مواضيع

المحاضرة التاسعة

قوله تعالى: <فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ 27 ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ 28 أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ 29 وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ>[1].

حال المنافقين في الآخرة

لا زلنا مع الآيات الشريفة لهذه السورة التي تتحدّث عن جبهة الحقّ والإيمان وجبهة الباطل والكفر، فقد عرّجت السورة إلى ذكر جملة من الأمور المرتبطة بذلك، وقد حدّثنا الله تبارك وتعالى عن المنافقين وسماتهم وما يتعلّق بالنفاق وطبيعة المنافقين ونتيجة النفاق وسوء عاقبة النفاق؛ إلى أن وصل بنا المقام إلى هذه الآية الشريفة التي يقول فيها الله تبارك وتعالى: <فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ>[2]؛ أي أنّ سوء عاقبة أفعال المنافقين لا تتعلّق بالدنيا فقط؛ بل بالموت وضغطة القبر ومنازل الآخرة؛ حيث تتبيّن لهم أكثر. وهذه الفاء تفريع؛ أي كيف استيحاشُهم وذُعرهم ووضعهم عندما تتوفّاهم الملائكة؟ ولا شكّ أنّ إحدى سمات المنافقين – كما تحدّثنا عن ذلك سابقًا – أنّهم يخافون من الموت؛ لذلك، يتخلفون عن الجهاد ويفرّون منه، وذكرنا الآيات الشريفة في هذا الصّدد من هذه السورة وباقي السور؛ نظير: <كَأَنَّمَا يُسَاقُّونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ>[3]، أو <يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ>[4]. طبعًا؛ هذا الخوف من الموت يؤدّي بهم إلى التخلف عن الجبهة وترك الميدان وإلقاء بعض المعاذير؛ مثلًا: <إِنَّ بُيُوتَنَا عَوۡرَة>[5]، أو يقولون: إنّ الطقس حارٌّ، فلا تنفروا في الحرّ، وأمثال هذه المعاذير التي يذكرونها. وهذا يظهر على المقاتل عندما يقاتل؛ فإما أن تُوجّه له الضربة من الأمام وفي أثناء المواجهة مع العدو، فيكون جريحًا أو شهيدًا، وإمّا أن يفرّ من الزحف، وهذا الفرار من الزحف من السبع الموبقات وله أحكامه، والآية الشريفة تُبيّن هذا الأمر <إِذْ یَتَوَفَّى الَّذِینَ كفَرُواْ الْمَلآئِكةُ یَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ>[6]؛ أي بدلًا من أن يصابوا في المواجهة مع العدو والكافر في الجبهة تضربهم الملائكة عند الموت، وعندما تكون عندهم حالة الفرار من الزحف يضربون أدبارهم، فهم يضربون على وجوههم استقبالًا وعلى أدبارهم فرارًا، ًاًالأنّهم خافوا من الموت، تستقبلهم الملائكة بالضرب والعذابفي أوّل منازل الآخرة، وهو القبر في حالة الموت، فإنّ هذه الوجوه التي وقوها من السيوف حين فرّوا تستقبلها الملائكة بالضرب، وفي الأدبار أيضًا بسبب فرارهم وتوليتهم الدّبر.

والفرار من الزّحف وترك القتال – كما قلنا – من كبار الموبقات السبع، الموبقات كبائر الإثم، واليوم المعركة ممتدّة، وليس بالضرورة أن تكون المعركة في جبهة القتال وأن يفر الإنسان منها، فقد يكون الفرار بأن يقدّم التنازلات ويترك حالة الجهاد والمقاومة وينشغل بمعيشته اليومية، فهذا ملاكًا نوعٌ من الفرار من الزّحف.

