مواضيع

المحاضرة الأولى

في تفسير سورة محمّد (ص)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على خير الأنام المصطفى أبي القاسم محمّد وعلى آله الطيبين الطاهرين، ولا سيّما بقية الله في الأرضين.

يدور بحثنا الحالي – بفضل الله تعالى وتوفيقه – في هذه الليالي الرمضانية المباركة حول تفسير سورة محمّد المصطفى (ص).

خصائصها

قبل أن نشرع في الحديث عن تفسير هذه السورة المباركة، سنتحدّث عن جملة من الأمور المهمة التي ترتبط بخصائصها، فنقول:

أولًا: نزولها

يتّضح من خلال النظر إلى ما تطرّقت إليه هذه السورة أنّها مدنية، وذلك نظرًا لمضمونها؛ لأنّ السور المكيّة تتحدّث عن الأمور العقائدية وما يشتمل على ترسيخ العقيدة، لكنّ السور المدنية تتحدّث عن الجهاد وتأسيس الدولة وأحكام الدولة الإسلامية وعلاقاتها الداخلية و الخارجية، وكذلك تتحدّث عن أحكام الشريعة. فهذه ضابطة عامة لتشخيص المكّي من المدني في القرآن الكريم؛ فأيُّ سورة في القرآن الكريم تتحدّث عن بحث الجهاد أو الفقه أو أحكام الدولة أو أحكام تتعلق بالعلاقات الداخلية أو الدولية للدولة أو العهود، لا شك في أنّ تلك السورة أو الآيات مدنية.

ثانيًا: موضوعها

إنّ موضوع هذه السورة الذي تدور حوله آياتها الشريفة هو الاصطفاف بين جبهة الحقّ والباطل وأحكام هذا الاصطفاف في البُعدين المحلّي (الداخلي) والدولي (الخارجي) للدولة الإسلامية.

ثالثًا: أسماؤها

الاسم المعروف الذي يُطلق على هذه السورة المباركة هو (سورة محمّد)، وهو اسم النبيّ المصطفى (ص)، والاسم الآخر لها هو (سورة القتال) نظرًا إلى أنّ إحدى آياتها تتحدّث عن القتال <فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ>[1]، والاسم الآخر هو (سورة الذين كفروا)، وهو مستوحى من آية <الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ>[2] أيضًا.

رابعًا: ترتيب نزولها

تُعدُّ هذه السورة حسب ترتيب النزول، السورة الخامسة والتسعون، فنزلت قبل سورة الحديد، ونزلت بعدها سورة الرعد. أمّا الفائدة المترتبة على بحث ترتيب نزول السور، فهي أنّ ذلك يساعد على فهم أجواء السورة والظروف المحيطة بها، وإدراك مضمونها ومحتواها، ومعرفة أغراضها.

خامسًا: ترتيبها في المصحف

هي السورة السابعة والأربعون.

سادسًا: عدد آياتها

عدد آياتها ثمان وثلاثون آية.

سابعًا: حجمها

تُعتبر هذه السورة من السور المثاني؛ أي السور التي تحتوي على مقدار حزب من القرآن، حيث إنّ القرآن يُقسّم إلى سور، وأجزاء، وأحزاب، فهي تكون بهذا الحجم.

ثامنًا: فضلها

من خلال الروايات، نستطيع أن نعرف مضمون هذه السورة وفضلها أيضًا، وليس الفضل هو الفضل الشكلي فحسب؛ بل الفضل فيما يرتبط بالمضمون، فعلى الإنسان القارئ للقرآن أن يعتني بهذا المضمون ويطبقه في حياته.

الروايات الواردة في فضلها

الرواية الأولى: روى الشيخ الصدوق بإسناده عن البطائني قال:

أولًا: «من قرأ سورة <الَّذِينَ كَفَرُوا> لم يذنب أبدًا». يعني أنّ هذه السورة من ناحية المضمون تساعد على قضية جهاد النفس وتحصيل التقوى.

ثانيًا: «ولم يدخله شكٌ في دينه أبدًا». من ناحية المضمون الإيماني يتمكّن من أن يحافظ عليه.

ثالثًا: «ولم يبتله الله بفقرٍ أبدًا». إنّ هذه الرواية تنطوي على فائدة اقتصادية أيضًا؛ بمعنى أنّ الإنسان إذا التزم بمضمونها، فسيحصل على نوع من أنواع التنمية الاقتصادية.

رابعًا: «ولا خوف من سلطانٍ أبدًا». بمعنى أنّه لا يخالطه خوف من الظالمين، ويكون شجاعًا في مواجهتهم.

خامسًا: «ولم يزل محفوظًا من الشكِّ والكفر أبدًا». أي حتى يموت، فينال حُسن العاقبة بهذا الالتزام.

وسادسًا: «فإذا مات، وكّلَ الله به في قبره ألفَ ملكٍ يُصلّون في قبره، ويكون ثواب صلاتهم له، ويشيِّعونه حتَّى يُوقفوه موقفَ الآمنين عند الله عزّ وجلّ». فلماذا تتحقّق له هذه الأمور؟ لأنّه:

سابعًا: «ويكون في أمان الله وأمان محمّد (ص)»[3].

إذًا؛ إنّ مضمون هذه السورة فيه نوع من الالتزام الإيمانيّ، والالتزام الشرعي، والالتزام بمبدأ القيادة الشرعية المتمثّلة في شخصية رسول الله الأقدس (ص)، وهذا ما يدعو إلى أمان الأمة وأمان المجتمع الإسلامي الملتزم بهذا المفاد والمضمون.

الرواية الثانية: روي في كتاب ثواب الأعمال: عن الصادق (ع) أنّه قال: «من أراد أن يعرفَ حالنا وحال أعدائنا، فليقرأ سورة محمّد (ص)؛ فإنّه يراها آيةً فينا، وآيةً فيهم»[4].

معنى ذلك؛ أنّ هذه السورة هي سورة الولاية لمحمّد وآل محمّد، وهي أيضًا سورة البراءة من أعداء محمّد وآل محمّد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، من خلال الحضور في ميدان المواجهة والمعركة والحضور الجهادي الفاعل والنشيط؛ أي أنّ ذلك يعني تطبيق مبدأ «سلمٌ لمن سالمكم وحربٌ لمن حاربكم». إنّ بعض السور يدلُّ مضمونها على الولاية؛ مثل سورة المائدة، وبعض السور يدلُّ مضمونها على البراءة؛ مثل سورة البراءة، لكنّ هذه السورة جمعت بمفادها بين الولاية والبراءة معًا؛ أي التولّي والتبرّي. وهذا المحتوى قد ورد في رواية أخرى أيضًا.

الرواية الثالثة: عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) أنّه قال في فضل هذه السورة المباركة: «آية فينا، وآية في بني أمية»[5]. ربّما كانت الآية التي يقصدها أمير المؤمنين أنّها في بني أميّة هي قوله تعالى: <فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ>[6]. وسنتحدّث عن هذا المضمون – إن شاء الله تعالى – فيما يأتي.

إذًا؛ هذه السورة تتحدّث عن الإسلام العلوي والإسلام الأموي في ميدان المواجهة والمعركة. وهذا بُعد آخر من أبعاد هذه الرواية الشريفة.

بات من الواضح والبيّن من خلال دلالة محتوى السورة ومن خلال ما أشرنا إليه من فضائلها المهمّة المباركة أنّها عن أيّ شيء تتحدّث، لكن مع ذلك كلّه إذا أردنا أن نختزل المضمون، نقول: إنّ هذه السورة ترسم حالة الاصطفاف بين معسكرين:

المعسكر الأول: هو معسكر جبهة الحقّ المتمثّل بالمؤمنين الصالحين التابعين تبعية مطلقة للقيادة الإلهيّة المتمثّلة بشخصية النبيّ محمّد المصطفى (ص).

المعسكر الثاني: وهو معسكر جبهة الباطل المتمثّل بمشركي قريش الذين يواجهون خط الإيمان بكل قواهم.

فاتّضح إذًا أنّ السورة قد تصوّر لنا الاصطفاف بين هذين المعسكرين: معسكر الحق، ومعسكر الباطل.

مضمون السورة

سؤال: أ يختصُّ مضمون هذه السورة بتاريخ الإسلام الذي يرتبط بالماضي فقط، أم إنّه قد تجاوز المرحلية وإنّ فيها دروسًا تتعلّق بالحاضر والمستقبل أيضًا؟

الجواب: إنها تنطوي على دروس تتعلّق بالحاضر المعاصر وبالمستقبل أيضًا، ونكتشف ونعرف هذه الدروس من الآية الثالثة منها، وهي قوله تعالى: <كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ>[7]، فعندما يذكر الله تبارك وتعالى هذا الاصطفاف بين جبهة الحقّ والباطل، فإنّه سبحانه يتحدّث عن تكرار التاريخ وتجدّده في كلّ زمانٍ ومكان.

