مقالاتمواضيع

الشهيد محمد سهوان «أبو قسّام»

من هو الشهيد محمد سهوان (أبو قسام ) ؟

الشهيد محمد سهوان «أبو قسّام» هو ابن قرية «السنابس»، وهو سليل عائلة اشتهرت بالذوبان في حب الحسين(ع)، وكيف لا يكون كذلك وهو ابن الملا «حسن سهوان»، الذي ربّى ثلاثة من ألمع الرواديد في تاريخ البحرين؛ وهم «جعفر» و«مهدي» و«حسين»، وكان لهؤلاء الثلاثة دور مفصلي في تغيير مسار الموكب وإدخال الجانب الثوري فيه بقوة، وذلك رغم فترة الرعب التي كانت تخيّم على البحرين في فترة قانون أمن الدولة.

ففي ذلك الوقت، كان الإخوة في القطيف  والأحساء، يصعقون حينما يحضرون مواكب البحرين، ويسمعون الهتافات الثورية والذكر الصريح لاسم «الإمام الخميني(ق)». الوصول بالموكب إلى هذا المستوى تم لأن الله سخّر رجالاً مثل «آل سهوان» ليجاهدوا بكلمة الحقّ عند سلطان جائر.

«محمد» لم يشارك إخوته في الموكب، ولم يرث نعي الحسين(ع) عن أبيه، لكننا سنجد أن «محمداً» شاركهم ذات الخط الثوري، وأنه لا يقلّ عن إخوته فيما يتعلق بالتأثير على البحرين.

الشّهيد «محمد» بن الملا «حسن سهوان»، كان من مواليد عام 1972م، وهو قد شقّ طريقه مبكراً نحو التمثيل، فكان يشارك في ركب السبايا، وسرعان ما كان «أبو قسّام» يتولّى دور قراءة القرآن في الهودج وهو عمل يتطلب شجاعة خاصة، لم تكن تلك سوى البدايات المتواضعة للشّهيد، فسرعان ما شقّ «أبو قسّام» طريقه ليصنع لنفسه مكانةً مميزة في العمل الإسلامي في «السنابس»؛ حيث صار وجهاً تراه مختلف الأنشطة، وكيف لا يكون كذلك وهو نِتاج مشروع العمل الإسلامي الذي أطلقه الشّهيد «أحمد الإسكافي» سنة 1986م.

في الثمانينات كانت «السنابس» ضمن أول المناطق التي عانت من موجة منظمة من المخدرات ونشر الرذيلة، وكان لرجالات «السنابس» موقف حازم في وجه هذه الموجة، وخصوصاً بعدما تبيّن أن جهاز الاستخبارات كان يقف خلف هذه المؤامرة الدنيئة التي أودت بحياة أعداد كبيرة من الشباب إضافة لما تسببت به من ضعضعة الحالة الإيمانية في القرية.

لذا فقد قام أهالي «السنابس» بتأسيس مجاميع شعبية، وأوكلت لها مهام مختلفة من أجل تحصين القرية في وجه هذا الاستهداف.فكان «أبو قسّام» من بين الشباب الذين يتولون التدقيق على هويات الأجانب عن القرية الذين يأتون لبيع المخدرات، وذلك رغم أن الشهيد حينها لم يكن قد بلغ العشرين من عمره.

وليس من الغريب أن ترصد هذه اللجان بعض أبناء العصابة الحاكمة يمارسون بيع المخدرات، فتم ضربهم وتهديدهم ومصادرة مبالغ ضخمة منهم.القيام بعمل مثل هذا مع فرد من أفراد العصابة يعتبر أمراً بالغ الشجاعة في عهد قانون أمن الدولة سيئ الصّيت.

ما هي قصة مقتل الشرطي في الدراز ؟

في بداية انتفاضة التسعينات، كانت القرى تخرج في مسيرات منفصلة، لكن ومع تطور الأوضاع ابتدأت التجمعات المركزية في البروز.ومن أوائل هذه التجمعات كان تجمع الدراز بتاريخ 16 ديسمبر، فانطلق الشباب من مختلف مناطق البحرين نحو الدراز.في ذلك الوقت كان عمر أبي قسام 22 عاماً، لكنه كان مقداماً وجريئاً في الميدان.

كانت المواجهات في الدراز شرسة جداً، وكان أبو قسّام في الواجهة، أما المرتزقة فقد هجمت على الشباب من مختلف الجوانب، فتراجع أكثر الشباب إلى البيوت، وبقيت القلّة فقط في الشارع، ومن بين من بقي «أبو قسّام»، ورغم قلّة العدد إلا أن حدة المواجهات لم تتغير، لكن الغلبة العددية للمرتزقة دفعت بأحدهم كي يتجبر ويتقدم منفرداً نحو الشباب حاملاً معه سلاح الشّوزن.

أما باقي المرتزقة، فكانوا أجبن من أن يتقدموا نحو الشباب، فاكتفوا بدعم صاحبهم عبر الإطلاق من بُعد، فكان بعضهم يستخدم الرّصاص الحيّ، وكان الوضع خطيراً جداً.

بعض الشباب كان ينادي «أبا قسّام» كي يتراجع، لكن الشهيد رفض ذلك، ومع تقلص المسافة بين المرتزقة والشباب، فإن الوضع كان يقترب من الاشتباك المباشر باليد، فقام كل واحد من الشباب يحمل شيئاً في يده… البعض حمل قطعة حديد، والبعض الآخر حمل (بارية)، أما «أبو قسّام» فحمل حجراً.

ومع اقتراب المرتزقة، فقد كان «أبو قسّام» من أوائل المهاجمين  له؛ حيث قفز الشهيد عليه ووجّه لكمة إلى الشرطي، ثم تمكن الشباب من إرداء المرتزقة أرضاً في هجمة أرعبت باقي المرتزقة، ودفعتهم للانسحاب تاركين صاحبهم يلاقي مصيره.

«أبو قسّام» تمكن من نزع سلاح الشرطي من يده، وكان الجميع يطلبون من الشهيد أن يعطيه السلاح، لكن «أبا قسّام» أصرّ على أن يحتفظ بالسلاح كذكرى له لهذا اليوم المجيد. وبعدها انسحب الشباب فيما أخذ الشهيد السلاح معه…

كيف تم اعتقال الشهيد محمد سهوان (أبو قسام )؟

حادثة الشرطي لقيت صدىً كبيراً، وبعدها قامت قوات المرتزقة بمداهمة العديد من البيوت؛ بحثاً عن الذين شاركوا في تلك المواجهات.في ذلك الوقت كان الشهيد يسكن مع أهله في شقة بـ«إسكان السنابس»، ولكن الشهيد توقف عن النوم في الشقة؛ حيث إنه كان يتوقع الاعتقال في أي وقت.

ولكن حينما تم القبض على مجموعة من الذين شاركوا في الهجمة، يبدو أن الشهيد سمع عن انتهاكات المرتزقة، فأخذته الغيرة، فقرر ألا يترك المنزل للمرتزقة كي لا يقتحموه دون وجود رجل مع النساء.وحينما عاد إلى المنزل أخبر أهله بقراره، فقالت له أخته: «لماذا تقول هذا؟»، فأجابها: «لأن أصدقائي كلهم اعتقلوا».

وفعلاً تم الهجوم على الشقة في أواخر ديسمبر 1994م، وقامت قوات المرتزقة بالعبث بكل حاجيات الشقة، وتمت مصادرة مكتبة الشهيد.وبعدها، تم اقتياد الشهيد إلى جهة مجهولة؛ حيث لم يعرف عنه أهله أي شيء عنه لمدة عام ونصف العام.

الشهيد محمد سهوان ابو قسام

رحلة تعذيب الشهيد محمد سهوان

وفي الاعتقال دام التحقيق مع الشهيد محمد سهوان لفترة عام ونصف، تولى خلالها تعذيبه المعذب «العكوري»؛ حيث تعرّض المعتقَلون على يديه لأشد أصناف التعذيب الوحشيّ.

يقول أحد المعتقلين مع الشهيد في هذه القضية؛ إنه تم أخذه للحمام، وكان الشهيد موجوداً في المكتب الذي بجانب الحمام، وبالرغم من الحالة المأساوية التي كان يمر بها كلاهما إلا أن الشهيد كان محافظاً على معنوياته العالية وروحه الفكاهية، ولكي يرفع «أبو قسّام» من معنويات صاحبه قام بإخراج لسانه «يتبحلس» في حركة ظريفة أضحكت المعتقَل الآخر رغم ما كان يعانيه من آلام التعذيب.

التعذيب لا ينتهي إلا مع انتهاء التحقيق، والتحقيق مع الشهيد محمد سهوان استمر لمدة عام ونصف.لهذا؛ فلا عجب أن تتغير ملامح الشهيد بعد كل التعذيب القاسي الذي لاقاه، ولا عجب ألا يتعرف عليه أهله حينما رأوه للمرة الأولى.

سجن أم طامورة ؟

لم يكن الشهيد محمد سهوان في زنزانة عادية؛ بل كان في طامورة تحت الأرض بعمق 7 أمتار، ولولا النافذة الصغيرة في أعلى تلك الطامورة لعاش الشهيد ظلمة تقارب ظلمة «طامورة السندي» التي عاش فيها إمامنا «الكاظم(ع)». الطامورة دائرية الشكل، وقطرها حوالي 3 أمتار، ولا درج فيها، حتى الطعام يتم إنزاله بالحبال.

ولم يكن في الزنزانة حمام؛ بل يتم إنزال درج ليصعد عليه الشهيد كي يذهب إلى الحمام، كان من حق الشهيد الذهاب للحمام مرتين في اليوم فقط، مرة عند الصباح ومرة أخرى عند المساء.أما إذا احتاج إلى الحمام في أي وقت آخر فكان يتحتم عليه أن ينادي الشرطي الموجود أعلى الطامورة.وكان على الشرطي الاستئذان من الضابط، وبالتالي فقد يتم السماح للشهيد بقضاء حاجته وقد لا يسمح له بذلك!!.

اما الأغلال التي كانت على الشهيد محمد سهوان لم تكن تقارَن بالأغلال في زماننا، فتلك الأغلال تربط يدي الشهيد برجليه وبرقبته أيضاً!!.كانت تلك الأغلال تنقسم إلى جزئين:

الجزء الأول: كان عبارة عن 5 صفائح معدنية صُنعت مِن قِبَل الحداد لتكون ثابتة على جسد الشهيد. هذه الصفائح توضع على رقبة الشهيد وعلى زنديه وكاحليه، وهي تلازم الشهيد طيلة الليل والنهار، وهذا بحد ذاته يعتبر تعذيباً للمعتقل، فهذه الصفائح تعيقه حتى عن قضاء الحاجة وارتداء الملابس.

الجزء الثاني: عبارة عن سلسلة حديدية ثقيلة يتم ربطها بالصفائح باستخدام 5 أقفال…، وكل هذا الوزن يحدّ من حركة الشهيد ويجعلها بالغة الصعوبة.

السجن والحرمان من الحقوق الأساسية

كان الشهيد محمد سهوان محروماً من أبسط الحقوق الإنسانية الأساسية، فكان مثلاً محروماً من كل أنواع الحلاقة، فعلى سبيل المثال طال شاربا الشهيد لدرجة أنه لم يكن بإمكانه أن يأكل دون أن يرفعه بيدٍ ومن ثم يتناول طعامه باليد الأخرى، أما بقية شعر جسمه، فمن البديهي أنه حينما يطول، فإنه يسبب الحساسية والحكّة خصوصاً في فترة الصيف.

كما كان الشهيد يعاني من طول الشعر في الأماكن الحساسة، ومن بين تلك المشاكل كانت الطهارة والصلاة.

إضافة إلى ذلك؛ فقد كان الشهيد يعيش الحاجة الإنسانية للتواصل مع البشر؛ خصوصاً أن عزلته امتدت لعام ونصف، ولكن المتنفس الوحيد أمامه كان الكلام مع المرتزقة الذين كان ينتظر قدومهم بفارغ الصبر كي يتحدث معهم رغم كونهم سجّانيه.

السجن الانفرادي لأيام معدودة يعتبر بلاءً صعباً، قد يفقد فيه الإنسان توازن قواه العقلية، وما عاشه «أبو قسّام» كان أحد أقسى السجون الانفرادية في البحرين، وعلى الرغم من ذلك، فإن ذلك البلاء قد تحطم على صخرة إيمان الشهيد الذي حافظ على تماسك قواه العقلية. بل على العكس تماماً… فالشهيد كان صابراً على بلاء ربّه، وكان يعيش حالة من الاطمئنان والروحانيّة.

الشهيد محمد سهوان في سجن جو

بعد عام ونصف، انتهى التحقيق والتعذيب، وتم الاتصال بأهله كي يزوروه، فكانت تلك هي المرة الأولى التي يعلمون فيها شيئاً عنه.في الزيارة صُعق أهل الشهيد لما رأوه؛ حيث تغيّر شكله لدرجة أنهم لم يعرفوه في بداية الأمر، وذلك بسبب ما أصاب وجهه وجسمه، وذلك إضافة للأغلال التي تربطه من رقبته إلى قدميه.

على الرغم مما كان يعيشه الشهيد محمد سهوان من معاناة، إلا أنه كان يظهر صابراً ثابتاً أمام أهله، وتعلو وجهه الابتسامة، أما أهله فقد كانوا يبكون لحال ابنهم ولما جرى عليه، وأما هو فكان يطمئنهم قائلاً: «أنا بخير… لا تحاتون».في تلك الزيارة، لم يحضر إخوة الشهيد «جعفر» و«حسين» و«مهدي»؛ لأنهم كانوا معتقلين في سجن جوّ.

ومع انتهاء التحقيق تم تحويل ملف الشهيد للقضاء، فكان هو المتهم الأول في قضية قتل الشرطي.المحامون كانوا يتوقعون بحقه حكماً قاسياً بالإعدام، وهو ما كان يثير قلق أهله وخوفهم على مصير ابنهم.رغم أن الشهيد محمد سهوان لم يكن محكوماً بالإعدام، إلا أنه لم يتم إزالة الأغلال عنه؛ بل بقيت عليه إلى أن أكمل ثلاث سنوات كاملة.

بعد إصدار الحكم نقل الشهيد محمد سهوان من سجن التوقيف الحوض الجاف إلى سجن جو المركزي، وهنالك تم تصنيفه في البداية ليكون في مبنى 3 من سجن جو، وهناك أصبح برفقة بعض المعتقلين في قضية الشهيد «عيسى قمبر»، وبعد فترة تم نقل الشهيد إلى مبنى 4، وهناك التقى وللمرة الأولى منذ اعتقاله بإخوته جعفر وحسين ومهدي.

فالسجن الذي شتت العائلة، هو الذي لَمّ  شملها. بقي «أبو قسّام» في سجن جو لغاية التوقيع على الميثاق في 2001م، ولتكون مدة بقائه في السجن سبع سنواتٍ كاملة.ما قاساه الشهيد محمد سهوان كان بالغ الشّدة، لكن لم يغيّر منهجه، ولم يدفع به كي يغادر الساحات؛ بل أن الشهيد محمد سهوان صار أصلب في الحقّ وأقوى، وسنرى كيف أن الشهيد ظلّ مخلصاً لذات المنهج الثّوري حتى آخر يومٍ من حياته…

أبو قسّام والحرية في أحضان العائلة

حينما عاد «أبو قسّام» إلى عائلته، فإنه عاد ليكون مجدداً الشخص الأكثر حيوية بين «آل سهوان». ابتسامته لم تكن تفارقه رغم كل ما عاناه في السجن؛ بل كان يشعّ نشاطاً وحيوية أينما كان. كان الشهيد يصافح الجميع في كل مرةٍ فيها يدخل المنزل، ولم يكن يستثني أحداً كبيراً كان أم صغيراً.

في كل مرةٍ كان الشهيد محمد سهوان ينشر البهجة على الجميع، فكان يمزح ويطلق النكات، ويمزج كل ذلك بالنصح والتوجيه عند الحاجة، كان صديقاً لكل فرد في العائلة حتى المراهقين منهم، لهذا فقد كان «أبو قسّام» هو الوجهة التي يقصدها الجميع عند مواجهتهم لأي مشكلة.

فقد كان مستمعاً جيداً للآخرين، وبارعاً في حل ومعالجة مشاكلهم ومد يد العون لهم.كما كانت علاقته مع والدته مميزة جداً، فكان يمازحها دائماً دون أن يقلل من احترامه لها، كما كان يقوم بتدليكها بشكل شبه يوميّ، ويقضي حوائجها ويقوم بشراء ما تحتاجه لها دون أي كلل أو ملل أو تذمر.

حينما نال الشهيد محمد سهوان حريته وخرج من السجن، باشر بالعمل الإسلامي، ولم يعتزله أو يسمح لانشغالات الحياة أن تبعده عن هذا المسار، أبو قسّام عاد ليكون بحق شمعة من شموع السنابس، وشعلة النشاط في مختلف المجالات، ففي الجانب الاجتماعي كان يعمل على حل مشاكل المتزوجين، وإصلاح ذات البين من أجل الحفاظ على لُحمة الأسر وتفادي انهيارها.

كما كان الشهيد محمد سهوان يفتح مجلسه بشكل دائم كل ليلة ثلاثاء، وفيه كان يتسضيف الشخصيات البارزة في المجتمع كالرواديد والشّعراء والمفكّرين؛ ليفتح المجال لعقد حلقات نقاشية، تجذب الشباب، وتحاول الإجابة على أسئلتهم.

أما بالنسبة لمشروع تعليم الصلاة، فقد تولى على عاتقه مسئوولية عدة لجان من بينها «لجنة الترفيه والمسابقات»؛ هذا إضافة إلى عمله كمدرّس، كان نشاط «أبي قسّام» وشخصيته الاجتماعية المرِحة أحد أسباب التفاف الشباب حوله، كما أن ذلك جعله أحد أبرز الشخصيات المحبوبة في سائر قرية السنابس. كما كان نشاط الشهيد يمتد إلى إسكان السنابس؛ حيث كان ضمن المؤسسين لمشروع تعليم الصلاة في «مسجد المجتبى».

اصابة الشهيد محمد سهوان

في 2011م، وبعد أن تم قمع الدوار للمرة الثانية، تحولت المواجهات إلى المناطق والقرى؛ حيث كانت المواجهات تتجدد وبشكل يومي في أغلب المناطق، فكان القمع الوحشيّ هو لغة النظام في وجه المتظاهرين العزّل.

في السنابس، ومع اشتداد القمع، انسحب أغلب المتظاهرين، لكن أبا قسّام أصرّ على موقفه السابقة؛ من عدم مغادرة الشارع مادام المرتزقة فيها، فكان أبو قسّام يقول: «إذا هذيلين في الديرة أنا ما أدخل».

لم يكن بالإمكان القبض على الشهيد محمد سهوان بسهولة، بسبب معرفة أبي قسّام بشوارع قريته؛ إضافة إلى بنيته الرياضية التي حافظ عليها رغم أنه حينها كان يناهز الأربعين من عمره، لكن شاءت الإرادة الإلهية أن تجتمع عدة ظروف في آن واحد، وأن يتعرض للإصابة، فحينما كان الشهيد في أحد الشوارع، رأى المرتزقة تقترب من ابن أخيه الذي كان عمره حوالي 15 عاماً.

فما كان من الشهيد محمد سهوان إلا أن رماهم بحجر كي يلتفتوا إليه ويتركوا ابن أخيه، وحينما حوّلوا انتباههم إلى أبي قسّام، أراد أن يلوذ بالفرار، لكنه تفاجأ بقدوم فرقة أخرى من جهة لم يتوقعها، فأصبح الشهيد أمامهم وجهاً لوجه، والمسافة بينه وبينهم لم تكن إلا ثلاثة أمتار.

التفت أبو قسّام محاولاً الهروب، لكن عدداً من المرتزقة اطلقوا عليه رصاص الشوزن، فأمطروا جسده بزخات من هذه الشظايا المحرمة دولياً، المسافة كانت قريبة جداً، ولكن أغلب الشظايا استقرت في رأسه ورقبته وظهره؛ بل إن عدد الشظايا في رأسه لوحده كان حوالي )80( شظية، استقرّ بعضها في عظام جمجمته.

استهداف الرأس هو دليل واضح على أنهم كانوا يريدون قتل المتظاهرين لا مجرد تفريقهم، حاول الشهيد الفرار في شوارع السنابس رغم حجم الإصابة، فتمكن من الابتعاد عن المرتزقة، لكن نزيف الدم كان غزيراً، فخارت قواه ليسقط فاقداً للوعي أمام أحد المنازل، أهل ذلك البيت سحبوا أبا قسّام للداخل، لتكون تلك آخر مواجهة يخوضها الشهيد، ولعل تلك الإصابة كانت أحد العوامل التي أدت لوفاته ولو بعد حين، وبعد الإصابة غاب أبو قسّام عن الساحة، ولم يسمع به أحد إلى أن تم اعتقاله…

في البحرین تلقّى الشهيد محمد سهوان الرعاية الطبية الأولية، لكن الشظايا كانت قد انغرست في جمجمته، ووصلت إلى مناطق حساسة في الظهر والرقبة، وصار من الخطورة التعامل معها في البحرين؛ بل كان لابد من نقل الشهيد للخارج لتلقّي الرعاية الطبية الملائمة. الشهيد كان مطلوباً، وقد تعرض منزله للمداهمة من قبل المرتزقة، وبالتالي كان لابد له من الخروج من البحرين بطريق غير رسمي، وبالفعل تمكن الشهيد محمد سهوان من مغادرة البحرين ليتّجه إلى السعودية، لكن تم إلقاء القبض عليه في قطر؛ حيث تم تسلميه للبحرين، وفي هذا الاعتقال تم اتهامه بالتخابر، وهي القضية التي عرفت باسم “خلية قطر” .

في ذلك الوقت، فإن المحامية هي من جاءت إلى أهل الشهيد طالبة الترافع عنه، فكانت تقول: «محمد كان يعمل في المحكمة، وخلال عمله لم يكن يقصر معنا، فأريد أن أرد له بعض الجميل». قد صدر في حق الشهيد حكماً قاسياً وذلك بالسجن 15 عاماً، وفي الاستئناف تم تخفيف الحكم إلى 10 أعوام.

الشهيد محمد سهوان

شهادة ابو القسام

الشهيد محمد سهوان تمنى الشهادة فأعطاه الله طلبه، الشهيد كان يعاني كثيراً من البرد، فكلما اشتد البرد فإنه يتعرض إلى صداع قوي جداً يكاد يقتله، وفي مبنى 6 كانت الحمامات خارج الغرف، والذهاب إليها يعني التعرض للبرد خصوصاً أثناء ليالي الشتاء، وفي إحدى الزيارات قابلتُ أحد المعتقلين الصغار في مبنى 6، وكان يسألني إن كان في مبنى 4 قلنسوة أصلية كي يقوم بتهريبها لـ «أبي قسّام».

وكان يقول لي إن الشهيد محمد سهوان يعاني كثيراً بسبب أن البرودة تؤثر سريعاً على الشظايا المغروزة في جمجمته، فأخبرته أن المبنى خالٍ من أي قلنسوة أصلية، كما اقترحت عليهم خياطة واحدة له، فأجابني أنهم جربوا ذلك إلا أن الناتج لم يكن كافياً لصد البرد. لم تكن معاناة الشهيد من الشظايا مقتصرة على البرد والصداع وحده؛ بل هناك آثار سلبية أخرى لها.

فالشظايا مصنوعة من الحديد، وبالتالي فهي تصدأ مع الزمن، وخصوصاً أن الشظايا بقيت في جمجمة الشهيد لحوالي سبع سنوات، وبالتالي فإنها قد تسبب له التسمم.

يضاف إلى ذلك وجود إهمال طبي شديد تعرض له الشهيد محمد سهوان؛ حيث كان يتصل إلى زوجته قائلاً: «أنا أتألم بشكل طبيعي؛ أنا احتضر هنا، فحاولي أن يأخذوني للعلاج، فهم لا يأخذوني لا للعيادة ولا للمواعيد».

ويوجد تسجيل صوتي يقطّع القلب لهذه المكالمة التي تُبين مدى الإهمال الطبي الشديد الذي كان يعاني منه. في يوم شهادته، كان «أبو قسّام» يلعب كرة القدم، ثم توقف جانباً كي يقوم ببعض تمارين الشد، لكنه أحس بتعب شديد، فتوقف عن التمارين، وتمدد على الأرض. الشباب الصغار أحسوا بأن حالة «أبي قسّام» لم تكن على ما يرام، فأسرعوا بحمله إلى الشرطة، وأصرّوا عليهم بضرورة نقله إلى العيادة التي كانت قريبة جداً من المبنى.

لو تم نقل الشهيد محمد سهوان لنيل الرعاية الطبية في الوقت الملائم، لربما كان بالإمكان إنقاذ حياته، لكن المرتزقة أهملوا أمره، فلم يأخذوه إلى العيادة إلا هو على الرمق الأخير، وحينما وصل إلى العيادة، فإنه لم يلبث فيها إلا قليلاً قبل أن تصعد روحه نحو الله، تلك كانت آخر ظلامات الشهيد في حياته الجهادية. رحل الشهيد ليكون تاريخ 16 مارس 2017م، واحداً من بين أكثر الأيام حزناً في السجن.

تم تسليم جثة الشهيد محمد سهوان بدم بارد إلى أهله؛ حيث اعتبرت السلطات أن الوفاة طبيعية، وتم أخذ الجثمان الطاهر إلى غرفة منزل آل سهوان؛ حيث قام أخوه الرادود «مهدي سهوان» بقراءة أبيات مزجها بدموعه، واختلط فيها صوته ببكائه وبكاء العائلة.

وحينما خرج موكب التشييع كانت «السنابس» تغص بآلاف المشيّعين الذين جاءوا للوداع الأخير.

أما في المقبرة، فقد لبس آل سهوان السواد، وكان لهم نوحٌ يقطّع القلوب، وبكاء يسمعه القاصي والداني. أما مكان القبر، فكان إلى جانب الشهيد الأستاذ «أحمد الإسكافي»… فقد آن للتلميذ أن يرتاح إلى جانب أستاذه. فهناك يرقد شهيدان، وقاتلهما واحد.

اقرأ اكثر عن حياة الشهيد محمد سهوان في كتاب ابو قسام .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى