون متبعا للحق والعدل ومطيعا لأئمة الهدى في جميع جوانب حياته الفردية والمجتمعية ، وإلا فالبديل هو الضياع والضلال والقلق الذي لا نهاية له أمد الحياة والانسلاخ من الإنسانية الحقة ، وخسران الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة .

قال الله تعالى : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ( البقرة : 256 ) .

وقال الله تعالى : { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } ( طه : 123 ـ 124 ) .

النتيجة الثانية : أن قيمة أية أطروحة وقيمة أي موقف تكون بحسب ما يختزن فيهما من العلم الحق والمعرفة الراسخة والخبرة الصائبة في الحياة { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا ً} ( الإسراء : 36 ) ويجب وفق منهج الخلافة الإلهية للإنسان في الأرض ، أن تكون أفعال الإنسان ترجمة صادقة للعلم والمعرفة والخبرة ، ليكون الإنسان مسلما عقلا وقلبا وسلوكا وحركة في الحياة ، وهذا يتطلب أن يتعلم الإنسان المؤمن بالخلافة الإلهية الرسالة الإلهية ، وأن يعيشها بكل جوارحه في مضمونها العقائدي والأخلاقي والشرعي والسياسي والاجتماعي قولا وعملا ، من أجل تحقيق غاياتها العظيمة في الحياة .

النتيجة الثالثة : يجب على الإنسان أن يتدبر ويسأل نفسه عن صحة كل أطروحة يتقدم بها أو يسمعها وصواب كل موقف يتخذه في الحياة على أساس المسؤولية أمام الله جل جلاله والتاريخ وفق منهج الخلافة الإلهية للإنسان في الأرض .

يقول العلامة السيد فضل الله : ” فليست القضية كلمة تقولها ، أو نظرة تلقيها ، أو فكرة تنتمي إليها ، ولكن القضية هي كيف تحرز ذلك كله ، وكيف تجيب ربك عن ذلك كله ” ( الندوة . ج2 . ص99 ) .

فعلى كل من يؤمن بمنهج الخلافة الإلهية للإنسان في الأرض ، أن يكون صاحب رأي وموقف ، وأن لا يذوب في الأشخاص ، وأن لا يكون إمعة ينعق مع كل ناعق ويميل مع كل ريح ، وأن لا يسمح لأحد أو طرف مهما كان بأن يجلبه إلى موقعه أو يستغل قوته وقدراته للوصول إلى أهدافه بغير إرادة منه ، فلا يترك للآخرين أن يفكروا ويحددوا المواقف نيابة عنه ، ليقوم هو بعد ذلك بتحديد مواقفه ويوالي ويخاصم على ضوء تفكيرهم ، فيسمح بذلك أن يدخل الانحراف إلى تفكيره ، والضعف إلى نفسه ، باسم الدين على غير علم أو إرادة منه ، فمن الممكن من خلال الإتباع الأعمى والعاطفي للأشخاص ، أن يرفض الحق ويعاديه على أساس أنه باطل ، ويقبل بالباطل ويعمل به على أساس أنه حق ، وهذا على خلاف مقتضى الخلافة الإلهية للإنسان ، ومما لا يرتضيه عاقل إلى نفسه .

فعلى كل مؤمن بمنهج الخلافة الإلهية للإنسان ، أن يكون صاحب رأي وصاحب موقف ، فيشارك الآخرين في آرائهم ، ويتحمل مسؤولية المواقف المشتركة معهم ، فإن أخطأوا ساهم في تصحيح أخطائهم ، وإن أصابوا ساهم في زيادة بصيرتهم ، وإن ضعفوا ساهم في تقويتهم ، وإن تصلبوا في أتباع الحق والدفاع عنه ساهم في زيادة تصلبهم وقوتهم في ذلك .

وهذا يتطلب منه ثقة كبيرة بالنفس تتناسب مع حجم المسؤولية التي يفرضها منهج الخلافة الإلهية وخطها على الإنسان المؤمن بها في الحياة ، كما يتطلب منه تجردا وحرية في التفكير وبعدا عن المزاجية بحثا عن الحق في الأطروحات والصواب في المواقف ، وأن تكون أطروحاته ومواقفه في الحياة في غاية الوضوح والشفافية ، لا لبس فيها ولا غموض ، فهو يضع النقاط على الحروف مع اختلاف الرأي في المسائل والقضايا الكبرى والحيوية في الحياة ، ويضع الفواصل بين أطروحاته ومواقفه وأطروحات المخالفين لخط الخلافة الإلهية والمعادين لها ومواقفهم في الحياة ، من أجل أداء حق أمانة الاستخلاف عليه ، وخدمة قضايا الإنسان الكبرى ، وتحقيق واقع أفضل للإنسان تحفظ فيه إنسانيته وكرامته ، ويشعر فيه بالأمن والاستقرار والسعادة والرخاء .

أيها الأحبة الأعزاء : أعلموا بأن كل انتماء لا تتحدد أطروحاته ومواقفه بوضوح لا لبس فيه وتوضع فيه النقاط على الحروف ، هو انتماء ضعيف لا قيمة له ولا جدوى منه في الحياة .

النتيجة الرابعة : أن يكون المؤمن بمنهج الخلافة الإلهية والملتزم عمليا بها أول العاملين بالحق والعدل والمتحملين لمسؤولية الدعوة إليهما ، فهو لا ينتظر تحرك الآخرين ليتلقوا الصدمات والخسائر من القوى المعادية المضادة دونه ثم يكون هو المتحرك ثانيا أو ثالثا ليكون في مأمن من الصدمات والخسائر ، ولكنه دائما في أول القافلة ، ليكون أرضا الناس عند جبار السماوات والأرض ، وأقربهم منزلا منه ، واخصهم زلفة لديه ، وهذا ما يفعله الشهداء بالضبط والحقيقة ، وهم الحجة على الناس في ذلك ، وقدوتهم الحسنة فيه .

الأمر الثالث ـ صيانة عزة الإنسان وكرامته في الحياة :

إن معنى أن نكون خلفاء الله جل جلاله في الأرض يعني أننا مطالبون بإصلاحها وإقامة الحق والعدل فيها وتثبيت حاكمية أولياء الله ( عليهم السلام ) على ربوعها ، ورفض الباطل وحكومات الطواغيت والظلم والإفساد والإذلال والاستضعاف والاستعباد ومقاومتها بكل وسيلة ، ليتمكن الإنسان من أن يعيش إنسانيته السامية الرفيعة والتحليق في أجواء السعادة والكمال المادي والمعنوي ، فهذه إرادة الله عز وجل التي فعلّها الشهداء على أرض الواقع قولا وعملا ، وهي هدف الرسالات السماوية كلها ، وعليه فإنه لا حق للإنسان وفق منهج الخلافة الإلهية للإنسان في التساقط والتنازل والقبول بالأمر الواقع ، بحجة أنه لا يملك تحريك الواقع كيف يشاء ، فإن النتيجة الحتمية لذلك : هي توسع جبهة الباطل والشر واستيلاء الظالمين والأشرار على أزمة الأمور وإحكام سيطرتهم على المجتمع ، وإذلال الإنسان وهتك حرماته ، وهذا خلاف ما تقتضيه خلافة الإنسان في الأرض وتهدف إليه رسالات السماء كلها ، ولهذا يرفض الشهداء الأبرار ذلك ويقاوموه بكل وسيلة ، ويضحوا بأنفسهم من أجل عزة الإنسان وكرامته وتحقيق أهداف الرسالات السماوية العظيمة ، ليوأدوا حق أمانة الاستخلاف عليهم ، وهم حجة علينا في ذلك والقدوة الحسنة لنا فيه .

قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ” إن الله فوض إلى المؤمن أمره كله ولم يفوض إليه أن يكون ذليلا ، أما تسمع الله يقول عز وجل : { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } فالمؤمن يكون عزيزا ولا يكون ذليلا ، فإن المؤمن أعز من الجبل ، الجبل يستقل منه بالمعاول ، والمؤمن لا يستقل من دينه بشيء ” ( البحار . ج100. ص63 ) .

وهذا يدل على أن صفة العزة أصيلة في ذات المؤمن بما هو مؤمن ، مما لا يسمح له بالضعف أمام الإغراءات والتهديدات التي تريد أن تسقط إنسانيته . فأن تكون عزيزا يعني أن تكون قويا وثابتا وصبورا أمام الإغراءات والتهديدات ، وأن لا ينفذ الضعف إليك بأي وسيلة كانت فينفذ إليك الذل من خلاله ، فإن الذل إنما ينفذ إلى الإنسان من خلال الضعف أمام الإغراءات والتهديدات ، فتسقط بذلك ذاته وإنسانيته وموقعه في الحياة ، وهذا ما نقرأه بوضوح في سيرة الشهداء الأبرار الذين يعيشون الاستعداد كل الاستعداد للتضحية والفداء من أجل الحق والعدل والخير والفضيلة والحياة الإنسانية الكريمة ، ويرفضون الباطل والظلم والفساد والإذلال والاستضعاف للإنسان من قبل المستبدين والمستكبرين في الأرض ويقوموه بكل ما لديهم من قوة ووسيلة بدون خوف أو وجل أو تردد .

قال الله تعالى : { الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ . الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ . إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } ( آل عمران : 172 ـ 175 ) .

ومما سبق نتوصل إلى النتائج المهمة التالية ..

النتيجة الأولى : أن الإنسان المؤمن الذي امتلأ قلبه وعقله بالإيمان ، وارتبطت حركته ومواقفه في الحياة بمنهج الخلافة ، لا يخاف من غير الله جل جلاله ، ولا يسقط أمام الإغراءات والتهديدات مهما كانت ومهما كان مصدرها ، وهذا ما يفعله الشهداء بالضبط والحقيقة .

قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ” إن المؤمن أعز من الجبل ، الجبل يستقل منه بالمعاول ، والمؤمن لا يستقل من دينه بشيء ” ( البحار . ج100 . ص63 ) .

النتيجة الثانية : أن الخوف من غير الله جل جلاله هو خوف شيطاني ، وأن الذين يخوفون الناس بغير الله هم أولياء الشيطان ، الذين لا يمتلكون أية قاعدة فعلية للقوة النفسية والروحية في داخل أنفسهم ، ولهذا فهم يخافون ويخوفون ، وهذا ما جانبه الشهداء وطهروا أنفسهم الزكية من رجسه .

النتيجة الثالث : يجب التمييز بين الخوف والحذر ، فالخوف حالة مرضية تسقط الإنسان إلى الهاوية ، والحذر يحمي الإنسان من السقوط إلى الهاوية .

وهنا ينبغي التنبيه إلى أن الإنسان قد يقع بجسده تحت طائلة الاستبداد والظلم والإذلال والاستضعاف والاستعباد ولكنه يملك عقله وإرادته ، فيرفض ذلك ويقاومه بشدة ويسعى إلى تغييره بكل وسيلة وحزم وثبات . فالإنسان ليس مجرد جسدا يحبس أو يقهر هنا أو هناك ، وإنما هو عقل وقلب وروح وإرادة ومواقف تعبر عن حقيقة ذاته وتقرر واقعه الحقيقي ومصيره الفعلي في الدنيا والآخرة ، وهذا ما تقتضيه الإنسانية الرفيعة ومنهج الخلافة الإلهية في الأرض ، فالممنوع عقلا وشرعا : هو الضعف والسقوط أمام التحديات وعدم مقاومتها ، وليس وقوع الإنسان تحت طائلة الظلم والإذلال والاستضعاف بغير إرادته مع رفضه ومقاومته لها والسعي الجاد إلى تغييرها واستبدالها بواقع أفضل لنفسه وللآخرين ، لأن التكليف بما هو خارج عن الإرادة ، هو تكليف فوق الوسع والطاقة ، وهو تكليف غير واقعي لا يقبله العقل ولا الدين.

يقول العلامة فضل الله : ” إن حريتك لن تأتيك من الخارج ، وإن الحرية لا تصدر بمرسوم ، فأنت حر حتى لو كنت في زنزانة لا تتسع إلا لجسدك ما دمت تعيش حريتك في إرادتك ، وفي أن ترفض ما يفرض عليك بحيث تستطيع أن تقول : ( لا ) عندما يريد الآخرون أن يستعبدوك لتقول : ( نعم ) أو عندما يريد الآخـرون أن يستعبدوك لتقول : ( لا ) فلتكن ( نعمك ) منطلقة من إرادتك ومن حريتك في الإيجاب و ( لاؤك ) متحركة في خط قدرتك على السبب .

وقال : إنك قد تكون عبدا حتى لو كنت تملك حرية الحركة في الساحات كلها ، وذلك عندما لا تملك إرادتك ، وقد تكون حرا وأنت لا تستطيع أن تحرك رجليك في الزنزانة ، لأنك تملك إرادتك ، فأن تكون حرا يعني أن تكون إرادتك حرة وأن تكون الإنسان الذي يصبر على الأذى ويصبر على الحرمان في سبيل القضايا الكبرى ” ( الندوة . ج1 . ص24 ـ 25 ) .

والخلاصة : أن خط الخلافة الإلهية في الأرض يقتضي إقامة الحق والعدل ورفض الباطل والظلم والإذلال والاستضعاف ومقاومتها بكل وسيلة مشروعة ، فليس للإنسان الحق في إذلال إنسانيته التي أكرمها الله عز وجل في معناها الوجودي والحركي ، فلابد للإنسان المؤمن بخط الخلافة الإلهية أن يستنفر مخزون العزة الإيمانية في نفسه ، ليكون عزيزا في فكره ووجدانه ، وعزيزا في سلوكه ومواقفه كلها ، وعزيزا في واقعه وتطلعاته في الحياة على اختلافها ، وهذا ما نجده بحق وحقيقة لدى الشهداء الأبرار .

أيها الأحبة الأعزاء : إن الشهيد الحقيقي هو الإنسان الذي يسير على منهج الخلافة الإلهية في جميع شؤون الحياة ، ويتحلى بما تفرضه من الشروط والمبادئ والقيم ، وهذا هو الطريق الوحيد الذي يمكن أن يسلكه الإنسان من أجل عزته وكرامته وسعادته وكماله الأسمى في الحياة ، والفوز برضا الرب جل جلاله والجنة ، وهو مستعد للتضحية والفداء في هذا السبيل . فالشهيد يعرف ربه تبارك وتعالى ، ويعرف نفسه ومكانته العالية المتميزة في الوجود ، ويعرف دوره وطريقه في الحياة ، وأنه يسعى للعمل بطاعة الله عز وجل في كل شؤون الحياة الفردية والمجتمعية ، ويعمل من أجل الانتصار على عوامل الضعف في داخل نفسه التي تولدها شهوات النفس وضغوط الخارج ، ويتحمل مسؤوليته في خط الحياة الإنسانية الصاعدة ، فيتجرد من مشاعر الأنانية ، ويتحمل مسؤوليته الإنسانية العامة نحو الآخرين ، ويقوم بملاحقة الواقع بهدف تركيزه على هدي الصراط المستقيم ومنهج الخلافة الإلهية للإنسان في الأرض ، وحماية المجتمع والدولة من الانحراف والتخلف والضعف والفساد ، ولا يسمح لأي قوة منحرفة أي كانت ومهما كانت ، بأن تدمر إنسانيته وتعطل دوره في الحياة ، وهذا هو ما يجب على كل إنسان يؤمن بمنهج الخلافة الإلهية أن يقوم بتعميقه في داخل نفسه كجزء من التربية الروحية بهدف إيجاد الشخصية الإسلامية الفاعلة في الحياة ، التي تتطلع إلى واقع إنساني رفيع ، تتلألأ فيه أنوار الحق والعدل والخير والفضيلة والخلافة الإلهية العظيمة ، والتي يمثل الشهداء النماذج الساطعة فيها بحق وحقيقة تامين .


المناسبة

  • المناسبة : تأبين شهداء قرية كرزكان.
  • المكان : قرية كرزكان – ساحة مأتم الشباب.
  • اليوم : مساء الجمعة – ليلة السبت.
  • التاريخ : 16 / ربيع الثاني / 1428هج.
  • الموافق : 4 / مايو ـ / 2007م.
المصدر
كتاب الشهادة رحلة العشق الإلهي |‌ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