ومن الأمور التي تتحدّث عنها هذه السورة أيضًا هي: طبيعة المعركة، ونتيجة المعركة، والدروس المكتسبة من المعركة والمستقاة منها، والمترتبة عليها. ومنها: تطبيق المعركة – كما قلنا – في كل زمانٍ ومكان؛ باصطفاف جبهة الحق مع القيادة الشرعية ضدّ جبهة الباطل. وهذا الدرس الذي يستشفُّ من هذه السورة – كما قلنا – يشرح خطّ ولاية الرسول وآل الرسول صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، لكنّ تحقيق ذلك على أرض الواقع يكون في ميدان المعركة في مجالي النظرية والتطبيق، وليس في الاعتقاد النظري فحسب؛ فالميدان هو الخطُّ الفاصل بين الولاية الحقيقية والولاية الشكلية، وميدان المواجهة والمعركة هو الخطُّ الفاصل بين التولّي والتبرّي الحقيقيين وغيرهما.

وكذلك؛ تتحدّث السورة المباركة عن خط الأعداء، وتعرّج إلى بيان طبيعة المنافقين وخُذلانهم للحق أيضًا، وعن خطِّ الإيمان، والقيادة الشرعية، وعن المنافقين والذين في قلوبهم مرض.

وكذلك؛ تتعرّض هذه السورة إلى الحديث عن السُنن الإلهيّة في الانتصار بقوله تعالى: <يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُركُم وَيُثَبِّت أَقدامَكُم>[8].

وتتحدّث عن حالة تحذير للمؤمنين، وذلك في الآية الأخيرة من السورة بقوله تعالى: <إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ>[9]. أي أنّكم إذا تركتم المعركة والميدان، فإنّ الله يستبدلكم بقوم غيركم ثمّ لا يكونوا أمثالكم.

وكذلك؛ تتحدّث عن سُنّة من السُّنن الإلهيّة؛ وهي سُنّة الاستبدال، فأنت تستطيع أن تغيّر مسير الجهاد إلى مسير الاستسلام. وهذا الكلام ممّا يدخل في مضمون السورة أيضًا.

تفسير آياتها

أمّا الآيات التي نريد أن نتحدّث عنها الآن، فهي الآيات الأولى من السورة المباركة. قال تعالى:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

<الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ۱ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ۲ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ>[10].

يُشير مجمل هذه الآيات الشريفة من السورة – وهي من الآية الأولى إلى الثالثة – إلى إجمال مضمون السورة، ثمّ يكون الحديث عن المصاديق، وهذا هو الاصطفاف.

تعريف الكفر لغةً واصطلاحًا

الكفر لغةً: الكفر في اللغة: التغطية، فالكافر هو الذي يُغطّي الحقّ والحقيقة والفطرة، مثل الفلّاح الذي يُغطّي البذرة.

الكفر اصطلاحًا: أمّا من ناحية المصطلح؛ فإنّ الكافر يُطلق على غير المسلم، ولكن هل المقصود بكلمة الكفر في القرآن الكريم كلّ شخصٍ غير مسلم؛ حتى لو كان غير المسلم كافرًا مسالمًا، أو كافرًا محايدًا، أو كافرًا معاهدًا؟ أي ربّما يكون الكافر معاهدًا، أو في ذمّة الإسلام، أو من أهل الكتاب.

الجواب: ًاإذا كان ذمّيًّا، فلا.

أقسام الكافر

يقسم الكافر إلى قسمين: كافر مقصّر، وكافر قاصر.

واليوم، أكثر الكُفّار في العالم في أمريكا وفي أوروبا وفي أفريقيا وفي أمريكا اللاتينية وفي آسيا وفي أيّ مكان في العالم؛ أكثرهم أمّيون، وليس الأمّي هنا بمعنى أنّهم لا يقرأون ولا يكتبون؛ بل بمعنى أنّهم لم تصل إليهم حقيقة الإسلام بشكل واقعيّ، ولو تعرّفوا على حقيقة الإسلام لآمنوا به، فهؤلاء كفّار قاصرون. وليس الكافر القاصر هو الذي لم يسمع بوجود الدّين الإسلامي؛ بل حتى لو سمع بوجود دين الإسلام، لكنّه لا يعرف طبيعة الإسلام وحقيقته خاصةً في هذا الزمان؛ فمن خلال وجود الدواعش والتكفيريين ترتسم – على ما يظهر – بذهن هذا الكافر الصورة المشوهة للمسلم وللإسلام، فيقولون له: المسلم يعني الانتحاري، والمسلم يقتل الأبرياء، فيقرنون كلمة المسلم بتلك المفاهيم البعيدة كلّ البعد عن المسلم والدين الإسلامي، فهذا الكافر الذي يتشبّع بها يبتعد عن الإسلام. وأنا لا أقول بأنّ هذا الكافر يتملك الحجّة يوم القيامة، وإنّما أقول: إنّه كافر قاصر.

وبالمصطلح القرآني، يسمّى هذا الكافر القاصر بالكافر المستضعف. أمّا كلمة الكفر في الاصطلاح القرآني، وهذا التشدّد على الكافر، فهو الكافر المعاند، الكافر الحقود، الكافر المتكبّر والمستكبر؛ لذلك، بدأت هذه الآية هكذا: <الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ>. الصّد عن سبيل الله؛ إمّا بمعنى الإعراض عن سبيل الله؛ أي انصرف عن سبيل الله بنفسه؛ لكبره ولجاجته وعناده، أو صرف غيره أو منع غيره، فهذا هو معنى الصَّد. <الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ>[11]. أضلّ أعمالهم يعني ضيّع أعمالهم وأبطلها، وهذا التضييع والإبطال يُسمّى في الثقافة القرآنية بحبط الأعمال، كما نقرأ إن شاء الله في الآيات الأخرى.

<الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ> إشارة إلى جبهة الباطل المتمثّلة في مشركي قريش في مواجهة جبهة الحقّ؛ ولذلك، يلاحظ دائمًا أنّ كلمة الكفر في القرآن فيها قيود تُقيّد بها حتى إذا أتت بنحوٍ مطلق، ومن جملة أمثلة تلك القيود: الكافر المعتدي، والكافر الظالم، والكافر الطاغوت، والكافر المحارب. والكافر الذي يصدُّ عن سبيل الله، والكافر الذي يفتن الأمّة ويفتن المسلمين بشركه، والكافر الذي يتحرّك في مواجهة الإسلام ويمنع الدعوة إلى الله تبارك وتعالى أن تصل إلى الأمّة، هو الكافر الظالم. والكافر الطاغوت ليس هو الكافر المستضعف، وهذه نقطة مهمّة، وهي أنّ الصّد – كما قلنا – الإعراض أو المنع، وطبعًا المنع أقوى، فليس بمعنى مجرّد الإعراض. ضلّ: يعني تاه عن الطريق؛ فمعنى <أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ>؛ أنّ أعمالهم تتيه ولا تصل إلى نتيجة، فالنتيجة المتوخّاة، والأهداف التي يرسمونها لا يصلون إليها في مواجهة الحقّ، ولا شكّ في أنّهم لم يصلوا إلى النتيجة المطلوبة في مواجهة الحقّ ولا يستطيعون أن يقابلوا أهل الحقّ. وهنا بحث تفصيلي بالنسبة لقاعدة نفي السبيل لا يتّسع له المقام، لكن ربما تكون قاعدة نفي السبيل، <لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا>[12]، ليست مختصة بنفي السبيل التشريعي فقط، والإمام الراحل في كتاب البيع بحث هذه القاعدة السبيل؛ حيث يقول بنفي السبيل تكوينًا وتشريعًا؛ يعني أنّ الله سبحانه قد وضع قوةً وسلطةً لجبهة الإيمان على جبهة الباطل، إن التزمنا بالإيمان طبعًا وبلوازم هذه الجبهة كما سنتحدّث عنه إن شاء الله.

تسمية السورة باسم النبيّ (ص)

إنّ هذه السورة سُمّيت بسورة الرسول الأكرم؛ أي باسمه المبارك؛ إذ إنّها في الآية الثانية، في مقابل <الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ>، تتحدّث عن جبهة الحقّ بهذه المواصفات <الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ>[13]. فالإيمان والعمل الصالح وحدهما من دون الالتزام المطلق بالقيادة الشرعية المتمثّلة بشخصية الرسول الأكرم؛ خاصّةً في ميدان المعركة، لا يكفيان، وكأنّما القيادة الشرعية روح الإسلام الأصيل وتجسيد للإيمان والعمل الصالح.

سُمّيت هذه السورة باسم الرسول الأكرم، ولا شكّ في أنّ القرآن الكريم عادة لا يُخاطب الرسول الأكرم باسمه الخاصّ؛ فالله تعالى يخاطب الرسول (ص) بـ: يا أيّها النّبي، ويا أيّها الرسول، بخلاف الأنبياء الآخرين فيخاطبهم بـ: يا نوح ويا هود؛ وذلك إجلالًا وتعظيمًا لشخصيّة الرسول الأقدس.

نعم؛ يوجد اسم الرسول الأكرم في أربعة مواضع، ولكن ليس بعنوان خطاب؛ بل كان ذلك إشارة إلى الرسول مع أصحابه، والرسول مع مستقبل الدعوة إلى الله، والرسول مع المقاومة والثبات، والرسول مع الالتزام بالشريعة، يعني فيها خطاب دلالة؛ مثل قوله تعالى: <مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ>[14]، فهي إشارة إلى صفة الرسالة وختم النبوة، أو قوله تعالى: <وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ>[15]، إشارة إلى الشخصيّة الحقوقيّة لرسول الله، وإلى أنّ الإسلام لابدّ أن يستمرّ حتى إذا كان القائد قد أُصيب ببلاء مثل الموت أو شهادة الإسلام، فالأهمّ واللازم أن يستمرّ، أو الآية الأخرى: <محَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ>[16]، وهذه الآية الشريفة تبيّن اصطفاف جبهة الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله؛ يعني يمنعون الدعوة إلى الله أن تصل إلى أهدافها، وجبهة الإيمان والعمل الصالح باتّباع القيادة الشرعية المتمثّلة بشخصيّة الرسول الأقدس، فجبهة الباطل <أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ>، ضيّعها الله، كما سنتحدّث عنها إن شاء الله. لكن ما هو نصيب جبهة الحق؟

تكفير الذنوب لجبهة الحق

<كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ>، فيكون المقصود بتكفير السيئات سترها وضمّها وحجبها، والمقصود بهذه السيئات الذنوب الصغار؛ يعني أنّ الله تبارك وتعالى يعفو عن هذا الذي يتّبع القيادة الشرعية الصالحة ويتّبع الإسلام تبعية مطلقة، إذا كان قد ارتكب بعض الزّلات والأخطاء الصغيرة. طبعًا؛ عندنا آيات تقول بشكل مطلق: <إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا>. إنّ مثل هذه الآيات التي تتحدّث عن غُفران الذنوب جميعًا تتحدّث عن غفران الذنوب بالتوبة والإنابة إلى الله سبحانه، ولكن توجد بعض الذنوب لا يغفرها الله تبارك وتعالى، فيقول عنها في هذه الآية: <إِنَّ اللهَ‌ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ>، وهذا الشرك إذا كان بلا توبة، فإنّه لن يغفر؛ وإلا فالكثير من المشركين يصبحون مسلمين بالتوبة والإنابة الى الله. إذًا؛ معنى <إِنَّ اللهَ‌ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ> إذا كان بلا توبة. <وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ>، وما دون الشرك ربّما يكون غفرانه بدون توبة، وإلا كيف يغفره الله إذا كان مع التوبة؟ فهذه نقطة ينبغي الالتفات إليها، فالأمر هنا مثل تكفير السيئات <كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ>؛ يعني لو تركوا الذنوب الكبار، ولكن بأيّ دليلٍ يعفو الله تبارك وتعالى عن الذنوب الصغار؟ المقصود من تكفير السيئات الذنوب الصغار بدليل الآية الشريفة <إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ>[17]، فهي صريحة بذلك بدليل هذه المقابلة. إذًا؛ جميع الذنوب تُغفر بالتوبة؛ فأنيبوا إلى ربّكم وأسلموا، فالشرك لا يُغفر بلا توبة، والتكفير وحده لا يكفي، <كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ>، فالتكفير ينبغي أن يستتبع ستر العيوب – يا ستار العيوب! – والستر مقدّمة للغفران، والغفران مقدّمة للرحمة الخاصّة الإلهيّة. فهذه أربع مراحل، هي: التكفير، والستر، والغفران، والرحمة الخاصّة الإلهيّة؛ ولذا، فإنّ الله تبارك وتعالى غفور رحيم، وهذه الرحمة الخاصّة الإلهيّة تشملنا – إن شاء الله – وندخل الجنّة من خلالها إذا كان هناك تكفير للسيّئات؛ لذلك، لا تكتفي الآية الشريفة بـ <كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ>[18]؛ يعني تكفير السيّئات بلا إصلاح البال لا ينفعنا، فماذا يعني إصلاح البال؟ المقصود بالبال الأمر، والخاطر، والقلب، والشأن. فأصلح بالهم؛ يعني أنّ الله تبارك وتعالى، بعد تكفير السيئات وسترنا وغفران ذنوبنا وشمولنا للرحمة الخاصّة الإلهيّة، يصلح بالنا ويصلح قلبنا <يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ 88 إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ>[19]؛ يعني أنّ ذلك الإنسان قد صار مع القيادة الشرعية، فتلك الأضغان والأحقاد تزول وترتفع تدريجيًا <وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ>[20]، و<لَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا>[21]. إذًا؛ تكفير السيئات يستتبع إصلاح البال.

