المحاضرة الثانية عشرة
قوله تعالى: <إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ۳۶ إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ ۳۷ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ>[1].
انقسامات المجتمع في صدر الإسلام
في نهاية المطاف في هذه السورة المباركة، بات واضحًا الاصطفاف بين جبهة الحقّ والإيمان من ناحية، وجبهة الباطل والكفر من ناحية أخرى، وإذا أردنا أن نذكر باختصار جدًا انقسامات المجتمع الإسلامي آنذاك في صدر الإسلام، فهو كان ينقسم إلى ما يلي:
ًاالأول: قيادة رسالية تتمثّل بشخصية الرسول القائد (ص)، والثُلّة المؤمنة من القيادات من المهاجرين والأنصار، وعلى رأسهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع).
وفي المقابل قيادة جبهة الكفر ومشركي قريش المتمثّلة بأبي سفيان ومن لفّ لفّه من رؤوساء قريش ورؤساء القبائل الأساسيين.
الثاني: المنافقون، فالمنافقون بحسب الظاهر يحسبون على جبهة الإسلام، لكنّهم بحسب الواقع والحقّ مع جبهة الكفر ومع جبهة الباطل. والمنافقون أيضًا بدورهم ينقسمون إلى أقسام: قيادة نفاق، وطلائع قيادية، وجمهور منافق، كما أنه هناك جمهور تابع لجبهة الإيمان، إضافةً إلى القيادة والمجموعة القيادية الأساسية والقاعدة من المؤمنين الصادقين. لكن يوجد هناك جمهور، وهذا الجمهور يحتاج دائمًا إلى تبيين الحقائق؛ فهذا الجمهور يتأثّر بكلام الطلائع الرسالية لجبهة الحقّ، ويتأثّر بكلام قيادات ورؤوس النفاق والمتنفذين من جماعة النفاق، فهم في مهبّ الريح؛ فتارةً مع الحقّ، وتارةً أخرى ضد الحقّ، وإذا صحّ التعبير نوضّح المطلب عن طريق الألوان، فالبعض لونه أبيض وهذا لون الإيمان، والبعض لونه أسود وهذا لون الباطل ولون الكفر، والبعض لونه أصفر متمايل إلى الأسود وهذا لون النفاق، لكنّ البعض لونه رماديٌّ، وهذا اللون الرماديُّ في المجتمع هو السواد العظم في المجتمع حتى في صدر الإسلام، فأصحاب اللون الرماديّ هم الذين يتأثّرون بالقيادات وبالطلائع وبأصحاب النفوذ، وأصحاب الثروة، وأصحاب السلطة، ويتأثّرون بالإعلام، يتأثّرون بعوامل متعددة.
فجبهة الحقّ والإيمان، إذا استطاعت أن تحتوي هؤلاء أصحاب اللون الرماديّ، وتجعلهم يحضنون الإيمان والجهاد، ويتحلّون بالقيم الأخلاقية الرائدة، فالنصر يكون حليفًا لجبهة الإيمان. وإذا حصل عكس ذلك، يكون في النصر خلل، فالله تبارك وتعالى عندما يخاطب الرسول الأكرم (ص) فيقول له: <هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ>[2]، ليس بالضرورة أن يكون المؤمنون الأكثرية الساحقة من المجتمع، فالمؤمنون هم طلائع الرسالة مثلًا، حتى إنّكم ترون في الصدر الأول أنّ القرآن الكريم يقسّم هؤلاء «313» من أصحاب بدر إلى قسمين: <وَإِذ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ>[3]، و<إِنَّ فَريقًا مِنَ الْمُؤْمِنينَ لَكارِهُونَ>[4]، ثمّ إنّ القسمين لأصحاب بدر انقسما في زمن أمير المؤمنين (ع) إلى ثلاثة أقسام:
- قسم قليل مع أمير المؤمنين (ع).
- قسم مع الناكثين ومع القاسطين ومع المارقين.
- قسم ثالث حيادي؛ نتيجة الغباء والحماقة وعدم البصيرة؛ مثل أبي موسى الأشعري، الذي عندما دعوه ليقاتل في جبهة الحقّ والنهوض ضدّ الناكثين، أخذ يصف أمير المؤمنين (ع) بأوصاف عالية؛ بأنّه إمام هدىً وحقّ، لكن هناك إشكاليّة صغيرة عند هذا الإمام، فإنّه لا يجوز القتال ضدّ أهل القبلة، ففي زمن رسول الله (ص) لم يكن اقتتال ضدّ أهل القبلة، وهؤلاء أهل القبلة أيضًا، فنحن نقف موقف الحياد. أو الزبير بن العوام مع أنّه كان – كما يذكر السيوطي في الدر المنثور عنه – يقول: كنّا نقرأ هذه الآية ردحًا من الزمن ولا نفقهها <وَاتَّقوا فِتنَةً لا تُصيبَنَّ الَّذينَ ظَلَموا مِنكُم خاصَّةً>[5] حتى وقع الاقتتال، وأصحاب بدر انقسموا إلى قسم مع علي وقسم ضدّ علي، فسقط في الفتنة.
كيفية انتصار الإسلام
الشاهد في ذلك أنّ الإسلام دائمًا ينتصر بالقيادة الصالحة أوّلًا، وبالطلائع الرسالية الذين يقفون إلى جانب القائد ثانيًا؛ أي المجموعة القيادية أو (مؤسّسة القائد) إذا صحّ التعبير. وثالثًا بالكوادر المؤمنة الواعية المجاهدة المضحّية الحاضرة في الساحة التي تريد للإسلام أن يتقدّم، وهؤلاء لا يمثّلون بالضرورة أكثرية المجتمع؛ بل ربما يكونون أقليّة في المجتمع، والأكثرية الساحقة لغيرهم، ولكن كلّما كانت الصفوف بين المؤمنين المجاهدين الواعين مع القيادة أكثر، فاستحكام الانتصار يكون أكبر <إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ>[6].
مع هذه المقدّمة ندخل في تفسير الآية، فالآية في نهاية المطاف تخاطب أصحاب اللون الرماديّ من المجتمع، وهم الأكثرية الساحقة، فالخطاب ليس للمؤمنين الخُلّص المضحّين، والخطاب ليس موجّهًا لجبهة الباطل الذين هم مستمرون بباطلهم، وليس موجّهًا لرؤوس النفاق، وإنّما هو للقاعدة لقاعدة الناس، فالآيات في النهاية تدعو إلى التضحية بالنفس والمال في سبيل الله، وأنّ هذا أفضل لهم وأفضل للمجتمع إذا كانوا يعون. ثم تحذّرهم في النهاية من أنّ الإسلام ليس قائمًا بالأشخاص، فإن لم تكونوا أهلًا لنصرة الدين ولحمل هذه المسؤولية، فإنّ الله يستبدل بكم أقوامًا آخرين ينصرونه. هذه خلاصة السورة ونهاية المطاف فيها.
صفة أكثرية الناس
انتبهوا إلى قوله تعالى: <إِنَّمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْـَٔلْكُمْ أَمْوَٰلَكُمْ>[7]، ففي هذا المقام أذكر كلام سيّد الشهداء (ع) يخاطب أهل الكوفة قائلًا: «النَّاسُ عَبِيدُ الدُّنْيَا، وَالدِّينُ لَعِقٌ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّتْ مَعَايِشُهُمْ، فَإِذَا مُحِّصُوا بِالْبَلَاءِ قَلَّ الدَّيَّانُون». فالإمام يقصد بهؤلاء الناس الأكثرية، والأكثرية تعني أصحاب اللون الرماديّ، فقد قلنا: عندنا لون أبيض ولون أسود، والأبيض جبهة الحقّ، والأسود جبهة الظلام، والأصفر المتمايل إلى الأسود جبهة المنافقين والذين في قلوبهم مرض، لكنّ الأكثرية الساحقة من المجتمع لونها رماديّ، مذبذبون يريدون أن يعيشوا وتسير أمورهم في الحياة بعيدين عن منطق الإيمان ومنطق الجهاد والتضحية والفداء وأمثال ذلك، فالآية تخاطب هؤلاء <وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ>، إنّ الله تبارك وتعالى لا يريد – أيّها الناس أيّها الجمهور – أن يأخذ كل أموالكم عندما يأمركم بالزكاة أو الخمس أو الإنفاق في سبيله؛ فأولًا: هي ليست لكم؛ بل هي حقٌّ لغيركم. وثانيًا: الإنفاق والخمس والزكاة ومساعدة الفقراء هو لصالحكم، فالله سبحانه لا يريد أن يأخذ جميع أموالكم. بالمناسبة؛ إنّ الإنسان المؤمن المتعبّد حتى لو يأمره الله تبارك وتعالى بتقديم جميع أمواله في سبيل الله، فهو مستعدّ أن يقدّمها ويقدّم روحه ونفسه معها.
قصة كاظم كربلائي
في المقام أذكر لكم قصة واقعية ومؤثّقة: أحد الأشخاص من أراك (قصبة العراق) تُسمّى (عراق إيران)، اسمه (كاظم كربلائي)، كان في زمن آية الله العظمى البروجردي، وهو أمّيٌّ لا يقرأ ولا يكتب، أتى إلى أحد المزارات، ففجأةً رأى نورًا يشعُّ في الآفاق، فأصبح قادرًا على تلاوة القرآن والتعرّف على الآية القرآنية وكان يرى في الآية نورًا إلهيًّا، وهو أصلًا لا يعرف القراءة والكتابة. فجاءوا به إلى المراجع، ومنهم السيّد البروجردي، وهو من كبار المجتهدين آنذاك، فأخذوا يمتحنونه، فكانوا يجمعون الآية مع رواية مثلًا، ومع أنّ الروايات هي نور أيضًا، لكنّه يقول: هذه تختلف عن الآية القرآنية، فهذه ليست بآية، فحتى لو أضافوا كلمة ضمن الآية فهو يعرفها ويميزها عن الآية، وكذلك إذا أنقصوا كلمة، كان يعرف ذلك أيضًا، ويسألونه عن ظهر الغيب فيحيب، فهو حافظ للقرآن. لقد انفتحت له القدرة الباطنية مع أنّه أمّيّ، فكيف حصل على هذه القدرة؟ سألوا عن حياته، فكان إضافةً إلى أنّه ملتزم بالحلال والحرام، يزكّي أمواله، لكنّه كان قد فهم مسألة الزكاة بهذه الصورة: عُشر أو نصف العشر له، وتسعة أعشار وباقي الأموال يدفعها زكاة؛ أي تسعة من عشرة يدفها زكاة ويُبقي واحدًا لنفسه، فكان قد فهم المسألة خطأ، لكنّه مع ذلك مستسلم للأمر متعبّد بالوظيفة الشرعية، فيقول: طالما عليّ أن أقدم تلك الأموال فلابدَّ أن أقدّمها. كان مخلصًا وعصاميًا، ففُتحت الآفاق له. وتلك القصة وثّقت في كتاب ونشرتها بدايةً مؤسّسة (في طريق الحقّ)، وهي قصة معروفة جدًا أخذها السيّد نواب صفوي إلى مصر.
الإنفاق في سبيل الله وصفة البخل
<وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ 36 إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا>[8]، الله تبارك وتعالى لا يريد أن تقدّموا جميع أموالكم، <فَيُحْفِكُمْ>؛ أي: ويًصرُّ عليكم بالسؤال ويتشدّد عليكم، إحفاء: يعني شدّة وتشدّد بأنّه لابدّ أن تقدّموا جميع أموالكم، <تَبْخَلُوا>، أنتم غير ذاهبين لتقديم أموالكم، فالأموال عزيزة عليكم، <وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ> أحقادكم نتيجة بخلكم، <هَا أَنْتُمْ هَٰؤُلَاءِ>، (ها) للتنبيه والتأكيد، لماذا تبخلون؟ <تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ>، الإنفاق في سبيل الله لا يعني إعطاء جميع الأموال؛ بل بعضًا من الأموال، <فَمِنْكمْ مَنْ يَبْخَلُ>، قسمٌ منكم يبخلون، وقسم آخر لا يبخلون؛ كالمهاجرين والأنصار الذين <وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ>، هم بحاجة، ولكن يؤثرون على أنفسهم، <وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ>، هذا المسكين يضرُّ نفسه بالبخل، والبخل ليس بصالح الإنسان، <وَاللَّهُ الْغَنِيُّ>، لو تلتفتون إلى أنّ مصدر الثروة هو الله الغني المطلق، <وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ>، الإنسان هو الفقير المطلق، إذًا؛ لماذا تبخلون؟ <وَإِن تَتَوَلَّوْا>، يعني وإن تتركوا الدّين، يسيطر عليكم حبّ الدنيا، ويسيطر عليكم، إضافةً إلى حبّ الدنيا، الشيطان ويوسوس لكم، وتركنون إلى الدنيا وتتركون خطّ الإيمان والجهاد والتضحية والفداء، <يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ> يبدّلكم الله بأقوام آخرين، <ثمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم>، فالقوم الآخرون الذين يأتون ليسوا مثلكم؛ يعني لا يحبّون الدنيا ولا تأخذهم وسوسة الشياطين ويضحون في سبيل الله وينصرون الإسلام. وهذا يطلق عليه (قانون الاستبدال)، وهي سُنّة مشروطة. طبعًا؛ فيما يتعلق بهذه الآيات الشريفة، نقول:
البخل لصيق بوجود الإنسان؛ لأنّ الإنسان يحبُّ ذاته، وحبّ الذات يسبّب البخل؛ لذلك، يقول الله تبارك وتعالى: <وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ>[9]، النفس الشحيحة أي: كثيرة البخل. الإنسان يحبُّ نفسه ويحب المِلك والثروة التي يمتلكها.
ثمّ إنّ الإنسان هلوع، والهلع يعني الجزع والحرص والبخل.
وكذلك؛ الإنسان قتور، يقول الله تعالى: <إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ۱۹ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا 20 وَإِذا مَسَّهُ الْخَیْرُ مَنُوعًا>[10]، إذا كان عنده خير يمنعه ولا يعطي، <إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا>، القتور موجود في آية أخرى.
عوامل البخل
إنّ عوامل البخل باختصار هي:
العامل الأول: وسوسة الشيطان، فالشيطان يحرّك الإنسان <الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ>[11]، فيوسوس له الشيطان ويقول له: إذا أنفقت من أموالك فستصير فقيرًا، <وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ>، الفحشاء هنا مفسّرة بالبخل؛ أي لا تقدم ولا تنفق أموالك، كما في مجمع البيان.
العامل الثاني: الخوف من الفقر، كما في آيات كثيرة، ومن جملتها هذه الآية الشريفة: <قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُورًا>[12]؛ يعني لو نفترض أنّ الله تبارك وتعالى قدّم للإنسان خزائن السماوات والأرض، فهذا الإنسان يمسك ولا ينفق منها للآخرين خشية الفقر، <خَشْيَةَ الإِنفَاقِ>؛ يعني خشية الفقر بسبب الإنفاق من المال، فيقول: إن أبذل أموالي أصبح فقيرًا.
العامل الثالث: التفسير الخاطئ للقضاء والقدر الإلهيين، فيقول: إنّ الله تبارك وتعالى هو الرزاق، فهو سبحانه رزقني، ولو شاء أن يرزق هذا الفقير لرزقه، فليس من الضروري أن يرزقه، فلا ينفق من أمواله له، <وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ ٱللَّهُ أَطْعَمَهُ>[13]، فلماذا نحن نطعمه؟ لو أراد الله أن يطعمه لأطعمه، فلو جاءه الفقير سائلًا، يقول له: إنّ الله يعطيك. هذه هي عوامل البخل بالإجمال إضافةً إلى حبّ الذات الذي تكلّمنا عنه.
علاج البخل
أمّا علاج البخل، فيكون من خلال ما يلي:
أولًا: الالتفات والتوجّه إلى وعد الله للمنفقين في سبيل الله: <وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا>[14] خلافًا لوعد الشيطان <وَما تُقَدِّموا لِأَنفُسِكُم مِن خَيرٍ تَجِدوهُ عِندَ اللَّهِ>[15].
ثانيًا: الاعتقاد بأنّ الرزّاق هو الله <اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ>[16]، فإذا أنفق أحد الأشخاص أمواله، فلا تقل له: أكثرت. وهذا ثابت بالتجربة أيضًا.
ثالثًا: معرفة أنّ البخل بضرر الإنسان <ومَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ>[17].
رابعًا: التمرّن على الإنفاق، على الإنسان أن يمرّن نفسه على ممارسة الإنفاق، فيكون عنده رياضة في الإنفاق، ويكرره حتى يعالج البخل، والآية الشريفة تقول: <وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ>[18]؛ أي أنّ كلَّ من يحفظ نفسه من البخل الشديد يكون ناجيًا وناجحًا، فالمجاهد ليس ببخيل؛ بل هو منفق، فأوّل شيء هو مستعدّ لإنفاقه في سبيل الله هو نفسه، والثاني هو أمواله: <إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ>[19].
الجهاد تجارة مربحة في إنفاق النفس وإنفاق المال <وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ>[20]، لكنّ المجاهد له مواصفات، فالمجاهد الحقيقي هو: <التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ>[21]. جاء شخص اسمه عبّاد البصريّ ينصح الإمام السجاد (ع) في طريق الحجّ، وكان يقول له: يا عليّ بن الحسين تركت الجهاد وصعوبته، واخترت الحجّ ولينته وإنّ الله يقول: <إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ>[22]، فقال له: «أكمل الآية». بدأ يقرأ <التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ>[23] إلى آخر الآية، ثمّ قال الإمام (ع): «إذا وجدت هؤلاء، فالجهاد معهم أفضل من الحجّ». من شروط الجهاد ومن شروط الحركة في سبيل الله لنصرة دين الله أن يجاهد الإنسان نفسه، ويوجد باب في وسائل الشيعة بعنوان: باب من يجوز له تجميع العساكر؛ يعني شروط القيادة العسكرية الجهادية، ذُكرت فيه هذه الرواية، وهي أكثر من خمس صفحات، جاء في آخر الرواية أنّ السائل يقول للإمام (ع): إذا كانت هذه الشروط كلّها موجودة، فقل لنا أن نترك الجهاد، فنحن لا نستطيع أن نحققها، فقال له الإمام: لا؛ لا أقول لكم اُتركوا الجهاد؛ بل أقول لكم: حقّقوا هذه الشروط.
ولعمري لقد جاء الأثر في أنّ الله ينصر هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم – نستجير بالله -، يمكن أن ينتصر الدين من خلال جهاد المجاهدين، لكنّ المجاهد إذا لم يزكّ نفسه، فهو لا يحصل على شيء، وبالتالي يضيع بالمسير.
استبدال قوم بقوم آخرين
وصلنا إلى الآية الشريفة: <وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ>. هذه الآية خلاصة ما ورد في السورة من أنه إذا تركتم نصرة الإسلام ونصرة الدين، فالله ينصر هذا الدين، وهذه سنّة الله القطعية المشروطة، فيها شرط وقيد <فَإِن تَوَلَّيتُم>؛ أي تركتم الإيمان والجهاد والتضحية والفداء بالنفس والمال، فالله يأتي بقوم غيركم لا يتركون الإيمان والجهاد والتضحية والفداء، وينصر الإسلام بهم. وهذا نسميه (قانون الاستبدال وسنُّة الاستبدال). ففي التوظيف الإداري، إذا رأى رئيس الإدارة أنّ أحد الموظفين في إدارته غير مؤهل وغير كفوء، يعزله ويوظف شخصًا آخر غيره، وكذلك إذا كان هناك وزير لا يقوم بواجباته، فيُقال من الوزارة، وينصّبون وزيرًا آخر بدلًا منه. وقضية نصرة الدين من هذا القبيل، فالآية خطابها للأفراد والمؤسسات والبلدان والمجتمعات والأجيال عبر الزمان والمكان على طول التاريخ، ليس فيها استثناء، فهي قاعدة عامّة مفترضة.
سؤال: هل تحقّقت هذه الآية في الواقع الخارجي؟ وهل صار هناك تولٍّ واستبدال؟ وهل هناك بعض الناس تركوا نصرة الدين أو لا؟ المقصود بالتولّي ليس ترك الإسلام فقهيًا، فقد يكون الناس على الإسلام شكلًا، فمثلًا الأجيال التي تلي المسلمين الأوائل تبقى على الإسلام، وهو مسلم بالجنسية والهوية، لكنّ الحضور الفاعل في الميدان هو للمؤمن الصادق المجاهد الذي يضحّي في سبيل نصرة الإسلام، ولا يريد أن يعيش، ويدبّر حاله ومعيشته كيفما اتّفق، فهذا يعتبر توليًّا.
هناك آيات أخرى تشرح لنا التولّي في سورة المائدة؛ هي: <يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ۵۴ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ۵۵ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ>[24]. هذه الآيات تشرح أنّ التولّي عن الإسلام هو الإعراض عن الإسلام، فعندنا ارتدادٌ فقهيٌّ وارتدادٌ اجتماعيّ سياسيّ، والارتداد الفقهيّ يعني ترك الشهادتين، أو الارتداد مثلًا بالنسبة للتشيع ترك ولاية أمير المؤمنين (ع) نستجير بالله. وليس هذا هو المقصود من التولي في بحثنا؛ وإنما يبقى بالجنسية والهوية مسلم، مؤمن شيعي، لكن من حيث نصرة الإسلام يصبح مرتدًا سياسيًا واجتماعيًا؛ أي بعيدًا عن نصرة الإسلام. وكذلك المجتمع قد يكون مرتدًا سياسيًا..
خصائص المجتمع المرتد سياسيًا واجتماعيًا
أولًا: يحبّون الدنيا والدنيا تحبّهم بدلًا من أن يحبهم الله ويحبوه، وتعاطفهم يكون على أساس حبّ الدنيا؛ بيع وشراء، وأخذ وعطاء، أعطني وأعطيك <أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ>[25].
ثانيًا: الأخوّة الإيمانية تكون قوية عند الذين ينصرون الإسلام، ويُعتبرون كمجتمع واحد، لكنّ المجتمع المرتد سياسيًا واجتماعيًا مجتمع أنانيٌّ؛ فكلٌّ فرد فيه يفكّر في نفسه ويتّبع مصلحته، ومصلحته حتى لو كانت عند اليهوديّ والمسيحي والمجوسيّ والملحد والكافر وعدو الإسلام، فإنّه يتبعها ويراعيها، فيصير ذليلًا على الكافر، كما نرى اليوم هؤلاء الذين يهرولون خلف أمريكا والصهيونية ويتحدّثون بالتطبيع السياسيّ والتطبيع الاجتماعيّ، فإنّ منطقهم الثروة والمال وحبّ الذات، وليس لديهم منطق آخر، ويظنّون أنّه نوع تجارة ومعاملة حتى لو ضيّعوا الإسلام، فالأمر ليس مهمًّا عندهم، فيصيرون أذلة عند اليهود، قِبلتهم أمريكا وإسرائيل، وليست قبلتهم الكعبة المشرفة. فهذا ارتداد سياسيٌّ اجتماعيٌّ.
المجتمع المؤمن المجاهد
<أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ>[26]، المجتمع المؤمن المجاهد المضحيّ يكون صلبًا في مواجهة أعداء الإسلام، وهم بعكس المجتمع المرتد، والمجتمع المرتد متشدد وقاسٍ تجاه المؤمنين المجاهدين؛ فهم يعذّبونهم ويسجنونهم ويخطفونهم ويقتلونهم ويحاصرونهم، لكنهم بالنسبة للكفّار ليّنون يفتحون لهم المجال في كلّ شيء.
من جملة خصائص المجتمع المجاهد أنهم يجاهدون في سبيل الله، لكنّ ذلك المجتمع المرتد سياسيًا واجتماعيًا يترك الجهاد في سبيل الله. المجتمع المجاهد لا تأخذه في الله لومة لائم، لكنّ هؤلاء يحتاطون متحفّظين على كلّ شيء يخافون من ظلّهم، ويسمّون أنفسهم معتدلين، أمريكا تسمّي البعض (جبهة الاعتدال العربي)، ويقصدون بجبهة الاعتدال العربي، جبهة المتسكّعين وراء أمريكا وإسرائيل، وليس هو باعتدال، وإنما هو الإسلام الليبرالي. يخافون من كلّ شيء، يريدون أن يحفظوا مصالحهم المادية.
البعد الآخر لهذا الخط الجهادي؛ اتّباع ولاية أمير المؤمنين (ع) <إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ>[27]، لكنّ جبهة الارتداد السياسيّ الاجتماعيّ بعيدون عن خطّ ولاية محمّد وآل محمّد (ص)، وبالتالي هذا الخطُّ خطّ نصرة دين الله وخطُّ حزب الله <وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسولَهُ وَالَّذينَ آمَنوا فَإِنَّ حِزبَ اللَّهِ هُمُ الغالِبونَ>[28]، أمّا أولئك فهم مقابل خطّ حزب الله.
وبالعودة إلى السؤال الذي طرحناه أولًا؛ وهو أنّ هذا الاصطفاف بأن يأتي قوم ينصرون الإسلام بدلًا من قوم كانوا ينصرون الإسلام سابقًا واليومخذلوه ، هل تحقّق أو لم يتحقّق في زماننا؟
نقول في الجواب: إنّ واحدة من علامات صحّة نبوّة النبيّ (ص) أنّه أخبر في ذلك الوقت بأنّ هذا التولّي والإعراض عن الإسلام للمسلمين الأوائل والأجيال سوف يتحقّق، ويأتي قوم، هؤلاء القوم أنتم تقاتلونهم على التنزيل وهم يقاتلونكم على التأويل؛ على تطبيق الإسلام، أيّ قوم هؤلاء؟ المذكور في الروايات سلمان وقوم سلمان. وهنا أذكر لكم الروايات الواردة في سلمان الفارسي وقوم سلمان (إيران الإسلام)، ولا يبعد أنّ هذه الروايات فيها إطلالة وإشارة إلى الثورة الإسلامية.
الإمام الراحل (رحمه الله)، عندما يتحدّث عن مصحف فاطمة (عليها السلام)، يقول: كان جبريل ينزل ويسأل فاطمة الزهراء ويحدّثها، ومن جملة الأحاديث؛ أحاديث ما يجري على ذرّيتها إلى زمان ظهور الحجّة (عجل الله فرجه). ثمّ يقول الإمام (رحمه الله): وليس من المستبعد أنّ في ضمن أخبار مصحف فاطمة أخبار ما يجري اليوم في إيران؛ يعني في الثورة الإسلامية، وهذا ليس بعيدًا، فعندما نزلت هذه الآية الشريفة؛ وهي قول الله تبارك وتعالى: <إِنْ تَتَوَلَّوْا یَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَیْرَكمْ ثُمَّ لا یَكونُوا أَمْثالَكمْ>، فرح رسول الله، وقال: هذه الآية بشّرتني بشارة أفضل لي من الدنيا وما فيها، وهذه البشارة الامتداد لنصرة الإسلام. ما هي تلك الروايات؟
الروايات الواردة في سلمان الفارسي وقومه
الرواية الأولى: عن الإمام الصادق (ع): «لاَ يَخْرُجُ مِنْ شِيعَتِنَا أَحَدٌ إِلاَّ أَبْدَلَنَا اللَّهُ بِهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ؛ وذلك لأنّ الله يقول: <إِنْ تَتَوَلَّوْا یَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَیْرَكمْ ثُمَّ لا یَكونُوا أَمْثالَكمْ>»[29]. <فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ>، الذي يخرج عن الخطّ يضرّ بنفسه.
الرواية الثانية: علي بن إبراهيم عن محمّد الحميري عن أبيه عن السندي ابن محمّد عن يونس بن يعقوب عن يعقوب بن قيس، قال: «قال أبو عبد الله (ع): يا ابن قيس <وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم> عنى أبناء الموالي المعتقين»[30]. يعني أبناء الموالي هؤلاء ليست عندهم قبيلة وليسوا بعرب، هم معتقون، يُعتقون لوجه الله، فهؤلاء يصيرون بدلًا، والموالي المقصود بهم الإيرانيون.
الرواية الثالثة: وهي رواية مشهورة لدى الفريقين: عن ابن طريف عن ابن علوان عن جعفر عن أبيه (عليهم السلام)، قال: «قال رسول الله (ص): لو كان العلم منوطًا بالثريا لتناولته رجال من فارس»[31].
الرواية الرابعة: وبهذا الإسناد قال النبيّ (ص) في فارس: «ضربتموهم على تنزيله، ولا تنقضي الدنيا حتى يضربوكم على تأويله»[32].
<يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ> قومًا آخرين <ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ> في التولي والزهد والإيمان، وهم الفرس، وليس المقصود بالفرس الفرس بالجنسية، المقصود بهم البيئة والجوّ العام، فإذا أردنا أن نترجم كلمة الفرس في هذا الزمان، فهي تعني خطاب الثورة الإسلامية ومن ينضوي تحت هذا الخطاب ممن ينصر الثورة الإسلامية.
الرواية الخامسة: قال الطبرسي في مجمع البيان: «روى أبو هريرة أنّ أناسًا من أصحاب رسول الله قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين ذكر الله في كتابه؟ وكان سلمان إلى جنب رسول الله، فضرب يده على فخذ سلمان، فقال: هذا وقومه، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان – وليس العلم فقط – منوطًا بالثريا لتناولته رجال من فارس»[33].
الرواية السادسة: وفي مجمع البيان: أبو بصير عن أبي جعفر، قال: «<إِنْ تَتَوَلَّوْا يَا مَعْشَرَ اَلْعَرَبِ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ> يعني الموالي»[34].
الرواية السابعة: عن أبي عبد الله، قال: «قد والله أبدل بهم خيرًا منهم الموالي»[35].
هذا من المصادر الشيعية. أمّا من المصادر السنيّة، فتفسير البيضاوي، وتفسير القرطبي، قول المحاسبي رواية ابن أبي حاتم وابن الجرير وعبد الرزاق والبيهقي والترمذي وغيرهم، ثمّ يأتون إلى هذه الرواية ويذكرون رواية أخرى أيضًا: «أنّه لمّا نزلت هذه الآية فرح بها رسول الله، وقال: هي أحبُّ إليّ من الدنيا»[36].
والزمخشري في الكشّاف يغيّر البحث في هذه الآية ويقول: إنّه يأتي بخلق جديد، والخلق الجديد الملائكة. بينما هناك تناقض في كلام الزمخشريّ؛ لأنّه توجد آية أخرى حول الخلق الجديد تتعلّق بخلق السماوات والأرض <إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيد وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ>[37]، وهذه الآية غير التولّي؛ فالمقصود بالتولي؛ التولي عن الجهاد وعن الإيمان وهذه الأمور.
خلاصة الكلام أنّ هذه الآية لا تتعلّق بالأقوام فقط، وهذا الخطاب ليس هو بخطاب تفضيل قوم على قوم؛ بل بيان سُنُّة إلهيّة. وهذه السنّة الإلهية تتجدّد في كلّ الأجيال، وفي زماننا الحاضر الثورة الإسلامية انطلقت من إيران، وهذه الثورة صار لها أنصار في العالم، منهم في لبنان وفي اليمن وفي المنطقة بشكل عام، وتشكّل محور المقاومة الإسلامية، فلو افترضنا أنّ بعض الإيرانيين يريدون أن يكفروا بالنّعمة ويتركوا هذه الثورة، فالله تبارك وتعالى يعطيها إلى أقوام آخرين ينصرون هذه الثورة إلى أن يظهر الحجّة (عجل الله فرجه). فالمهمّ على الإنسان أن يستمرَّ في الخطّ ويلتفت إلى أنّ هذا تحذير إلهيٌّ كبيرٌ <وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم>[38]. وفي نهاية المطاف ينبغي أن نأخذ هذا التحذير الإلهيّ بعين الجدّ والاعتبار، ونستلهم منه درس الاستقامة والمقاومة والثبات على الإيمان والجهاد والاستعداد للتضحية والفداء في سبيل الله وحبّ الشهادة، وأن نكون من الطلائع الرساليين ومن الجنود الحقيقيين لصاحب الأمر والزمان (عجل الله فرجه).
اللّهُمَّ اجعَلنا مِمَّن تَنتَصِرُ بِهِ لِدينِكَ، وتُعِزُّ بِهِ نَصرَ وَلِيِّكَ، ولا تَستَبدِل بِنا غَيرَنا؛ فَإِنَّ استِبدالَكَ بِنا غَيرَنا عَلَيكَ يَسيرٌ وهُوَ عَلَينا كَثيرٌ، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.
- [1] محمد: 36-38
- [2] الأنفال: 62
- [3] الأنفال: 7
- [4] الأنفال: 5
- [5] الأنفال: 25
- [6] الصف: 4
- [7] محمد: 36
- [8] محمد: 36-37
- [9] النساء: 128
- [10] المعارج: 19-20
- [11] البقرة: 268
- [12] الإسراء: 100
- [13] يس: 47
- [14] البقرة: 268
- [15] المزمل: 20
- [16] الرعد: 26
- [17] محمد: 38
- [18] الحشر: 9
- [19] التوبة: 111
- [20] نفس المصدر
- [21] التوبة: 112
- [22] التوبة: 111
- [23] التوبة: 112
- [24] المائدة: 54-56
- [25] المائدة: 54
- [26] نفس المصدر
- [27] المائدة: 55
- [28] المائدة: 56
- [29] بحار الأنوار، ج23، ص387.
- [30] بحار الأنوار، ج64، ص174.
- [31] المصدر نفسه.
- [32] بحار الأنوار، ج22، ص55
- [33] الطبرسي، تفسير مجمع البيان، ج9، ص180
- [34] نفس المصدر
- [35] بحار الأنوار، ج22، ص52؛ ومجمع البيان، ج9، ص108.
- [36] القرطبي، تفسير القرطبي، ج16، ص258
- [37] فاطر: 16
- [38] محمد: 38