مواضيع

التوبة

التوبة باب الله الذي فتحه لعباده ليعفو عنهم بعد أن أسرفوا في المعاصي ..

والتوبة باب الأمل وعدم اليأس؛ فمهما عظمت الذنوب فعفو الله أعظم ..

والتوبة ماء الطهارة للقلوب، ونور الطريق للأرواح، والحب لله ..

أحبتي ..

إن «الندم» على ما فعلناه من المعاصي والزلّات ..

وإن العزم على ترك ذلك وعدم العود للسيئات ..

هي «حقيقة التوبة» التي توجب محبة الإله والقرب من الله ..

فلنذرف دموع الندم، ولنبكي بكلّ ألم، ولنتأوه إذا الليل أظلم ..

ولنكن صادقين مع الله بأن لا نعود مرة ثانية فنرتكب الذنب والإثم ..

وَلَكَ يَا رَبِّ شَرْطِي أَلاّ أَعُودَ فِي مَكْرُوهِكَ ..

وَضَمَانِي أَلاّ أَرْجِعَ فِي مَذْمُومِكَ، وَعَهْدِي أَنْ أَهْجُرَ جَمِيعَ مَعَاصِيكَ ..[1]

أخي ..

إن التوبة ليست مجرد لقلقة لسان بأن تقول: استغفر الله! بل التوبة لها أركان، ولها شروط ولها كمال.

فـ«أركان التوبة» هي ما تمثل حقيقتها، ومن دونها لا تحقّق لها.

و«شروط التوبة» هي الأمور التي إن توفرت كانت التوبة مقبولة بها.

و«كمال التوبة» هي الأمور التي تجعل التوبة كاملة وفي أعلى مستواها.

أركان التوبة

إلهِي إنْ كانَ النَّدَمُ عَلَى الذَّنْب تَوْبَةً، فَإنِّي وَعِزَّتِكَ مِنَ النَّادِمِينَ[2].

إن التوبة تتقوم بركنين أساسيين هما: «الندم» و «العزم»، ومن دون هذين الركنين فإن التوبة لا تتحقق ولا يقال بأن فلاناً قد تاب إذا لم يحصل عنده الأمران معاً.

  1. الندم على ما فات: فعلينا أن نندم على المعاصي التي قارفناها، ونتأسف على جرأتنا على ربنا، ونبكي ندماً على ماضينا و لنتألم – في داخلنا و وجداننا – كلما ذكرنا معاصينا .. ولنعش الحسرة، ولنحرق بـ«نار الندم» آثار ما عصينا وتعدّينا، ونغسل بـ«دموع الندم» مخلفات معاصينا وسيئاتنا.
  • العزم على عدم العود: وعلينا أن نعزم ونقرر ونتخذ عهداً بأن لا نعود مرة ثانية لتلك المعاصي، فلا نفكر فيها ولا نخطو خطوة تجاهها، بل نعلن هجرانها وعدم الاقتراب منها؛ لأنك إذا ندمت على المعصية ولكن كنت عازماً على العود لها فإنك لم تتب ولن ينفعك الندم، وستعود في أحضان الشيطان مرةً أخرى!

واجعل ندمي على ما وقعت فيه من الزلات، وعزمي على ترك ما يعرض لي من السيئات، توبةً توجب لي محبتك يا محب التوابين ..[3]

قصة بشر الحافي

يروى أن رجلاً كان يعيش حياة الغناء والفسوق والحرام، وكان يقعد في بيت الحفلات المحرمة، وفي إحدى الليالي، وبينما كانت الخادمة تخرج الأوساخ من المنزل، إذ التقت برجلٍ كان عابراً على طريق بيت ذلك الرجل الفاسق، فسألها .. وقد كانت أصوات الغناء مرتفعة: هل صاحب هذه الدار حرٌ أم عبد؟ فأجابت الخادمة متعجبة: بالطبع هو حرٌ؛ فهو يملك الأموال والإماء و…، فقال لها الرجل: نعم، لو كان عبداً لأطاع مولاه!!

ثم رجعت الخادمة إلى المنزل، فسألها سيّدها: لم تأخرت خارج الدار؟ فقالت: صادفت رجلاً وقال لي: هل صاحب هذه الدار حرٌ أم عبد؟ فقلت له: حرٌ. فقال لي: لو كان عبداً لأطاع مولاه! ثم ذهب ذلك الرجل. فهذا هو سبب تأخري خارج الدار.

فسألها عن صفاته ومواصفاته، فعرف أن ذلك الرجل هو الإمام الكاظم (علیه السلام)، فخرج من داره حافي القدمين وهو يركض من أجل أن يصل إلى الإمام (علیه السلام)، فلمّا وصل إليه انكب على قدميّ الإمام وهو يبكي و يذرف دموع الندم ويُعلن التوبة بين يدي الإمام (علیه السلام)، وأنه لن يرجع إلى المعاصي مرة ثانية.

هذا الرجل التائب هو «بشر الحافي» الذي تحول إلى إنسانٍ آخر، فبعد حياة اللهو والمعصية، صار من كبار العابدين والزاهدين من أهل الله المخلصين.

وَانْقُلْنِي إِلى دَرّجَةِ التَوْبَةِ إِلَيْكَ وَأَعِنِّي بِالبُكاءِ عَلى نَفْسِي، فَقَدْ أَفْنَيْتُ بِالتَّسْوِيفِ وَالآمالِ عُمْرِي، وَقَدْ نَزَلْتُ مَنْزِلَةَ الآيِسينَ مِنْ خَيْري ..

فَمَنْ يَكُونُ أَسْوَأ حالاً مِنِّي اِنْ أَنا نُقِلْتُ عَلى مِثْلِ حالِي إِلى قَبْرٍ لَمْ اُمَهِّدْهُ لِرَقْدَتِي، وَلَمْ أَفْرُشْهُ بِالعَمَلِ الصَّالِحِ لِضَجْعَتِي ..[4]

شروط التوبة

وبعد تحقق أركان التوبة بحصول «الندم» و «العزم» فإنه ولكي تكون التوبة مقبولة عند الله تعالى لابد من تحقق أمرين: «إرجاع حق الله تعالى» و «إرجاع حقوق الناس»، ومن دون هذين الأمرين فإن التوبة لا تكون مقبولة.

  1. إرجاع حق الله تعالى: فإذا كانت المعصية من قبيل ترك الصلاة وعدم صوم شهر رمضان و…، فإنه ولكي تقبل توبتك لابد لك أن تقضي ما فاتك من الصلوات الواجبة، وعليك أن تقضي ما فاتك من صيام شهر رمضان وهكذا تقوم بقضاء الواجبات كلها التي ضيعتها أيام الشقاء والمعصية، فإذا فعلت ذلك فإن الله سيقبل توبتك.

أخي ..

لا يدخل في قلبك اليأس ولا تقل: عليّ صلوات كثيرة فكيف لي بقضائها؟ وعليّ واجبات متعددة فكيف أقدر على تداركها؟! فأنت إذا كنت صادقاً في التوبة فإن الله تعالى سوف يُسهّل عليك كلّ عسير، ويعينك على جبران كل كسير، فثق بالله وتوكل عليه وابدأ العمل من الآن ولا تتهاون وتسوّف إلى الغد وما بعده.

قصة شعوانة

يُنقل أن امرأة فاسقة كانت تسمى «شعوانة»، وكانت معروفة بالفسق والمعصية، وكانت في أحد الأيام تمشي مع خدمها، وإذا بصوت بكاء يخرج من منزلٍ، فتعجبت من ذلك، فأرسلت خادمتها لتأتي لها بالخبر، فذهبت الخادمة إلا أنها لم ترجع! فأرسلت خادمة ثانية فذهبت ولم ترجع أيضاً! ثم أرسلت الثالثة وقالت لها: اذهبي ولكن يجب عليك أن ترجعي بسرعة، فذهبت الخادمة ورجعت وهي تبكي وتقول لـ«شعوانة»: سيّدتي ما هذا بمجلس بكاءٍ على الأموات، إنه مجلس بكاء على الأحياء!! فهناك واعظٌ يعظُ الناس ويذكّرهم بالآخرة وجهنم والنار، ويدعوهم إلى التوبة قبل الممات .. فقررت «شعوانة» أن ترى هذا المجلس بعينها، فلمّا دخلت رأت كيف أن الناس تبكي على ذنوبها ومعاصيها، فتأثرت وقررت أن تتوب فتوجهت إلى الواعظ وقالت له: أنا امرأة عاصية فهل لي من توبة؟ فقال لها: نعم. فقالت له: لكن ذنوبي عظيمة! فقال لها: إن تبت يقبل الله توبتك. فقالت له: لكن لا أحد جاء بمثل ما جئتُ به من معاصي، فهل لي من توبة؟! فقال لها: يتوب الله عليك ولو كانت ذنوبك كذنوب «شعوانة»! فبكت وقالت: أنا «شعوانة»!!

فتابت «شعوانة» توبةً نصوحة، وأدّت ما عليها من واجبات، وقضت ما فاتها من فروض، واشتغلت بالعبادة والبكاء حتى صارت من العابدات البكّاءات، وفي أحد الأيام وبينما كانت تنظر إلى المرآة شاهدت كيف نحل جسمها، فقالت: آه من نار جهنم وكيف يتحمل هذا الجسم العذاب؟! فسمعت صوتاً يقول لها: أنتِ من أهل الجنة ..

  • إرجاع حقوق الناس: فإذا كانت عليك حقوق تجاه الناس، فإن الله تعالى لا يقبل منك التوبة إلا بعد أن ترجع كلّ حق إلى صاحبه، فإذا سرقت مالاً من شخص فالتوبة لا تُقبل إلا بردِّ المال له، وإذا كسرت نافذة جارك، فلابد أن تعوضه أو أن يرضى عنك .. وكذلك إذا اغتبت شخصاً، فعليك أن تطلب منه الصفح والعفو، وإذا آذيت صاحبك أو استهزأت بزميلك و سكبت ماء وجهه، فعليك أن تعتذر إليه وتصلح ما أفسدته، ولو شهّرت بشخصٍ أو أظهرت عليه الشائعات فأنت المسؤول عن جبران كل ما دمّرت ..

أخي ..

قد يتوب الله عليك بالنسبة إلى حقوقه «حق الله»، ولكن لن يتوب الله عليك بالنسبة لـ«حقوق الناس» حتى يسامحك الناس. وإذا لم يسامحوك في الدنيا فسوف يوقفونك على الصراط في يوم القيامة، عند محطة المظالم ويا له من هولٍ عظيم ومُخيف!

قصة أخذ المسواك

يُنقل أن رجلاً صالحاً توفي، وبعد عام رآه صاحبه في المنام، فسأله عن أحواله في ذلك العالم، فقال الرجل الصالح: أنا من أهل الجنة ولله الحمد، و لكني ومنذ عام موقوف لا يسمح لي بالحراك بسبب فعلٍ في الدنيا: ففي يوم من الأيام وأنا أسير في الطريق مررت على بضاعة شخص ومن دون إذنه أخذت عوداً لأستاك به (مسواك)، وها أنا اليوم محبوس على هذا (العود) منذ عام، ويسألوني: لماذا أخذت العود من غير إذن صاحبه!!

أحبتي ..

أن «حقوق الناس» كثيرة جداً، فتعرّف عليها واحذر أن تنتهكها، فإذا اعتذر إليك أحدٌ فاعذره، وإذا ظهر لك عيبٌ فاستره، وإذا طلب منك العون فأعنه، وإذا قدّم لك خدمةً فاشكره، وإذا كان مظلوماً فانصره، وإذا مرض فقم بعيادته ..

كمال التوبة

إن الذنوب لها تأثير على «روح العاصي»، فحتى لو تاب الإنسان بتوبةٍ حقيقية وقبلت منه التوبة، إلا أنه ولأجل التطهير الكامل من آثار الذنوب، لابد من القيام بأمورٍ تعد من «كمال التوبة»:

أن نذيق «البدن» ألم «الطاعة»، كما أذقناه حلاوة المعصية ..

أن نذيب اللحم الذي نبت على السُّحت، حتى يلتصق الجلد بالعظم، ثم ينبتُ بين الجلد والعظم لحمٌ جديد ..

أحبتي ..

إن الذي يُقلع عن التدخين، فإنه يواجه في أول الأيام الحنين والرغبة للرجوع له؛ وذلك لأن مخلفات التدخين ما زالت باقية في دمه وجسمه. وما لم يتنظف الجسم بشكلٍ كاملٍ منه، فإن احتمال الرجوع للتدخين مرةً ثانية يبقى ممكناً وقائماً!

كذلك الذي يُقلع عن المعاصي، خصوصاً المعاصي التي كان يدمن عليها، فإن المعصية لها أثر على الروح والقلب، وهذا الأثر قد لا يزول بسهولة أو بسرعة، بل يحتاج الأمر إلى مدةٍ من الزمان، أو إلى بعض الأعمال حتى يزول هذا الأثر السيء الذي خلّفته المعاصي. وما دام الأثر باقياً. فإن احتمال رجوع «التائب» إلى المعاصي يبقى قائماً!!

أخي .. كما أذقت البدن حلاوة المعصية حيث سهرت على الغناء أو انشغلت بمشاهدة الأفلام المحرّمة .. فعليك أن تذيق البدن ألم الطاعة فاسهر على قراءة القرآن والدعاء، وانشغل بصلاة الليل و…؛ حتى تزول تلك السموم والآثار المظلمة للمعاصي، وتحلّ محلها آثار الطاعات النيّرة وتنزل عليك الفيوضات الساطعة ..

فإذا غلبتك الشهوة وأخذت ما تشتهي .. فعاقبها بصيام نهارٍ حتى ترعوي ..

وإذا قادتك الشهوة إلى سهر المعصية .. فجازها بالعبادة والمناجاة عند السحر ..

قابِل المعصية بالطاعة .. ولا تُعطي النفس كلّ ما تهوى ..

قصة صاحب الأصابع المحروقة

يُنقل أن عابداً كان يعيش في خارج المدينة، منشغلاً بالعبادة وتزكية النفس وتربيتها، وفي ليلةٍ ممطرة شديدة البرد، وبينما هو وحيدٌ في البيت يتعبد، وإذا به يسمع طارقاً يطرق الباب! فتوجه خلف الباب وسأل: من الطارق؟ ويأتي الجواب: أنا امرأة قد تِهتُ الطريق حتى أظلمت الدنيا ونزل المطر، فهل تقدر على مساعدتي بأن أبيت هذه الليلة وغداً صباحاً أرحل؟ فتحيّر العابد ماذا يعمل؟! أيدخلها ويحميها من المطر والليل الخطير، لكن المشكلة أنه وحيد في الدار وهي امرأة؟ فلم يكن له خيار إلا أن تبقى عنده هذه الليلة. ولكنه ظل ساهراً الليل كله ولم ينم، وكان بجنبه «موقد من النار» وكلّما جاء له الشيطان وضع إصبعاً على النار، فيتذكر نار جهنم، فينصرف فكره عن المرأة، وهكذا كان يعمل حتى احترقت كل أصابعه!!

فلمّا طلع الصباح قال لها: قومي في حفظ الله، فقد احترقت أصابعي!!

أخي .. إن هذا العابد كان شديد المراقبة لنفسه، فكان يحاسب حاله حتى على مستوى التفكير في المعصية والخاطر السيء، فكان على استعداد بأنّ يحرق أصابعه بنار الموقد، فتذوق ألم العذاب المانع من لذة المعصية. ومن أعطى نفسه كلّ ما تشتهي وتهوى فإنه سيندم بعد الممات! ومن راقب نفسه وكان دقيقاً في كل ما يفكّر ويفعل، عاش الأمان والطمأنينة والسكينة يوم القيامة ..

أسالك الأمان .. <يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ 88 إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ>[5]

أسالك الأمان .. <وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا>[6]

أسالك الأمان .. يوم <يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ>[7]

أسالك الأمان ..<يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ 34 وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ 35 وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ 36 لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ[8])[9]

أحبتي ..

وأنتم تعيشون هذه المحنة، وتقضون في السجن الليالي المظلمة ويقاسي شبابكم ألم الحديد، وغربة الطوامير، وحرمان الزنازين، فاذكروا على الدوام بأنكم في عين الله وفي كنف رعايته وحمايته ولطفه ..

السجن: محراب العبادة والصمود، والتكامل في الإنسانية، والفوز بالجنة ..

السجن: وإن طالت عذاباته وشدائده ومدته فإنه سيأتي يوم فراقه ..

السجن: قد يكون طريقاً للبعض إلى التسافل والنار، والآخرين للتكامل والجنة ..

نفسُ السجين تسبيح، وإقامته في السجن عبادة ..

أحبتي .. حياة السجن هي دورةٌ تدريبية من الله تعالى لصناعة أوليائه الصالحين ومحطة خاصة لعروج أهل الله المرابطين وفرصة استثنائية كي نصحح مسار الحياة ونُصلح ما أفسدناه غافلين، وحياة السجن نعمةٌ إلهية لمن عرف قدرها، وعرف كيف يستفيد منها ..


[1]- الصحيفة السجادية

[2]- الصحيفة السجادية، مناجاة التائبين

[3]- الصحيفة السجادية

[4]- دعاء أبي حمزة الثمالي

[5]- الشعراء: 88-89

[6]- الفرقان: 27

[7]- الرحمن: 41

[8]- عبس 34-37

[9]- مناجاة الإمام علي (علیه السلام)

المصدر
كتاب إلى أحبتي | الشيخ زهير عاشور

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