مسألة فقهية في الفرار من الزّحف

إنّ الفرار من الزّحف فيه أحكام فقهية كثيرة أذكر مسألة واحدة فقط، والمسألة هي: إذا غلب على ظنّه الهلاك مثلًا بنسبة سبعين أو ثمانين أو تسعين بالمائة، فيحتمل أنه إذا بقي في الجبهة يُقتل ويستشهد، ففي هذه الحالة، هل يجوز له الفرار؟ قولان:

القول الأول: وهو مشهور الفقهاء؛ حيث يقولون: نعم؛ يجوز هنا استثناءً؛ لأنّ مقاومته لا تؤدّي إلى نتيجة، وبالتالي يُقتل، فحفظ النفس واجب، وإلقاء النفس بالتهلكة لا يجوز، فمن هذه الناحية يجب عليه أن يحفظ نفسه فيفر من الجبهة.

القول الثاني: وهو أكثر صوابًا، وعليه صاحب الجواهر أيضًا، وهو وجوب الثبات وأن لا يترك المعركة حتى لو أدّى ذلك إلى استشهاده؛ بدليل قوله تعالى: <يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ>[7]، الثبات واجب حتى لو أدّى إلى استشهاده. وهذا بحث فقهي مفصّل في محله لا يتسع له المجال هنا.

الآثار غير الفقهية للفرار من الزحف

المهمُّ أنّ الفرار من الزحف – مضافًا إلى الآثار الفقهية التي تترتب عليه في حال مخالفة أوامر القيادة الشرعية والقيادة الميدانية – تترتّب عليه آثار أخلاقية سيّئة:

منها: العذاب الإلهي الأليم؛ لأنّه من كبائر الإثم.

ومنها: سُنّة الاستبدال، فالله تبارك وتعالى يمحوه من قائمة الجنود الإلهيين المرابطين، ويستبدله بشخصٍ آخر، كما أنّ المجتمع يمكن أن يُستبدل، وسنتحدّث عن ذلك، فالاستبدال فرديٌّ واجتماعي.

ومنها: المقت الإلهيّ؛ وهو الفضيحة في الدنيا؛ لأنّه جُبن، فيقال له: جبان. والمجتمع يطرده ويلفظه.

ومنها: الحرمان من الهداية الإلهيّة.

وأمثال ذلك من الأمور الكثيرة.

هناك آية تشبه هذه الآية الشريفة، وهي قوله تعالى: <وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْمَلَٰئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَٰرَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ>[8]، نستجير بالله من ذلك، <فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ 27 ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ>[9]، في ذلك إشارة إلى علّة الموت الفجيع والعذاب الأليم التي أشارت إليها الآية السابقة، وهي قوله تعالى: <فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ>، فما معنى ذلك؟ لماذا يضرب الملائكة الوجوه والأدبار؟ هذا الضرب؛ أي ضرب الملائكة، يتناسب مع اتّباعهم ما أسخط الله وكُرههم رضوانه؛ لأنّ الكراهة والعداء إذا ارتكبهما الإنسان يسلتزمان الإدبار والإعراض واتّباع ما أسخط الله، وما يسبّب غضب الله تبارك وتعالى، يُسبّب نوعًا من العذاب الإلهيّ.

وخلاصة الأمر: إنّ اتّباع المنافقين لما هو سببٌ لغضب الله، وعداؤهم لما يرضي الله، يترتب عليه آثار:

الأول: تحدّثت عنه الآية السابقة، وهو ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند الموت.

الثاني: إحباط عملهم. تقول الآية الشريفة: <ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ>[10]، فلذلك عندما تتوفّاهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم، هذا أولًا. وثانيًا <فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ>[11]. فالفرار من الزّحف والخوف من الموت له أثران؛ أثر يتعلّق بضغطة القبر واستقبال الملائكة لهم بالضرب على وجوههم وأدبارهم. والأثر الثاني؛ هو الذي ذكره القرآن هنا في هذه الآية، وهو إحباط العمل؛ أي إفساد العمل، وبطلان العمل، وضياع العمل، وعدم انتفاعهم بالعمل لا في الدنيا ولا في الآخرة، فالمنافقون ظاهرًا يصلّون، ويصومون، ويحجّون، ويزكّون، ويتصدّقون، ولكنّ هذه الأعمال كلّها لا تُقبل منهم وباطلة؛ وذلك لوجود سببين:

السبب الأول: <اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ> اتّبعوا ما يغضب الله.

