المحاضرة الرابعة
قوله تعالى: <أَفَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَيَنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ دَمَّرَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡ وَلِلۡكَٰفِرِينَ أَمۡثَٰلُهَا 10 ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ مَوۡلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَأَنَّ ٱلۡكَٰفِرِينَ لَا مَوۡلَىٰ لَهُمۡ 11 إِنَّ ٱللَّهَ يُدۡخِلُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ جَنَّـٰتٍ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأۡكُلُونَ كَمَا تَأۡكُلُ ٱلۡأَنۡعَٰمُ وَٱلنَّارُ مَثۡوًى لَّهُمۡ 12 وَكَأَيِّن مِّن قَرۡيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرۡيَتِكَ ٱلَّتِيٓ أَخۡرَجَتۡكَ أَهۡلَكۡنَٰهُمۡ فَلَا نَاصِرَ لَهُمۡ 13 أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوٓءُ عَمَلِهِ وَٱتَّبَعُوٓاْ أَهۡوَآءَهُم>[1].
المقارنة بين جبهة الحقّ وجبهة الباطل
هذه الآيات الشريفة استمرار للمقارنة بين جبهة الحق وجبهة الباطل، وخطّ الإيمان وخطّ الكفر.
بدايةً تتحدّث الآيات عن وجوب السير في الأرض، والمقصود بالسير في الأرض هو الانتقال والتحرّك في الأرض بشكلٍ طبيعي وبشكلٍ دراسي وتاريخي، هو مطالعة بقصد الاعتبار والتأمّل في الخالق والخلق والمعاد ومسير الأقوام المكذّبين والكافرين والطغاة. اليوم، توجد آثار طبيعية من الأقوام السابقة، حتى أنه يقال: إنّ سفينة نوح أيضًا لها ًاأثر، أو الأهرام المصرية، أو آثار من قوم ثمود وعاد والأقوام السابقة، فمطالعة هذه الآثار تُنبئ بمن كان يسكن هنا! وكيف كان مسيره! وكيف دمّرهم الله تبارك وتعالى نتيجة الظلم والطغيان والكفر والتكذيب لله وللمعاد! وكم كانت هناك قصور مشيّدة تحوّلت إلى آثار لم يبقَ منها شيء! عادةً يكتب الحكّام على كراسيهم في بعض الحكومات هذه العبارة: «لو دامت لغيرك لما وصلت إليك». وفي هذا عبرة، وقضية السير في الأرض تحت عنوان السير في القرآن الكريم أتت ست مرّات بصيغة الأمر، وسبع مرّات أتت بصيغة الاستفهام الاستنكاري.
الآية الشريفة عندما تقول: <أَفَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَيَنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ دَمَّرَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡ وَلِلۡكَٰفِرِينَ أَمۡثَٰلُهَا>[2]، فهي تعني مسير الأقوام السابقين عليكم <دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا>؛ أي أنّ الله تبارك وتعالى أهلكهم، واستأصلهم، وحوّل أرض عاد وثمود وقوم لوط عبرةً، كما قال الله تعالى: <أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ 6 إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ 7 الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ 8 وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي 9 وَفِرْعَوْنَ ذِي الأوْتَادِ>[3] إلى أن قال: <فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ>[4]، وكما قال تعالى في آية أخرى: <وَلِلۡكَٰفِرِينَ أَمۡثَٰلُهَا>[5]؛ أي: وللكافرين من مشركي قريش في زمانك يا رسول الله أمثال عاقبة تكذيب الأقوام الذين دمرهم الله تدميرًا، فكما دمّر الله الأقوام السابقين الكافرين الملحدين الفاجرين الظالمين المعتدين المنكرين لله وللمعاد، فإنه يدمّر مشركي قريش بأسهل ما يكون أيضًا.
لماذا قال الله تعالى بلا فاصل في الآية الأخرى: <ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ>[6]؟ تتحدّث الآية عن ولاية الله تبارك وتعالى، وهو تعليل لتدمير الله للكافرين الملحدين الذين ينكرون الله والمعاد <وَلِلۡكَٰفِرِينَ أَمۡثَٰلُهَا> بينما حال المؤمنين جيد! فالقضية ترجع إلى ولاية الله. المولى في الآية الشريفة: مصدر ميميّ، لكنّ معنى هذا المصدر الميميّ معنى وصفيٌّ؛ أي بمعنى الولي، والولي هو الذي يُدبّر الأمور ويتصرّف في الشؤون وله تصرّف مطلق.
ثمّ إنّ ولاية الله تبارك وتعالى على قسمين:
القسم الأول: ولاية عامّه تشمل جميع البشر؛ مؤمنين كانوا أم كافرين أم منافقين؛ مثل الرحمة العامّة الإلهيّة.
القسم الثاني: ولاية خاصّة للمؤمنين الأتقياء؛ مثل الرحمة الرحيمية الخاصّة.
الله رحمن، ورحمته شاملة لجميع العباد، ورحيم، ورحمته خاصّة بعباده الأتقياء المؤمنين.
مراتب التوحيد والولاية العامة
هناك آيات في القرآن تتحدّث عن الولاية العامّة الإلهيّة لجميع البشر. طبعًا الولاية مرتبة من مراتب التوحيد وتسمى: التوحيد في الولاية، فالتوحيد له مراتب كثيرة:
التوحيد في الخالقية: يعني أنّ الله خالق كلّ شيءٍ.
التوحيد الصفاتي: يعني صفاته وأسماؤه، فهو واحد أحدي الذات والصفات.
التوحيد الأفعالي: يعني أنّ جميع الأفعال في هذا الكون الفسيح في السماوات والأرض والتصرّفات ترجع إلى الله تبارك وتعالى.
التوحيد العبادي: يعني ينبغي أن يُعبد الله تبارك وتعالى فقط.
التوحيد السيادي: يعني أنّ السيادة المطلقة على الكون والإنسان بشكل مطلق لله تبارك وتعالى، وهذه السيادة المطلقة يتفرّع عنها التوحيد في التشريع، فالمشرِّع هو الله تبارك وتعالى، ومبيّن الشريعة رسول الله (ص)، والأئمة الأطهار (عليهم السلام)، والذين يشخّصون الشريعة وهم المجتهدون الذين يجتهدون في تشخيص الكتاب والسُنّة عبر الأدلة.
التوحيد في الولاية: يعني أن يعتقد الإنسان بأنّ الله خالقٌ، ومالكٌ، وربٌّ بالربوبية التشريعية والتكوينية، وأنّه وليٌّ مطلق. والولاية المطلقة تعني أنّ التصرّف والتدبير المطلق في الكون بيد الله تبارك وتعالى، فالله تبارك وتعالى هو القيّم <ٱللَّهُ لآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَيُّ ٱلۡقَيُّومُ>[7]، وهذه القيمومية هي تعبير عن ولاية الله تبارك وتعالى، لكنها ولاية عامّة، وهي شعبة من شعب التوحيد، وهناك آيات تتحدّث عن هذه الولاية العامّة؛ مثلًا يقول الله تعالى: <وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ>[8]، أو <وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ>[9]، والتوبة 116 أيضًا.
طبعًا؛ عرب الجاهلية كانوا يعتقدون بأنّ الله خالق؛ بل حتى يعتقدون ببُعد من أبعاد الربوبية لله تبارك وتعالى، لكنّهم لا يعتقدون بولاية الله، فماذا يعني أنّهم لا يعتقدون بولاية الله؟
الجواب: يعني أنهم إذا أرادوا نصرةً، يذهبون إلى بعض الأصنام التي تنصُرهم، وإذا أرادوا المطر، يذهبون إلى بعض الأصنام التي تمطر لهم، والفقراء يذهبون إلى بعض الأصنام التي ترزقهم، وهكذا..، لكنّ هذه الأمور كلّها بيد الله تبارك وتعالى، فيقول الله تبارك وتعالى: <وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ ولا نَصِيرٍ>[10]، ويقول تعالى أيضًا: <وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ>[11]، فإنّ الثناء والمدح بالنسبة إلى جميع الأعمال الطيبة الممتازة يرجع إلى الله تبارك وتعالى (الحمد لله ربّ العالمين)، أو كما يقول الله تعالى أيضًا في سورة النساء: <وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ نَصِيرًا>[12] أو قوله تعالى: <قُلۡ أَغَيۡرَ ٱللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا>[13]. لماذا الولاية لله؟ ما هو دليل ولاية الله؟ <فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَهُوَ يُطۡعِمُ وَلَا يُطۡعَمُ>[14]. طبعًا؛ هذه كلّها أدلة لولاية الله المطلقة، والآية الأخيرة التي نذكرها في هذا الصدد هي <هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ>[15]؛ يعني أنّ الإنسان يرى يوم القيامة كل ما قدّمه <تَبۡلُواْ كُلُّ نَفۡسٍ مَّا أَسۡلَفَتۡ وَرُدُّواْ إِلَى ٱللَّهِ مَوۡلَىٰهُمُ ٱلۡحَقِّ>، هناك تتجلّى الولاية الحقيقية لله تبارك وتعالى في القيامة <وَضَلَّ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ>؛ لأنّهم ما كانوا يعتقدون بالولاية المطلقة الإلهيّة <وَضَلَّ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ>. طبعًا؛ هذه الولاية المطلقة الإلهيّة خاصّة بالله وحده لا شريك له.
الفرق بين الولايات الثلاث
قد يكون هناك التباس في بعض الأذهان منشأه هو أنه هل يجوز لنا نحن في زماننا أن نطلق اصطلاح (الولاية المطلقة) أيضًا على ولاية رسول الله والأئمة الأطهار وحتى للفقيه؟ ما الفرق بين الولاية المطلقة الإلهيّة والولاية المطلقة لرسول الله وهي للأئمة الأطهار وللفقيه أيضًا؟
في مقام الجواب، نقول: إنّ الولاية المطلقة الإلهيّة شعبة من شعب التوحيد، وتعود إلى ربوبية الله التكوينية والتشريعية، وهي خاصّةٌ بالله وحده لا شريك له. إذًا؛ فليكن من المعلوم أنّ الله تبارك وتعالى متفرّد بهذه الولاية التي هي ولايةٌ ذاتية ترجع إلى ذاته وقدسه جلّ جلاله، ولكنّ الله الذي خلق الإنسان كخليفة له فسح له المجال ليتحوّل إلى وليّ، لكن ما هي طرق وسبل الحصول على هذه الولاية الحقيقية؟
الجواب: هي عبادة الله، فالإنسان من خلال عبادة الله يصل إلى هذه الدرجة من الولاية الحقيقية. فكيف يصل إليها؟
في المرحلة الأولى مثلًا يصلّي، والصلاة لها درجات دنيا ودرجات عليا، أدنى درجات الصلاة أن تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر، لكنّ الصلاة لها درجات عالية جدًا؛ ومن جملة الدرجات العالية للصلاة، الصلاة معراج المؤمن، والصلاة قربان كلّ تقيٍّ، والإنسان إذا صار عنده حضور قلب في الصلاة، فهذه الصلاة تكوّن له ملكة تُسمّى التقوى، وهذه التقوى الإلهيّة تجعل له نورًا، وهذا النور يتدرّج فيه إلى أن يصل إلى مرحلة تجرّد النفس (النفس المجرّدة)، ثمّ إنّ الله تبارك وتعالى يعطيه درجة أكبر من تجرّد النفس ومعرفة النفس، وهي التصرّف في الكون والمكان، وهذا التصرف في الكون والمكان الناتج عن القرب الإلهيّ خاصٌّ بالذين يصِلون إلى درجة الولاية الإلهية عن طريق العبودية، كما يقال: العبوديّة جوهرة كنهها الربوبية، وهذه التي نُعبّر عنها بالولاية التكوينية، هذه الولاية الحقيقية أو الولاية التكوينية هي ولاية محمّد وآل محمّد (ص)، وهي نتيجة عبادة الله. طبعًا؛ هذه الولاية الحقيقية – وهي ولاية التصرّف في الكون والمكان – خاضعة لقوانين، لكنها ولاية حقيقية، ولاية ناتجة عن الارتباط بالله تبارك وتعالى، هذه الولاية يسمّونها أيضًا ولاية مطلقة، لكن بمعنى الولاية الحقيقية والولاية التكوينية، وهذه غير ولاية الله، فولاية الله ذاتية، لكنّ هذه الولاية مكتسبة نتيجة العبادة، وفرق بين الولايتين.
أمّا ولاية الفقيه المطلقة، فعندما ننسب الولاية المطلقة للفقيه، فهي ولاية اعتبارية، وليست ولاية حقيقية، هذه الولاية تتعلّق برئاسة الدولة الإسلامية، ففي مجال رئاسة الدولة يتمتّع الفقيه بصلاحيات مطلقة كصلاحيات رسول الله (ص) والأئمة الأطهار (عليهم السلام)، وأمّا فيما يتعلّق بالولاية الحقيقية، فهي منحصرة برسول الله (ص) وبالأئمة الأطهار (عليهم السلام). والمهمُّ هنا هو بيان معنى الولاية العامة الإلهيّة، وإلا فإنّ هناك أبحاثًا مفصّلةً يطول المقام بذكرها.
أمّا آيات الولاية الخاصّة، فالله تبارك وتعالى كما له ولاية عامّة على جميع البشر من مؤمن وكافر ومنافق، له ولاية خاصّة، وهي رعاية خاصّة، وعناية خاصّة، ولطف خاصٌّ، ومغفرة خاصة، ورحمة خاصة، وتولٍّ خاص، واهتمام خاصٌّ بالمؤمنين، فيقول تعالى في هذا الصدد في آية الكرسي: <اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ>[16]، فهذه الولاية ولاية خاصّة، وهذا يعني أنّ الكفار لا وليّ لهم، وليّهم الطاغوت، لكنّ المؤمن تحت ولاية الله وتحت عناية الله، فإنّ الله سبحانه يخرجه دائمًا من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمة الضلال إلى نور الهداية، ومن ظلمة الكفر إلى نور الإيمان، ومن الفقر إلى الغنى، ومن الضعف إلى القوّة، فللمؤمن دائمًا رعاية خاصّة ونصرة خاصة <ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ>. والآية الأخرى التي تتحدّث عن هذا الأمر: <لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُون>[17]، <لَهُمۡ دَارُ ٱلسَّلَٰمِ> ليس في الآخرة فقط حتى في الدنيا. لماذا لهم دار السلام؛ هم دائمًا في سلام وأمن واطمئنان؟ لأنّ الله هو وليّهم ويتولّى شؤونهم وجميع أعمالهم، فيتولّى الله هذا الأمر بشكل خاص، كما يقول: <وٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلۡمُتَّقِينَ>[18]، أو يقول: <وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ>[19]. إنّ هذه الآية التي نتحدّث عنها تتحدّث عن هذه الولاية الخاصة <ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ مَوۡلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَأَنَّ ٱلۡكَٰفِرِينَ لَا مَوۡلَىٰ لَهُم>[20]؛ أي لا وليّ خاصًا يرعى شؤونهم. إنّ لهذه الآية الشريفة قصة؛ وهي أنه في أثناء معركة أحد رفع الكفار شعارات، فشعاراتهم هي هبل وعزّى وأمثال ذلك، فقال النّبيّ الأقدس (ص) للمؤمنين: ارفعوا شعارًا أيضًا، «قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم». الشعار يعطي قيمة روحية لجبهة الحقّ في مواجهة جبهة الباطل، ويعبّر عن العواطف والأحاسيس والمشاعر، فشعار الإنسان المؤمن هو أنّ الله مولانا ولا مولى لكم.
المقارنة بين جبهة الحق والباطل في الدنيا والآخرة
يقول الله تبارك وتعالى أيضًا في صدد المقارنة بين جبهة الحقّ وجبهة الباطل: <إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ>[21]. هذه المقارنة بين جبهة الحقّ وجبهة الباطل لا تتعلّق بالدنيا فقط؛ بل هي تستمر إلى الآخرة؛ يعني أنّ الإنسان المؤمن، إضافةً إلى الدنيا، فإنه يتمتّع بولاية الله الخاصّة في الآخرة، فيحظى بالنعيم الخالد في الجنة، وينصر الله المؤمنين في الدنيا ويعطيهم النعيم في الآخرة؛ أمّا الكفار الذين لا ولاية خاصّة لهم من الله، فحياتهم حياة حيوانية في الدنيا ومصيرهم النار في القيامة، والآية الشريفة هي وزان آيات أخرى على هذا النمط؛ مثل قوله الله تعالى: <أَيَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَد 196 مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَاد>[22].
أقسام الحياة
إنّ الحياة تنقسم إلى قسمين: حياة اعتبارية، وحياة حقيقية.
فالحياة الاعتبارية هي الشهوة، والثروة، والسلطة، والشهرة، والرغبات، وإنّ الإنسان يكدح لهذه الدنيا، والكافر غاية الأهداف التي يرسمها لنفسه في الحياة، هو الوصول إلى مبتغاه في الدنيا، لكن لا يوجد شيء في الأهداف باسم الله تبارك وتعالى والآخرة في حياته؛ مثلًا: إذا كان الكافر أو غير المؤمن يدرس في تخصص ما، فيمكن أن يصل من خلاله إلى مستويات عالية في الهندسة، وفي الكهرباء، وفي الفيزياء، وفي الكيمياء، وفي الإعمار، وفي الطب، وفي الصناعة، وفي الزراعة، لكنّ مبتغاه من هذا العلم هو إعمار الدنيا لا أكثر، إضافةً إلى أنّ الدرس يوصله إلى الحصول على مهنة، هدفه من هذه المهنة أن يحصل على الثروة، وبهذه الثروة، يبني له مسكنًا ويقتني سيارة وزوجة أو يكوّن له بيتًا أو يتمتّع ويستلذ، وهكذا …إلخ، فهذه الأمور كلّها دنيوية، ولا شيء يحصل عليه وراء هذه الدنيا، غاية الأمر أنّ جهده منصبٌّ على هذه الدنيا لا أكثر، فليس عنده هدف غير الدنيا، وجميع أموره محورها الدنيا، هذه الحياة حياة اعتبارية، وحياة نستطيع أن نسمّيها حيوانية، فالجمادات أيضًا لها حياة، ولكن لا نعرف كُنه حياتها <وَلِلَّهِ يَسۡجُدُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ>[23]، و<يُسَبِّحُ بِحَمۡدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفۡقَهُونَ تَسۡبِيحَهُم>[24]، فلدينا حياة نباتية، وهذه الحياة النباتية عبارة عن رشد ونمو، ولدينا حياة حيوانية، وهي عبارة عن أكل وشرب والتذاذ وافتراس، فالقوي يتسلط على الضعيف، إنها متعة أيام وتنتهي هذه الحياة الحيوانية.
لكن وراء الحياة الحيوانية توجد حياة إنسانية، وهذه الحياة الإنسانية تتعلّق بالنفس الإنسانية ومعرفة النفس أنفع المعارف، وهي التي يُعبّر عنها الله تبارك وتعالى بقوله سبحانه: <وَنَفَخۡتُ فِيهِ مِن رُّوحِي>[25]، فهذه الآية عندما تقول بالنسبة للكفار: <وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ>[26]؛ أي هي محلٌّ لهم، فلا تريد الآية أن تتعرّض بالسبّ والشتم للكفار؛ بل تذكر حقيقة حياتهم بأنّهم لا هدف لهم أكبر من الهدف الحيواني، فليس عندهم هدف إنسانيّ، بينما الحياة فيها هدف، فالله خلق الحياة لأهداف <أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ>[27]، لابدَّ للإنسان أن يُخطّط ويبرمج في حياته؛ بحيث يحوّل الدنيا إلى مزرعة للآخرة <إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ>[28]. يقول أمير المؤمنين (ع): «رَحِمَ اَللَّهُ اِمْرَءً أَعَدَّ لِنَفْسِهِ وَاسْتَعَدَّ لِرَمْسِهِ وَعِلْمَ مِنْ أَيْنَ وَفِي أَيْنَ وَإِلَى أَيْنَ»[29]. إنّ الدنيا وسيلة وليست هدفًا، فعليك أن تعمل، وأن تتعلّم، وتحصل على مهنة، وتكتسب ثروة، وسلطة، وقوّة، وتُكوّن حياةً زوجية، وتكون عندك إمكانيّات، فهذه الأمور كلّها وسائل، ثمّ ماذا؟ ولمن؟ وأين تتجّه بها؟ <وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ>[30]، المؤمن لديه هدف <وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ>[31]؛ يعني أنّ الحياة الحقيقية لدى الإنسان هي الحياة الأخروية، فهناك يتحسّر ويقول: <يَٰلَيۡتَنِي قَدَّمۡتُ لِحَيَاتِي>[32]، فيعرف الحياة الحقيقية الإنسانية هناك، لكن الكفّار ما هي مشكلتهم؟ <يَعْلَمُونَ ظاهِرًا مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ>[33]؛ ولذلك، يقول الله تبارك وتعالى أيضًا: <فَأَعۡرِضۡ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكۡرِنَا وَلَمۡ يُرِدۡ إِلَّا ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا 29 ذَٰلِكَ مَبۡلَغُهُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ>[34]؛ يعني أنّ علمهم يرجع إلى الدنيا أيضًا <إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِمَنِ ٱهۡتَدَىٰ>[35].
في هذا الصدد، نذكر بعض الروايات المفيدة – إن شاء الله تعالى – كما في الرواية عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: «مَنْ مَلَك نَفْسَهُ إذا غَضِبَ، وَإذا رَغِبَ، وَإذا رَهِبَ، وَإذا اشْتَهی، حَرَّمَ اللهُ جَسَدَهُ عَلَی النّارِ»[36]. الإنسان الذي يملك نفسه يعرف مصير حياته. وهذا العارف الكبير ميرزا جواد الملكي التبريزي، حتى بالنسبة للأكل والشرب، يقول: (كلوا للقوّة ولا تأكلوا للشهوة)؛ أي اللذة. طبعًا؛ إذا أكل المرء للذّة، فليس في أكله إشكال، لكنّه يقول: عند ذلك اِنوِ أنّك تأكل هذه اللقمة قربةً إلى الله تعالى؛ بمعنى أنّك تريد أن تكون عندك صحّة بدن وعافية وقوّة لعبادة الله «قَوِّ عَلى خِدْمَتِكَ جَوارِحي وَاشْدُدْ عَلَى الْعَزيمَةِ جَوانِحي»، فلابدّ أن يلتفت الإنسان حتى إلى الأكل والشرب؛ فيقول عند الشروع بأكل الزاد: بسم الله الرحمن الرحيم، وفي نهاية الأكل: الحمد لله ربّ العالمين. إنّ بعض العرفاء يطيلون جلوسهم على مائدة طعامهم، ففي كلّ لقمة يتوجّهون ويذكرون الله تبارك وتعالى كثيرًا، ولا يأكلون اللقمة عبثًا، فالمهمُّ أنّ الطريق إلى هذا الأمر أيّها الإخوة هو جهاد النفس، وهذا الشهر الفضيل هو شهر جهاد وتزكية النفس. يقول الله تعالى: <قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا 9 وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا>[37]، ينبغي أن نتوجّه إلى تزكية أنفسنا، فأنفع المعارف معرفة النفس، وهذا الطريق موجود أمامنا، فيقول الله تبارك وتعالى: <وَفِي الأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ 20 وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُون>[38]، وفي نفس الوقت يؤنّبنا الله تبارك وتعالى فيقول: <نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ>. إذًا؛ <وَالَّذينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ>[39]؛ أي هي محلٌّ لهم، يعني بما أنّ حياة الكفّار بلا أهداف إنسانية تتعلّق بالمبدأ والمعاد، فحياتهم حياة حيوانية، وليست إنسانية، وبعيدون عن الحياة الحقيقية <النَّارُ مَثْوىً لَهُمْ>[40]؛ أي محلّهم النار. يقول البعض إنّ محلّهم النار حتى في الدنيا، وليس فقط في الآخرة، لكن بقرينة المقابلة مع الآية الشريفة التي ذكرت قبلها: <إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَار>[41]، المقصود: والنار مثوى لهم؛ أي في الآخرة مصيرهم النار. لكنّ البعض يستشهد مثلًا بهذه الآيات: <وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ>[42]، أو <كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ>[43]، بأنّ حياتهم في الدنيا أيضًا جحيم <وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا>[44].
مسخ الهوية الإنسانية
ثمّ إنّ هذا الإنسان الذي يعيش حياةً حيوانية ولا يفكّر بالمبدأ والمعاد، مآله إلى السقوط ومسخ هويته الإنسانية، على أنّ هذا المسخ للهوية الإنسانية تارةً يكون عن طريق تكويني إلهيّ، فالله تبارك وتعالى يقول: <كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ>[45]، وأخرى يكون مسخ الهوية الإنسانية بالعمل، فاليوم نرى في أوروبا وأمريكا بعض الناس لا يروق لهم أن تكون عيشتهم – نستجير بالله – عيشةً إنسانية، فيجرون عمليات جراحيّة على أجسامهم ويحوّلون أشكالهم – أجلكم الله – إلى شكل الكلب، والحمار، والخنزير، ويتباهون بهذا العمل ويفتخرون به، فهو مسخ إراديٌّ؛ لأنّهم لم ينتفعوا من الحياة الإنسانية؛ بل هناك ما هو أكثر من ذلك؛ ففي الشهر الماضي في بولندا حدثت مظاهرات، وكان أكثر من عشرة آلاف إنسان في هذه المظاهرات يطالبون بحقٍّ إنسانيٍّ على الحكومة البولندية أن تعترف بهم بأنّهم كلاب وينبحون نباح الكلاب وأشكالهم أشكال الكلاب رجالًا ونساءً. وكذلك ظهرت ظاهرة الزواج مع الحيوانات، وليس زواج المثلية فحسب، ويتباهون بذلك؛ بل أكثر من ذلك، فالسقوط الإنسانيّ والفاصل الطبقي بين طبقة الأثرياء والفقراء وصل إلى مرتبة الرِّقّية المعاصرة، الرِّقِّيّة الحداثوية، فما هي الرِّقِّية الحداثوية؟ هي أنّه توجد مجموعة من الناس الفقراء الذين لا يتمكّنون من أن يديروا حياتهم المادّية ويدبّروا وضعهم المعيشيّ، وبالمقابل توجد طبقة أثرياء من الدرجة الأولى، وهي موجودة في لندن وكذلك في جميع القارة الأوروبية، فيؤجر الفقير نفسه عند الثريّ القوّي على أن يكون كلبًا له، ويلبس لباس الكلاب ويمشي على أربع وينبح، ويُسخّر نفسه لهذا الثري الرأسمالي تسخيرًا مطلقًا، فينفّذ كل ما يريده، وهو يشعر بأنّه مرتاح وأنّه يعيش عيشة الكلاب، ويجرّونه بالقلادة والسلاسل، ويرافقهم في الشوارع وهم يتباهون. وقد أجروا لقاءات صحفية مع هؤلاء وكانوا يقولون: إنّنا مرتاحون ونعيش عيشة الكلاب ونحصل على زاد وطعام وشراب وخدمة من مولانا وسيدنا. هذا هو مسخ الهوية الإنسانية.
إذًا؛ القرآن عندما يقول: <يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعام>[46]، فهو يشير إلى أنّ الإنسان الذي يبتعد عن رحمة الله وعن الله، يسقط إلى هذه الدرجة، كما يقول الله تعالى: <كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ>[47]. لماذا صار هؤلاء: <وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ>[48]، <وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ>[49]؟ الجواب: <أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا>[50]، أنتم أخذتم حظّكم في الدنيا وانتهى كلُّ شيء عندكم في الدنيا، وليس عندكم شيء تطالبون به، كنتم منقطعي الأول والآخر، لا معتقدين بالله ولا معتقدين بالآخرة، كما يقول الله تبارك وتعالى: <نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ>[51]، بينما الإنسان المؤمن حياته مقرونة بأهداف سامية ويعتقد <وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى>[52]. وهذا هو الفرق بينهما
إذًا؛ لابدَّ أن نهتمَّ بأنفسنا، فنجاهد أنفسنا، ونرى ما هي حقيقة الحياة الإنسانية. ولا بأس أن أشير هنا بالمناسبة إلى أنّ العارف والفقيه الكبير آية الله العظمى المرحوم السيد عبد الأعلى السبزواري (رضوان الله تعالى عليه) له كتاب بعنوان: (مهذّب الأحكام) ، في هذا الكتاب يشرح جهاد العدو وجهاد النفس من الوسائل شرحًا فقهيًا، وفي فصل جهاد النفس من كتاب الجهاد، يذكر أنّ معرفة النفس من أهم مقدمات جهاد النفس، وقد حاول الكثير من المسلمين وغيرهم التوصل إلى معرفتها حق المعرفة، وكتبوا في ذلك الكثير من الكتب والمؤلفات، لكنهم لم يوفّقوا في ذلك إلا بمقدار ما لديهم من معرفة لا تعبّر عن الواقع، ثم يقول: (ولعل أقربها إلى الثواب ما عن بعض العارفين من أنّه لو فرض تجلّي الذات الأقدس الربوبي في صورة الممكنات، لا يتجلّى إلّا في حقيقة النفس الإنسانية)[53]. يعني أنّ الله إن أراد أن يتجلّى للعبد، يتجلّى له بصورة النفس الإنسانية، فالنبيّ الأكرم (ص) والأئمة الأطهار (عليهم السلام) هم مظهر لأسماء الله وصفاته، فالتجلّي الربوبي التام عند محمّد وآل محمّد، لكنّ هذا التجلّي لا يتعلّق بأجسامهم وإنّما يتعلّق بأرواحهم الطاهرة <إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا>[54]، فلو فرض وجود ممكن لحضرة المرتبة الأحديّة، فلا يصل إليها إلّا النفس الإنسانية.
ولعله إلى هذا أشار الحكيم السبزواري بقوله: «وإنّها – يعني النفس – بحت وجود ظلُ حقٍ»[55]. النفس الإنسانية وجود محض وحقيقة محضة، وهي ظلٌّ من ظلِّ الله تبارك وتعالى، فهناك ذات فوق التجرّد المطلق؛ يعني أنّ هذه النفس الإنسانية تتجاوز مرحلة التجرّد، وتصل إلى مرحلة القدس ومرحلة الخلافة التامّة الإلهية، فالله تبارك وتعالى هو أعطانا هذه النفس، فلا ينبغي لنا أن نفقدها ونربطها بقضايا لا تستحق أن نشتغل بها.
إذًا؛ يلزمنا أن نلتفت إلى أنفسنا ونجاهد أنفسنا ونزكّيها، وننتهز فرصة شهر رمضان الفضيل لتغيير عاداتنا وسلوكنا ونمط حياتنا، ونثقّف أنفسنا بالثقافة القرآنية وثقافة أهل البيت، ونبدأ من خلال جهاد النفس وتحريرها وتطهيرها. والأخلاقيون والعرفاء يقولون: أربع مراتب على المرء أن يواظب عليها هي: المشارطة، والمراقبة، والمحاسبة، والمعاتبة، فعليه أن يشارط نفسه كلّ صباح بأن لا يذنب، ويراقبها طوال اليوم، ويحاسبها آخر اليوم، ثمّ يعاتب نفسه: لماذا أذنب؟
ثم يقول تعالى: <وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ>[56]. إنّ هذه الآية تطيّيبٌ لقلب رسول الله؛ فحتى الشخص الأول في الإسلام والقيادة والقائد يحتاج إلى من يُطيّب نفسه، فتوجد آيات في القرآن الكريم تُسمّى آيات التطيّيب وآيات التسلية، والمقصود بها أنّ الله تبارك وتعالى يُسلّي الرسول الأكرم ويطيّب قلبه ويطمئنه بأنّه معه وناصره. والقرية ليست بمعنى القرية المعاصرة، فالقرية كانت تشمل المدينة التي يوجد فيها إعمار وبناء وسكن وحياة مدنية، فهذه تُسمّى قرية، ومشركو قريش، بالقياس إلى عاد وثمود والفراعنة وجيش أبرهة، ضعفاء عاجزون، والله قادر على تدميرهم والقضاء عليهم بسهولة.
عن ابن عباس أنّ النّبي (ص) لمّا خرج من مكة إلى غار ثور توجّه إلى مكة وقال: «والله إنك لخير أرض الله وأحب بلاد الله إلي ولو لا أن أهلك أخرجوني ما خرجت»[57]. يقولون: فنزلت هذه الآية. فإذا كان هذا النقل صحيحًا، فتكون هذه الآية مكيّة وليست مدنية؛ يعني أنّ السورة كلها مدنية باستثناء هذه الآية. لكنّ هذا الكلام – حسب نظرنا القاصر – ليس صحيحًا، فالآية التي تتحدّث عن خروج النّبيّ من مكة هي قوله تعالى: <إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ>[58]، وليست هذه الآية، فالأولى أن تكون هذه الآية تطييبًا لقلب الرسول الأكرم (ص) وهو في المدينة بأنك سوف ترجع إلى مكّة فاتحًا بإذن الله، كما أهلكنا الحضارات السابقة على مشركي قريش. ثمّ إنّ الآية تنسب الإخراج إلى مكة؛ حيث تقول: <وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ ٱلَّتِي أَخْرَجَتْكَ>[59]، ولا تنسب الإخراج إلى أهل مكة، وفي هذا إشارة إلى أنّ المجموعة التي تتسلّط على البلد هم الذين يحطّمونه، فإعمار البلد وفساده يتعلّقان بأعيانه والنخب والمسؤولين الذين يحكمونه.
وصلّى الله على محمّد وعلى آله الطاهرين.
- [1] محمد: 10-14
- [2] محمد: 10
- [3] الفجر: 6-10
- [4] الفجر: 13
- [5] محمد: 10
- [6] محمد: 11
- [7] آل عمران: 2
- [8] الرعد: 11
- [9] البقرة: 107
- [10] نفس المصدر
- [11] النور: 28
- [12] النساء: 45
- [13] الأنعام: 14
- [14] الأنعام: 141
- [15] يونس: 30
- [16] البقرة: 257
- [17] الأنعام: 127
- [18] الجاثية: 19
- [19] الحج: 78
- [20] محمد: 11
- [21] محمد: 12
- [22] آل عمران: 196-197
- [23] النحل: 49
- [24] الإسراء: 44
- [25] الحجر: 29
- [26] محمد: 12
- [27] المؤمنون: 115
- [28] البقرة: 156
- [29] الوافي، ج1، ص116
- [30] النور: 42
- [31] العنكبوت: 14
- [32] الفجر: 24
- [33] الروم: 7
- [34] النجم: 29-30
- [35] النجم: 30
- [36] بحار الأنوار، ج75، ص243
- [37] الشمس: 9-10
- [38] الذاريات: 20-21
- [39] الحشر: 19
- [40] محمد: 12
- [41] الحج: 23
- [42] العنكبوت: 54
- [43] الأعراف: 179
- [44] طه: 124
- [45] البقرة: 65
- [46] محمد: 12
- [47] الأعراف: 179
- [48] محمد: 12
- [49] الأحقاف: 20
- [50] نفس المصدر
- [51] الحشر: 19
- [52] النجم: 42
- [53] عبد الأعلى السبزواري، مهذب الأحكام، ج15، ص271.
- [54] الأحزاب: 33
- [55] الملا هادي السبزواري، شرح المنظومة لحسن زاده آملي، ج5، ص125
- [56] محمد: 13
- [57] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج18، ص16
- [58] القصص: 85
- [59] محمد: 13