روايتان في دور اتّباع القيادة الشرعية في تكفير السيئات والنجاة

نذكر هنا روايتين مهمّتين فيما يتعلّق بدور اتّباع القيادة الشرعية في تكفير السيئات والنجاة، فمن دون هذه القيادة الشرعية؛ حتى لو كان الإنسان ظاهرًا مؤمنًا ويعمل الصالحات، فهذا الإيمان والعمل الصالح وحدهما لا ينفعانه.

الرواية الأولى: من كتاب الكافي الشريف، وهي حديث قدسيّ مهمّ جدًا: عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن عيسى عن هشام بن سالم عن حبيب السجستاني عن أبي جعفر (ع) الإمام الباقر، قال: «قال الله تبارك وتعالى: لأُعذّبنَّ كلَّ رعيّةٍ في الإسلام دانت بولاية كلّ إمامٍ جائر – يعني أنّ هذا المواطن المسلم، إذا صار تابعًا للحاكم الجائر، فإنّه يستحقُّ العذاب الإلهيّ – ليس من الله وإن كانت الرعيّةُ في أعمالها برّةً تقيّةً – أي حتى لو كان يصوم شهر رمضان ويصلي صلاة الليل ويختم القرآن ويقرأ دعاء الجوشن الكبير، ولكنّه تابعٌ للحاكم الظالم، ولم يكفر بالطاغوت، فإنّ الله تبارك وتعالى يعذّبه – ولأعفُونَّ عن كلِّ رعيّةٍ في الإسلام دانت بولاية كلِّ إمامٍ عادلٍ من الله وإن كانتِ الرعيّةُ في أنفسها ظالمةً مسيئةً»[22] – يعني حتى لو كان عنده ظلم وإساءة لنفسه، فطالما كان تابعًا للقيادة الشرعية، فإنّ الله تبارك وتعالى يعفو عنه – وفي هذا إشارة إلى قوله تعالى: <كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ>[23]، بشرط الالتزام بخطّ القيادة الشرعية طبعًا المتمثّلة بشخصية الرسول الأقدس وأهل بيته، وتبعية ولاية محمّد وآل محمّد (ص)، وهذا الأمر يحتاج إلى إرادة من الإنسان.

الرواية الثانية: وفيها إشارة إلى هذا الموضوع: «مَنْ أَصْلَحَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اَللَّهِ أَصْلَحَ اَللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اَلنَّاسِ»[24]. هذا فيما يتعلّق بإصلاح البال إضافةً إلى تكفير السيّئات.

وهنا نطرح السؤال الآتي: لماذا يضيع الله سبحانه أعمال الكفار الذين يمنعون عن سبيل الله وعن خطّ الدعوة، ويبطل أعمالهم، لكنّ جبهة الحقّ والإيمان ببركة القيادة الشرعية يكفّر الله سيئاتهم ويصلح بالهم ويعطيهم قلبًا سليمًا ويستطيعون أن ينطلقوا في الحياة؟ ما هو السبب؟ هو لهذا الاصطفاف، الاصطفاف بين جبهة الحقّ وجبهة الباطل، الالتزام بالحقّ والتسليم للحق شعبة من التوحيد، إذا التزم الإنسان بالحق، كما أنّه إذا كان الإنسان مع الباطل، فهو شعبة من الشرك والكفر والطغيان؛ لذلك، تقول الآية الشريفة: <ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ>[25]، الله يضيع أعمالهم؛ لأنّهم أتباع الباطل، <وَأَنّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ>[26].

سؤال: هل هذا الأمر خاصٌّ بزمن رسول الله (ص) حيث كان مشركو قريش وجبهة الإسلام بقيادة الرسول؟ الجواب: كلا؛ <كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ>[27]؛ فإنّ تلك الأمثلة قابلة للتطبيق على مرّ الزمان.

تحدّثنا فيما مضى إلى الآية الثالثة، والآن نريد أن نخوض في بعض الأبحاث من خلال هذه الآيات عن طريق السؤال والجواب.

نكات قرآنية

السؤال الأول: ما هو منشأ اتّباع الباطل؟ لماذا يتّبع بعض الناس الباطل؟

إنّ الباطل هو ما ليس بحقّ؛ فنقرأ نحن في دعاء الافتتاح هذه الأيام «اللهمَّ مَا عَرَّفْتَنا مِنَ الْحَقِّ فَحَمِّلْناهُ، وَمَا قَصُرْنا عَنْهُ فَبَلِّغْناهُ». فالمنشأ هو:

أولًا: الإلحاد النظري والعملي. إذا كان الإنسان مبتعدًا عن الله، فإنّه سيصير من أهل الباطل.

ثانيًا: النزعة الذاتية، حبّ الذات، والحالة النفعية، والمصالح الشخصية؛ من الثروة، والشهوة، والهوى والنفس، وحبّ الدنيا، وحبّ الجاه، وحبّ الشهرة، وهذا يسبب تبعية الباطل.

ثالثًا: الاستئثار بالسلطة، فإذا كان لدى شخص من الأشخاص سلطة ومنصب ويريد أن يحتفظ بما هو عليه بأيّ وسيلة وبأيّ ثمن كان حتى لو لم يكن ذلك من حقّه، فهذا هو الاستئثار بالسلطة.

رابعًا: خداع الشيطان. المكر الشيطاني هو فقدان البصيرة.

خامسًا: الرغبات والغفلة.

فهذه الأمور كلّها تسبب اتّباع الإنسان للباطل.

السؤال الثاني: لماذا بدأت الآية الشريفة <الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ>[28] من دون مقدّمة؟ فإنّها شرعت بالتحذير من الكفّار وإعلان خطّ العداء و(اعرف عدوك)، فركّزت من البداية على العدو وعلى معرفته، فما هو السبب؟

هناك آيات في القرآن، وفي أحد عشر موردًا على أقل تقدير، تركّز على معرفة العدو وعلى فضحه؛ مثل هذه الآية المباركة من سورة الأنعام: <ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ>[29]، وقوله تعالى في سورة التوبة: <بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ>[30]، وفي سورة الأحزاب خطابًا للنّبيّ الأكرم (ص): <اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ>[31]، وفي هذه السورة المباركة أيضًا: <الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ>[32]، وفي سورة الممتحنة: <لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ>[33]، وسورة المنافقين: <إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ>[34]، وسورة المعارج: <سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ‏ واقِعٍ>[35]، ويبدأ بداية سريعة في سورة البينة: <لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ>[36]، وسورة الفيل: <أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ>[37]، وسورة الكافرون: <قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ 1 لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ>[38]، وسورة المسد: <تَبَّت يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ>[39].

إذًا؛ هذه السور تبدأ مباشرة من معرفة العدوّ والتنكيل به ومواجهته، حتى أنّ بعض السور التي قرأناها تركّز على أنّ الشدّة على العدوّ مقدّمةً على الرحمة الداخلية معه <أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا>[40]، وهذا يعني أنّ عبادة الله سبحانه و<رُكَّعًا سُجَّدًا>تأتي بعد مرحلة الشدّة على العدوّ والحزم.

السؤال الثالث: ماذا يفعل العدوّ عندما يريد أن يمنعنا عن ميدان الدعوة إلى الله وتبليغ الدين ونشر المعارف الإلهيّة والانتصار للإسلام؟

أولًا: يستخدم الأسلوب الإعلامي، الإعلام الكاذب؛ فمثلًا: قال النبيّ شعيب ناصحًا قومه: <وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه>[41]؛ يعني لا تجلسوا في الطريق، فتصدّوا بالكذب والافتتان مَن آثر أن يكون مع شعيب النبيّ.

ثانيًا: السخريّة من المؤمنين – وهي من الأسلوب الإعلامي -، فيسخرون من المؤمنين وينكّلون بهم، ويشهّرون بهم حتى يسقطوهم من الأعين، السخرية بأهل الإيمان وتثبيط العزم وتضعيف النفوس <الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ>[42]، أو يقومون بإشاعة الفحشاء بين المؤمنين وتكثير هذه الفحشاء والتفسّخ الأخلاقي والتركيز على ذلك من خلال خط الإعلام <إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ>[43].

 إذًا؛ الصدّ عن سبيل الله أسلوب إعلامي.

ثالثًا: منع إقامة الشعائر؛ هو أحد أساليب المنع من الدعوة ومن خط الحق <وَمَا لَهُم أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ ٱللَّهُ وَهُم يَصُدُّونَ عَنِ ٱلمَسۡجِدِ ٱلحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَولِيَاءَهُ إِن أَولِيَاؤُهُ إِلَّا ٱلمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكثَرَهُم لَا يَعلَمُونَ>[44]. مثل بعض الحكومات التي تُهدّم المساجد، وتمنع الحسينيات، وتحاول أن تتسلّط عليها، وهذا صدٌّ عن سبيل الله.

رابعًا: منع الهجرة في سبيل الله مع الرسول والتنكيل بالذين يهاجرون في سبيل الله <إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ>[45].

خامسًا: التخذيل عن الجهاد، فيثبّطون الهمم بقولهم: لماذا تذهب مع المجاهدين؟ لا تذهب إنّهم جميعًا قد بدأوا بترك الجهاد، فلابدَّ أن تعيش كما يعيش الناس. وهذا النوع صدٌّ عن سبيل الله، وهو أسلوب المنافقين <وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا>[46] أو <فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ>[47].

سادسًا: النّهي عن الإنفاق في سبيل الله. إنّ جبهة الحقّ تحتاج إلى ثروة؛ فرسول الله (ص) انتصر بسيف عليٍّ ومال خديجة، فهؤلاء يمنعون أن تصل الأموال إلى المجاهدين. الآية الشريفة تقول: <هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَىٰ مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّىٰ يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ>[48].

سابعًا: الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف؛ كما في قوله تعالى: <الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ>[49]. هذا أسلوب أيضًا للصدِّ عن سبيل الله.

ثامنًا: إنفاق المال للصد عن سبيل الله. وهذا الأسلوب يختلف عن أسلوب منع الأموال من أن تصل إلى المجاهدين؛ فإنّهم ينفقون أموالًا كثيرةً حتى يوقفوا حركة الجهاد في سبيل الله <إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ>[50]. ونحن شاهدنا بأعيننا أنّ أمريكا في هذا العصر قد أنفقت في قضية الدواعش والتكفيريين عشرات التريليونات من الدولارات كما يقولون، لكنّ محاولاتهم كلّها باءت بالفشل، فذهبت وصارت حسرة عليهم، والمنطقة اليومَ أخذت تتحوّل – والحمد لله – إلى منطقة تصب في صالح جبهة المقاومة. وللحديث تتمة – إن شاء الله تعالى – في الجلسة القادمة، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.


  • [1] محمد: 20
  • [2] محمد: 1
  • [3] ـ الرواية من كتاب بحار الأنوار، ج 89، ص 303، نقلًا عن ثواب الأعمال للشيخ الصدوق.
  • [4] ـ تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 25.
  • [5] ـ بحار الأنوار، ج 23، ص 384.
  • [6] محمد: 22
  • [7] محمد: 3
  • [8] محمد: 7
  • [9] محمد: 38
  • [10] محمد: 1-3
  • [11] محمد: 1
  • [12] النساء: 141
  • [13] محمد: 2
  • [14] الأحزاب: 40
  • [15] آل عمران: 144
  • [16] الفتح: 29
  • [17] النساء: 31
  • [18] محمد: 2
  • [19] الشعراء: 88-89
  • [20] الأعراف: 43
  • [21] الحشر: 10
  • [22] الكافي، ج1، ص376، باب فيمن دان الله عز وجل بغير إمام من الله جل جلاله
  • [23] محمد: 2
  • [24] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 18، ص 242
  • [25] محمد: 3
  • [26] نفس المصدر
  • [27] نفس المصدر
  • [28] محمد: 1
  • [29] الأنعام: 1
  • [30] التوبة: 1
  • [31] الأحزاب: 1
  • [32] محمد: 1
  • [33] الممتحنة: 1
  • [34] المنافقين: 1
  • [35] المعارج: 1
  • [36] البينة: 1
  • [37] الفيل: 1
  • [38] الكافرون: 1-2
  • [39] المسد: 1
  • [40] الفتح: 29
  • [41] الأعراف: 86
  • [42] التوبة: 71
  • [43] النور: 19
  • [44] الأنفال: 34
  • [45] الحج: 25
  • [46] النساء: 72
  • [47] التوبة: 81
  • [48] المنافقون: 5-7
  • [49] التوبة: 67
  • [50] الأنفال: 36
المصدر
كتاب تفسير سورة محمد | آية الله الشيخ عباس الكعبي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى