كلمة الشهید السيد حسن نصرالله في ذكرى تأسيس مدارس الإمام المهدي
لتحميل الخطاب لتحميل الخطاب بصيغة PDF اضغط هنا
كلمة الشهید السيد حسن نصرالله في ذكرى تأسيس مدارس الإمام المهدي
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا خاتم النبيين أبي القاسم محمد بن عبد الله وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحبه الأخيار المنتجبين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
الحضور الكريم، من قم المقدسة إلى بعلبك، إلى النبطية، إلى صور، إلى هنا في الضاحية الجنوبية، السلام عليكم جميعًا ورحمة الله وبركاته.
أولًا، أرحب بكم جميعًا وأشكركم على هذا الحضور الكريم والطيب، وأبارك لكم أولًا الذكرى العطرة في الخامس عشر من شعبان، ذكرى ولادة الإمام المهدي الحجة ابن الحسن العسكري، سلام الله عليهما، ولجميع المسلمين والمستضعفين والمظلومين والمعذبين في العالم.
أبارك لكم ولكل المعلمين والمعلمات عيد المعلم في هذه الأيام، وأبارك لكم ذكرى تأسيس مدارس المهدي عليه السلام، وتأسيس المؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم، الذكرى الثلاثين، وأبارك لكم أيضًا يوم مدارس المهدي عليه السلام، لأننا تبانينا منذ البداية أن يوم الخامس عشر من شعبان، يوم ولادة الإمام عليه السلام، هو يوم مدارس المهدي عليه السلام.
هذه المناسبات، إن شاء الله، هي مناسبات كريمة، وجليلة، وعزيزة.
المحور الأول: الذكرى الـ30 لانطلاقة المؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم
اسمحوا لي في البداية أن أتحدث عن المدارس، عن القطاع التربوي، ثم أعود إلى مناسبة الإمام عليه السلام، وأختم بكلمة في الوضع العام.
الشكر والامتنان لجهود العاملين في المؤسسة
اليوم، من واجبي أن أتوجه بالشكر والتقدير إلى كل القيمين والعاملين في هذه المؤسسة، رؤساء مجالس الإدارة المتعاقبين، المديرين العامين المتعاقبين، لأن ما نحن فيه هو نتيجة تضحيات وجهود الجميع منذ ثلاثين عامًا.
دائمًا أنا أؤكد في مؤسساتنا، في وحداتنا، في مقاومتنا، في حركتنا: نحن لا ننسب الفضل، أولًا، لأي شخص وحده، الفضل هو لله عز وجل، لكن الإنجاز هو إنجاز الجميع، وتعب الجميع، وجهد الجميع، وجهاد الجميع، ولكلٍّ فضلُه. في الدنيا، صعب التفكيك وتوزيع النِّسب المئوية، لكن في موازين الحق والعدل الإلهي يوم القيامة لا يضيع شيء.
من واجبي أن أتوجه بالشكر إلى الجميع: مديرين، رؤساء مجالس إدارة، أعضاء مجالس إدارة، المديرين العامين، مديري المدارس، النُّظار، المعلمين، المعلمات، العاملين، الإداريين، إلى كل أجزاء هذه المؤسسة، أجزائها البشرية في أي موقع كانوا.
كل الشكر، والتقدير، والاحترام لجهودهم، وجهادهم، وتعبهم، وسهرهم، وما نحن فيه من إنجاز هو نتيجة هذه الجهود، ولكن بالدرجة الأولى نتيجة هذا الإخلاص، وهذا الصدق، وهذه النوايا الطيبة، لأن في هذه المؤسسة، كما في غيرها من مثيلاتها، إن شاء الله، الدافع الأساسي، والحافز الأساسي هو خدمة الناس، وعبادة الله، والمساهمة في بناء المجتمع الصالح، وتمهيد الأرض لذلك اليوم الموعود الآتي.
هنا يجب أن نستذكر كل إخواننا وأخواتنا، خصوصًا الذين فقدناهم في السنوات الماضية، بسبب الكورونا، أو بسبب الأمراض، أو لأي سبب من الأسباب، وبالأخص نستذكر الأخ العزيز والحبيب، سماحة الشيخ مصطفى قصير، الذي قضى في هذه المؤسسة زهرة عمره، وخيرة أيامه، وعطاءه، رحمة الله عليه، وعليهم جميعًا.
ومما لا شك فيه، كما عُرض في التقارير التي نُشرت وشاهدناها، وما استمعنا إليه أيضًا من الأخ العزيز الدكتور حسين، أن المؤسسة تطورت بشكل طبيعي وتدريجي، رغم كل الظروف الصعبة. لم يكن هناك توقف، رغم كل الظروف الصعبة.
نحن نتحدث عن ثلاثين سنة، كان فيها حروب، وأحداث، وعمليات، وأوضاع أمنية، سواء قبل عام 2000 أو بعده، وفي العقد الماضي، الأحداث التي جرت، والتفجيرات، وما شاكل، لكن لم يكن هناك توقف، كان دائمًا هناك تطور طبيعي وتدريجي، على المستوى الكمي: عدد المدارس، والطلاب، والكادر، وعلى المستوى النوعي والكيفي، على مستوى المناهج، على مستوى الحضور العام، على مستوى الفعالية مع اتحاد المدارس الخاصة.
التعاون والتكيف في مواجهة التحديات التربوية
قبل خمس سنوات، واحدة من النقاط التي أكدتُ عليها في اللقاء، هي انفتاح المؤسسات التربوية على بعضها في كل لبنان، بمعزل عن الخلافات السياسية القائمة. إذا كنا مختلفين بالسياسة، ومتخاصمين في السياسة، لكن نستطيع التعاون في القطاع التربوي بشكل يخدم كل هذه الأجيال.
على مستوى التعاون الخارجي، على مستوى نقل الخبرة والتجربة لكل من يريد، هذا كله بفضل الله سبحانه وتعالى حصل واستمر، وهذا بعضٌ من جهادكم، وإخلاصكم، وتجلي رساليتكم.
خصوصًا في هذه السنوات الأخيرة، كان الجهد مضاعفًا ومميزًا، لأنه عندما أتت الكورونا، حدثت صعوبات. رغم الصعوبات الصحية، ومشاكل الحضور، ومشاكل التدريس عبر وسائل التواصل، والإنترنت، وما شاكل، استطاعت المؤسسة أن تتأقلم، وأن تتطور، وأن تبذل الجهود المطلوبة بكل كادرها، حتى لا يتوقف جهد التعليم.
في ظل الظروف المعيشية الصعبة التي يعيشها لبنان، خصوصًا هذه السنة، وفي السنتين الماضيتين، منذ تشرين 2019، دخلنا في مرحلة جديدة، في ظروف عصيبة، لكن هذه السنة كانت الظروف أصعب. صمودكم في المؤسسة، بقاؤكم فيها، في إداراتكم، في صفوفكم، في مواقع التعليم، بالرغم من كل الصعوبات، هو أمر يُقدَّر جدًا.
خصوصًا أن المؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم حرصت خلال السنوات الأخيرة في موضوع الأقساط أن تراعي الظروف الصعبة للعائلات الكريمة، وهذا أثر بشكل طبيعي على مواردها المالية.
نحن في الذكرى الثلاثين، أُريد أن أؤكد لكم ما يلي:
أولاً، عني وعن إخواني، لأن انتماء هذه المؤسسة إلى حزب الله هو انتماء معروف، ولا يوجد أمر مخفى، والعلم يضعونه إلى جانب علم المؤسسة، أيضًا علم حزب الله.
أولاً، نُؤكد إيماننا بكم، نؤكد إيماننا بهذه المؤسسة التربوية الكريمة، بكم كإدارة، ومعلمين ومعلمات، ومسؤولين، وكادر.
ونعتقد أنكم كنتم لائقين بمستوى المسؤولية، وستكونون دائمًا لائقين بمستوى المسؤولية.
ثانيًا، بناءً على هذا الإيمان، لأن هذا الإيمان يشجع، نُؤكد أننا سنبذل كل الجهود للحفاظ على بنية هذه المؤسسة، وعلى كادرها، وعلى فعاليتها، وبالرغم من كل الظروف الصعبة، سنجد طريقة ما للتغلب عليها، واتكلوا على الله، إن شاء الله، نتغلب عليها.
وثالثًا، بل سنعمل، إن شاء الله، على دعمها، ليس فقط للحفاظ عليها، بل لتطويرها، وتوسعة ميدان عملها عموديًا وأفقيًا وجغرافيًا، وعلى كل صعيد، لأن الآمال التي نعقدها على هذه المؤسسة وعلى هذه المدارس هي آمال كبيرة، وهي على صلة عميقة بمشروعنا الإيماني والجهادي.
أهمية ما تقومون به، أيها الإخوة والأخوات، في دائرة التعليم، هو عمل جاد ومخلص، وهذا، طبعًا، يجب الحرص عليه، على المستوى العلمي، والمستوى التعليمي، لأن هذه واحدة من الأزمات الموجودة لدينا في البلد، مخاطر المستوى العلمي والتعليمي في المدارس، في الجامعات، هذا تحدٍّ حقيقي له علاقة بالجدية، له علاقة بهروب الكفاءات، له علاقة ببعض الفساد هنا وهناك، له علاقة… لا أريد الدخول في الأسباب، لكن هناك مخاطر حقيقية اسمها المستوى العلمي والمستوى التعليمي.
في دائرة التربية، الذي أكدنا عليه دائمًا في كل لقاءاتنا السابقة، ولذلك حتى المؤسسة عندما اخترنا الاسم، دائمًا عندما يتم اختيار الاسم عندنا، يكون محسوبًا جيدًا ومناقشًا جيدًا، لماذا هذه الكلمة؟ عندما قلنا: المؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم، وقدمنا حتى كلمة “التربية” على “التعليم”، كل هذا كان مقصودًا، هذا ليس بالصدفة، ليس مجرد كتابة أسماء، كلا.
في ماهية المؤسسة، في جوهرها، في مهمتها الأساسية، هي المهمة التربوية، وهي مؤسسة تربوية. عندما تقول لي: هذه المؤسسة، ما هو جوهرها؟ وما هي طبيعتها؟ وما هي ماهيتها؟ أقول لك: تربوية تعليمية، تبدأ تربوية، ثم تعليمية. أهمية التربية لا تحتاج لنقاش، لكل الحاضرين والحاضرات، لكن تزداد هذه الأهمية في هذا الزمان، بسبب المخاطر التي تواجهها الأجيال الحاضرة، مخاطر إضافية لم تكن موجودة في الأجيال السابقة.
مثلًا، عندما كنا شبابًا ونذهب إلى المدارس، كان هناك نوع من المخاطر، لكن المخاطر الموجودة الآن لم تكن موجودة في ذلك الزمن. وهذا يزيد التحدي، ويزيد الصعوبات، ويرفع مستوى المسؤولية.
المخاطر المعاصرة وضرورة التحصين التربوي
اليوم، الأجيال الحالية، كل شيء مفتوح أمامها. هذا ما نتحدث به دائمًا في الجلسات: كل شيء مفتوح. سابقًا، كانت توجد رقابة على وسائل الإعلام، كانت توجد رقابة على الصحف والمجلات، كانت توجد رقابة على التلفزيونات، وكان يوجد مستوى اهتمام عالٍ من الأهل.
هذا أيضًا تراجع. فالأهل كانوا يدقّقون ويتابعون أولادهم: ماذا يشاهدون؟ ماذا يقرأون؟ ما الذي يأتون به؟ ما هي المجلات التي يُدخلونها إلى بيوتهم؟ ما الذي يدرُسونه؟ من أصحابهم؟ من يُصادقون؟ مع من يخرجون؟ أي ساعة يُغادرون؟ وأي ساعة يعودون؟ هذا كله صار من الماضي، وصار يتنافى مع الحداثة التي يتحدثون عنها.
في كل الأحوال، اليوم، لم يعد هناك شيء مخفي. صار يوجد هاتف صغير بحجم كف اليد، والأولاد كلهم، ما شاء الله، يمتلكونه، أولاد الفقراء وأولاد الأغنياء، بالأعم الأغلب أولاد الفقراء. وجاءت مصيبة الكورونا، فصارت ذريعة إضافية، وصار الأونلاين، والإنترنت، وما أدراك… دخل إلى كل بيت، وإلى كل غرفة، وبكبسة زر يصبح الولد مفتوحًا على كل شيء: ما يُقال وما لا يُقال، ما يُرى وما لا يُرى، لا يوجد ضابط. هذه من المخاطر.
من جملة المخاطر اليوم: تعميم، أو العمل على تغيير ثقافي تحت عنوان “القيم الغربية” و”الثقافة الغربية”، التي تغير طبيعة العلاقة بين الأولاد والأهل، والتي لديها نظرة مختلفة للأسرة والعائلة، وهذا نرى انعكاساته اليوم في المجتمعات الغربية.
كثير مما هو حرام دينيًا في الإسلام والمسيحية، الكثير مما هو عيب أخلاقي في عاداتنا وتقاليدنا الطيبة والإنسانية في الشرق، يُعمل على مسحه، ليكون البديل هو التفلّت في كل شيء: التفلت العائلي، التفكك العائلي، التفلت الأخلاقي.
من أخطر ما يُعمل عليه الآن: المناهج. أنا ذكرت في مناسبات، وهذا موجود في تعميم من وزارة الخارجية الأمريكية إلى كل سفاراتهم في العالم – وهذا ليس سرًا، بل موجود – طُلب من السفارات أن تعمل لدى حكومات البلدان التي هم سفراء لديها، من أجل ترويج ثقافة المثلية، في المدارس، وفي الجامعات، وتحويلها إلى ثقافة، هذا أمر عادي وطبيعي، ويجب أن يكون ثقافة، والدفاع عن هذه الثقافة، والتنديد بمن يعارضها أو يواجهها أو يرفضها.
هذه الولايات المتحدة الأمريكية، الإدارة الأمريكية. طبعًا، هذا كله ليس أمرًا شيطانيًا فقط، كلا، لديه أهداف.
في كل الأحوال، هذه المخاطر موجودة…
من جملة المخاطر: المواد المخدّرة، انتشار المخدّرات، وأيضًا في المدارس. في بعض المناطق، أحيانًا تأتينا معلومات، نحن نتعاون مع الأجهزة الأمنية، يوجد أشخاص، وبقدر ما هم سيئون وشياطين وأبالسة، يأتون ليوزعوا على الطلاب حبّات، على أساس أنها مثلًا حلويات أو علكة أو شيء له علاقة بالتسلية، ولكنها في الحقيقة تتضمن مواد مخدّرة، بهدف أن يعتادوا عليها، ويصبح هذا هو مطلبهم، حتى يبدأوا لاحقًا ببيعها لهم.
هؤلاء من أسوأ خلق الله عز وجل. أنتم تعرفون أن الذي يبيع ويُروّج ويتاجر بالمخدرات في أي مجتمع من المجتمعات هو من أسوأ أنواع المفسدين في الأرض. عندما نتحدث حتى على المستوى الشرعي والقانوني والفقهي، من أسوأ أنواع المفسدين في الأرض.هذه المخاطر موجودة.
في مواجهة هذه المخاطر هناك شكلان للمواجهة:
الأسلوب الأول: أن نذهب لمعالجة النتائج. الأولاد الذين أصبحوا معتادين على المخدرات نأخذهم لنُجري لهم برامج، ونعمل لهم مصحّات طبية ونفسية وما شاكل. ومن يُخاطرون ويبيعون المخدرات نريد أن نعتقلهم، ونرميهم في السجون، ونحاكمهم. أي أننا نذهب إلى معالجة النتائج، أو سدّ الأبواب أمامها.
لكن هناك أسلوب آخر، هو ما دعا الله سبحانه وتعالى إليه البشرية من خلال أنبيائه ورسله، وهو التحصين الروحي والنفسي للأفراد، للأجيال.
عندما نأتي ونُربي هذه الأجيال، هؤلاء الناس، على مخافة الله سبحانه وتعالى، نُربيهم على تجنّب كل ما هو معصية، وكل ما هو قبيح، وكل ما هو شر، وكل ما هو سيئ، وتُصبح هذه ملكة عندهم، طبيعة حقيقية في أرواحهم وفي أنفسهم، يصبح الإنسان مُحصّنًا، مُحصّن أمام قيم التفلت الأخلاقي، مُحصّن أمام الإفساد الفكري والأخلاقي، مُحصّن أمام الإغراء بالمواد المخدّرة، مُحصّن أمام الإغواء بالعنف.
هذا العنف الذي نراه اليوم هو نتيجة تربوية. العنف الموجود يوميًا، وسائل الإعلام الأمريكية لا تُظهر لنا كل شيء، بل تتحدث عن بعض الولايات الأساسية في أمريكا، لكن انظروا إلى الصرخة هناك، في قلب المدارس، أولاد المدارس، وأحيانًا بنات، يقتلون رفاقهم ومعلميهم وينتحرون في نهاية المطاف. لماذا؟
إذًا، التحصين، ما الذي يؤدي إلى التحصين؟ هو التربية مثل ما شاء الله في السنوات الثلاث أو الأربع الأخيرة أصبح كل الناس مهتمين بالموضوع الصحي. مرة يوجد شخص ليس لديه مناعة، مناعته الجسدية ضعيفة، أي جرثومة، أي ميكروب، أي شيء يراه يُعدى ويَمرض ويسقط وينهار. أما من لديه مناعة، مهما جرى حوله، يبقى صامدًا وقويًا وسليمًا وصحيحًا.
التربية الروحية والنفسية مسؤولية المعلم الرسالي
نفس الأمر في الموضوع الروحي والنفسي: لنذهب إلى بناء مناعة، لنذهب إلى بناء حصانة. المناعة والحصانة لا يُنتجهما التعليم فقط، بل تُنتجهما التربية، كم من الناس لديهم علم، ولكن ليس لديهم حصانة؟ عندهم علم، ولكن ليس لديهم مناعة؟
يعني لديهم علم، ولكن ليس لديهم تقوى، وربما ليس لديهم قيم أخلاقية. كم من الناس لديهم علم – وأقصد أي نوع من أنواع العلم – وتراهم يستغلون علمهم في استغلال الناس، وفي سحب دماء الناس، وفي الاستفادة من أسوأ الظروف التي عاشها الناس. ولدينا الكثير من الأمثلة، في البلد، وغير البلد، مسؤولية التربية هي مسؤولية كبيرة جدًا. وعلينا أن نذهب إلى التحصين، ولذلك نُؤكّد على التربية.
هذا ماذا يتطلب؟ هذا يتطلب أن تكون وظيفة المعلم والمعلمة، والمدير، والناظر، والمؤسسة التربوية، لا تبقى فقط مهنة. فلتكن مهنة، لا مشكلة، ومهنة شريفة، ويتقاضى عليها أجرًا، هذا طبيعي جدًا، ولكن يجب أن يُضاف إليها، ويُؤسّس معها، روح رسالية وإنسانية، ما هو الفرق؟ مثلًا، باعتبار أن هناك إخوانًا من قم يُتابعوننا، في الحوزة العلمية، يوجد نوعان من الأساتذة:
يوجد أستاذ، مثلًا من المشايخ، يجلس ليعطي الدرس: “بسم الله الرحمن الرحيم، قال… قلنا… إن قلت… قلت… فـ… فـ… فـ… والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته”، ويمشي. لا عمل له مع الطلاب إن استفادوا أو لم يستفيدوا، إن تعلّموا أو لم يتعلّموا، وضعهم الأخلاقي والروحي والإيماني لا يعني له شيئًا. هذا نوع من الأساتذة، ويُوجد أستاذ من نوع آخر، يُعلّم ويهتم أن يُحصّل طلابه العلم، وبنفس الوقت يُصبح مُربيًا. وهؤلاء الطلاب يُصبحون بالنسبة له بمثابة أبناء وأحبة. هذا هو البعد الرسالي.
في المدارس، يوجد أساتذة لا يهمهم إن كان الطلاب قد درسوا أو لم يدرسوا، هل فهموا أو لم يفهموا. ينظر إلى الساعة، “خلص الوقت، يعطيكم العافية، في أمان الله”، المعلم الرسالي يهمّه أن يتعلّم هؤلاء الطلاب فعلًا، ويستفيدوا، ويرتقوا، ويكونوا محصّلين، وينجحوا.
وإذا تفوقوا، يكون الموضوع أحسن. يعني، هذا جزء من همّه، ومن مسؤوليته، ومن هاجسه، وبنفس الوقت، هو كأستاذ، وكلّنا نعرف، وكلّنا كنّا طلابًا في المدارس، أن الأستاذ هو عادة من يُصبح قدوة عند الطلاب. أنا أذكر عندما كنا في الابتدائي، كان الأساتذة في الصف أغلبهم رجال، اليوم الأغلب معلمات، فكنّا نحب أن نلبس ما يلبس، كنا نحب أن نُمشّط شعرنا كما يفعل، وكنا نحب أن نتكلم كما يتكلم.
هكذا كنا في المدارس، وأعتقد الناس هم الناس، مثل ما كنا نحن، الأولاد اليوم نفس الشيء، الأستاذ هو قدوة، والمعلمة قدوة. يجب أن ينتبه إلى أنه بسلوكه، وأدائه، وكلامه، وجلسته، وتعليقه، وتعاطيه مع الطلاب، هو يُمارس دورًا تربويًا، شاء أم أبى، انتبه أم لم ينتبه. وبالتالي، هو يطبع شخصيته على هؤلاء الطلاب، خصوصًا في المراحل الابتدائية والمتوسطة، أما أكثر من ذلك، نحن نطلب المسؤولية الرسالية.
عندما نأتي إلى مدارس المهدي عليه السلام، كما سمعنا في النشيد الحلو، والشعر الجميل – وهو شاعر على كل حال، شاعرٌ جميل، الشيخ محمود – هذه المدارس هدفها تربية أجيال مؤمنة ومجاهدة، نحن لا نُخفي أنفسنا: أجيال مؤمنة، ومجاهدة، ومقاومة، ومنتظرة، وممهّدة، وأجيال تتطلع إلى العدل، إلى السلام، إلى المحبة، وإلى رفض الظلم والطغيان والطغاة، وهذا بحاجة إلى جهد، وهذه مسؤولية المؤسسة بالدرجة الأولى.
القطاع التربوي بين الرأسمالية والضغوط المالية والمسؤولية الإنسانية
إذًا، أنقل كلمتين إلى القطاع التربوي. في القطاع التربوي بشكل عام، وباعتبار السنخية مع المؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم، القطاع التربوي بشكل عام اليوم في لبنان، كما أشرنا قبل قليل، يُواجه تحديات كبيرة، مثل بقية القطاعات. كما أن القطاع الصحي اليوم يواجه مخاطر جدية وكبيرة نتيجة الظروف التي استجدت في السنوات الأخيرة، الظروف المعيشية بطبيعة الحال أثّرت على كل أطراف العملية التربوية.
أثّرت على الأهالي؛ فاليوم، الكثير من الأهالي الذين كانوا يسجلون أولادهم في المدارس الخاصة لم يعودوا يستطيعون فعل ذلك. هذا أدى إلى انتقال واسع وكبير في السنوات الأخيرة إلى المدارس الرسمية. وهذا الأمر سيزداد مع استمرار الوضع القائم.
ثانيًا، أثّرت هذه الظروف على المعلمين والمعلمات. الرواتب التي يتقاضونها، سواء في المدارس الرسمية أو الخاصة، لا تفي بالحاجة. وهم مُحقّون، لأن هذه الرواتب ضمن الوضع الحالي، ومع المعطيات الحالية، وتدهور العملة الوطنية، وارتفاع سعر الدولار، والغلاء الموجود في البلد، أصبحت لا تقدّم ولا تؤخّر.
وهذا يشكل عامل ضغط كبير، أيضًا من أطراف العملية التربوية، هي المؤسسات التربوية نفسها التي علقت في منتصف القضية. ففي المدارس الخاصة، إذا رفعت الأقساط، تظهر مشكلة مع الناس. وإذا لم ترفعها، فمن أين ستُعزز رواتب المعلمين؟ وكيف ستستمر هذه المؤسسة؟
أما في المدارس الرسمية، فالوضع أصعب. لذلك، اليوم، المخاطر ليست فقط على المستوى العلمي والتربوي والتعليمي، بل هناك مخاطر تهدد وجود القطاع نفسه. السؤال يُطرح: هل ستستطيع الجامعات الاستمرار؟ أم ستضطر إلى الإقفال؟ هل باستطاعة بعض المدارس الاستمرار أم ستضطر إلى الإغلاق؟
كم من الوقت مضى على إقفال المدارس الرسمية؟ ها هي الآن قد عادت وفتحت أبوابها، وسأعود إلى هذا لاحقًا، بكل الأحوال نعم، هناك خطر وجودي اليوم على هذا القطاع، ويتطلب استنفارًا وطنيًا. المسؤولية لا تقع فقط على عاتق الحكومة، ولا يمكن أن نلقي كل العبء على الدولة أو على مجلس النواب فقط، بل هناك مسؤوليات متنوعة.
في ما يخص المدارس الخاصة، لدي توصية: أنا أقدّر وأتفهم تمامًا أنهم يريدون زيادة الأقساط وتحسين رواتب المعلمين، ويريدون الموازنة بين الإيرادات والنفقات. لكن المشكلة الأكبر في البلد، وللأسف الشديد علينا أن نعترف بها جميعًا، هي الجشع الموجود عند بعض التجار.
رغم كل هذا الوضع الصعب، وكل الآلام والأنين، لا يكتفون بأرباح متواضعة، بل يسعون لتحقيق أرباح عالية ومرتفعة. يوجد جشع بشع، جشع لا يُصدّق، جشع يجعلك تتساءل: هل هذا الذي أمامي إنسان؟ هل يملك مشاعر إنسانية؟، أنا مضطر أن أتكلم بهذه القسوة لأن هذا واقع نعيشه.
نحن مطّلعون على الأسعار، وصار من اهتماماتنا في السنوات الأخيرة أن نتابع المواد الغذائية وكثيرًا من السلع، سواء المُنتَجة محليًا وهي قليلة، أو المستوردة، كم هو سعرها في الخارج؟ وكم هو سعرها واصلة إلى لبنان؟ وكم تُباع في السوق؟ كيف يُلعب في الأسعار؟ كيف تُرفع الأسعار؟
يوجد شيء غير أخلاقي، شيء غير إنساني، شيء متوحش، فما الذي نُراهن عليه إذًا؟ علينا أن نُراهن على تذكير الناس بمسؤوليتهم الأخلاقية تجاه أهلهم وشعبهم. علينا أن نُذكّر الدولة بمسؤوليتها، فهي بالكاد تتحمّل جزءًا منها.أما في المدارس الخاصة، فرسالتي: رغم كل الظروف الصعبة، هل يمكننا أن نعمل دون ربح؟ هل يمكننا أن ننظم أمورنا بحيث لا نخسر؟
لنعتبر هذه السنة أو السنتين أو الثلاث مساهمة اجتماعية، إنسانية، وطنية، مساعدة، عملية إنقاذ، جهدًا أخلاقيًا. لا أحد يطلب من المدارس الخاصة أن تخسر، ولكن يمكننا ألا نربح، أو أن نربح شيئًا معقولًا ومتواضعًا، لأن من المشاكل الموجودة في البلد، أن بعض المدارس الخاصة ما زالت مُصرّة على تحقيق أرباح وفيرة، وأنا أملك أرقامًا حول هذا الموضوع، ولست أظلم أحدًا. هذه دعوة للمدارس الخاصة.
أما في ما يخص المدارس الرسمية، فأنتم تعرفون منذ ثلاثين سنة موقفنا: نحن مع المدرسة الرسمية. لدينا مدارس خاصة، نعم، لكننا مع تقوية المدرسة الرسمية، وتعزيزها، والعناية بها، وإعطائها الأولوية، وكذلك الجامعة الرسمية، لأن المدارس الرسمية لا تستطيع أن تستوعب كل الناس، لا في السابق، ولا الآن في ظل الأزمة، حيث الوضع أصبح أصعب، الآن لا أريد أن أتكلم نظريات، بل أعلّق على المستجدات الأخيرة.
المعلمون مُحقّون، سواء في المدارس الرسمية أو في الجامعات، ولا أحد يناقش بأحقية مطالبهم. ولو طلبوا أكثر مما يطلبونه اليوم، فهم لا يزالون على حق. لا نقاش في ذلك، لقد لجأوا إلى الإضراب المفتوح كوسيلة للضغط على الدولة. فتعطّلت المدارس لفترة طويلة، وعمليًا كاد العام الدراسي أن ينتهي.
نحن نتحدث عن أجيال وليس جيلًا واحدًا؛ ابتدائي، متوسط، ثانوي، جامعي. أجيال ربما تفقد سنتها الدراسية، ولا نعرف ما الذي سيحصل في العام القادم.
وحين أتت حكومة تصريف الأعمال، وأخذت بعض القرارات في الشأن التربوي، لم تكن هذه القرارات مرضية للمعلمين بالشكل الكافي، ولم تحقق طموحاتهم، ومع ذلك الأغلبية من المعلمين قبلوا، وعادوا إلى التدريس. وأنا اليوم أتكلم مع من تبقى من المعلمين، وأتمنى عليهم أن يقبلوا.
مطالبكم محقة، ولا نقاش فيها، لكنني أطلب منكم، وأتمنى عليكم، رأفة بالأجيال، هناك ما هو مطلوب منكم، وهناك ما هو مطلوب من الحكومة، الوعود التي قطعتها الحكومة يجب أن تُنفّذ، ويجب علينا جميعًا أن نطالبها بذلك، وألا نمنح أحدًا ذريعة للعودة إلى الإضراب.
وأقول للمعلمين: ما قدمته الحكومة صحيح أنه ليس كافيًا، لكننا نتمنى عليكم أن توازنوا بين مجموعة من الأمور؛ بين مطالبكم المُحقة، وبين أجيال ستخسر عامًا دراسيًا كاملًا، وبين إمكانيات الحكومة، التي هي في الواقع إمكانيات صعبة جدًا، أنا لا أدافع عن الحكومة، ولا عن الدولة، لكننا نعرف جميعًا ما هو الوضع المالي.
ونعرف أن أي زيادة في الرواتب، ستكون على حساب ضرائب جديدة، أي من الجيب إلى الجيب، أو كما يُقال: “من دهنه سقيله”.
زيادة الرواتب ستؤدي إلى مزيد من الغلاء، ومع ذلك أدعوكم، في هذه الأشهر القليلة المتبقية من العام الدراسي، اعتبروها مساهمة إنسانية، مساهمة أخلاقية، مساهمة جهادية، ومساهمة إيمانية، لكل من يفهم لغة الإنسانية والأخلاق، نخاطبه هكذا. ولمن يهتم بالشأن الديني، فوالله، هذا فيه أجر وثواب عظيم عند الله سبحانه وتعالى يوم القيامة.
هذا من العمل الصالح الذي تجدونه حاضراً أمامكم يوم القيامة، بكل المقاييس الدينية، والإنسانية، والإيمانية، والوطنية، والأخلاقية، أدعو المعلمين إلى مواصلة العام الدراسي وعدم العودة إلى الإضراب. كل ما تكلمنا به عن المدارس، ينطبق أيضًا على الجامعات.
المحور الثاني: مولد الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف
رسالة الأمل في ولادة الإمام المهدي
أهم ما في هذه المناسبة من رسائل، أي الخامس عشر من شعبان، الذي نؤمن بأنه اليوم الذي وُلد فيه الإمام المهدي عليه السلام، الإمام الموعود الذي نقل الشيعة والسنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه في آخر الزمان سيأتي رجل من أحفاده، من ابنته الطاهرة السيدة الزهراء عليها السلام، ليملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعد أن مُلئت ظلمًا وجورًا.
أهم رسالة هي رسالة الأمل، وثقافة الأمل، وروح الأمل. الأمل بالمستقبل، الأمل بالغد الموعود، الأمل بالزمن الآتي، أي ثقافة أنه لا توجد أبواب مسدودة، ولا توجد جدران مقفلة، ولا يوجد ظلام دامس لا شمس بعده ولا ضياء ولا نور، ولا يوجد ظلم مطبق وبالتالي لا فرصة للعدل والحرية. ليس مستقبل هذه الأرض دائمًا حروبًا وعنفًا، كلا، سيأتي يوم يحل فيه السلام.
هذا الأمل، طبعًا في الثقافة الدينية، هو جزء من التربية الدينية والإيمانية، وهو جزء من الثقافة الدينية، لأن من يؤمن بالله سبحانه وتعالى، في كل الأديان، من يؤمن بالله سبحانه وتعالى، وبأن الله عز وجل حاضر وناظر، وبأن الله عليم وسميع وبصير، وأن الله غني، وأن الله جواد، وأن الله قدير، وأن كل المقادير بيد الله، وأن بيده ملكوت السماوات والأرض، هذا الإنسان لا يمكن أن ييأس، ودائمًا يعيش حالة الأمل.
لماذا؟ لأنه إذا يئس من الناس ويئس من الأسباب الطبيعية، وانسدّت كل الأبواب في وجهه، يوجد باب مفتوح ليل نهار، هو باب الله سبحانه وتعالى. يستطيع أن يتكلم مع الله متى شاء، ويناجيه، ويطلب منه، ويدعوه سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى سميع بصير وعليم خبير.
وأيضًا، ليس فقط سميعًا بصيرًا، فهناك من يسمع ويبصر ويعلم، لكنه لا يستطيع أن يفعل شيئًا، يقول لك: “لا حيلة في يدي”. كلا، الله قديرٌ وغني وجواد وكريم.
من يؤمن بالله بهذه الطريقة لا يمكن أن ييأس، لأن لديه دائمًا بابًا للأمل، وهو الله سبحانه وتعالى، هذا في حياتنا وفي حياة كل الأجيال التي سبقتنا، في حياتنا الشخصية الخاصة والعامة، وحتى في قتالنا ومقاومتنا وصراعنا، نعيشه في كل يوم. لكن إضافةً إلى ذلك، فإن الله سبحانه وتعالى، في أسباب الأمل، أعطى وحدد أسبابًا مباشرة. هذا أيضًا موجود في كل الأديان.
الأمل في المستقبل الآتي، انظروا مثلًا إلى اليهود، هم يعتقدون بأن مسيحًا سوف يأتي في آخر الزمان ليقيم ملكوت السماء على الأرض. بمعزل عن أدبياتهم، طبعًا هم لا يعتقدون أن هذا المسيح هو السيد المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام، وإنما ينتظرون مسيحًا آخر، المسيحيون يعتقدون، كلهم أو في الأعم الأغلب، بعودة السيد المسيح إلى هذا العالم في آخر الزمان، أيضًا ليقيم ملكوت السماء.
والمسلمون بالإجماع يعتقدون بأمرين: الأمر الأول، أنه سيظهر في آخر الزمان حفيدٌ لرسول الله من فاطمة، اسمه المهدي، وسيملأ الأرض قسطًا وعدلًا، مع اختلاف بين المسلمين؛ بين من يقول إنه وُلد، كما نقول نحن، أنه وُلد في الخامس عشر من شعبان، وبين من يقول إنه سيولد قبل اليوم الموعود والظهور الكبير وتحقق الوعد الإلهي بثلاثين أو أربعين عامًا، لأنه عندما يقوم بثورته العالمية سيكون عمره ثلاثين أو أربعين عامًا.
ونعتقد بأمرٍ آخر، وهو عودة السيد المسيح عليه السلام إلى هذه الدنيا. ونحن نؤمن أنه ما زال على قيد الحياة. أي أن الله سبحانه وتعالى أعدّ للبشرية منقذين عظيمين، مخلّصين عظيمين، مصلحين عظيمين. والواضح أن البشرية صعبة إلى حدّ أنها تحتاج إلى هذين العظيمين. لكن هذا يبعث الأمل.
لم يُحدّد الزمان، يمكن أن يحصل هذا في أي وقت، وهذا أيضًا من بواعث الأمل. لأنه عندما نقول إن هذا سيحصل بعد مئة سنة أو ألف سنة، فهذا يُضعف الأمل، بل يفتح أبواب اليأس. أما عندما لا نعلم، فهذه من حكمة إخفاء الزمان، زمان ظهور المهدي وعودة المسيح عليهما السلام، فهذا يجعل الأمل حاضرًا في الليل وفي النهار، وهذا ما نشعر به ونعيشه أيضًا.
من اليأس إلى الأمل: دروس المقاومة والانتصار
أكثر ما نحتاجه أيها الإخوة والأخوات في مرحلتنا الحالية أيضًا هو روح الأمل، في الأربعين عامًا الماضية، تذكرون في عام 1982 – وهنا سأطلّ على الوضع العام، النقطة الأخيرة – عندما اجتاحت قوات الاحتلال الإسرائيلي لبنان، وجاءت قوات متعددة الجنسيات، وجزء من الداخل اللبناني تحالف مع الاحتلال.
يعني هذا البلد الصغير كان يحتله أكثر من 130 ألف ضابط وجندي أجنبي، ما بين إسرائيلي وغربي، وكان يعيش مشكلة داخلية حادّة، وجزء من الداخل اللبناني متعاون، من جملة الأمور التي عملوا عليها بالإعلام والسياسة والتوجيه وفي المجتمع، هي بعث روح اليأس، بأنه لا توجد إمكانية لتحرير الأرض. دخل لبنان في العصر الإسرائيلي، ولا أمل للبنان واللبنانيين أن يخرجوا من العصر الإسرائيلي.
واليأس، ما نتيجته؟ ليس فقط أن يُخفي الإنسان حزنه وألمه ويأسه ويجلس في المنزل، لا، هذا اليأس له نتائج سياسية وأمنية واجتماعية وحياتية. أخطر نتائجه هو الاستسلام، القبول بالاحتلال، القبول بالواقع الذي فرضه الاحتلال، القبول بشروط الاحتلال، القبول بالحاضر والمستقبل الذي يصوغه لك الاحتلال بعيدًا عن وطنك ومصالحك الوطنية، بعيدًا عن كرامتك وحريتك وسيادتك وشرفك.
حسنًا، أُريد للناس أن يكونوا يائسين، ولكن المقاومة في لبنان، بكل تجلّياتها وفصائلها ومنابرها ودعواتها، انطلقت من موقع الأمل: “لا، نحن نستطيع، نحن نقدر أن نُلحق الهزيمة بهذا العدو، نحن نستطيع أن نمسح العصر الإسرائيلي، نحن نستطيع أن نجعل هذا الجيش الذي لا يُقهر أن يُهزم وأن يُذل وأن ينسحب بلا قيد وبلا شرط”.
هذا الأمل هو الذي أنشأ المقاومة. نتيجة الأمل هي المقاومة، ونتيجة اليأس هي الاستسلام. وكانت المقاومة قد صنعت انتصارات سريعة. من عام 1982 إلى عام 1985، كان الانتصار العظيم الأول: خروج الاحتلال من بيروت، من الضواحي، من جبل لبنان، صيدا، صور، النبطية، البقاع الغربي، راشيا.
طبعًا لم يحظَ اللبنانيون باحتفال لائق لذلك الانتصار العظيم بسبب القتال الداخلي، لأن الإسرائيليين حوّلوا العرس إلى جنازة. وهذا ما حاولوا فعله عام 2000، ولكن المقاومة بأخلاقيتها ومناقبيتها وانضباطها فوّتت ذلك على العدو.
وفي عام 2000، استمرت المقاومة بهذا الأمل. وفي عام 2006، صمدت المقاومة بهذا الأمل، وعندما حصلت أحداث 11 أيلول، وقيل لنا إن المنطقة دخلت في العصر الأمريكي، وإن أمريكا اجتاحت أفغانستان والعراق، وهددت بقية دول المنطقة، أيضًا نفس المنابر، ونفس الإعلام، ونفس الجهات.
كلهم قالوا لنا ولغيرنا: “ييأسوا، لا توجد إمكانية لمواجهة أمريكا، لا توجد إمكانية لطرد الاحتلال من أفغانستان، ولا من العراق، ولا توجد إمكانية لمواجهة المشروع الأمريكي. أمريكا قادمة بكل جيشها وعديدها وعُدّتها ومالها وسلاحها وحربها الخشنة والناعمة، وستقاتل من يقف في وجهها وتمسحه عن الوجود”.
لكن مضت سنوات قليلة، وتبيّن أنها هُزمت، هُزمت في العراق، وهُزمت في أفغانستان، وهُزم مشروعها في المنطقة، وسقط مشروع “الشرق الأوسط الجديد”، كيف وقفت الناس في كل المنطقة من جديد؟ بالأمل. لم تستسلم لليأس، لم تقبل أن تيأس، طبعًا، هنا توجد عوامل متعددة: عوامل إيمانية، أخلاقية، ثقافية، فكرية، إنسانية. هناك ما له علاقة بطبيعة كوننا أهل هذه الأرض، بتاريخنا، بعاداتنا، بتقاليدنا، لكن الأمل!
القتل والمجازر مشروع أمريكي لتعزيز اليأس
فيما مضى أيضًا، ومن أجل أن يعزّزوا روح اليأس لدينا ويقنعونا بأننا ضعفاء وهزيلون وعاجزون، كانت من أهم الوسائل المستخدمة القتل والمجازر، وهدم البيوت، والتهجير العام. أليس هذا ما كان يحصل في لبنان، في عام 1978 و1982 وفي مراحل مختلفة؟
هنا سأستحضر مناسبة – أيضًا للعبرة – هي مناسبة مجزرة بئر العبد التي حصلت عام 1985. كلنا نتذكر تلك الحادثة، والأجيال الجديدة يجب أن تقرأ عنها وتسمع بها، لأنها تحمل عبرة عظيمة جدًا.
طبعًا، كان المستهدف في التفجير، السيارة المفخخة التي تمّ تفجيرها على طريق بئر العبد، هو سماحة آية الله السيد محمد حسين فضل الله رضوان الله تعالى عليه. لماذا كان مستهدفًا؟
سأعود إلى هذا لاحقًا، أخذ الأمريكي القرار، ومعه جهات في الإقليم ومعه جهات في لبنان – لن أسمي كثيرًا لأننا لا نريد في هذه الفترة أن نفتح مشاكل، ولنرى كيف سنُقطّع هذه المرحلة، لكن معروف من كان في الإقليم ومن في لبنان – يعني هؤلاء بعض الناس الذين يقولون لك: نحن سياديون، نحن أحرار، نحن وطنيون، بينما أيديهم إلى هنا (يُشير إلى الزند) في الدم. كانوا متورطين، وفي زمانهم حصل هذا الأمر.
اقرأ ايضاً : كلمة الشهید السيد حسن نصرالله في ذكرى الشهداء القادة 16-12-2023
في كل الأحوال، وُضعت السيارة على طريق بئر العبد، طريق بيت سماحة السيد، بين المسجد والبيت، وتمّ التفجير. من نِعَم الله سبحانه وتعالى، أنه لطف بسماحة السيد.
وهذه القصة معروفة: جاءت أخت من الأخوات، لأن سماحته كان يُصلي بالرجال ثم يعود ويُصلي بالأخوات، وبعد ذلك يفتح لهم مجالًا للسؤال والإجابة، فأطالت الأخت النقاش، وتحرك جزء من الموكب، فوقع التفجير استُشهد ما يزيد على 75 شهيدًا، وما يقارب أو يزيد عن 270 جريحًا، كثير منهم كانت جراحه صعبة. أغلب الشهداء كانوا من النساء والأطفال، وبعض الشهداء كانوا أجنة في أرحام النساء. متى؟ في اليوم العالمي للمرأة!
هذه أمريكا التي تُطالب باليوم العالمي للمرأة، والتي تُزايد على حكومات ودول العالم في كيفية تعاطيها مع المرأة. أليس كذلك؟ هذه أمريكا، هنا في الضاحية الجنوبية لبيروت، عاصمة لبنان، أرسلت لنا سيارة مفخخة، وكانوا يعلمون أن في هذا الطريق، في هذا التوقيت، عندما يخرج سماحة السيد من المسجد إلى بيته، فإن أغلب من في الطريق من النساء، لأن صلاة الجمعة للنساء تكون قد انتهت. لم يُبالوا. نساء، رجال، أطفال، وكانت تلك المجزرة المهولة.
طبعًا، كان هدف العملية هو بث الرعب واليأس في قلوبنا، أولًا من خلال استهداف سماحة السيد رضوان الله تعالى عليه، لما كان يمثله، وما بقي يمثله من موقع متقدم في مواجهة الاستكبار، والمشاريع الأمريكية، والمشروع الصهيوني، واستنهاض أجيال الشباب للالتحاق بالمقاومة وقتال هذا العدو، موقع سماحة السيد معروف للجميع، وخصوصًا في تلك المرحلة.
كان حضوره بارزًا ومؤثرًا، لأن العلماء الآخرين كانوا غير ظاهرين ومختبئين، ولم يأخذوا أماكنهم في الساحة، فكان سماحة السيد يملأ مساحة كبيرة جدًا، واغتياله كان يعني ضربة قاصمة وقاسية جدًا، من جهة أخرى، كان يمثل أملًا للجميع. ومن جهة ثانية، أرادوا أن يقولوا لنا: ثمن مقاومتكم في الجنوب – لأننا نتحدث عن عام 1985 – ثمن انتصاركم هو أن تدفعوا دماء نسائكم وأطفالكم ورجالكم، يعني أنتم عاجزون عن حماية أعراضكم ونسائكم.
نحن سنحول نساءكم إلى أشلاء وأجزاء مقطعة، نحن سنبقر أرحام نسائكم ونقتل فيها الأجنة، هذه كانت رسالة المجزرة عام 1985، رسالة من الأمريكي، ومن الدولة الإقليمية الشريكة، ومن القوى المحلية الشريكة، لكن أيضًا تغلبنا على هذا بالأمل. تحوّل هذا الألم، هذا الحزن، هذه الفاجعة، إلى غضب، إلى تصميم، إلى عزم، لأننا لا نستسلم بهذه الطريقة، ولا ننهار بهذه الطريقة.
قبل أيام، عندما كنا نتحدث عن الجرحى والأسرى، نتذكر الإمام زين العابدين عليه السلام، الذي عاش أصعب الظروف، ورأى كربلاء ومصائبها، ورأى الكوفة، وذهب إلى الشام، ورأى مصائب السبي.
كانت عزيزته أخته، وبناته، وأخواته، وعماته، وأحباؤه، وأقرباؤه جميعًا، بنات رسول الله يُسبين بهذه الطريقة، ويُهددن بالقتل في كل لحظة، ومع ذلك ماذا كانت كلمته المشهورة التي أصبحت شعارًا لنا ولكل من يُهددنا بالقتل؟ الآن سأوسع معناها، لكل من يهددنا بالقتل، بالسيارة المفخخة، بالحرب العسكرية، بالتجويع، بالحصار، بأي طريقة: “أبالموت تهددني يا بن الطلقاء؟ إن القتل لنا عادة، وكرامتنا من الله الشهادة”.
نحن لا نستسلم بالقتل لو قتلتم رجالنا، ونساءنا، وأطفالنا، لا يمكن أن تهتز إرادتنا على الإطلاق، أو يلين عزمنا، أو نشعر بالضعف أو الوهن. لأننا نعتمد على الله، ونثق بالله، ونثق بشعبنا وبقدراته، وبالخير العظيم الموجود فيه، ونثق بأجيالنا، ونثق بشبابنا.
رفض الاستسلام للأمريكيين والتمسّك بالأمل والعمل
في مواجهة الأزمة المستجدة، من ثلاث سنوات حتى اليوم، الأزمة المعيشية والاقتصادية، والآن الأزمة السياسية، أقول للبنانيين: الرسالة الرئيسية يجب أن تكون ألا تيأسوا، هم يريدون منا أن نيأس. ونتيجة اليأس، يريدون الاستسلام، يعني مقابل أن أمريكا…
الآن هناك من يقول لك: لا يوجد حصار. منذ أيام، كنت أستمع إلى محاور يسأل: هل أمريكا هي سبب الفساد في لبنان؟ طبعًا، سبب الفساد في لبنان هم لبنانيون، ولكن أمريكا شريكة في الفساد في لبنان. لا أحد يُخفي هذا الأمر. أمريكا شريكة في الفساد في لبنان، وجزء من الفاسدين والسياسات الفاسدة هم جماعة أمريكا، وبطلب منها، وبإدارة أمريكية، وحماية أمريكية.
لكن، لنترك هذا الموضوع جانبًا. لا يزال هناك من يتجاهل منع المساعدات ومنع الودائع، منذ أيام رغم الخصومة بين السعودية والرئيس أردوغان، والآن هناك انتخابات، ولحسابات سياسية معينة، السعودية أرسلت 5 مليارات دولار كوديعة في البنك المركزي التركي.
أليس هذا صحيحًا؟ من الذي يمنع الودائع؟ الأمريكي هو من يمنع الودائع، قد تكون السعودية لا تريد أن تضع وديعة، ولكنني أعرف دولًا أخرى جاهزة لتضع ودائع، ولكن الأمريكي يمنعها. أعلم علم اليقين أن الودائع ممنوعة، والمساعدات ممنوعة، والقروض ممنوعة، وسُحبت الودائع من لبنان، والاستثمار ممنوع، ما اسم هذا كله؟ ما المطلوب؟ المطلوب هو الاستسلام.
أنا أولًا، ودائمًا كما كنت أقول: لا تتوقعوا منا استسلامًا، لا تتوقعوا منا انصياعًا، لا تتوقعوا منا خضوعًا. كما أن القتل والاغتيالات والمجازر وذبح نسائنا وأطفالنا لم يُخضعونا، ولم يُستسلم لنا، كذلك هذه المعركة لن تدفعنا إلى الخضوع ولا إلى الاستسلام، هذا في موضوع اليأس.
أما في موضوع الأمل، فنحن نقول: نستطيع، إذا تعاونا جميعًا، إذا انفتحنا، فهناك أبواب للحل، ويجب أن نبحث عنها. هناك أفكار نتحدث عنها دائمًا، ويجب أن نطرق أبواب الحل، ليس مسموحًا في لبنان أن يبقى هناك خطاب سياسي يقول: لا نستطيع أن نفعل شيئًا سوى أن نستسلم للشروط الدولية والإقليمية.
أنا طرحت سؤالًا وأعود وأطرحه: هل الذين استسلموا نَجَوا؟ هل الذين استسلموا خرجوا من حالة الغرق التي ما زالوا يغرقون فيها؟
لن أسمي أحدًا، لأننا منذ مدة سمّينا وحصلت مشكلة. من دون أسماء، أنتم تعرفون كل شيء. هؤلاء الذين استسلموا وخضعوا لشروط أمريكا وشروط بعض الدول الإقليمية، هل مُنّ عليهم بالنجاة؟
لا، أبدًا نحن لن نستسلم ونحن نعتقد أن هناك حلولًا، ويجب أن يبقى الأمل قائمًا، لكنه بالتأكيد يتطلب روح تعاون، وتكامل، وشجاعة، وإرادة، الجبناء لا يصنعون مقاومة. الجبناء لا يستطيعون تحرير أرض. الجبناء لا يستطيعون تغيير الواقع.
اليوم، من روح الأمل، نحن نُراهن على هذه الأجيال الطيبة، على الأجيال التي تُخرّجها كل هذه المدارس التي تتحمل المسؤولية، ومن ضمنها مدارس الإمام المهدي عليه السلام، مُجددًا لكل القيمين، ولكل المعلمين والمعلمات والعاملين في هذه المؤسسة التربوية، التعليمية، المؤمنة، المجاهدة، المقاومة، الممهِّدة، كل الشكر، كل التقدير، وكل التبريك في هذه المناسبات العظيمة.
بارك الله فيكم، وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.