السبب الثاني: <وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ>، فهم لا يحبّون الرضا الإلهي، ويعادونه، وهذا يسبب الحبط. فهذه نقطة.

يتبيّن من هذه الآية الشريفة، عندما يقول الله تعالى: <اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ>، أنّ المنافقين – كما قلنا – على درجات، فبعض المنافقين قادة النفاق؛ أي أنّ بعضهم قادة لهؤلاء القاعدة المساكين الذين يتّبعون هذه القيادة ، والأثر الذي يترتّب على هذه التبعية هو ابتلاؤهم في القبر بسوء استقبال الملائكة لهم وبحبط أعمالهم. وهذه نقطة أخرى أيضًا.

تحذير المنافقين

ثّم قال الله تعالى: <أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ>[12]. إنّ هذه الآية الشريفة تحذيرٌ للمنافقين بأنّ الله تبارك وتعالى لا تخفى عليه خافية من أعمالهم ومن أسرارهم وباطنهم المريض، فإنّه تعالى سيُظهر ما يكنّون من حقدٍ وعداوةٍ للإسلام وسيفضحهم. الأضغان: الأحقاد الشديدة، وهذه الأحقاد تظهر؛ إذ إنّ الله تبارك وتعالى يُظهرها، كما قال أمير المؤمنين (ع): «ما أضمَرَ أحَدٌ شيئًا إلاّ ظَهَرَ في فَلَتاتِ لِسانِهِ، وصَفَحاتِ وَجهِهِ»[13]. وقال أيضًا (ع): «إنَّ الْمَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِه»[14]. ففي النهاية، تظهر حقيقته من خلال نوع سلوكه وتصرّفه؛ فالنفاق – كما قلنا – له أربعة أنواع: النفاق العقائدي، والنفاق العملي، والنفاق السياسي، والنفاق الاجتماعي، وهذا يظهر في السلوك.

توجد آية أخرى في سورة آل عمران هي الآية 118 منها، تشرح وضع الذين في قلوبهم مرض وكيف يعالجهم الله تبارك وتعالى ، وكيف يكون وضعهم. طبعًا؛ الآية 118 تتحدّث عن الكفار، والكفار والمنافقون طبيعتهم واحدة؛ بل المنافقون أخطر من الكفّار <إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ>[15] كما هو واضح، والذين في قلوبهم مرض تحدّثنا عنهم، وهو النفاق الأخلاقي، وهذا النفاق الأخلاقي يؤدّي إلى النفاق الاعتقادي، ويؤدي إلى النفاق السياسي، ويؤدي إلى النفاق الاجتماعي وهو الأساس <أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ>.

اتخاذ البطانة

تقول الآية: <يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ>[16]. البطانة: تعني الخواص، والقيادة الإسلامية والمؤسّسة الإسلامية والحزب الإسلامي والجماعة العاملة الإسلامية والعلماء الفاعلون النشطون، لابد أن يكون لديهم خواص يعتمدون عليهم، وهناك أناس ليسوا من الخواص، فالخواص البطانة الداخليون <لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ>، هؤلاء الخواص لابدّ أن تمتحنهم في الإيمان والعمل الصالح والصبر والمقاومة وحفظ الأسرار؛ لكي تستطيع أن تعتمد عليهم وتوكل الأمور إليهم. من دونكم؛ أي من غير جماعتكم الخواص <لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا>[17]؛ لأنهم لا يألون جهدًا في المكر والحيلة وإفساد أموركم، فإذا اعتمدتم على جماعة ليسوا مجاهدين حقيقةً، وليسوا صابرين مائة بالمائة <وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ>[18]، فطبيعة هؤلاء أنهم يريدون لكم ما يصعب عليكم، يريدون أن تكون لديكم مشاكل، فإنّهم يفرحون ويستبشرون إذا حلّت المشاكل بساحتكم <قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ>[19]، الأفواه تظهر مدى الحقد الأسود الذي يحملونه مثلًا على المقاومة والمقاومين وأمثالهم، <وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ>[20]، والشيء الذي يحاولون أن يخفوه أكبر من هذا الذي ظهر على فلتات لسانهم، <قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ>[21]. هذا في نفس سياق الآية الشريفة التي نتحدّث عنها هنا <أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ>[22]، الظاهر أنّها هنا بهذا الشكل <قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ>.

كيفية معرفة المنافقين

يقول الله تعالى: <وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ>[23]. نريد أن نقف عند هذه الآية قليلًا، فإنّ المنافقين يتفنّنون بإخفاء نيّاتهم الخبيثة، ويتفنّنون بإخفاء مكائدهم ضدّ الإسلام وضدّ القيادة الصالحة، ويتغلغلون بين الجماعة الإسلامية، فالله تبارك وتعالى يذكر لنبيه الأكرم (ص) هنا أنّه لو شاء لأطلعك عليهم واحدًا واحدًا، فتعرفهم؛ فهذا زيد المنافق، وهذا عمرو المنافق، وأمثال ذلك <وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ>. ثمّ هل يوجد طريق لمعرفة هؤلاء؟ الجواب: نعم <فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ>؛ أي من خلال علاماتهم الذاتية، <وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ>، فحتى لو أنّ الله تبارك وتعالى لم يعرّفك إيّاهم واحدًا واحدًا بأسمائهم، فيمكنك أن تتعرّف عليهم من خلال علاماتهم الذاتية ولحن كلامهم وأسلوبهم وسلوكهم. السيماء: هي العلامة الملازمة للإنسان، فالإنسان لديه سيماء ظاهرة وسيماء باطنة، وهذه السيماء الظاهرية لا يتصرّف بها الإنسان وليست هي باختياره؛ فهناك إنسان طويل، وقصير، وأسود، وأبيض، ورجل، وامرأة، هذه السيماء الظاهرية. لكنّ السيماء الباطنية هي من صنع الإنسان، فالإنسان هو الذي يصنعها بيده من خلال عزمه وإرادته وعمله، فتجدون مثلًا إنسانًا حسودًا للآخرين والثاني نصوحًا، وإنسانًا متواضعًا والآخر متكبّرًا، وإنسانًا مجاهدًا والآخر قاعدًا …إلخ، فهذه الصفات الباطنية تشكّل سيماء الباطن. وسيماء الباطن عند البعض مبتنية على الخبث، فيُظهر أنه مع الجماعة الإسلامية، ويحاول أن يغطّيه ويظهر بأنّه إنسان نصوح ويحب المقاومة ويحب الجماعة ويحب المؤمنين وأنّه خيّرٌ، والله تبارك وتعالى يقول في هذا المورد عن هؤلاء: <وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ>، فمن لحن القول تتمكّن من أن تعرف باطن هؤلاء كيف هو. توجد آية في سورة البقرة هي الآية 273 تتحدّث أيضًا عن هذه السيماء الظاهرية التي تُظهر الباطن، فالآية تتحدّث عن هؤلاء الذين يستحقّون الصدقة <لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّه>[24]، كانت عندهم مشاكل فلا يتمكّنون من أن يحصلوا على الرزق، كابن السبيل مثلًا <لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ>[25]، إذا ينظر إلى صورهم الظاهرية، يظنّ أنّهم أغنياء، <تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ>، لكن إذا تنظر إليهم بنظرة جديّة، فستلتفت إليهم وتشخّص من هم، وأنهم في الواقع فقراء <لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا>[26]، لا يستجدي ًاأحدًا ولا يمدُّ يده إلى الناس، إلحافًا؛ أي إصرارًا، <وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ>[27]. إذًا؛ <وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ>؛ أي وإن لم نعرّفهم لك يا رسول الله بعلاماتهم وسيماهم الظاهرية فلتعرفنّهم من خلال لحن كلامهم، وكنايتهم، وجرح لسانهم، وإبداء نظرهم في الجهاد والقتال والحقّ والعدل؛ فنلاحظ مثلًا أنّ بعض الناس يأتيك بصفة أنّه ناقد، وإنّ النقد على قسمين؛ فيوجد لدينا نقد بنّاء بقصد النصيحة وطلب الخير، ولدينا نقد آخر هدّام، وهذا يأتي بصورة انتقاد بناء، لكنّه بالتالي ينتقد بنحوٍ من الأنحاء، بحيث إنّ العدوّ يفرح من نقده، خصوصًا عندما ينتقد الحالة الإسلامية والمقاومة الإسلامية والمؤسّسة الإسلامية والجماعة الإسلامية، ويفشي الأمور الداخلية في الإعلام؛ ولابدّ أن ننتبه إلى أنّ أيّ عملٍ أو فعلٍ أو سلوكٍ أو موقفٍ يسبب تضعيف الوضع الإسلامي وإيجاد الفرقة والنزاع وأمثال ذلك، فهو غير جائز، فهذا من لحن القول، والإنسان يلتفت إلى أنّ هذا الشخص هدفه الإضعاف أو التقوية، وتوجد ملاكات لتشخيص ذلك.

إنّ هذه الحالة الكرام كانت موجودة في زمن رسول الله (ص)، وقد ذكرت لكم في الجلسات السابقة أنه في زمن رسول الله (ص) كانت هناك تيارات سياسية؛ فمثلًا تيار أمير المؤمنين (ع) كان معروفًا باسم (شيعة عليّ)، والرسول الأكرم (ص) يقول: «يا علي أنت وشيعتك الفائزون يوم القيامة». وفي المقابل كان يوجد تيار مناوئ ومعارض لأمير المؤمنين (ع) ولجماعته في زمن رسول الله (ص)، وتوجد تيارات أخرى تحدّثنا عنها في الجلسات السابقة.

روايات في لحن القول

وفي هذه الآية الشريفة <وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ>، توجد روايات صحيحة بإسناد أهل السُنّة مروية في كتبهم المعتمدة، ينقلها صاحب مجمع البيان، وكذلك أحمد بن حنبل في كتاب الفضائل، وابن عبد البر في الاستيعاب، والذهبي في تاريخه، وابن الأثير في جامع الأصول، والسيوطي في الدُر المنثور، فقد روي عن أبي سعيد الخدري: «لحنُ القول بُغضهم لعليّ بن أبي طالب (ع)، وكنّا نعرف المنافقين على عهد رسول اللَّه ببُغضِهم لعلي بن أبي طالب (ع)». قال السيوطي في الدُر المنثور: «أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود؛ قال: «ما كنّا نعرف المنافقين على عهد رسول الله إلّا ببغض علي بن أبي طالب (ع)»[28]. وقال العلامة الحلّي في كتاب منهاج الكرامة بعد ذكر هذا الحديث وغيره في حبّ أمير المؤمنين (ع) في تفسير «لحن القول»: ولم يثبت لغيره من الصحابة ذلك. وبذلك، يكون أفضل منهم؛ لأنّ الآية نازلة في حقّ أمير المؤمنين (ع) فقط.

أصناف الأحاديث الواردة في حبّ أمير المؤمنين (ع) وبغضه

نذكر هنا دراسة مختصرة في الأحاديث التي وردت في الحبّ والبُغض لأمير المؤمنين (ع) بأسانيد أهل السنة، وهي تنقسم إلى ثلاثة أصناف:

الصنف الأول: الأحاديث العالية السند عندهم؛ مثل كلام أمير المؤمنين (ع): «لا یحِبُّني إلاّ مُؤمِنٌّ وَلا یبغِضُني إلاَّ مُنافِق»؛ حيث يقول الذهبي في سير أعلام النبلاء: هذا الحديث حسنٌ عالٍ جدًا ومتنُه متواتر[29]؛ بل سندُه أصحُّ من حديث «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذَا عَلِيٌّ مَوْلَاهُ» عندهم؛ أي أنهم يقولون إنّ حديث الغدير صحيح ولكنّ هذا أصح منه. هذا ما ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء. وهكذا في صحيح مسلم، وصحيح ابن حبّان، ومسند أبي يعلي، ومسند أحمد بن حنبل، وخصائص أمير المؤمنين للحافظ النسائي، وفضائل الصحابة لأحمد بن حنبل. هذا الصنف الأول، والرواية مروية عن أمير المؤمنين (ع).

الصنف الثاني: وهو مروي عن أُمّ سَلَمة وأيضًا عن سلمان، عن رسول الله (ص)، ومما رَويا عن رسول الله (ص) في حق عليّ (ع): «من أحبّ عليًّا فقد أحبّني، ومن أبغض عليًا فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض اللَّه». وقد روى هذا الحديث الطبراني في معجمه الكبير عن أم سلمة[30]. يقول الحافظ الهيثمي بعد نقل هذا الحديث: وإسناده حسن. وينقل الحاكم النيسابوري عن سلمان: سمعت رسول الله يقول.. ويذكر نفس الرواية. ثمّ قال: إنّ السند صحيح[31].

الصنف الثالث: هذه الرواية ورواية أبي سعيد الخدري التي وردت في ذيل <وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ>، وهي رواية مميّزة حقيقةً؛ حيث إنها توجِد خطّين: خطّ حبّ أمير المؤمنين (ع)، وخطّ بغض أمير المؤمنين، وهذان الخطّان كانا في زمن رسول الله (ص)؛ ولذلك كانت جذور التشيّع وأساسه من زمن رسول الله (ص)، وقد تقدّم سند هذه الرواية فلا أعيد مراعاة للاختصار. وجميع رجال رواية أبي سعيد الخدري وهذه الرواية صحيحون، حسب مباني وبيان أعلام أهل السنة. فالشاهد من ذكر هذه الرواية هو قوله تعالى: <وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ>، بالتالي لم يعرّف الله تبارك وتعالى المنافقين فردًا فردًا بالاسم والرسم، ولكنّه أعطى علامة تدل عليهم؛ وهي (لحن القول). يقال: بعد نزول هذه الآية، لم يصلِّ رسول الله (ص) على منافق <وَلا تُصَلِّ عَلى‌ أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَدًا>[32].

أقسام الإيمان والنفاق

الإيمان عندنا له إطلاقان: إيمان بمعنى عام، وإيمان بمعنى خاص؛ وهو قبول ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع). والنفاق أيضًا على قسمين:

القسم الأول: نفاق في زمن رسول الله (ص)، وأكثر ما كان يطلق على النفاق الاعتقادي، والنفاق الأخلاقي (في قلوبهم مرض)، والنفاق السياسي، فلم يقبلوه كما هو حقّه.

القسم الثاني: نفاق على زمن أمير المؤمنين (ع) بعد رحيل الرسول الأكرم (ص)، فكلّ من ناوأ وعارض وأبغض أمير المؤمنين فهو منافق، ولا شكّ في أنّ المعادي لأمير المؤمنين هو ناصبي كافر.

وهناك أحكام فقهية خاصة بالمنافقين، ومن جملة هذه الأحكام، الصلاة على موتاهم؛ حيث تختلف عن الصلاة على الميت المؤمن في التكبيرة الرابعة. وطبعًا؛ تجدر الإشارة هنا إلى أنّنا نعتقد أنّ أكثر أهل السنة في هذا الزمان مستضعفون، وإذا تتبيّن لهم الحقيقة يؤمنون، والمحبون لأمير المؤمنين (ع) من أهل السنّة هم المستضعفون منهم، فلا يبعد أن يُكتب لهم النجاة. أمّا المتعصّبون العالِمون المنكرون لفضائل أمير المؤمنين والمبغضون له والمبغضون لشيعته، فهؤلاء أمرهم مختلف.

في كيفية علم الله تعالى

ثم يقول الله تبارك وتعالى: <وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ>[33]. هذا الكلام خطاب لجميع المسلمين ولجميع الناس؛ إنّ الله يعلم أعمالكم، وهذا العلم الإلهيّ علم كلّي وعلم جزئي، فالله يعلم بالجزئيات، وهذا ثابت بالفلسفة وببحوث معرفة النفس والعلم الإلهي. قال أمير المؤمنين (ع) في هذا الصدد في التنبيه على إحاطة علم الله بالجزئيات والحثّ على التقوى وبيان فضل الإسلام والقرآن: «يَعْلَمُ عَجِيجَ الْوُحُوشِ فِي الْفَلَوَاتِ، وَمَعَاصِيَ الْعِبَادِ فِي الْخَلَوَاتِ، وَاخْتِلاَفَ النِّينَانِ فِي الْبِحَارِ الْغَامِرَاتِ، وَتَلاَطُمَ الْمَاءِ بِالرِّيَاحِ الْعَاصِفَاتِ»[34]؛ يعني أن الله يعلم بالجزئيات. ثمّ كيف يعلم الله تبارك وتعالى بالجزئيات؟ علم الله يتجاوز الزمان والمكان؛ فالله تبارك وتعالى له قيمومية وله إحاطة، ومن خلال إحاطته وقيموميته عنده علم بالجزئيات، يقول تعالى: <وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ>[35]، فلله تبارك وتعالى قيمومية وإحاطة بالنسبة إلى علم العباد، وهذا تحذير للمؤمنين بأنّ الإنسان لابدّ أن يلتفت إلى <وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ>[36]، وإلى <فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه>[37]، وإلى <اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ>[38]. المهم أنّه ينبغي أن ننتبه، وهذا الشهر هو شهر التزكية والتوجّه والاستغفار والتوبة والإنابة إلى الله.

نسأل الله تبارك وتعالى أن يغفر لنا ويرحمنا برحمته الواسعة. وصلّى الله على محمّد وآله الطيبين الطاهرين.


  • [1] محمد: 27-30
  • [2] محمد: 27
  • [3] الأنفال: 6
  • [4] محمد: 20
  • [5] الأحزاب: 13
  • [6] الأنفال: 50
  • [7] الأنفال: 45
  • [8] الأنفال: 50
  • [9] محمد: 27-28
  • [10] محمد: 28
  • [11] محمد: 9
  • [12] محمد: 29
  • [13] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج18، ص137
  • [14] نفس المصدر، ص353
  • [15] النساء: 145
  • [16] آل عمران: 118
  • [17] آل عمران: 119
  • [18] آل عمران: 118
  • [19] نفس المصدر
  • [20] نفس المصدر
  • [21] نفس المصدر
  • [22] محمد: 29
  • [23] محمد: 30
  • [24] البقرة: 273
  • [25] نفس المصدر
  • [26] نفس المصدر
  • [27] نفس المصدر
  • [28] ورواها الترمذي أيضًا في سننه، ج6، ص78، ح3717.
  • [29] سير أعلام النبلاء للذهبي، ج8، ص335.
  • [30] المعجم الكبير للطبراني، ج23، ص38، ح901.
  • [31] المستدرك على الصحيحين للنيسابوري، ج3، ص141، ح4648.
  • [32] التوبة: 84
  • [33] محمد: 30
  • [34] نهج البلاغة، الخطبة 198.
  • [35] لقمان: 27
  • [36] الحديد: 4
  • [37] البقرة: 115
  • [38] البقرة: 255
المصدر
كتاب تفسير سورة محمد | آية الله الشيخ عباس الكعبي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى