نقد النسبية الفكرية
جدول المحتويات
تمهيد
قبل الإجابة على أطروحة النسبية لا بُدّ من ذكر مقدمة هامة في المقام حاصلها: أنّه يُطرح في مباحث علم المعرفة أنّه هل يمكن أن نعلم ونجزم بالأشياء أو لا؟
والصحيح أنّه يُمكن أن نجزم ونعتقد بالأشياء، مع حفظ الاختلاف في مستويات العلم بين المعرفة الحسّية والمعرفة العقلية، وعلى كل حال، فيقف في القبال من يرى بأنّ حصول العلم بالأشياء أمرٌ مستحيل!
وهناك من خفّف الطرح وقال: بأنّنا نشك في قدرتنا على التصرف والعلم بالأشياء «مذهب الشك»، وهذه سفسطة على صعيد الفكر والعلم.
وجود الحقائق الثابتة
توجد بعض الحقائق الثابتة التي لا يشك فيها أحدٌ والتي لا يمكن أن تتغير، ومثال ذلك: المسائل الرياضية؛ فهل أنّ حاصل جمع ( 1+1 ) والذي هو العدد (2) سوف يتغير يوماً من الأيام؟
وهل ترابط العلوم مع بعضها البعض وتغيّر نظرية في الفيزياء – مثلاً – سيؤدي إلى أن يكون حاصل (1+1) يساوي (4) مثلاً!
إذاً، النّسبية المطلقة التي ينادي بها هؤلاء لايمكن الالتزام بها.
الخطأ في العلوم الحسية والعقلية
وقوع الخطأ في بعض العلوم، لايعني لزوم القول بالنسبية؛ وذلك لأنّ المعيار لحقّانية العلوم الحسيّة هو العلوم العقلية كما بُيّن ذلك مفصلاً في أبحاث نظرية المعرفة.
والعلوم العقلية على قسمين: بديهية ونظرية، ولا بُدَ من إرجاع النظرية إلى البديهية، والبديهيات غير قابلة للخطأ.
والاختلاف الواقع بين العلماء هو اختلاف واقع في «النظريات» والمطالب غير البديهية، وأما «البديهيات» – كاستحالة اجتماع النقيضين – فهو أمرٌ لا يُمكن أن يقع الاختلاف فيه بين العلماء.
والحاصل أنّه توجد مسائل كثيرة تقبل التغيّر، بل التغيّر حاصلٌ فيها بالوجدان، كما نلاحظ ذلك كثيراً في مسائل العلوم المتغيرة، ولكن هناك مسائل كثيرة أيضاً لا تقبل التغيّر، فهي ثابتة وغير قابلة للتّغيّر، فالنسبية لا يُمكن الالتزام بها في كل مسائل الحياة: فهل يمكن الاستغناء عن الماء؟ وهل يوجد له بديل لرفع العطش؟ وهل إنسان القرن الواحد والعشرين أصبح مستغنياً عن الهواء والأكسجين؟
فهذه الحقائق – وغيرها كثير – مما لا تقبل النسبيّة ومما تتّصف بالثبات والاستمرار.
النسبيةّ في القيم
وهناك من يطرح النسبية على صعيد القيم والسلوك العلمي: حيث لا يرون الثّبات في سلوكٍ خاص بأنّه صحيح أو أنّه غير صحيح، بل يقولون: أنّه قد يكون صحيحاً في زمانٍ وقد يكون غير صحيح في زمانٍ آخر، وقد يكون مطلوباً في فترة وقد يكون مرفوضاً في فترة أخرى.
ومثال ذلك: إنّ العلاقة غير المشروعة بين الرجل والمرأة كانت غير صحيحة وكانت مرفوضة في الزمان السابق، ولكن الآن ومع تغيّر الظروف فإنّ العلاقات غير المشروعة ليست مرفوضة فحسب بل اعتُبرت من علامات تطوّر المجتمع الذي يحتوي على مثل هذه العلاقات!
واتّصاف المرأة بالعفاف ولبسها للحجاب كان سابقاً يدل على ميزة إيجابية، ولكن التهتّك والسفور يدل اليوم على تميزها!
والناس هم الذين يضعون القيمة الإيجابية أو السلبية على الأشياء:
- فتارة يرون التّقدم في شيء، وبعد مُدّة يرون التخلّف في نفس ذلك الشيء!
- وتارة يدعون للعمل بشيء، وبعد مُدّة قد ينهون عنه ويعاقبون على فعله!
فالناس هم المحور في إضفاء القيمة والاعتبار بالأشياء.
والنتيجة أنّه لا يمكن الالتزام بدين معيّن، والإسلام غير قابل للعمل به؛ وذلك لأنّ الثبات في الدين يتنافى مع التغيير والنّسبيّة، والحياة تعيش التغير والتّطور والتّبدل، فكيف يمكن التعايش مع دين ثابت في قيمه غير متغير في معاييره؟!
والذين يدعون إلى الدين والتّمسك بأحكامه هم في الواقع يعيشون التحجّر وعدم مواكبة المتغيرات، بل هو جرٌّ للمجتمع لحياة القرون الوسطى المظلمة!
نقد النسبية في القيم
بين الحقيقة والاعتبار
إنّ الدين الإسلامي الذي يحتوي على الأحكام والتشريعات، كوجوب الصلاة والصوم والحج و…، وحرمة الزنا والربا والغيبة…إلخ، فإنّ هذه التشريعات الاعتبارية تستند إلى حقائق وواقعيات وهو ما يعبّر عنه بلغة أصولية: «أن الأحكام تابعة لملاكاتها».
فحرمة شرب الخمر ناتجة من وجود ملاك المفسدة في شربه، فبسبب المفاسد العظيمة التي تترتب على شربه فإنّ الله تعالى حرّمه.
فالمفسدة الشديدة – وهو أمرٌ حقيقي وواقعي – هو ملاك في إصدار القانون والتشريع بحرمة الخمر.
فالتحريم لم يكن جُزافاً واعتباطاً ومن غير مستند واقعي وحقيقي.
ووجوب الصلاة ناتج من وجود مصلحة شديدة في فعلها والاتيان بها، ومفسدة شديدة في تركها وعدم الإتيان بها، ولذلك كان التّشريع بوجوبها، فهذه المصلحة الشديدة في تحقق تكامل الإنسان هو أمرٌ واقعي وهو الملاك في إصدار هذا القانون والتشريع بوجوب الصلاة.
والحاصل أنّ الأحكام تستند إلى ملاكات واقعية وحقيقية، والله(عز وجل) هو الذي يعلم بمثل هذه الملاكات، وهو الذي يكشفها لنا من خلال الوحي والتشريعات. فكيف للإنسان الجاهل والقاصر في علمه أن يتعدى حدّه ويضفي القيمة على الأشياء، بل ويُصدر الأحكام؟ فهذا في الواقع جهل يجرّ إلى تخبطات في السلوك وضياع وضلال يجرّ البشرية إلى التيه والهلاك.