مواضيع

المحاضرة الثالثة

قوله تعالى: <يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ 7 وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ 8 ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ>[1].

نصرة الله والإمداد الغيبي

تتحدّث هذه الآيات الشريفة عن قاعدة قرآنية عامّة وهامّة واستراتيجية تعتبر من السُنن الإلهيّة، ومن مجرّبات الثورة الإسلامية والمقاومة الإسلامية في عصرنا؛ حيث وجدنا أنّ هذه المعادلة قد تحقّقت كثيرًا، معادلة نصرة دين الله ومعادلة نزول الإمداد الإلهيّ الغيبيّ؛ لذلك نتحدّث عن هذه الآيات من خلال ما يلي:

نصرة الله

النقطة الأولى: معنى <إِن تَنصُرُوا اللَّه>، ماذا تعني نصرة الله؟ الله تبارك وتعالى لا يحتاج إلى نصرة العبد؛ فهو الخالق، والمالك، والرّب الولي الذي له جنود السماوات والأرض، لكن لجهة اللطف بالعباد، وتحريض العباد على أداء الوظيفة والواجب الشرعي، فتارة يقول سبحانه وتعالى: <مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ>[2]، مع أنّ لله خزائن السماوات والأرض. وتارةً أخرى يقول سبحانه: <إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ>[3]، مع أنّه سبحانه هو خالق النفس والمال ماله. هنا أيضًا بهذا التعبير؛ يقول: <إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُركُم>، فنصرة الله تعني نصرة دين الله عقيدةً وشريعةً وسلوكًا وأخلاقًا وقيمًا وقاعدةً وقيادةً وفي كلّ المستويات، بالقلب واللسان واليد، وأحد أبرز مصاديق نصرة دين الله هو الحضور الفاعل في الساحة والميدان والاستعداد للجهاد والقتال لوجه الله تأييدًا للدين وإعلاءً لكلمة الله، لا أن يكون الجهاد للاستعلاء أو لكسب الغنيمة أو إظهار الشجاعة أو قضايا أخرى؛ إذ لا قربة إلا لله تبارك وتعالى، فعند ذلك تتحقّق المعادلة <إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُركُم>.

النصر الإلهيّ ومصاديق نصرة الله

المقصود بالنصر الإلهيّ تهيئة أسباب الانتصار والغلبة؛ مثل: إلقاء الرّعب في قلوب الأعداء، وتشجيع المؤمنين، وبثّ الخلاف في صفوف الكفّار، وتضعيف نفوسهم، وما إلى ذلك من الأمور التي سنتحدّث عنها. الآية مطلقة <إِن تَنصُرُوا اللَّهَ>، ونصرة الله تتعلّق – كما قلنا – بجميع المستويات، حتى مرتبة الشعور بالمسؤولية الدينية والالتزام الدينيّ، هي نوع من النصرة لدين الله، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر من مصاديق نصرة دين الله، والانضمام إلى صفوف المجاهدين والتضحية والفداء، أو نصرة المجاهدين ومعونتهم، هذا كلّه من مصاديق نصرة دين الله.

يقول أمير المؤمنين (ع) في عهده للأشتر النخعي في رسالته الحكومية المعروفة: «وَأَنْ يَنْصُرَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِقَلْبِهِ وَيَدِهِ وَلِسَانِهِ فَإِنَّهُ جَلَّ اسْمُهُ قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ وَإِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّه‏»[4]. يوصي مالكًا الأشتر بأنّه ينبغي للحاكم أن ينصر الله تبارك وتعالى بقلبه ويده ولسانه، فماذا تعني نصرة الله بالقلب؟

نصرة الله بالقلب: تعني الإخلاص، والصدق، وحب الدين، والشعور بالمسؤولية تجاه الدين، وإظهار الامتعاض والأذية القلبية من معصية الله والفسق والفجور الذي يوجد في المجتمعات، وهذا يعتبر في حدّ نفسه نصرة لله بالقلب.

ونصرة الله باللسان: هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللسانيين وجهاد التبيين والتبصير للمؤمنين.

ونصرة الله باليد: أن يقدّم الإنسان مشروعًا؛ هذا المشروع العملي؛ سواء كان مشروعًا ثقافيًا، اقتصاديًا، اجتماعيًا، صحيًا، أمنيًا، زراعيًا، صناعيًا أو عسكريًا؛ فهو حضور في الميدان وجهاد في سبيل الله أيضًا، ثم تتحقق المعادلة كما قال أمير المؤمنين (ع): «قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ وَإِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ»[5].

أسباب النصر الإلهيّ

النقطة الثانية: أسباب النصر الإلهيّ، كيف يتحقّق النصر الإلهيّ؟ ماذا نصنع حتى ننصر الله تبارك وتعالى؟ هذا النصر الإلهيّ حتى يتحقق في الساحة يتوقف على مجموعة عناصر: قسم منها ترجع إلى الله، وقسم ثانٍ إلى المجتمع، وقسم ثالث إلى الإعداد والاستعداد، وقسم رابع إلى الظروف والأرضية المناسبة، ونحن هنا نتحدّث عن جميع هذه الأسباب بشكل مفهرس:

أولًا: الإيمان؛ فالمجتمع إذا صار مجتمعًا مؤمنًا، يكون مستعدًا لتحقيق النصر الإلهيّ، والله ينصر المجتمع المؤمن. قال تعالى: <إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا>[6]، وقال تعالى: <وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ>[7]، فهذه المعية هي معيّة اللطف والنصرة والرحمة الخاصّة الإلهيّة، وليست المعية القيمومية؛ أي ليست كالمعية في قوله تعالى: <هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ>[8]، فهذه المعيّة تُسمّى معيّة قيمومية، لكنّ تلك المعيّة هي معيّة النصرة؛ كما في قوله تعالى: <وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ>[9]، أو كما في قوله تعالى: <وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ>[10]، وقال تعالى أيضًا: <إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ>[11]، و<إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا>. الكلام ليس في هذا، وإنما في <وَالَّذِينَ آمَنُوا>، فالله ينصر المؤمن في الحياة الدنيا، هذا الهدف من الكلام هنا، ويوم يقوم الأشهاد، وقوله تعالى: <وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ>[12]. إذًا؛ من مراتب نصرة دين الله كسب الإيمان والالتزام به، وصيانة المعتقد.

ثانيًا: العمل الصالح؛ إذا قام الإنسان بعملٍ صالح، فإنّه من أسباب نصرة الله، قال تعالى: <وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا>[13]. فالشاهد هو وعد الله للمؤمنين وللذين يعملون الصالحات، فأيّ وعد هو؟ إنه الوعد بالاستخلاف، الاستخلاف نوع نصرة، ونصرة من قبل الله تبارك وتعالى. إذًا؛ العمل الصالح أيضًا سبب، ومن مصاديق أنّ العمل الصالح سبب للانتصار أيضًا قوله تعالى: <إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ>[14]، فالكَلِم الطيب يعني كلمة التوحيد <وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ>، العمل الصالح يرفع الكلم الطيب وهو التوحيد ويسبب الانتصار؛ فإنّ الله تبارك وتعالى يلتفت إلى العبد المؤمن الذي يعمل الصالحات.

ثالثًا: تقوى الله؛ التقوى لها آثار، ومن جملة آثارها الإمداد الإلهي <إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجعَل لَكُم فُرقانًا>[15]، والفرقان هو نصرة، و<يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ>[16]، فالإنسان الذي يتّقي الله يرزقه من حيث لا يحتسب، وفيها فوائد أخرى من جملتها: <إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ>[17]، فالعاقبة للمتقين يعني أنّ المتّقي يحصل على نصرة الله، أو كما قال تعالى: <وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ>[18]، فهذه معيّة اللطف والرحمة.

رابعًا: ذكر الله كثيرًا؛ الذكر ثلاث مراتب: ذكر قلبي، وذكر لساني، وذكر عملي, والمقصود بالذكر الالتفات والتوجّه إلى أنّ الله موجود، حيٌّ قيّومٌ، لا تأخذه سِنةٌ ولا نوم، له ما في السماوات وما في الأرض، <لِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ>[19]. إذًا؛ إذا التفت الإنسان دائمًا إلى الله سبحانه وشغل ذهنه بالله تعالى ولا ينسى الله ولا يغفل عنه، فإنّ الله تبارك وتعالى يلتفت إليه <فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ>[20]، فإنّ عوامل السقوط؛ إمّا الجهل وإمّا الغفلة، فذكرُ الله كثيرًا سببٌ من أسباب الانتصار الإلهيّ. يقول الله تعالى في هذا الصدد: <يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ>[21]، هذا شيء مهمٌّ جدًا. إذًا؛ ذكر الله كثيرًا بالخصوص في ميدان الجهاد يسبّب نصرة الله، والله تبارك وتعالى يستجيب دعاء المجاهد.

خامسًا: الاستغاثة والدعاء عند الاضطرار؛ من جملة الأمور التي تساعد على نصرة الله، الاستغاثة والدعاء حال الاضطرار؛ أي أنّ الإنسان في حال الاضطرار يتوجّه إلى الله <أَمَّنْ یجِیبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَیكشِفُ السُّوءَ وَیجْعَلُكمْ خُلَفاءَ الأَرْضِ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ>[22]، فالاستغاثة والدعاء في حال الاضطرار أحد أسباب جلب النصرة الإلهيّة، والأمر الآخر المهمُّ أيضًا هو خصوص التوجّه والتوسّل والاستغاثة بصاحب الأمر والزمان بقية الله الأعظم (عجل الله فرجه)، وهذا مجرّب أيضًا.

سادسًا: وحدة الكلمة؛ ومن جملة الأمور التي تساعد على نصرة الله وحدة الكلمة وعدم النزاع والتفرقة، فوحدة المؤمنين تسبّب اللطف الإلهيّ، وتفرقة المؤمنين تسبّب الهزيمة والفشل. يقول الله تبارك وتعالى: <وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ>[23]، ريحكم: أي قوّتكم، <إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ>[24]، وقوله تعالى: <وَاعتَصِموا بِحَبلِ اللَّهِ جَميعًا وَلا تَفَرَّقوا>[25] إلى آخر الآية الشريفة. إذًا؛ من جملة أسباب الانتصار الإلهيّ، الاتحاد، ومن جملة أسباب الهزيمة، التفرقة والنزاع وعدم استعداد الإنسان لتقديم التنازلات لأخيه المؤمن أو للمؤسّسة المؤمنة أو للحزب المؤمن أو أمثال ذلك؛ أي النزاع والصراع على شيء لا يجدي نفعًا، فهذا يسبب الفشل والهزيمة، نستجير بالله منه!

سابعًا: التولّي والتبرّي؛ فمن جملة الأمور التي تساعد على الانتصار، التولّي والتبرّي <وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ>[26]، هذا هو التولّي.

أمّا التبرّي، فيشير إليه قوله تعالى: <وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ>[27]؛ أي أنّ المجتمع الذي يستسلم للحاكم الجائر الظالم لا ينتصر؛ إذ إنّ أحد شروط الانتصار عدم الركون للظالمين، فالمجتمع الذي يحرّر نفسه من الركون والخضوع والاستسلام للظالم يهيّئ لنفسه أسباب الانتصار، فرفض الظلم ورفض الظالم مقدمة للانتصار.

ثامنًا: الجهاد في سبيل الله؛ فمن جملة الأمور التي تساعد على الانتصار، الجهاد في سبيل الله، وتشير إليه هذه الآية التي نقرأها اليوم في بحث هذه السورة: <يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُركُم وَيُثَبِّت أَقدامَكُم>[28]، أن تنصروا الله في حضوركم في ميدان الجهاد.

تاسعًا: إعداد القوّة؛ كما في قوله تعالى: <وَأَعِدّوا لَهُم مَا استَطَعتُم مِن قُوَّةٍ وَمِن رِباطِ الخَيلِ تُرهِبونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُم>[29].

عاشرًا: الصبر والثبات والمقاومة؛ كما في قوله تعالى: <وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ>[30]، أو قوله تعالى: <إِن يَكُن مِنكُم عِشرونَ صابِرونَ يَغلِبوا مِائَتَينِ>[31]، المقصود بالصبر هنا المقاومة، أو قوله تعالى: <يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ>[32]، أو قوله تعالى: <وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ>[33]، فلماذا نصر الله سبحانه بني إسرائيل على فرعون وقومه؟ ذلك <بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ>[34].

إذًا؛ الصبر والمقاومة دليل الانتصار، وإلّا من بعد الانتصار يقولون لموسى (ع): <إِنَّ فيها قَوْمًا جَبَّارينَ>[35]، <فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ>[36]، فإذا تركوا القيادة الصالحة وحدها ولم يقاوموا واستمروا بذلك، فإنّ الله تبارك وتعالى يخذلهم؛ بل ينزل الغضب عليهم؛ ولذلك نلاحظ أنّ قوم موسى مع أنّهم كانوا أفضل الأقوام <اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ>[37]، لكنّهم في النهاية صاروا من الأقوام المغضوب عليهم نتيجة خذلانهم للحق.

حادي عشر: التوكل على الله <إِن يَنصُركُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُم وَإِن يَخذُلكُم فَمَن ذَا الَّذي يَنصُرُكُم مِن بَعدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَليَتَوَكَّلِ المُؤمِنونَ>[38].

ثاني عشر: الأخذ بأوامر القيادة الشرعية ونواهيها؛ من يلتزم بأوامر ونواهي القيادة الشرعية ينتصر، ومن لا يلتزم بأوامر القيادة ينهزم، كما في قوله تعالى: <إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ>[39]، أو كما في قوله تعالى: <يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ>[40].

ثالث عشر: الإمدادات الغيبية الإلهيّة؛ التي يقدّرها الله تبارك وتعالى للمجتمع الكفوء الذي يعمل بالوظيفة الشرعية؛ فإنّ الإنسان الذي يعمل بالوظيفة الشرعية ولا يتنازل، ينزل عليه النصر.

ضرورة الاعتصام بالله

في ختام هذه الأمور الثلاثة عشر التي تسبّب الانتصار، نذكر لكم رواية صحيحة السند من كتاب وسائل الشيعة، عن الإمام الصادق (ع)، يقول (ع): «أيما عبد أقبل قِبَل ما يحب الله عزّ وجلّ أقبل الله قِبَل ما يحب»؛ يعني إذا توجّهنا وأقبلنا على الأمور التي يريدها الله سبحانه، فإنّ الله تبارك وتعالى يتوجّه إلى الأمور والحاجات التي نريدها ويقضيها لنا؛ «أيما عبد أقبل قبل ما يحب الله عزّ وجلّ أقبل الله قبل ما يحب، ومن اعتصم بالله عصمه الله، ومن أقبل الله قبله وعصمه لم يبالِ لو سقطت السماء على الأرض، أو كانت نازلة نزلت على أهل الأرض فشملتهم البلية كان في حزب الله بالتقوى من كلّ بلية، أ ليس الله تعالى يقول: <إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ>؟»[41]. معنى ذلك أنّ الاعتصام بالله والاعتماد على الله هو رمز الانتصارات في صدر الإسلام، وبعد ذلك في زمن أمير المؤمنين والأئمة الأطهار، وفي العصر الراهن الاعتماد على الله شيء مهمٌّ جدًا؛ يقول تعالى: <يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُركُم وَيُثَبِّت أَقدامَكُم>[42]، وتثبيت القدم عندنا في قسم منها يتعلّق بما قبل الانتصار، فإذا كان هناك ثبات للقدم يتحقّق الانتصار <إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا>[43]. ولدينا تثبيت الأقدام بعد الانتصار؛ أي المحافظة على الانتصار، والمحافظة على الانتصار أهم من الانتصار؛ فقد يكون هناك من يكتسب مكتسبات؛ سواء على المستوى الاجتماعي أو على المستوى الفردي، لكنه يتنازل ويتراخى ويتكاسل ويتراجع، فإنّه يضيّع الانتصارات التي حقّقها، فحفظ الانتصار أهم من الانتصار، والفلاسفة يقولون: العلّة المبقية أهم من العلّة المحدِثة، فهنا <يُثَبِّت أَقدامَكُم>؛ يعني الحفاظ على الانتصار بعد الانتصار <يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُركُم وَيُثَبِّت أَقدامَكُم>[44].

وبالمناسبة لا بأس بأن أنقل ما قاله ًاالأمين العام لحزب الله وقائد المقاومة المجاهد الأكبر السيد حسن نصر الله (حفظه الله)، فهو يقول: بعد الاجتياح الإسرائيلي، التقت مجموعة من القيادات بالإمام الراحل (ق) حتى يعرفوا تكليفهم، ماذا يصنعون. يقول: التقينا بالإمام الراحل وسلّمته تقريرًا عن الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وأنّه ما هو تكليفنا؟ يقول: قال لنا الإمام جملة واحدة: ارجعوا إلى لبنان <إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُركُم وَيُثَبِّت أَقدامَكُم>. يقول: في ذلك الوقت في زمن الاجتياح، عندما حدّثنا الإمام بهذه الكلمة، كنّا نظنُّ أنّ الإمام يريد أن يشجّعنا لا أكثر، فلبنان قد اجتاحته إسرائيل، وهنا يكمن هذا المطلب <إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُركُم وَيُثَبِّت أَقدامَكُم>، لكن تدريجيًا صارت الاستراتيجية الأساسية لحزب الله هي العمل بهذه الآية الشريفة.

وأنا أقول لكم: إنّ حزب الله تحوّل من حزب صغير انطلق من بعلبك في لبنان إلى حزب كبير وقوي ليس على مستوى الأمة فقط، فحزب الله اليوم أقوى من جميع الجيوش العربية بدون شكّ، فهو مقاومة إيمانية جهادية سياسية ولائية فاعلة، والقوّة الضاربة لأمّة الإسلام، بحيث تهدّد إسرائيل، وحتى قوّة حماس وقوّة الجهاد الإسلامي تحقّقت جرّاء التوجّه إلى استراتيجية المقاومة الإسلامية وحزب الله. هذا أحد مجرّبات الثورة ومجرّبات المقاومة الإسلامية في الآية.

المطلب الآخر: ما شاهدناه في الجمهورية الإسلامية طوال فترة الأربعة والأربعين عامًا، فعلى الرّغم من جميع المؤامرات وجميع التحدّيات وتجييش القوى الشيطانية العالمية ضد الجمهورية الإسلامية، فكانوا في البدايات يقولون: في هذا العام تسقط، وفي هذا العام تسقط، وفي هذا الشهر، وفي هذين الشهرين، لكنّ الجمهورية الإسلامية اليوم استمرّت أربعة وأربعين عامًا، لكن كيف استمرّت؟ اليوم؛ بإذن الله الجمهورية الإسلامية أقوى من أمريكا وإسرائيل، وأمريكا وإسرائيل أضعف من كلّ زمان في مواجهة الجمهورية الإسلامية، وهذا أحد مصاديق <إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُركُم وَيُثَبِّت أَقدامَكُم>، فعلى الرّغم من كلّ التحدّيات، إذا توجّه الإنسان إلى أنّ الله موجود والله قادر والله مالك والله وليّ <وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ>[45]، ويعتمد على الله سبحانه، ويتحرّك ويعمل ما بوسعه، فإنّ المدد الإلهيّ ينزل عليه مثلما أنّه نزل في غزوة بدر <وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ>[46]، فالله الذي نصر المؤمنين ببدر ينصر المؤمنين في زمن الثورة الإسلامية، وينصر المؤمنين في جبهة المقاومة الإسلامية، وينصر المؤمنين في جميع الساحات؛ الفردية والاجتماعية والمهنية والأسرية، وفي جميع الأمور، الله موجود بشرط أن يعمل الإنسان بالوظيفة الشرعية. النصرة الإلهيّة تارةً تتحقّق – كما قلنا – عن طريق تهيئة أسباب التوفيق، وتارةً أخرى عن طريق الإشراق والإلهام، وهو أن يخطر ببالك شيء، وهذا يسبّب النصرة أو الهداية والتبصّر. يقول الله سبحانه وتعالى: <وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ>[47].

كلمة لأمير المؤمنين (ع)

التفتوا إلى هذه الكلمة من أمير المؤمنين (ع): «وَلَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (ص) نَقْتُلُ آبَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا وَإِخْوَانَنَا وَأَعْمَامَنَا مَا يَزِيدُنَا ذَلِكَ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا وَمُضِيًّا عَلَى اللَّقَمِ وَصَبْرًا عَلَى مَضَضِ الْأَلَمِ وَجِدًّا فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا وَالْآخَرُ مِنْ عَدُوِّنَا يَتَصَاوَلَانِ تَصَاوُلَ الْفَحْلَيْنِ يَتَخَالَسَانِ أَنْفُسَهُمَا أَيُّهُمَا يَسْقِي صَاحِبَهُ كَأْسَ الْمَنُونِ، فَمَرَّةً لَنَا مِنْ عَدُوِّنَا وَمَرَّةً لِعَدُوِّنَا مِنَّا، فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ صِدْقَنَا – التفتوا إلى هذه الكلمة – فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْكَبْتَ وَأَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصْرَ – الصدق، والإخلاص، هذا الذي يتحدّث عنه أمير المؤمنين (ع) – وَلَعَمْرِي لَوْ كُنَّا نَأْتِي مَا أَتَيْتُمْ مَا قَامَ لِلدِّينِ عَمُودٌ وَلَا اخْضَرَّ لِلْإِيمَانِ عُودٌ»[48]. إنّ الإمام (ع) يحث المؤمنين على العمل بالوظيفة الشرعية والحضور الفاعل في الميدان، ميدان التضحية والفداء للإسلام العزيز.

يقول الله تعالى أيضًا: <إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى>[49]، المدد الإلهيّ هنا يحصل عن طريق الهداية <وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ>[50]، فهنا لماذا حصل الانتصار الإلهي عن طريق الربط على القلوب؟ <إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ>[51]، هؤلاء الفتية لم يكن عملهم الدعاء فقط، فالدعاء من دون عمل، ومن دون من سعي، ومن دون نشاط، ومن دون جهاد، ومن دون تضحية، ومن دون فداء، لا يكفي: <إِذْ قَامُوا>؛ لذلك، ربط الله تبارك وتعالى على قلوبهم.

يقول الملا هادي السبزواري في منظومته «والملهم المبتدع القديم‌ حق عليم منه عظيم»[52]. إنّ الله تبارك وتعالى ملهم ومبتدع وعليم وحي وحاضر، ومنّة الله على العباد كثيرة بشرط أن يلتفت العبد إلى نعم الله غير المنتهية.

ويقول الله تعالى أيضًا: <وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ>[53]، لماذا ذكر الله سبحانه هذه القصة؟ إنّها تتعلّق ببني إسرائيل، فهي لرسول الله وأصحابه في سورة القصص، وهم كانوا قلّة في مكة، فيقول للرسول مثلما نصرْنا المستضعفين من بني إسرائيل على قوم فرعون، باستطاعتنا أن ننصركم على مشركي قريش بشرط تحرّككم، كما أنّ الله نصرهم <وَٱذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى ٱلْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ فَـَٔاوَىٰكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ>[54].

طبعًا؛ الكلام حول أبعاد النصر الإلهيّ يطول جدًا، لكن نكتفي بهذا المقدار لننتقل إلى بعض الأمور الأخرى التي تتعلّق بنصرة الله للأنبياء وللمؤمنين، فقد يسأل السائل: كيف نصرهم الله مع أنّ سيد الشهداء استشهد؟! إنّ نصرة الله لسيد الشهداء عن طريق تخليد سيد الشهداء وحفظ الإسلام وحفظ مبادئ سيد الشهداء، والإسلام (بدؤه محمّدي ودوامه علوي وبقاؤه حسيني)، وهذا هو النصر لسيد الشهداء.

نصرة الله تعالى للأنبياء (عليهم السلام)

بالنسبة إلى نصرة الأنبياء، فالله تبارك وتعالى نصر كلّ واحدٍ من الأنبياء (عليهم السلام) بأسلوب، نذكر هنا بعض هذه الأساليب؛ فمثلًا بالنسبة إلى نبيّ الله نوح (ع)، يقول الله تعالى: <فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ>[55]، وبالنسبة إلى إبراهيم (ع): <يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا>[56]، وبالنسبة إلى لوط (ع): <إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ>[57]، ويوسف (ع): <وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ>[58]، وشعيب (ع): <نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ>[59]، وصالح (ع): <نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ>[60]، وهود (ع): <نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ>[61]، ويونس <وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ>[62]، وموسى (ع): <وَأَنْجَيْنَا مُوسَىٰ وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ>[63]، وعيسى (ع): <إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ>[64]، والرسول الأكرم (ص): <إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحًا مُّبِينًا>[65]، و<إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ 1 وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا>[66]، وقوله تعالى: <وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ>[67]، أو قوله تعالى: <ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ>[68] عن طريق إنزال السكينة تتحقّق النصرة.

أمّا مصاديق النصرة الإلهيّة، فهي:

أولًا: الربط على القلب <وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ>[69].

ثانيًا: التثبيت <يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا>[70].

ثالثًا: استجابة الدعاء <وَيَسْتَجِيبُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ>[71].

أو <فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ>[72]، <رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا>[73]، الله استجاب دعاء نوح (ع) تارةً بالمعجزة والاستدلال، وتارةً بإعطاء الدولة والحكومة <وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا>[74]، وتارةً بالغلبة في الحروب <لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ>[75]، وأخرى بنزول السكينة، كما قرأنا في الآية <فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا>[76]، وأخرى بإهلاك العدو <فَأَغْرَقْناهُمْ>[77]، وأخرى بالإمدادات الغيبية <أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَٰثَةِ ءَالَٰفٍۢ مِّنَ ٱلْمَلٰائِكَةِ مُنزَلِينَ>[78]، أو <وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ>[79]، وأخرى بنشر الإسلام في العالم <هُوَ الَّذي أَرسَلَ رَسولَهُ بِالهُدىٰ وَدينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلِّهِ وَلَو كَرِهَ المُشرِكونَ>[80]، وأخرى بالنجاة من المخاطر <فَأَنجَيْنَٰهُ وَأَصْحَٰبَ ٱلسَّفِينَةِ>[81]، وأخرى بإحباط المؤامرات <وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ>[82]، وأخرى بالإلهام <إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ>[83]. إنّ هذه الأمور التي تتحقّق بالنسبة للانتصار قابلة للتطبيق في زماننا وفي كلّ زمان.

إذًا؛ هذه القاعدة عامة <يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُركُم وَيُثَبِّت أَقدامَكُم>[84] بشرط الحركة، والسعي، والإخلاص، والصدق، والتوكّل على الله، والتوجّه والاعتماد على الله تبارك وتعالى.

في معنى التَّعس

واستمرارًا لهذه الآية الشريفة يقول تعالى في الآية التي بعدها: <وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ>[85]، فماذا يعني التَّعْس؟ التعس: يعني أن يخُرّ على وجهه، والنكس أن يخرّ على رأسه، والتعس أيضًا الهلاك، وأصله الكَبّ، وهو ضدُّ الانتعاش، يقال: تعسًا لفلان! أي ألزمه الله هلاكًا. إنّ هذه الآية <والَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ> وزان <قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ>[86]، التعس أن لا ينتعش من العثرة وأن ينكسر في سُفال؛ أي يعثر، والعثرة أيضًا توصله دائمًا إلى الهلاك، وهو العثور الشديد حتى يخرّ على وجهه ويغرب من الهلاك مقابل تثبيت الأقدام بالنسبة للمؤمنين <وَيُثَبِّت أَقدامَكُم>، ولكن بالنسبة للكفار <فَتَعْسًا لَهُمْ>، فيدل على العثور والانحطاط والهلاك. إذًا؛ <والَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ>، ضلال الأعمال تحدّثنا عنه؛ يعني البوار والدمار.

هنا مطلب أيضًا يجب أن نتحدث عنه: لماذا يشمل الله تبارك وتعالى الكفّار بالتعس والضلال؟ الجواب قوله تعالى: <بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ>، الكراهية تعني البغض والعداوة؛ أي يكرهون تطبيق الشريعة الإسلامية، ولا يريدون أنتُطبق ، ويخافون من تطبيق الدّين، كما يقول الله تعالى: <أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ>، المشركون والكفّار يخافون من إقامة الدين، ويدعون إلى العلمانية وإلى الليبرالية وإلى الحلول المستوردة؛ لأنّ الدين إذا طُبِّق تكون الأمّة أمّة قويةً، فهم يخافون من هذا. إذًا؛ <كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ>. ماذا يعني هذا؟ يعني أنّهم عادَوا وأبغضوا ما أنزل الله، أبغضوا الشريعة القانون الإلهيّ بأسماء ومسمّيات مختلفة، فما هي النتيجة إذًا؟ <فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ>، الحبط أخص من ضلال العمل؛ فالحبط يعني بطلان العمل وجعل العمل ضائعًا لا نفع به، والحبط – في اللغة – أن تأكل الدابة من العلف حتى تنتفخ وتموت، هذا معنى الحبط في اللغة، وفي الاصطلاح: فساد العمل وزوال ثوابه.

عوامل إحباط الأعمال

عوامل الإحباط كثيرة: منها الارتداد، والصد عن سبيل الله، وإنكار الآخرة، وتكذيب الآيات، والتخلّف عن الجهاد <يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ>[87]، والعداوة والبغضاء للنبي والقيادة الصالحة <إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَىٰ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ>[88]، وطلب الدنيا ومودّة الأعداء والتطبيع مع أعداء الدين، كل ذلك يسبّب حبط الأعمال، ومن حبط الأعمال اليوم أنّ قسمًا من الأمّة مبتلٍ بقضية التطبيع، والتطبيع الاجتماعي أخطر من التطبيع السياسي، فقال الله تعالى في هذا الصدد: <وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ>[89]، فهذه إشارة إلى التطبيع الاجتماعي، وهو مودّة أعداء الأمة وأعداء الدين. والربا، والشرك، والكفر، والنفاق، والسخط لرضوان الله، هذه الأمور كلّها أسباب لحبط الأعمال. ومن جملة أسباب حبط الأعمال، سوء الأدب مع القيادة الإلهيّة المتمثّلة بشخصية الرسول الأكرم، وسوء الأدب مع القيادة الصالحة التي تمثّل قيادة الرسول الأكرم مثل الأئمة الأطهار، وسوء الأدب مع المرجعية الرشيدة والولي الفقيه. كل ذلك يسبّب حبط الأعمال. يقول الله سبحانه وتعالى: <يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ>[90].

نسأل الله أن يوفّقنا وإيّاكم لنصرة الدين، «اللّهم اجْعَلْنا مِمَّنْ تَنْتَصِرُ بِهِ لِدِینِك وَتُعِزُّ بِهِ نَصْرَ وَلِیِّك، وَلا تَسْتَبْدِلْ بِنا غَیْرَنا، فَإِنَّ اسْتِبْدالَكَ بِنا غَیْرَنا عَلَيكَ یَسِیرٌ وَهُوَ عَلَیْنا كثِیرٌ»، وصلِّ اللهمَّ على محمّد وآله الطاهرين.


  • [1] محمد: 7-9
  • [2] البقرة: 245
  • [3] التوبة: 111
  • [4] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج17، ص30
  • [5] عهد الإمام علي (ع) لمالك الأشتر
  • [6] الحج: 38
  • [7] الأنفال: 19
  • [8] الحديد: 4
  • [9] الأنفال: 19
  • [10] الروم: 47
  • [11] غافر: 51
  • [12] المنافقون: 8
  • [13] نور: 55
  • [14] فاطر: 10
  • [15] الأنفال: 29
  • [16] الطلاق: 3
  • [17] الأعراف: 128
  • [18] البقرة: 194
  • [19] الفتح: 7
  • [20] البقرة: 152
  • [21] الأنفال: 45
  • [22] النمل: 62
  • [23] الأنفال: 46
  • [24] نفس المصدر
  • [25] آل عمران: 103
  • [26] المائدة: 56
  • [27] هود: 113
  • [28] محمد: 7
  • [29] الأنفال: 60
  • [30] آل عمران: 120
  • [31] الأنفال: 65
  • [32] آل عمران: 200
  • [33] الأعراف: 137
  • [34] نفس المصدر
  • [35] المائدة: 22
  • [36] المائدة: 24
  • [37] البقرة: 47
  • [38] آل عمران: 160
  • [39] الصف: 4
  • [40] النساء: 59
  • [41] وسائل الشيعة، كتاب الجهاد النفس، باب وجوب الاعتصام بالله، ج15، ص211
  • [42] محمد: 7
  • [43] الأنفال: 45
  • [44] محمد: 7
  • [45] الفتح: 4
  • [46] آل عمران: 123
  • [47] العنكبوت: 69
  • [48] نهج البلاغة، الخطبة 56.
  • [49] الكهف: 13
  • [50] الكهف: 14
  • [51] نفس المصدر
  • [52] الملا هادي السبزواري، شرح المنظومة لحسن زاده آملي، ج1، ص57
  • [53] القصص: 5
  • [54] الأنفال: 26
  • [55] يونس: 73
  • [56] الأنبياء: 69
  • [57] الصافات: 134
  • [58] يوسف: 56
  • [59] هود: 94
  • [60] هود: 66
  • [61] هود: 58
  • [62] الأنبياء: 88
  • [63] الشعراء: 65
  • [64] آل عمران: 55
  • [65] الفتح: 1
  • [66] النصر: 1-2
  • [67] آل عمران: 123
  • [68] التوبة: 26
  • [69] الأنفال: 11
  • [70] إبراهيم: 27
  • [71] الشورى: 26
  • [72] يوسف: 34
  • [73] نوح: 26
  • [74] النساء: 54
  • [75] التوبة: 25
  • [76] التوبة: 40
  • [77] الزخرف: 55
  • [78] آل عمران: 124
  • [79] الحشر: 2
  • [80] التوبة: 33
  • [81] العنكبوت: 15
  • [82] الأنفال: 18
  • [83] القصص: 7
  • [84] محمد: 7
  • [85] محمد: 8
  • [86] المنافقون: 4
  • [87] محمد: 33
  • [88] محمد: 32
  • [89] المائدة: 53
  • [90] الحجرات: 2
المصدر
كتاب تفسير سورة محمد | آية الله الشيخ عباس الكعبي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى