المحاضرة الثامنة
قال تعالى: <أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها 24 إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ 25 ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ ٢٦ فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ ٢٧ ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ ٢٨ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ 29 وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ ۚ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ>[1].
الكفار والمنافقون وعدم التدبر في القرآن
إنّ هذه الآيات الشريفة تتحدّث أيضًا عن المنافقين، وعن الكُفّار كذلك؛ لأنّ مشكلة الكفار ومشكلة المنافقين هي عدم التدبّر في القرآن الكريم، ولو تدبّروا القرآن لعرفوا الحقّ ولاهتدوا كما اهتدى المؤمنون.
التدبّر – كما قال الراغب الأصفهاني في المفردات – التفكير في دُبِر الأمور. وقال صاحب كتاب مختار الصحاح: التدبير في الأمر النظر إلى ما تؤول إليه عاقبته، والتدبّر التفكّر فيه. وفي المصباح المنير: الدُبُر خلاف القُبُل من كلّ شيء، ومنه يقال لآخر الأمر: دُبُر، وأصله ما أدبر عنه الإنسان وتدبّره تدبرًا؛ أي نظرتُ في دُبُره، وهو عاقبته وآخره.
هذه خلاصة معنى التدبّر في اللغة، وهو يعني النظر إلى عاقبة الأمر، لا إلى ظاهر العبارة ومعرفة الظاهر فحسب، كما قال الطبرسي في مجمع البيان: التدبّر تصرّف القلب بالنظر إلى العواقب[2]؛ أي التوجّه إلى العاقبة، والتفكّر تصرّف القلب بالنظر إلى الدلائل، والحركة من المعلوم إلى المجهول، لكنّ التدبّر استشراف المستقبل، وهذا الأمر مهم جدًا؛ يعني الربط بين الماضي والحاضر والمستقبل واتّخاذ الدروس والعبر فيما يستفيد منه الإنسان، وهذا ما يُسمّى تدبّرًا. طبعًا؛ توجد قاعدة قرآنية يذكرها العلامة الطباطبائي (رضوان الله تعالى عليه) في علوم القرآن ويستفيد منها في تفسير الميزان كثيرًا، وتلك القاعدة القرآنية تُسمّى قاعدة (الجري والتطبيق)، وهي مأخوذة من رواية «إن القرآن حي لم يمت، وإنه يجري كما يجري الليل والنهار، وكما يجري الشمس والقمر»[3]؛ أي يتحرّك من زمان إلى زمان، ومن وضعٍ إلى وضع. وإنّ قاعدة الجري والتطبيق هذه تعني معرفة المصاديق القرآنية، ولأنّ الإنسان لا يعرف المصاديق القرآنية بنفسه؛ لأنّها تحتاج إلى عمق، وهذا العمق يعني إرجاع المفاهيم النظرية إلى الواقع الميداني، يقوم تفسير أهل البيت (عليهم السلام) بذكر المصاديق القرآنية، وهو من باب الجري والتطبيق؛ فمثلًا: قال الله تعالى في الآية الشريفة: <يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ>[4]، ويفسّرها الإمام الباقر (ع) بأنّها ولاية عليٍّ، وولاية عليٍّ هذه من باب أبرز المصاديق للحياة ومن باب الجري والتطبيق، وهذا الجري والتطبيق يرتبط واقعًا بباطن القرآن؛ إذ للقرآن ظاهر وباطن، ولكلّ باطن بطن إلى سبعين بطنًا، وهذه البواطن القرآنية لها اسم آخر غير التدبّر؛ وهو التأويل، والتأويل هو عمل أهل البيت (عليهم السلام)؛ وغير أهل البيت لا يستطيع أحد تأويل القرآن ومعرفة حقيقته، لكنّنا مأمورون بالتدبّر، فما هو الفرق بين التدبّر والتأويل؟
الفرق بين التدبّر والتأويل
التأويل: معرفة الباطن.
التدبّر: معرفة العواقب ومعرفة الدروس من خلال الاستظهار والاستنطاق القرآنيّ، ومعرفة التفسير القرآني الصحيح.
نحن مأمورون بالتدبّر، والقرآن لا يؤنّب الكفّار والمنافقين فقط على أنّهم لا يتدبّرون القرآن الكريم؛ بل يأمر المؤمنين أيضًا بأن يتدبّروا في قراءة القرآن.
روايات في الحثّ على التدبّر
وفي هذا الصدد توجد جملة من الروايات؛ نذكر منها:
الأولى: عن الرسول الأعظم (ص) أنّه قال: «ما أنعم الله (عز وجل) على عبد بعد الإيمان بالله أفضل من العلم بكتاب الله، والمعرفة بتأويله»[5]. وتلك المعرفة بتأويله تعني حقائق القرآن، وليست المعرفة بتأويله هنا بذلك المعنى الذي قلنا إنّه خاصٌّ بأهل البيت (عليهم السلام).
الثانية: عن أمير المؤمنين (ع) أنّه قال: «أَلَا لَا خَيْرَ فِي قِرَاءَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَدَبُّر»[6]؛ أي ليست فيها فائدة، وإنّما فيها ثواب فقط، فمثل هذه القراءة لا تنطوي على اهتداء وإيمان وتقوى وعمل صالح، ولا يتحوّل القرآن الكريم من خلالها إلى دستور الحياة، فهذا ما لا يحصّله منها الإنسان من هذه القراءة.
الثالثة: عن الرسول الأعظم (ص) أنّه قال: «ويلٌ لمن لاكها بين لحييه ثمّ لم يتدبّرها»[7]؛ أي أنّه يقرأ الآية بين اللحية، وهذا يعني أنّه يقرأ الآية ويحرك فكّه وفمه أثناء القراءة، لكنّه لا يتدبّر فيها، ولا يعرف حقيقتها.
الرابعة: عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: «يا مفضّل! لو تدبّر القرآن شيعتنا لما شكّوا في فضلنا»[8]. بالتدبّر القرآني يعرف الإنسان روح القرآن الكريم، وهو القيادة والولاية الإلهيّة المتجسّدة بولاية محمّد وآل محمّد (ص)، فهذه المعرفة تحتاج إلى التدبّر. كما قد مرّ بنا سابقًا في بداية تفسيرنا للسورة المباركة عندما ذكرنا فضل هذه السورة وأنّ الذي يقرأها لم يشكّ ولم يتردّد في إيمان، ويكون حسن العاقبة في القبر، ويعرف حقيقة فضائل أهل البيت (عليهم السلام)، ويعرف حقيقةً مثالب أعداء أهل البيت، ويعرف خطّ الحقّ وخطّ الباطل، وذكرنا أيضًا أنّ هذه السورة هي سورة التولّي والتبرّي، وهذه الأمور إنّما نعرفها ونقف عليها من خلال التدبّر في عمق هذه السورة. إذًا؛ هنا أمَرَ الإمام الصادق (ع) بأن نتدبّر في تلاوة القرآن.
وكذلك تحدّث الإمام الصادق (ع) في دعاء تلاوة القرآن أو ختم القرآن فيما يتعلّق بكلمة التدبّر القرآني قائلًا: «اللَّهُمَّ إِنِّي نَشَرْتُ عَهْدَكَ وَكِتابَكَ، اَللَّهُمَّ فاجْعَل نَظري فِيْهِ عِبادَةً، وَقِراءَتي تَفَكرًا، وَفِكرَتِي اِعْتِبارًا، وَلا تجْعَلْ قِراءَتِي قِراءَةً لا تَدَبُّرَ فيها، بَلِ اجْعَلني أَتدَبَّرُ آياتِهِ وَأَحْكامَهُ، آخِذًا بِشَرائِعِ دينِكَ، وَلا تجْعَلْ نَظَري فِيْهِ غَفلة».
كيفية التدبّر في القرآن الكريم
سؤال: كيف نستطيع أن نتدبّر القرآن؟ ما هو المنهج؟
إنّ في التدبّر في القرآن الكريم، معرفة كيفية ربط الماضي والحاضر واستشراف المستقبل، وهذا أمرٌ مهمٌّ جدًا؛ أي من خلال استنطاق القرآن «ذَلِكَ الْقُرْآنُ فَاسْتَنْطِقُوه»[9]. بمعنى أنه إذا أردنا أن نعرف الحوادث الواقعة وشؤون حياتنا في أبعادها المتفاوتة، فلابدّ أن نعرض تلك المسائل على القرآن الكريم ونسأله؛ لكي نحصل على النتيجة والجواب الدقيق منه. وهناك موانع من هذا التدبّر الصحيح، والمانع الكبير يكمن في (أَم)، فهي انفصالية؛ أي أتت (أم) منفصلةً في قوله تعالى: <أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها>[10]؛ أي أنّ هذا القلب إذا كان عليه قفل، مقفول ومسدود، وليس ذلك الانسداد هو الانسداد الكبير الذي نقرأه في علم الأصول؛ بل هو الانسداد القلبي، يتحول القلب إلى حجارة أو أشدّ من ذلك، فالقلب يصل إلى درجة القساوة، وإذا صار الإنسان – نستجير بالله – قسيّ القلب وأُغلِقت عليه الأمور، يُبتلى بعدّة مشاكل:
الأولى: موت فطرته؛ أي لا تكون عنده فطرة حيّة حتى يستفيد منها، والقرآن كتاب الفطرة وكتاب الإنسانية، فلا ينظر ذلك الإنسان الذي تموت فطرته بنظرة صحيحة، وهذه مشكلة كبيرة.
الثانية: يتغلّب جنود الجهل على جنود عقله، فلا يستطيع عقله أن يستوعب بشكل صحيح. الأمور تكون مغلقة عليه من الداخل، فكيف تكون من الخارج؟! من خارج نفسه، هناك الأنبياء، والأوصياء، والأولياء، والعلماء، والواعظون، والمجالس الحسينية، وهذه كلها لا تؤثّر عليه أيضًا. فلا من الداخل يتأثر؛بسبب إغلاق القلب؛ إذ عنده قفل شقاوة، ولا من الخارج، وهو كلام الأنبياء، وكلام الأوصياء، والقرآن، وروايات أهل البيت (عليهم السلام) التي هي جلاء للقلوب، فـ (حديثنا جلاء للقلوب) لا ينفعه؛ إذ حديث أهل البيت ينفع الشخص الذي تصدّع قلبه قليلًا، وليس هذا الذي صار قسيّ القلب، وينظر للأمور بمقياس غير إلهيّ، فهو لا يستفيد من القرآن أيضًا؛ بل يتأذّى من تلاوة القرآن – نستجير بالله من ذلك – ويصيبه الكسل والملل <أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها>[11]، والقفل على القلب يعني الشقاء – نستجير بالله منه – والشقاء هو قفل القلب وانسداده وصيرورته كالحجارة. وهذا هو المانع الكبير للتدبّر في القرآن. ثمّ إنّ هذا المانع قد يكون شخصيًّا، كما لو كان زيد قسيَّ القلب، وقد يكون اجتماعيًا، وهذا المجتمع إذا تحوّل إلى مجتمع قسيٍّ من ناحية سياسية واجتماعية، فإنّه حينئذٍ لا يستطيع أن يستوعب القيادة الإلهيّة ويدركها؛ بل يتحرّك حقيقةً ضدّ تلك القيادة الإلهيّة.
الأمّة بعد رحيل النبيّ (ص) في خطبة الزهراء (عليها السلام)
وهذه الخطبة الفدكيّة للسيّدة الزهراء (عليها السلام) تشرح لنا حقيقة الأمّة بعد رحيل الرسول الأكرم (ص)، وكيف أنّهم لم يتدبّروا القرآن، فانحرفوا عن مسيرة القيادة الحقيقية. قالت (عليها السلام): «فلمّا اختار الله لنبيّه دار أنبيائه ومأوى أصفيائه ظهر فيكم حسكة النفاق». الحسكة: تعني الشوكة المؤذية؛ أي ظهرت بوادر النفاق فيكم، وهذا النفاق منعكم. ماذا يفعل النفاق إذا ظهر في المجتمع؟ إذا صار المجتمع منافقًا «وسمل جلباب الدين»، وصار لباس الدين سملًا – والسمل يعني البائد والعتيق – لم يتوجّه إليه المجتمع ولا يعبأ به، فيقولون: لا فائدة في الدين، «ونطق كاظِمُ الغاوين»؛ أي النفوس المريضة المنافقة التي استسلمت ولم تُسلِم ولا أسلمت، هذه النفوس المنافقة المريضة تنتهز الفرصة للكلام، «ونبغ خامل الأقليين»، كان أقلية، لم يكن شيئًا يُذكر، ليس له كلام مسموع، وعندما يرى الجوَّ جوَّ نفاق، وجوًّا يتناسب مع كلامه، يظهر ويبرز آراءه الباطلة، «وهدر فريق المبطلين»، يظهر أهل الباطل، «فخطر في عرصاتكم»؛ أي فيظهر هؤلاء في مجتمعكم لوجود الأرضية المناسبة، وتكون الصولة والجولة لهم، «وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفًا بكم»؛ أي أنّ الشيطان يرى الفرصة موآتية؛ لأنّ التيارات الضالّة يعاضد أحدها الآخر، فالشيطان ينتهز تلك المناسبة هاتفًا بكم، «فألفاكم لدعوته مستجيبين»، فيجدكم ويراكم مستجيبين له، «ولقربه متلاحظين، ثمّ استنهضكم فوجدكم خفافًا»؛ أي بدلًا من أنّ يكون الله سبحانه هو الذي يدعوكم للقيام، فإنّ الشيطان يدعوكم للنهوض ضدّ الحقّ، «فأحمشكم فألفاكم غضابًا»، يعني أنّ الشيطان حرّككم وجعلكم غاضبين متحمّسين ضدّ الحقّ، «فوسمتم غير إبلكم ووردتم غير شربكم». بهذا النحو يصير المجتمع متحركًا ضدّ الحقّ نتيجة هذا النفاق ونتيجة الشقاء، نستجير بالله. في عالمنا المعاصر، توجد هناك حركة كبيرة من قبل أمريكا وإسرائيل وأتباعهم للتخويف من الإسلام ومن مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ومن خطّ المقاومة، وهناك حرب ناعمة ضدّ المبادئ والقيم الإسلامية، وتعمل على إثارة الشبهات الكثيرة، وإنّ هذا يحتاج إلى تصدٍّ من أهل الحقّ في مواجهة الباطل، وإلّا فإنّه يؤثّر – نستجير بالله – على شريحة كبيرة من المجتمع، وبالتالي يأخذ مأخذه.
علامات قسوة القلب
يقول أمير المؤمنين (ع): «من أعظم الشقاوة القساوة»[12]. توجد عدّة علامات لقسوة القلب؛ وهي كما يلي:
الأولى: تلاوة القرآن بدون خشوع وخضوع، فقد ورد في الرواية الشريفة: «حزّنوا أنفسكم بتلاوة القرآن». فعلى الإنسان حينما يبدأ بتلاوة القرآن، أن يتلوه كأنّما قد نزل الآن على النبيّ الأكرم (ص)، وأننا نحن المخاطبون بهذا القرآن <يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا>، فلابدّ أن نقول: لبّيك لبّيك؛ أي أن نشعر بأنّ الآية قد نزلت الآن، فنستجيب لذلك النداء. وهذه واحدة من المشاكل التي يعاني منها الإنسان، يقول الله تبارك وتعالى: <اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ>[13].
إذًا؛ العلامة الأولى أن يقرأ الإنسان القرآن بدون خشوع وتأثّر واستفادة منه، فقد قال الله تعالى: <وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا>[14]، فلابد له عندما يقرأ الآية أن يتوجّه إليها ويسمعها بقلبه وينظر إليها بعين باطنه، ويعي ما يريده الله تعالى منه في هذه الآية.
الثانية: جمود العين وقلّة دمعها من خشية الله <وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ>[15]، هؤلاء هم المؤمنون، أمّا أهل الشقاء، فهم بالعكس لا يهتمّون أساسًا.
الثالثة: عدم الاعتبار بالموت، والضحك عند القبور، فبعض الناس عندما يمشي في تشييع جنازة أو يمر من عند القبر كأنه ذاهب في نزهة دون خجل من عدم الاعتبار. وهنا من المفيد والجيد أن يقرأ الإخوة المؤمنون كتاب (منازل الآخرة) للمرحوم الشيخ عباس القمّي، فهو يتحدّث عن أحوال القيامة وطريق النجاة منها، ولا أريد أن أطيل عليكم بالنسبة لهذا الأمر، ولكن أذكر بعض الأبيات للعلامة الحلي (رضوان الله تعالى عليه) في شأن الموت؛ حيث قال:
يا راقدًا والمنايا غير راقدة | وغافلًا وسهام الليل ترميه | |
بم اغترارك والأيام مرصدة | والدهر قد ملأ الأسماع داعيه؟ | |
أما أرتك الليالي قبح دخلتها | وغدرها بالذي كانت تصافيه | |
رفقًا بنفسك يا مغرور إنّ لها | يومًا تشيب النواصي من دواهيه |
الرابعة: الكِبْر؛ وهو من الأمور التي تؤثّر في شقاء القلب وقساوته <إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ>[16].
الخامسة: روح الحقد والحسد والكراهية للآخرين بدلًا من النُصح والتعاون ومساعدتهم ورفع الأذى عنهم، قال الله تعالى: <وَتَعاوَنوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقوىٰ وَلا تَعاوَنوا عَلَى الإِثمِ وَالعُدوانِ>[17]، ويقول الرسول الأكرم (ص): «الدين هو النصيحة»، النصيحة طلب الخير للآخرين، كما قال الله تعالى: <لَقَدۡ جَاءَكُمۡ رَسُول مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوف رَّحِيم>[18]، وقال ايضًا: <لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ>[19].
مواصفات المؤمن
على المؤمن – وبالخصوص القيادات الصالحة؛ سواء أ كانت تلك القيادة مؤسّسة أم شخصًا، وعلى أيّ مستوى من المستويات – أن يتمتّع بهذه المواصفات:
أولًا: قيادة شعبية من الناس وإلى الناس <لَقَدۡ جَاءَكُمۡ رَسُول مِّنۡ أَنفُسِكُمْ>.
ثانيًا: يتحمّل معاناة الناس <عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّم>.
ثالثًا: <حَرِيصٌ عَلَيۡكُم>؛ أي حريص على خدمة الناس وحمايتهم، وكفّ الأذى والمكر عنهم.
رابعًا: <بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوف رَّحِيم>، يساعد المؤمنين من منطلق الرحمة والرأفة.
ويقول الرسول الأكرم (ص): «مَثَلُ المُؤمِنينَ في تَوادِّهِمْ وَتَعاطُفِهِمْ وَتَراحُمِهِمْ مَثَلُ الجَسدِ؛ إذا اشتكى مِنهُ عُضوٌ تَداعى له سائرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والحُمّى»[20].
وفي الأمالي للشيخ الصدوق بسنده عن أبي عبد الله (ع): «كان أبي يقول – يعني الإمام الباقر (ع) -: ما شيء أفسد للقلب من الخطيئة، إنّ القلب الذي يواقع الخطيئة، فما تزال به حتى تغلب عليه فيصير أسفله أعلاه، وأعلاه أسفله»[21]. من الأمور التي تساعد على قساوة القلب، الخطيئة والمعصية، نستجير بالله، فلابد للإنسان أن يكون حذرًا؛ خصوصًا في شهر رمضان، وإنّ الورع عن محارم الله هو من أفضل الأعمال في هذا الشهر، كما في الرواية.
وفي كتاب علل الشرائع عن الإمام الصادق (ع) عن أبيه: «أوحى الله إلى موسى (ع): يا موسى لا تفرح بكثرة المال، ولا تدع ذكري على كلّ حال؛ فإنّ كثرة المال تُنسي الذنوب، وإنّ ترك ذكري يُقسي القلوب»[22]. نستجير بالله.
وفي علل الشرائع أيضًا عن أمير المؤمنين (ع): «ما جَفَّتِ الدُّموعُ إلّا لقَسوةِ القلوبِ، وما قَسَتِ القلوبُ إلّا لِكَثْرةِ الذُّنوبِ»[23].
تعلّم الكتاب والحكمة
إذًا؛ لا بدَّ للتدبّر القرآني: أولًا؛ من التزكية؛ أي تزكية النفس، فلا يمكن التدبّر في القرآن من دون تزكية نفس ومن دون قلب طاهر <لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ>[24]، فالقرآن يحتاج طهارةً ظاهريةً مثل الوضوء، وطهارةً باطنيةً حتى يصل الإنسان إلى محضر القرآن الكريم ويستفيد منه <يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ>[25]. وبعد التزكية يأتي دور تعلّم الكتاب والحكمة؛ لذلك، للتدبّر بعد تزكية النفس، نحتاج إلى معرفة ظواهر القرآن وتفسير القرآن من أهله، وأهل القرآن هم أهل البيت (عليهم السلام) «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي»[26].
عرض وقائع الحياة على القرآن
ثمّ عرض وقائع الحياة على القرآن، فالقرآن الكريم – كما قُلنا – له باطن وله ظاهر، فهناك مراتب للتأويل ومراتب للتنزيل. يقول البعض: إنّ التدبّر من مراتب التأويل؛ لأنّه معرفة عواقب الأمور، بينما التأويل هو حقيقة الأمر، وكما أنّ في القرآن مراتب للتأويل، فإنّ فيه مراتب للتنزيل أيضًا.
ماذا تعني مراتب التنزيل؟ خذ الاستخارة مثلًا، وهي مسألة فقهية، ومن أنواع وأقسام الاستخارة، الاستخارة بالقرآن، وهي مجرّبة أيضًا. يقول آية الله العظمى المرحوم الشيخ بهجت (رحمه الله): (الاستخارة معجزة القرآن)؛ لأنّ الاستخارة، إذا حصلت بشروطها، فهي تنطبق على واقع الإنسان. طبعًا؛ إنما يلجأ الإنسان إلى الاستخارة بعد الاستشارة، وبعد الترديد؛ إذ إنّ بعض الناس يستخير كثيرًا في الصغيرة والكبيرة حتى لو لم يكن في حالة شك وترديد. فإذا استخار بعضهم بعد تحقق الشروط، يشخصون الآية الشريفة ويطبّقونها على واقع الإنسان. لماذا؟ لأنّها مرتبة من مراتب التنزيل، وما هو المقصود بذلك؟ يعني كما أنّ القرآن له مرتبة عندما نزل على النبيّ الأكرم (ص)، كذلك في زماننا، فإذا استفدنا من هذا القرآن نفسه بإعجازه بنحوٍ صحيح، فهو يعالج مشكلتنا، كما يقول الرسول الأكرم (ص): «إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم، فعليكم بالقرآن؛ فإنّه شافع مشفّع وماحِلٌ مصدّق»[27]. هذه حقيقة الأمر القرآني، والاستخارة ليست مجرد استخارة فقط؛ بل هي نوع من التأمل ومعرفة عمق الآية واستشراف المستقبل وحال الإنسان من خلال القرآن، كما قال أمير المؤمنين (ع): «في القرآن خبر ماضيكم وحالكم ومستقبلكم».
أحد الأمور التي تساعد في التدبّر القرآني معرفة السُنن الإلهيّة، ومعرفة القصص القرآنية، ومعرفة الخطوط العريضة في القرآن عقيدةً وشريعةً وأخلاقًا، ومعرفة النُظم الإسلامية في القرآن؛ النظام الثقافي، والنظام الاقتصادي، والنظام الاجتماعي، والنظام السياسي، والنظام الأمني، والنظام الصحي، فهذه الأنظمة تساعد الإنسان على أن يكون عنده إلمام وإشراف على القرآن بحيث يعرف الشؤون المختلفة؛ لذلك، إذا توجّه إلى المعنى اللغوي لبعض الآيات القرآنية مثلًا وعرف تلك الأنظمة، يتمكّن من أن يتلقّى الدروس الخاصّة من القرآن في الزمان الخاص. هذه خلاصة الأمر فيما يتعلّق بالتدبّر في القرآن الكريم.
أسباب الارتداد
قال الله تعالى: <أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ۲۴ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ>[28]. من خلال هذه الآية، نعرف أنّ المنافقين الذين تتحدّث عنهم هذه الآيات الشريفة كانوا في البداية مؤمنين، لكن لديهم نفاق أخلاقي وفي قلوبهم مرض، وهذا النفاق الأخلاقي نتيجة اتّباع الهوى، ونتيجة التدرّج من حالة التزيين لسوء الأعمال إلى التسويل الشيطاني وارتكاب المعاصي والطمع وحبّ الدنيا إلى الارتباط بأعداء الدين وأعداء جبهة الحقّ ومودّة هؤلاء، وشيئًا فشيئًا آل بهم الأمر وجرّهم إلى الارتداد. كما أنّه قد كان عندنا بعض الطلبة بهذا الشكل، فإنّه يتقلّب من حال إلى حال، فإذا طالع الإنسان مسيرته، يرى أنّ هناك نقطة سوداء في بداية حياته لم يلتفت إليها فتكثّرت <إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ>؛ أي رجعوا من الهداية إلى الضلال <مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ..>، فلماذا صاروا هكذا؟
أولًا: لأنّ <الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ>، والتسويل يعني التسهيل وتزيين الباطل.
ثانيًا: بعد ذلك: <وَأَمْلَى لَهُمْ>. إذا قرأنا (أملى) بصيغة الفعل المعلوم، كما في رواية حفص عن عاصم – وهذا في القرآن موجود – فحينئذ يكون المعنى أنّ الشيطان أَملى لهم، لكن إذا قرأناها بصيغة الفعل المجهول، كما في بعض القراءات (أُملي لهم)، فيعني أنّ الله تبارك وتعالى أَملى لهم. والإملاء: يعني الإلقاء على الشيء كثيرًا؛ أي يظنّون أنّ أمرهم حسن، قال تعالى: <وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ>[29]. إذًا؛ التسويل الشيطاني والتزيين والإملاء هو سبب الارتداد، قال الله تعالى: <ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ>[30]، كان عندهم ارتباط مع أعداء الإسلام <كَرِهُوا مَا أَنـزلَ اللَّهُ>، وقد تحدثنا عن هذه الآية سابقًا في بداية السورة الشريفة، وهي قوله تعالى: <ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ>[31]؛ يعني الكفّار، جبهة الباطل، يقول: هؤلاء ارتدّوا؛ لأنّهم صاروا ارتبطوا بأعداء الإسلام <قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ>، المقصود بهم اليهود أو مشركو قريش المتحالف بعضهم مع بعض، وقد أصبح للمنافقين اتصال بهؤلاء <سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ>. لماذا لم يقولوا: سنطيعكم في كلّ الأمر؟ بعض الأمر يعني أنّ في القتال أهدافًا مشتركة، فقالوا: بعض الأمر حتى يحفظوا ظاهرهم مع جبهة الإيمان، يقولون: نحن مؤمنون لكن ليس في كلّ الأمر، فلم يكونوا كفارًا مائة بالمائة، في بعض الأمر حتى يخفوا الأسرار، والله سبحانه يقول: <وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ>، الإسرار يعني ما أسرّوا، إذا قرأناها بالفتحة (أسرارهم): جمع السر، والله تبارك وتعالى يعرف الأسرار واحدًا تلو الآخر. ثمّ إنّ إفشاء سرّهم وفضحهم في جبهة الحقّ هو شأن الله تبارك وتعالى. هناك آيات شبيهة لهذه الآيات في سورة الحشر؛ يقول الله تعالى: <أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ>[32]، انتبهوا إلى كلمة (إخوانهم)، فالمقصود بالإخوان اليهود ومشركو قريش، فلهم علاقة أخوّة مع اليهود ومع مشركي قريش. ما هو حال أخوّة المنافق مع الإنسان المؤمن؟ <الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ>[33]؛ لأنّهم يخافون من الموت <لَئِنۡ أُخۡرِجُواْ لَا يَخۡرُجُونَ مَعَهُمۡ وَلَئِن قُوتِلُواْ لَا يَنصُرُونَهُمۡ وَلَئِن نَّصَرُوهُمۡ لَيُوَلُّنَّ ٱلۡأَدۡبَٰرَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ>[34]، لا يبقون في الجبهة؛ لأنّهم يخافون من الموت، فلا يحضرون حين القتال لا مع المؤمنين ولا مع المشركين؛ بل إنّهم مشاغبون وفتنويون يقلّبون الأمور كما يريدون. هذه هي الحقيقة القرآنية التي ذكرها لنا الله سبحانه وتعالى عن المنافقين.
وصلّى الله على محمّد وآل محمّد.
- [1] محمد: 24-30
- [2] الشيخ الطبرسي، تفسير مجمع البيان، ج3، ص141
- [3] بحار الأنوار، ج35، ص404
- [4] الأنفال: 24
- [5] بحار الأنوار، ج1، ص217
- [6] الكافي، ج1، ص36
- [7] مجمع البحرين، ج5، 287
- [8] بحار الأنوار، ج31، ص628
- [9] الكافي، ج1، ص61
- [10] نفس المصدر
- [11] نفس المصدر
- [12] غرر الحكم ودرر الكلم، ص679
- [13] الزمر: 23
- [14] الفرقان: 73
- [15] المائدة: 83
- [16] غافر: 60
- [17] المائدة: 2
- [18] التوبة: 128
- [19] الأحزاب: 21
- [20] سفينة البحار، ج1، ص56
- [21] الأمالي للصدوق، ص397
- [22] علل الشرائع، ج1، ص81
- [23] نفس المصدر
- [24] الواقعة: 79
- [25] الجمعة: 2
- [26] جامع أحاديث الشيعة، ج25، ص5
- [27] الكافي، ج2، ص599
- [28] محمد: 24-25
- [29] آل عمران: 171
- [30] محمد: 26
- [31] محمد: 9
- [32] الحشر: 11
- [33] نفس المصدر
- [34] الحشر: 12