مواضيع

حق الحاكمية والتشريع وفق الرؤية التوحيدية

تمهيد

بعد استعراض الآراء في مسألتي حق الحاكمية وحق التشريع، يأتي الحديث عن بيان الحق في المقامين وذكر الأدلة والبراهين على أصوبية وحقانيّة وجهة النظر التي نؤمن بها ونعمل على طبقها، وهذا يتوقف على ذكر مجموعة من الأمور نذكرها تباعاً.

الرؤية الكونية التوحيدية

فنحن نعتقد بأنّ الله(عز وجل) هو الخالق والرّب والمالك و…؛ فالله تعالى خلقنا من العدم بعد أن لم نكن شيئاً مذكوراً، وهو الذي يتولى العناية بنا بعد خلقنا ويربينا آناً بعد آن ولحظة بعد لحظة، وأنّ فيضه لا ينقطع عنا لحظة واحدة «يا دائم الفضل على البرية» ولو انقطع فيضه عنا لحظة واحدة لآل مصيرنا إلى الفناء والعدم!

ووجود الإنسان – بل كل الكائنات – هو وجود تعلّقي وحرفي بالله(عز وجل)؛ فكلّ المخلوقات لا تملك الاستقلالية: لا في أصل وجودها وتحقّقها ولا في كمالاتها، بل هي تابعة لخالقها، خاضعة له بالخضوع التكويني، لا حول ولا قوة لها إلا بالله(عز وجل)، خالقها وموجدها.

وهذا هو الملك الحقيقي لله تعالى بالنسبة إلى جميع المخلوقات، حيث لا يخرج من سلطانه أحد، ولا يقدر أيُّ موجود أن يتمرّد كونياً على إرادة الله تعالى التكوينية.

والحاصل أنّ الاعتقاد الكامل بالتوحيد يجعل الإنسان يؤمن بأنّ «حق الحاكمية» هو حقٌّ خاصٌ لله(عز وجل)، لا بمعنى أنّه حق مجعول من قبل الغير لله تعالى، بل بمعنى إنّ شأن ربوبية الله تعالى ونحو وجوده اللامتناهي هو نحو وجود تكون كلُّ الموجودات – بما فيها الإنسان – خاضعةً وتابعةً لله تعالى، فهو الحاكم على كل المخلوقات.

الملك الحقيقي والملك الاعتباري

ومن المناسب التعرض للفرق بين الملك الحقيقي والملك الاعتباري بما له دخل في الموضوع محل البحث:

  • الملك الحقيقي: هو الملك التكويني للأشياء الذي لا يتوقف حصوله ووجوده على اعتبار معتبر وجعل جاعل.

ومثال ذلك: أننا نملك مشاعرنا ونملك القدرة على تحريك أيدينا وأرجلنا ونملك الأفكار التي في أذهاننا.

  • الملك الاعتباري: هو الملك الاعتباري الجعلي للأشياء الذي يتوقف حصوله على الاعتبار والجعل وهو ملك قابل للنقل والانتقال.

ومثال ذلك: ملكي لهذا الكتاب بعد أن اشتريته من صاحبه، وملكي لهذا السمك بعد أن اصطدته.

ونقول في المقام أنّ نحو ملكية الله تعالى للأشياء هو ملك حقيقي غير اعتباري، فملكه تعالى لا يحتاج إلى جعلٍ ولا إلى اعتبارٍ، وهو ملك غير قابل لأن ينتقل من الله تعالى، أو أن ينتقل إلى غيره.

نعم، يمكن لله تعالى أن يُعطيَ بعض مخلوقاته القدرة على التصرف في بعض الأشياء، كإحياءِ الموتى وشفاء المرضى و…، فهذه تصرّفات تكوينية يمكن لله تعالى أن يُقدر عباده على بعض الأشياء تجاهها.

الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) وحق الحاكمية

ونحن الموحدّون نعتقد بأن الله(عز وجل) قد جعل هذا الحق «حق الحاكمية» للأنبياء والأئمة (عليهم السلام)؛ فالله تعالى هو الحاكم على العباد وحكمه عليهم هو حقيقي تكويني، وقد جعله الله تعالى لأنبيائه والأئمة (عليهم السلام)، حيث نصّبهم حكّاماً على الناس، وأمر الناس أن ينصاعوا لهم ويطيعونهم.

فالأنبياء والأئمة (عليهم السلام) ليسوا مبّلغين عن الله تعالى فقط، بل هم حكّام وزعماء على البشرية، وقادة يجب على الناس أن يسيروا خلفهم.

فالموحِّد الذي يمتثل لله(عز وجل)، لا تتحقق عبوديته لله تعالى إلا بأن يقبل بقيادة الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، وينصاع لهم في كل الأمور: الدنيوية والأخروية.

والحاصل أنّ الاعتقاد الكامل بالتوحيد، يعني الاعتقاد والالتزام بقيادة الانبياء والأئمة (عليهم السلام)، وأنّ حق الحاكمية هو حق مجعول لهم من قبل الله تعالى، وكلُّ من يستولي على منصب الحكم ولا يكون مأذوناً من قبلهم فهو غاصبٌ لحقّ غيره.

الفقهاء وحق الحاكمية

وخطُ الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) يتمثل اليوم بالسير خلف الفقهاء والإيمان بقياداتهم ولزوم امتثال زعامتهم؛ فالأئمة (عليهم السلام) نصّبوا الفقهاء حكّاماً على الناس، وبذلك أصبحوا حكّاماً شرعيين، وعلى الأمّة أن تُؤمن وتعمل بقياداتهم، وترفض أي قيادة دونهم.

نعم، إذا نصّب الفقيه شخصاً حاكماً، كان هذا الحاكم المنصّب شرعياً؛ لأنّ الفقيه أعطاه الشرعية ويجب على الناس امتثال أوامر هذا الحاكم: لأنّه حاكم شرعي بتنصيب الفقيه.

وهنا نذكر أنّه في «الجمهورية الإسلامية الإيرانية» إذا انتخب النّاس رئيساً للجمهورية، فهذا لا يعني أنّه أصبح حاكماً بالمعايير الشرعية، لاعتقادنا بأنّ الديمقراطية والانتخابات لا تُعطي الشرعية، بل إنّ هذا الرئيس المُنتخب وبعد أن يقبل به «الولي الفقيه» فإنه يُصبح شرعياً، وعلى النّاس بعد ذلك إطاعته: باعتبار أنّ طاعته طاعةٌ للفقيه!

والحاصل أنّ الاعتقاد بـ«حاكمية الفقيه» هو اعتقاد يبتني على أسس توحيدية نابعة من صميم الإسلام وأنّ إقامة «الحكومة الإسلامية» اليوم لا يمكن أن تكون إسلامية إلا إذا كان «الفقيه» على قمّة الهرم، والحاكم الذي تترشح منه كل الأوامر ويأتمر له كل المسؤولين في الدولة.

الله تعالى بين الحاكمية والتشريع

ومن نفس المبدأ الذي ابتنى عليه حق الحاكمية لله(عز وجل)، فإنّنا نؤسس عليه حق التشريع لله(عز وجل) أيضاً؛ فمن خلال الرؤية الكونية التوحيدية التي أثبتت: أنّ الله تعالى هو الخالق لنا ولجميع الكائنات فهو المالك لنا بالملك الحقيقي، ونحن مملوكون له وخاضعون له تكويناً، لا نملك حولاً ولا قوة إلا به..إلخ.

كذلك تُثبِت هذه الرؤية الكونية التوحيدية: أنّ الله(عز وجل) هو الذي يملك الحق في أن يتصرف فينا كيفما يشاء وبما يشاء؛ فهو المالك لنا حقيقةً؛ فصاحب الملك له الحق في التصرف فيما يملك، ولا يحقّ لأحدٍ أن يتصرف في أي مخلوق – لأنه ملك لله تعالى – إلا بعد أخذ الإذن من الله تعالى.

وحتى الإنسان، فإنّه لا يحقّ له أن يتصرف في نفسه بقتلٍ أو جرحٍ.

 فمثلاً: أن يتصرف في غيره من المخلوقات، إلا إذا كان مأذوناً من قبل الله تعالى، الذي يملكنا ويملك غيرنا بالملك الحقيقي.

فإن قلت: إنّ الإنسان يملك نفسه، ويملك أشياء كثيرة؛ فعندما يشتري كتاباً فإنه يملكه ويحقُّ له التصرف فيه وهذا أمرٌ ثابت شرعاً وعقلائياً.

والجواب: إنّنا نرى ثبوت الحق الشرعي والعقلائي في أن يتصرف الإنسان فيما يشتري، ولكن كل هذا ناتج من حصول «ملك اعتباري» قررّه الدينُ واللهُ تعالى – صاحب الملك الحقيقي – للإنسان أو أمضاه، وعليه: فالمدى المسموح للإنسان في تصرفاته – في نفسه وغيره – منوط بحدود الدين.

 والحاصل أنّ أي نحوٍ من التصرف في الإنسان أو غيره من الكائنات، هو متوقّفٌ على نحوٍ من التشريعات، ولايحقّ لأي أحد أن يشرّع أو يتصرف في الإنسان أو غيره إلا الله(عز وجل).

ومثال ذلك: إذا قتل شخصٌ آخر ظلماً وعدواناً، فمن الذي يعطي الحق بقتل القاتل، ومن الذي له الحق في أن ينفذ حكم القتل تجاه القاتل؟!

والجواب: إنّ الله تعالى هو المالك للقاتل وهو الذي أعطاه حق الحياة، وهو الذي له الحق في أن يسلبه هذا الحق، وهو الذي يعطينا الإذن في أن نتصرف فيه بأن نقتله.

وعليه فأصل تشريع القتل وسلب الغير الحياة هو حق ثابت لله تعالى، وكذا حق التصرف فيه هو حق ثابت لله تعالى.

الفقهاء بين الحاكمية والتشريع

وهذا الحق الأصيل«في الحاكمية والتشريع» الثابت لله تعالى، هو ثابت للأنبياء (عليهم السلام)، وفي زمن الغيبة الكبرى: فإنّ هذا الحق – في الحاكمية والتشريع – نثبته للفقهاء، كما تقدمت الأدلة على ذلك.

وعليه فلا بد أن تكون المجالس التشريعية – البرلمان ومجلس الشورى – تحت إدارة الفقهاء، ولا بُدّ أن تكون التشريعات صادرة من الفقهاء، أو أنّ الفقهاء يقومون بإمضاء التشريعات الصادرة من المجلس حتى تتسم هذه القوانين والتشريعات بالشرعية.

وكذلك لا بُدّ أن تكون المجالس التنفيذية – الرئاسة ومجلس الوزراء – بيد الفقيه، أو أنّ الفقيه يُعيّن شخصاً؛ حتى يكون التصرف الوزاري والرئاسي شرعياً وإسلامياً.

شكل الحكومة الإسلامية

ومن خلال ما تقدم ذكره في الأطروحة الإسلامية: فإنّ شكل الحكومة والدولة المتكوّن من ثلاث سلطات: السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية، كمّا هو المعمول به في الدول والعالم المعاصر، مثل هذا الطرح لا ينسجم كمال الانسجام مع الطرح الإسلامي؛ حيث لا نجد دوراً لـ«الفقيه» في أي دائرة من دوائر الدولة، والحال أن «الفقيه» هو صاحب الحق في التشريع والتنفيذ «الحاكمية»، وأنّ أي ممارسة تشريعية أو تنفيذية من دون الفقيه، أو من أذِن له الفقيه، فهي لا تملك الشرعية، طبقاً لوجهة نظر الإسلام، والإيمان بالإسلام يقتضي أن يمارس «الفقيه» دوره الأصيل كما تقدم.

حكومة ولاية الفقيه

وبذلك نصل إلى شكل الحكومة الإسلامية التي تنسجم مع الطرح الفكري والرؤية الكونية التوحيدية: حيث أن «الفقيه» لا بُدّ أن يكون على رأس السلطات: فكلُّ المنفّذين – من الرئيس إلى آخر عضو في الحكومة – هم معينون من قبل «الفقيه»، إمّا مباشرة أو بالوساطة، كما أنّ كل المشرعين – وأعضاء مجلس الشورى والبرلمان – لا بُدّ أن ينصّبُوا من قبل «الفقيه»؛ وذلك لأنّه هو صاحب الحق في زمن الغيبة، وهو الذي يمكنه أن يأذن لمن يشاء طبقاً للمعايير الشرعية.

والنتيجة أنّ شكل الحكومة – التي يكون «الفقيه» فيها هو المحور ورأس السلطات – هو الطرح الذي يتلاءم مع الفكر الإسلامي الأصيل، وأنّ رفضه هو رفض للإسلام.

لمحة موجزة عن نظام الجمهورية

إنّ نظام «الجمهورية الإسلامية الإيرانية» يمثل الأنموذج والطرح الراقي لما نؤمن به من «رؤية كونية توحيدية»؛ حيث زيْدت على شكلها وتركيب نظامها مجالس ومؤسسات من أجل ضمان إسلامية هذه الدولة.

وبيان ذلك: أنّ «الجمهورية الإسلامية» تحتوي على السلطات الثلاث المتعارف، وهي: السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية.

تتميز الجمهورية

أولاً: بـ«مجلس صيانة الدستور»[1]؛ وذلك لأنّ «مجلس الشورى» لا يمثل الفقهاء كل أعضائه، بل غالبية الأعضاء من غير الفقهاء بل من الأطباء والمهندسين والعمال و…، ولأجل أن تكون «القوانين شرعية» فإن القوانين الصادرة من «مجلس الشورى» وقبل أن تصل إلى «السلطة التنفيذية»، فإنّها تمرّ أولاً بـ«مجلس صيانة الدستور» حتى يُحرِر المجلس أنّها قرارات وقوانين تتوافق مع «الشرع» وتتوافق مع «الدستور» حتى يتم تحويلها إلى «السلطة التنفيذية»، أو أنّها غير منسجمة مع «الشرع والدستور» فإنّها تُردُّ إلى «مجلس الشورى» كي يعيد النّظر فيها.

فإن عدّلها وأعاد النظر فيها «مجلس الشورى» ومن ثم قَبَلَها «مجلس صيانة الدستور» فإنّها تُحوّل إلى «السلطة التنفيذية» أما إذا لم يحصل التوافق بين المجلسين فإنها تحوّل إلى «مجمع تشخيص مصلحة النظام».

ثانياً: بـ«مجمع تشخيص مصلحة النظام»، فهو الجهة المخوّلة لحل النزاع الحاصل بين «مجلس الشورى» و«مجلس صيانة الدستور»، فهذا «المجمع» له الصلاحية لإصلاح أي خلل في القوانين ومن ثم تحويلها إلى السلطة التنفيذية.

ثالثاً: بـ«مجلس الخبراء»؛ فباعتبار أنّ أعلى منصب هو منصب المرشد والولي الفقيه، فكان من الحكمة أن يوجد مجلس من أجل تعيين «الولي الفقيه» ويقوم بمتابعة أدائه.


[1]– وهو يتكون من 12 عضو: ستة من الفقهاء، وستة من خبراء القانون والدستور.

المصدر
كتاب تأملات في الفكر السياسي | الشيخ زهير عاشور

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